ملتقى أهل العلم

ملتقى أهل العلم (https://www.ahlalalm.org/vb/index.php)
-   الملتقى الرمضاني العام (https://www.ahlalalm.org/vb/forumdisplay.php?f=214)
-   -   رمضان: مَدرسةٌ لا تغلق أبوابها (https://www.ahlalalm.org/vb/showthread.php?t=125565)

طويلب علم مبتدئ 10 / 06 / 2018 15 : 03 PM

رمضان: مَدرسةٌ لا تغلق أبوابها
 
رمضان: مَدرسةٌ لا تغلق أبوابها



عندما كنا صغارًا لم نكن نعلم ما معنى أن يكون شهر رمضان مدرسة، وكان يقر في وجداننا أنها مدرسة حقيقة تشابه مدارسنا بالفعل، بالطبع لم نكن نعلم المجازي من الحقيقي في التعبير البلاغي، لكن الجملة برمتها قرت في وجداني، وصرت أبحث عنها كمعنى في أسئلة أوجهها لمن حولي، وكانت الإجابات تأتيني ـ غالبًا ـ صادمة من حيث الفهم أو استيعاب شهر رمضان في أهدافه ونتائجه.



لم أفهم مدرسة وفلسفة شهر رمضان إلا بعد أن التحقت بمدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقرأتُ سيرته، وتعرفتُ على عبادته في هذا الشهر الكريم، وكيف كان يحفز كل من حوله من الصحابة رضوان الله عليهم، وهذا التحفيز كان وراءه مغزى من ترسيخ معالم شهر الصوم في نفوس الجميع في عصره والعصور التالية.



لم يكن هناك تقصير من الصحابة رضوان الله عليهم حتى يطالبهم الرسول بالتوبة والاستغفار، كما كان يهش صلى الله عليه وسلم ويبش للقاء هذا الشهر قبيل قدومه، ويزيد فيه من العبادات ما لم يكن يفعله في شهر غيره، وهو ما يعني أن لرمضان وقع خاص، ومذاق خاص في وجدان هذه الأمة، ولهذا نبه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ"[1].



بل ينبههم صلى الله عليه وسلم إلى أن أبواب هذا الشهر تبدأ بالعمل الجاد والتتلمذ فيه والتعبد بكل جدية من الليلة الأولى منه دون توانٍ، ذلك أن أبواب شهر رمضان حين تفتح ستفتح معها بالتبعية أبواب الجنة، وأن الملائك ستكون في كل مكان، وفي كل ركن من أركان المساجد، ومجالس الذكر والقرآن، بعد أن خلت الأرض من الشياطين ومردة الجن الذين صُفِّدوا وحُبِسوا كي لا يعكروا أجواء الصفاء الإيماني لهذا الشهر:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِى مُنَادٍ: يَا بَاغِىَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ ، وَيَا بَاغِىَ الشَّرِّ أَقْصِرْ. وللهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ" [2].



من خصائص مدرسة رمضان أن الأمر في التعلم من مناهجها لا يدور بين الاستحباب والواجب، بل هو على سبيل الفرض بالأمر الوارد في النص الإلهي من محكم التنزيل، والتي توجب الصوم لغاية عظمى وهي بلوغ التقوى، يقول الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [3].



والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن ما علاقة الصوم بالتقوى؟

ولو لم يكن بينهما علاقة ظاهرة لما ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم، وإن خفيت على المتأمل فيها والباحث عنها، غير أن من المؤكد أن العلاقة بينهما علاقة اتصالية كعلاقة السبب بالنتيجة من حيث التلازم، ذلك لأن الصوم صِلةٌ إلى التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات كما يقول الإمام البغوي في تفسيره، أو أن الصائم في الغالب تكثر طاعته والطاعات من خصال التقوى كما يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره.



غير أن أهم علاقة حقيقية بين الصوم والتقوى هي من حيث موقعهما الجغرافي من جسم الإنسان، وهو "القلب"، فالتقوى محلها القلب، والصوم محله "القلب" لتميزه بخصوصية لا تتوافر في غيره من العبادات، وهي "السرية" مما يجعل الرقابة فيها رقابة خفية ذاتية تتواصل فيها بوصلة القلب مع الله تعالى "الرقيبُ" على العباد وأحوالهم في السر والعلن، والظاهر والباطن، والصوم لا يعرف العلن ولا يهمه، فهو علاقة خاصة بين العبد وربه من حيث الأداء في حال العبد الذي يصوم ويحافظ على صومه منفردًا أو في وسط جماعة، في بلده أو مغتربًا، وعلاقة خاصة بين العبد وربه من حيث الثواب والجزاء.



عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلا يَرْفُثْ، وَلا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ" [4].



ولعل من يتأمل ارتباط التقوى بالعبادة وحصول الثواب بالكامل عنهما، جاء في الصيام والحج من حيث وجود القيد أو الشرط اللازم لنيل الثواب بتحقق البعد عمَّا يفسد تلك العبادات بالوقوع في المنهي عنه سلفًا، مثل: "مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" [5].



ولقد ذكر الله في كتابه الكريم: رمضان شهر الصوم، وأشهر الحج وخاصة ذو الحجة بعضًا إثر بعض، وأشاد بذكرها ونوّه بشأنها، وقد جمعت بينها عدة جوامع أو جامعات، وهي: جامعة الطاعة، وجامعة المحبة، وجامعة فضل الزمان، أو فضل المكان؛ فلا صوم إذا لم تكن طاعة، ولا صوم إذا لم تكن محبة وإيثار رضا الله على رضا النفس، ولا حج إذا لم تكن طاعة وانقياد، ولم تكن محبة وإيثار. بهجر الإنسان طعامه وشرابه وشهواته ليصوم ويرضى ربه ويعصي نفسه. ويهجر الإنسان وطنه وسكنه وأهله وراحته ويرضي ربه ويعصي نفسه.



والصوم في رمضان أفضل الأزمان. والحج في مكة وحواليها في أفضل مكان، وفي أفضل أزمان. فاقترن الصوم بالحج، وشابه الحج الصوم، ففي كليهما زهد وصبر وإيثار وهجرة، والصائم يسعى بين الإمساك والفطور ويطوف حول بيت ربه، والحاج يسعى بين الصفا والمروة، وبين مِنَى وعرفات، ويطوف حول بيت ربه، ولكلٍّ عيد، ولكلٍّ فدية، ولكلٍّ تهنئة.



وقد منع الله في الصوم عن الغيبة، وقول الزور، والخصام بصفة خاصة، وقبّح أمرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابّه أحد فليقل إني صائم». وقال عليه الصلاة والسلام: «رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلّا الجوع». وقد نهى الله في الحج عن الرفث والفسوق والجدال، فقال عزّ من قائل: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة: 197].



لقد ظهر في هذه الآية وفي هذه التوجيهات إعجاز التنزيل وإعجاز التشريع، فإن الصوم، لثقله على النفس وبُعد الصائم عن مألوفاته وهجره لعاداته: مظنّةٌ لغيبة يشفي بها الإنسان نفسه أو يقتل بها وقته، والخوض في خصام أو لجاج لحدّة النفس والغضب لأدنى سبب، فنُهي عن ذلك.



وكذلك الحاج مُعرَّضٌ لخطر الرّفث وهو الفحشاء وقلة الحياء، والفسوق والجدال، لبعده عن الأهل، وطول السفر وحصول المشقة والمرور بأحوال مختلفة، والاختلاط بأناس ورفاق، لم يألفهم ولم يألفوه، فالحج مظنّة لكل ذلك فحذَّر الله الحاج في سبيله القاصد لبيته عن كل ذلك، ولا يعلم ذلك إلّامن أحاط علمه بكل شيء، وعرف طبيعة الإنسان ومواضع ضعفه وسقطته، ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14].



وقد شمل الصوم والحج أنواعًا من الطاعات، وضروبًا من البرّ والعبادات ليست داخلة في صميم الصوم والحج، كالإنفاق والمواساة والرحمة والخدمة والبرّ، والصدقة وقيام الليل، وإحياء الأوقات بالتسبيح والتلاوة، وكلها تُقوّي الصوم والحج وتكثِر ثوابهما وفضلهما، فقال العليم الحكيم: ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 197].



وحثّ الله تعالى على التزوّد للقيام بالحج في عفة ونزاهة، والتزوّد للآخرة بالإكثار من الخيرات، وأنواع العبادات، فقال عزّ وجلّ: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197]، وقد أمر الصائم بالتزوّد لصومه كذلك، وهو التسحّر الذي يقوّي على الصوم ويعين عليه، والحاج يأخذ الزاد والراحلة، وهنا اقترن الصوم بالحج كذلك، فكلاهما يجري في رهان واحد [6].



ويتصل بالحديث السابق اتصالًا وثيقًا، الالتزام بالنهج التعليمي الصارم في الحفاظ على الصوم الذي سيفوز فيه الصائم بثواب الله الكامل، وهو الشرط الوارد في كيفية الصيام النوعي من حيث جودة الأداء التي تشير إليها مقاييس الجودة والكفاية والإتقان، وهو أن: "الصيام جُنَّة" بمعنى الوقاية من سوء الخلق والسفه والجهل، وارتكاب المعاصي، وفي الصيام وقاية للعبد الصائم صيامًا صحيحًا من البعد عن النار، والوقوع فيها.



قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصيام جُنَّة من النار كجُنَّة أحدكم من القتال" [7].

إن الحفاظ على الصوم من جانب الصائم سينمي فيه بالتبعية، قوة الإرادة، والعزيمة الصادقة التي لا تلين ولا تضعف مهما كانت الإغراءات، وتنمي الصبر أيضًا، وهذا أهم ما في هذا الشهر وما اشتهر عنه من كونه "شهر الصبر"، الصبر عن المعاصي، بمقاومتها والابتعاد عنها، والصبر على جِهاد النَّفس ومقاومة اغراء وإغواء الهوى والميل، والصبر على الطاعات بإتيانها مهما كان في إتيانها من مشقة، لتضيق السب على الشيطان وعلى النفس ببلوغ خلق العبد الصائم أبلغ غايات الكمال في صومه وعبادته، والنجاة بها ممن يحاولون إفسادها، وبالتالي تفويت الفرصة عليه بالفوز بالثواب الإلهي.



يقول أمير الشعراء أحمد شوقي في كتابه "سوق الذهب": (الصَّوم حِرْمانٌ مشروع، وتَأديب بالجُوع، وخُشُوع لله وخُضُوع، لكلِّ فريضةٍ حكمة، وهذا الحكم ظاهره العذابُ، وباطِنه الرَّحمة، يُعَوِّد الإنسانَ الصَّبْرَ، ويُعَلِّمه خِلال البِر، فإذا جاع مَن أَلِف الشَّبع، عَرَف الحرمان كيف يقع، والجوع كيف أَلَمُه إذا لَذَع) [8].



والخروج من إلف العادة إلى رحابة وحلاوة العبادة، بالكف عن المعصية، بلزوم الطاعة، هو ما يتحقق للتلميذ النجيب في مدرسة الصيام، حيث يستطيع أن يقف أمام الشراهة في الإقبال على الطعام ليكسر شهوة البطن، كما يقف الصيام سدًا منيعًا أمام النهم الجنسي عند بعض من يطلبون المتعة الحرام ويبتعدون عن طرق أبواب الحلال استسهالًا واستهانة، وجرأة على الخالق العظيم، كما يستطيع الصيام أن يكف عين المسلم عن الولوغ فيما حرَّم الله تعالى، كما يستطيع المسلم الصائم - بحق - أن يتخلص من أي نوع من أنواع التدخين، ذلك أن هناك من يظن أن بعض التدخين أهون من بعض وهو واهم في هذا أشد الوهم، بل هو في دائرة المنهيات التي تخالف المقاصد التي يلزم بها الشارع الحكيم في الحفاظ على النفس، وبارتكابه لأي نوع من أنواع التدخين يكون قد وقع في إثم المخالفة.



إن الخصيصة الهامة في الصوم كمدرسة ربانية حين يتلقى فيها العبد الصائم الطائع هذه التربية الإيمانية العالية، إلى جانب ضمان الفوز بالثواب له من الله تعالى، إذا هو التزم التزامًا تامًا بآداب وأحكام الصيام، ونال من قلبه الاهتمام، والتوقير، والبعد عن الرياء، والسباب، والفحش، والفسوق.



لهذا كانت الإضافة التي فيها التشريف "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ"، ذلك أن الرياء يحصل مرة بالقول، وأخرى بالفعل، وهذا الثاني لا يدخل الصوم، وأما الأول فقد يدخل الصوم كمن يتبجح بخبره أنه صائم، فهو من هذه الحيثية يدخله الرياء، كما يقول ابن حجر، واختار في دفع الإيراد أن الرياء الذي حصل إنما حصل من القول، ولم يكن حصل بنفس الصيام الذي وصف بأنه لا يدخله الرياء، وإنما حصل مِن أمر زائدٍ على الصيام، وقد اختار بعض العلماء في التأويل أنَّ الصيام لم يعبد به غير الله تعالى، وهو من تمام الخلوص في النية لله، والخلوص في تحري النجاة بالصيام كعبادة من المفاسد المنهي عنها، والإخلاص في أداء الصيام على الوجه الأكمل تنفيذًا لأوامر الله تعالى، ومحبة فيه سبحانه، وخوفًا منه.



ولئن عاد بي الزمان دورته، وطرحتُ السؤال على نفسي: ماذا يعني أن الصيام في شهر رمضام مدرسة؟ لأجبت: أن ما تعلمته في هذه المدرسة من التحلي بالصبر، ودفع الإساءة بالحسنة، وكظم الغيظ، والتحكم في آليات نفسي داخليًا وخارجيًا، من المحافظة على اتزاني الداخلي، وإشاعة السلام في نفسي، والبعد عن المكدِّرات، وعمَّا عساه ي*** الغضب، الذي يؤدي إلى التشاجر، والسباب.



كما تعلمت في هذه المدرسة التنافس في المحمود من الأمور عبر التنافس في الخيرات، واكتساب الثواب، والجهاد ببث النشاط في النفس من أجل كسب العيش، وأداء الفرائض، والمواظبة على تلاوة القرآن الكريم في رمضان وغيره، والحرص على البسمة في وجه أخي المسلم، وعدم التعلل بالصيام ومتاعبه، وإظهار الفرح بقدوم رمضان شهر الطاعات والقربات بديلًا عن التأفف منه، والعبوس من اقتراب أيامه.



دعوة الرافعي للعالم إلى الدخول في مدرسة رمضان:


يرى أديب العربية الكبير الراحل مصطفى صادق الرافعي أن الصوم مدرسة الثلاثين يومًا، وينصح بأن تكون عالمية، ويدعو العالم إلى معرفتها وتطبيقها، ذلك أن شمول الصوم لمقومات التهذيب والتأديب والتدريب تجعل الناس فيه سواء: ليس لجميعهم إلا شعورٌ واحد، وحسٌّ واحد، وطبيعة واحدة، ويُحْكِمُ الأمر؛ فيحول بين البطن وبين المادة، الأمر الذي يضع الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة، تتلبس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يُعَلِّم الرحمة، ويدعو إليها، فَيُشْبِع فيها بهذا الجوع فكرةً معينة هي كل ما في مذهب الاشتراكية من الحق، وهي تلك التي يكون عنها مساواة الغنيّ للفقير من طبيعته، واطمئنان الفقير إلى الغني بطبيعته.



ومن هذين: الاطمئنان والمساواة يكون هدوء الحياة بهذه النفسين اللتين هما السلب والإيجاب في هذا الاجتماع الإنساني.

وأن الرحمة الناشئة عن الألم، وهذا بعض السر الاجتماعي العظيم في الصوم؛ في التدقيق في منع الغذاء، وشبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدة آخرها آخر الطاقة؛ فهذه طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريقة غيرها إلا النكبات والكوارث؛ فهما طريقتان كما ترى: مبصرة وعمياء، وخاصة وعامة، وعلى نظام وعلى فجأة.



ومتى تحققت رحمة الجائع الغني للجائع الفقير أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانها النافذ، وحكم الوازع النفسي على المادة، فيسمع الغني في ضميره صوت الفقير يقول: أعطني، ثم لا يسمع منه طلبًا من الرجاء، بل طلبًا من الأمر لا مفر من تلبيته والاستجابة لمعانيه، كما يواسي المبتلى مَنْ كان في مثل بلائه.



ويدعو الرافعي العالم كله، بيقين صادر عنده من القلب والعقل، إلى تعميم هذا الصوم الإسلامي، وسيكون بالتزامهم بما فيه من مبادئ وأحكام وفلسفة، إجماعًا من الإنسانية كلِّها على إعلان الثورة شهرًا كاملاً في السنة؛ لتطهير العالم من رذائله وفساده، ومحق الأثرة والبخل فيه، وطرح المسألة النفسية؛ ليتدارسها أهل الأرض دراسة علميةً مدةَ هذا الشهر بطوله؛ فيهبط كل رجل، وكل امرأة إلى أعماق نفسه ومكامنها؛ ليختبر في مصنع فكره معنى الحاجة ومعنى الفقر، وليفهم في طبيعة جسمه ــ لا في الكتب ــ معاني الصبر والثبات والإرادة، وليبلغ من ذلك وذلك درجات الإنسانية والمواساة والإحسان؛ فيحقق بهذه وتلك معاني الإخاء، والحرية، والمساواة.



ولا يكتفي الرافعي بدعوة العالم للدخول في مدرسة رمضان وحسب، بل يَتَعهَّدون في مدرسة الثلاثين يومًا نفوسهم برياضتها على معالي الأمور، ومكارم الأخلاق، وبفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح، ويراها كأنما أجيعت من طعامها اليومي كما جاع هو، وكأنما أفرغت من خسائسها وشهواتها كما فرغ هو، وكأنما أُلزمت معاني التقوى كما ألزمها هو، ذلك أن شهر رمضان هو أيام قلبية في الزمن، لن يضير الإنسانية كلها شيء حين تحذف من تاريخها تاريخ البطن ثلاثين يومًا في كل سنة؛ ليحل في محله تاريخ النفس.



لا يرى الرافعي في غير مدرسة الصوم طريقة عملية تضاهيها في الكون، ولهذا فهو يؤكد بيقين: (إنها والله طريقة عملية لرسوخ فكرة الخير والحق في النفس، وتطهير الاجتماع من خسائس العقل المادي، ورد هذه الطبيعة الحيوانية المحكومة في ظاهرها بالقوانين، والمحررة من القوانين في باطنها، إلى قانون من باطنها نفسه يُطهِّر مشاعرها، ويسمو بإحساسها، ويصْرِفُها إلى معاني إنسانيتها، ويهذب من زياداتها، ويحذف كثيراً من فضولها، حتى يرجع بها إلى نحو من براءة الطفولة، فيجعلها صافيةً مشرقةً بما يجتذب إليها من معاني الخير والصفاء والإشراق؛ إذ كان من عمل الفكرة الثابتة في النفس أن تدعوَ إليها ما يلائمها ويتصل بطبيعتها من الفِكَرِ الأخرى) [9].



تعلمتُ في مدرسة الصوم كل الفضائل التي يدعونا إليها الدين بهدوء وروية، من استثمار الأوقات في الطاعات، واستثمار الوقت في كل ما يفيد في الحياة بوجه عام، وأن الصدق مقياس ثابت في القول والعمل في رمضان وغيره، وأن البعد عن الغيبة والنميمة مرض اجتماعي يجب أن نتخلص منه في رمضان وفي غيره من الأيام.



ولهذا كان أهم ما يميز رمضان هو العودة لنقطة النظام الأولى في الإسلام، وكأننا حين نذهب بالسيارة للتوكيل الخاص بها لصيانتها وتغيير بعض أجزاءها لتعود لحالتها التي كانت عليها وقت امتلاكها، مع الفارق في التشبيه، مثلما يدخل المسلم في مدرسة رمضان من أجل رفع معدلاته في كل الوجوه الدينية والتي تترك أثرها، وتعكس صداها على كل ما يتصل بأداء المسلم في دنياه: نفسه، بيته، عائلته الصغرى وعائلته الكبرى، عمله، أصدقائه، جيرانه، بيئته التي يعيش فيها، حيث تتآلف كل أجزاء منظومته الحياتية التي أصابها: الوهن، والكسل، والتراخي، والإهمال، وبعض الصفات السلبية من التعاملات في سوق الدنيا، ووقوعه في براثن بعض حبائلها دون أن يدري أو يدري.



ومن هنا أختلف مع من يقول أن مدرسة رمضان تفتح أبوابها لمدة ثلاثين يومًا ثم تمضي لحالها، ويعود المسلم على ما كان عليه من قبل أن "يترمضن"، أي يتعلم من أخلاقياته ومنهجه، أن دور رمضان الحقيقي هو في دفع المسلم بعد تخرجه منه لكي يمضي في حياته بعدها على نفس الوتيرة الخاصة بالمنهج الإسلامي كدين، فيه العقيدة، والأخلاق، والسيرة، والفقه، والعلم والعمل، والدين والدنيا، والعين على الآخرة من حيث التوازن الكلي الذي يشكل تكوينه النفسي والعقدي، وأنه كلما فترت قوته وهمته وبعدت بينه المسافات بعيدًا عن أجواء رمضان، كلما اقترب من رمضان القادم يعيد صياغته من جديد، لتجديد همته، وشحن طاقته، غير أن هناك ما يدعم قوته الإيمانية: الصلوات الخمس المكتوبات، والجمعة، والعمرة، ثم رمضان، فقد روى مُسلم، عن أبي هريرة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: "الصَّلَوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مُكَفرات لما بَيْنَهُنَّ إذا اجْتُنِبَتِ الكبائر".



وهل ينتهي صيام الجوارح عن الرفث والفسوق مع انتهاء مدرسة رمضان؟!

هذا ما يرفضه ابن الجوزي حين يؤكد: (ما من جارحة في بدن الإنسان إلا ويلزمها الصوم في رمضان وفي غير رمضان، فصوم اللسان: ترك الكلام إلا في ذكر الله تعالي، وصوم السمع: ترك الإصغاء إلى الباطل، وما لا يحل سماعه، وصيام العينين: ترك النظر والغض عن محارم الله[10].



ذلك أن الصوم يلزم أن تصوم جميع جوارح الإنسان معه، وإذا صام الإنسان فيلزمه أن لا يجعل يومه صومه كيوم فطره سواء بسواء.



ومن هنا أقول بعد كل ما تقدم: إن مدرسة رمضان لا يمكن أن تغلق أبوابها أبدًا، وأن المسلم الحق هو الذي يستفيد من رمضان كداعم أساسي له في أخلاقه، وعباداته، وطاعاته، حيث إن الأصل أنه استمدها من دينه الحق الجامع لكل الفضائل، وأن يحافظ على مكاسبه الإيمانية حتى يلقى وجه الله تعالى.


[1] رواه أحمد (9213) والنسائي (2106) وصححه الألباني في صحيح النسائي (1992).

[2] رواه الترمذي واللفظ له (682) وقال: غريب، وابن خزيمة في صحيحه بنحوه (1883)، وابن حبان (8 /221) وقال الشيخ شعيب في التحقيق (إسناده قوي) ، والحاكم في المستدرك (1532)، وصححه الألباني.

[3] [سورة البقرة: 183].

[4] [رواه البخاري ومسلم].

[5] [البخاري:1521].

[6] أبو الحسن الندوي: تأملات في القرآن الكريم، (بتصرف)، دار القلم، دمشق، 1991م.

[7] [رواه أحمد والنسائي].

[8] أحمد شوقي: أسواق الذهب، مطبعة الهلال، مصر، 1932م.

[9] مصطفى صادق الرافعي: فلسفة الصيام، موقع إسلام أون لاين.

[10] ابن الجوزي: بستان الواعظين ورياض السامعين، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، لبنان، 1998.

شريف حمدان 01 / 07 / 2018 23 : 01 AM

رد: رمضان: مَدرسةٌ لا تغلق أبوابها
 
http://up.ahlalalm.info/photo1/g1K33816.gif


واصل ولا تحرمنـا من جديـدك المميـز

محمد نصر 01 / 07 / 2018 34 : 03 PM

رد: رمضان: مَدرسةٌ لا تغلق أبوابها
 
بارك الله فيكم وجزاكم الله خيرا

محمد منير 10 / 07 / 2018 22 : 12 PM

رد: رمضان: مَدرسةٌ لا تغلق أبوابها
 
جزاك الله خيراً أخى ******


طويلب علم مبتدئ


For best browsing ever, use Firefox.
Supported By: ISeveNiT Co.™ Company For Web Services
بدعم من شركة .:: اي سفن ::. لخدمات الويب المتكاملة
جميع الحقوق محفوظة © 2015 - 2018

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
الحقوق محفوظة لشبكة ملتقى أهل العلم الاسلامي

اختصار الروابط