أنت غير مسجل في ملتقى أهل العلم . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا
Google
 
تابعونا عبر تويتر تابعونا عبر فيس بوك

الإهداءات



ملتقى الأحاديث النبويه الشريفه وعلومه ملتقى يختص بالاحاديث النبويه الشريفه الصحيحه وعلومها من الكتب الستة الصحيحه وشروحاتها

« آخـــر الــمــواضــيــع »
         :: صلاة التراويح من مسجد شيخ الإسلام | ليبيا 16 رمضان 1445 هـ (آخر رد :شريف حمدان)       :: صلاة التراويح من مسجد شيخ الإسلام | ليبيا (آخر رد :شريف حمدان)       :: القارئ الشيخ رعد الكردي | صلاة التراويح ليلة 9 رمضان 1445 | مسجد الغانم والخرافي (آخر رد :شريف حمدان)       :: القارئ الشيخ رعد الكردي | صلاة التراويح ليلة 8 رمضان 1445 | مسجد الغانم والخرافي (آخر رد :شريف حمدان)       :: تلاوة من صلاة التراويح للدكتور المقرئ عبد الرحيم النابلسي بمسجد الكتبية الليلة 10 رمضان 1445هـ (آخر رد :شريف حمدان)       :: تلاوة ماتعة من صلاة التراويح للقارئ أحمد الخالدي (آخر رد :شريف حمدان)       :: صلاة العشاء والتراويح من مسجد الأندلس بالرباط للقارئ أحمد الخالدي سورة مريم (آخر رد :شريف حمدان)       :: الشفع والوتر ليلة 18 رمضان 1445 هجرية - للشيخ أحمد زين العابدين - بمسجد الرحمن البحري بنزالي جانوب (آخر رد :شريف حمدان)       :: صلاة التراويح ليلة 18 رمضان 1445 هجرية - للشيخ أحمد زين العابدين - بمسجد الرحمن البحري بنزالي جانوب (آخر رد :شريف حمدان)       :: صلاة العشاء ليلة 18 رمضان 1445 هجرية - للشيخ أحمد زين العابدين - بمسجد الرحمن البحري بنزالي جانوب (آخر رد :شريف حمدان)      

إضافة رد
كاتب الموضوع ابو عبدالله عبدالرحيم مشاركات 3 المشاهدات 1840  مشاهدة صفحة طباعة الموضوع | أرسل هذا الموضوع إلى صديق | الاشتراك انشر الموضوع
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 08 / 07 / 2015, 35 : 09 AM   المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:
ابو عبدالله عبدالرحيم
اللقب:
عضو ملتقى ذهبي


البيانات
التسجيل: 07 / 05 / 2015
العضوية: 54171
العمر: 39
المشاركات: 1,090 [+]
بمعدل : 0.34 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 0
نقاط التقييم: 12
ابو عبدالله عبدالرحيم is on a distinguished road

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو عبدالله عبدالرحيم غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

المنتدى : ملتقى الأحاديث النبويه الشريفه وعلومه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام علي رسول الله وبعد:
كتاب الإيمان من
فتح الباري
شرح صحيح البخاري


للحافظ زين الدين أبي الفرج ابن رجب الحنبلي



فصل (1) .
قال البخاري : الإيمان قول وفعل .
قال زين الدين ابن رجب رحمه الله .
وأكثر العلماء قالوا : هو قول وعمل . وهذا كله إجماع من السلف وعلماء أهل الحديث . وقد حكى الشافعي إجماع الصحابة والتابعين عليه وحكى أبو ثور الإجماع عليه أيضا .
وقال الأوزراعي : كان من مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل وحكاه غير واحد من سلف العلماء عن أهل السنة والجماعة . وممن حكى ذلك عن أهل السنة والجماعة : الفضيل بن عياض ، ووكيع بن الجراح .
وممن روي عنه أن الإيمان قول وعمل : الحسن ، وسعيد بن جبير ، وعمر بن عبد العزيز ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والشعبي ، والنخعي ، وهو قول الثوري ، والأوزاعي ، وابن المبارك ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد(2) ، وإسـحاق ، وأبي عبيد ، وأبي ثور وغيرهم حتى قال كثير منهم : إن الرقبة المؤمنة لا تجزىء في الكفارة حتى يؤخذ منها الإقرار وهو الصلاة والصيام ، منهم الشعبي ، والنخعي ، وأحمد في رواية . وخالف في ذلك طوائف من علماء أهل الكوفة والبصرة وغيرهم ، وأخرجوا الأعمال من الإيمان وقالوا : الإيمان : المعرفة مع القول .
وحدث بعدهم من يقول : الإيمان : المعرفة خاصة ، ومن يقول : الإيمان : القول خاصة .
والبخاري عبر عنه بأنه : قول وفعل . والفعل : من الناس من يقول : هو مرادف للعمل . ومنهم من يقول : هو أعم من العمل . فمن هؤلاء من قال : الفعل يدخل فيه القول وعمل الخوارج ، والعمل لا يدخل فيه القول على الإطلاق . ويشهد لهذا : قول عبيد بن عمير : ليس الإيمان بالتمني ، ولكن الإيمان قول يفعل ، وعمل يعمل . خرجه الخلال(3) .
ومنهم من قال : العمل : ما يحتاج إلى علاج ومشقة ، والفعل : أعم من ذلك . ومنهم من قال : العمل : ما يحصل منه تأثير في المعمول كعمل الطين آجرا ، والفعل أعم من ذلك . ومنهم من قال: العمل أشرف من الفعل ، فلا يطلق العمل إلا على ما فيه شرف ورفعة بخلاف الفعل ، فإن مقلوب عمل : لمع ، ومعناه ظهر وأشرف .
وهذا فيه نظر ، فإن عمل السيئات يسمى أعمالا كما قال تعالي  مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [ النساء : 123] وقال  مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا [ غافر: 40] ولو قيل عكس هذا لكان متوجها ، فإن الله تعالى إنما ( 177- أ / ف) يضيف إلى نفسه الفعل كقوله تعالى  وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا [ إبراهيم : 45] ،  أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَاد [ الفجر : 6]  أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ،  إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء [ الحج : 18] .
وإنما أضاف العمل إلى يديه كما قال  أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا [ يس : 71] وليس المراد هنا الصفة الذاتية – بغير إشكال – وإلا استوى خلق الأنعام وخلق آدم عليه السلام . واشتق سبحانه لنفسه أسماء من الفعل دون العمل ، قال تعالى  إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [ هود : 107] .
ثم قال البخاري – رحمه الله : ويزيد وينقص . قال الله عز وجل  لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ [ الفتح: 4 ]  وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [ الكهف : 13] ،  وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى  [ مريم : 76] ، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ  [ محمد : 17] ،  وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [ المدثر : 31] ، وقوله عز وجل  أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [ التوبة : 124] وقوله  فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً [ آل عمران : 173] ، وقوله  وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [ الأحزاب: 22] .
زيادة الإيمان ونقصانه قول جمهور العلماء . وقد روى هذا الكلام عن طائفة من الصحابة كأبي الدرداء وأبي هريرة ، وابن عباس ( ) وغيرهم من الصحابة . وروي معناه عن علي ، وابن مسعود – أيضا - ، وعن مجاهد ، وغيره من التابعين . وتوقف بعضهم في نقصه ، فقال : يزيد ولا يقال: ينقص ( ) وروي ذلك عن مالك ، والمشهور عنه كقول الجماعة( ) . وعن ابن المبارك قال : الإيمان يتفاضل( ) . ، وهو معنى الزيادة والنقص . وقد تلا البخاري الآيات التي ذكر فيها زيادة الإيمان وقد استدل بها على زيادة الإيمان أئمة السلف قديما ، منهم : عطاء بن أبي رباح فمن بعده . وتلا البخاري – أيضا – الآيات التي ذكر فيها زيادة الهدى ، فإن المراد بالهدى هنا : فعل الطاعات كما قال تعالى بعد وصف المتقين بالإيمان بالغيب وإقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم وبالإيمان بما أنزل إلى محمد و إلى من قبله باليقين بالآخرة ثم قال  أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ  [ البقرة : 5 ] ، فسمى ذلك كله هدى ، فمن زادت طاعته فقد زاد هداه .
ولما كان الإيمان يدخل فيه المعرفة بالقلب والقول والعمل كله كانت زيادته بزيادة الأعمال ونقصانه بنقصانها . وقد صرح بذلك كثير من السلف فقالوا : يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية . فأما زيادة الإيمان بزيادة القول ونقصانه بنقصانه : فهو كالعمل بالجوارح – أيضا - ، فإن من زاد ذكره لله وتلاوته لكتابه زاد إيمانه ، ومن ترك الذكر الواجب بلسانه نقص إيمانه .
و أما المعرفة بالقلب : فهل تزيد وتنقص ؟ على قولين : أحدهما : أنها لا تزيد ولا تنقص . قال يعقوب بن بختان( ) : سألت أبا عبد الله – يعني أحمد بن حنبل – عن المعرفة والقول : يزيد وينقص ؟ قال : لا ، قد جئنا بالقول والمعرفة وبقي العمل . ذكره أبو الخلال في كتاب " السنة ( ) " ومراده بالقول : التلفظ بالشهادتين خاصة . وهذا قول طوائف من الفقهاء والمتكلمين . و القول الثاني : أن المعرفة تزيد وتنقص .
قال المروذي : قلت لأحمد في معرفة الله بالقلب تتفاضل فيه ؟ قال : نعم ، قلت : ويزيد ؟ قال : نعم .
ذكره الخلال عنه ( ) ، وأبو بكر عبد العزيز في كتاب "السنة " - أيضا - ، عنه وهو الذي ذكره القاضي أبو يعلي من أصحابنا في كتاب " الإيمان ، وكذلك ذكره أبو عبد الله بن حامد . وحكى القاضي – في " المعتمد " – وابن عقيل في المسألة روايتان ( ) عن أحمد ، وتأولا رواية أنه لا يزيد ولا ينقص . وتفسر زيادة المعرفة بمعنيين :
أحدهما : زيادة المعرفة بتفاصيل أسماء الله وصفاته وأفعاله وأسماء الملائكة والنبيين والكتب المنزلة عليهم وتفاصيل اليوم الآخر . وهذا ظاهر لا يقبل نزاعا .
والثاني : زيادة المعرفة بالوحدانية بزيادة معرفة أدلتها (177- ب/ف) ، فإن أدلتها لا تحصر ، إذ كل ذرة من الكون فيها دلالة على وجود الخالق ووحدانيته ، فمن كثرت معرفته بهذه الأدلة زادت معرفته على من ليس كذلك . وكذلك المعرفة بالنبوات واليوم الآخر والقدر وغير ذلك من الغيب الذي يجب الإيمان به ، ومن هنا فرق النبي صلي الله عليه وسلم بين مقام الإيمان ومقام الإحسان ، وجعل مقام الإحسان أن يعبد العبد ربه كأنه يراه ، والمراد : أن ينور قلبه بنور الإيمان حتى يصير الغيب عنده مشهودا بقلبه كالعيان ( ).
وقد ذكر محمد بن نصر المروزي في " كتابه " أن التصديق يتفاوت وحكاه عن الحسن ، والعلماء ( ) وهذا يشعر إجماع عنده .
ومما يدل على ذلك أيضا _ : ما روى ابن وهب : أنا عبد الرحمن بن ميسرة ، عن أبي هانيء الخولاني ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب الخلق ، فسلوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم " .
خرجه الحاكم ( ) ، وقال : صحيح الإسناد ( ) .
ثم قال البخاري رحمه الله : والحب في الله والبغض في الله من الإيمان .
و هذا يدل عليه : قول النبي صلي الله عليه وسلم " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان( ) وذكر منهن:" أن يحب المرء لا يحبه إلا لله " . وإذا كان الحب في الله والبغض في الله زاد الإيمان بزيادة ذلك ونقص بنقصانه.
قال البخاري : وكتب عمر بن عبد العزيز إلي عدي بن عدي : إن للإيمان فرائض وشرائع ( ) وحدودا وسننا، فمن استكملها فقد استكمل الإيمان ، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان ، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها ، وإن مت فما أنا على صحبتكم بحريص . هذا الأثر : خرجه أبو بكر الخلال في كتاب " السنة " ( ) من رواية جرير بن حازم : حدثني عيسى بن عاصم ، عن عدي بن عدي – وهو يومئذ أمير( ) على أرمينية – قال : كتب إلي عمر بن عبد العزيز : سلام عليك أما بعد ، فإن للإيمان شرائع وحدودا وسننا ، من استكملها استكمل الإيمان ، فإن أعش فيكم أبينها لكم حتى تعملوا بها – إن شاء الله ، وإن مت فوالله ما أنا على صحبتكم بحريص .
قال البخاري : وقال إبراهيم عليه السلام ( )  وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
وقد فسرها سعيد بن جبير بالازدياد من الإيمان ، فإنه قال له :  أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي  [ البقرة : 260] فطلب زيادة في إيمانه ، فإنه طلب أن ينتقل من درجة علم اليقين إلى درجة عين اليقين وهي أعلى وأكمل .
و في " المسند " " ( ) عن ابن عباس ، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " ليس الخبر كالمعاينة " .
قال البخاري : وقال معاذ : اجلس بنا نؤمن ساعة.
هذا الأثر : رواه سفيان الثوري والأعمش ومسعر – كلهم - ، عن جامع بن شداد ، عن الأسود بن هلال قال: قال معاذ بن جبل لرجل : اجلس نؤمن ساعة – يعني نذكر الله ( ) .
وقد روي مثله عن طائفة من الصحابة ، فروى زبيد ، عن زر بن حبيش قال : كان عمر بن الخطاب يقول لأصحابه : هلموا نزداد إيمانا ، فيذكرون الله . وروى أبو جعفر الخطمي ، عن أبيه ، عن جده عمير بن حبيب بن حماسة " ( ) - وهو من الصحابة – أنه قال : إن الإيمان يزيد وينقص ، قالوا : وما زيادته ونقصانه ؟ قال : إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته ، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه ( ) .
فزيادة الإيمان بالذكر من وجهين :
أحدهما : أنه يجدد من الإيمان والتصديق (178-أ/ف) في القلب ما درس منه بالغفلة كما قال بن مسعود : الذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء الزرع . و في " المسند " ( ) عن أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " جددوا إيمانكم " قالوا : كيف نجدد إيماننا ؟ قال : " قولوا : لا إله إلا الله " .
والثاني : أن الذكر نفسه من خصال الإيمان ، فيزداد الإيمان بكثرة الذكر ، فإن جمهور أهل السنة على أن الطاعات كلها من الإيمان فرضها ونفلها ، وإنما أخرج النوافل من الإيمان قليل منهم .
قال البخاري : وقال ابن مسعود : اليقين : الإيمان كله .
هذا الأثر : رواه الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن علقمة ، عن ابن مسعود ( ) . واليقين : هو العلم الحاصل للقلب بعد النظر والاستدلال ، فيوجب قوة التصديق حتى ينفي الريب ويوجب طمأنينة القلب بالإيمان وسكونه وارتياحه به، وقد جعله ابن مسعود الإيمان كله . وكذا قال الشعبي – أيضا .
وهذا مما يتعلق به من يقول : إن الإيمان مجرد التصديق ( ) ، حيث جعل اليقين : الإيمان كله ، فحصره في اليقين ، ولكن لم يرد ابن مسعود أن ينفي الأعمال من الإيمان ، إنما مراده : أن اليقين هو أصل الإيمان كله ، فإذا أيقن القلب بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر انبعثت الجوارح كلها للاستعداد للقاء الله تعالى بالأعمال الصالحة فنشأ ذلك كله عن اليقين .
قال الحسن البصري : ما طلبت الجنة إلا باليقين ولا هرب من النار إلا باليقين ، ولا أديت الفرائض إلا باليقين ، ولا صبر على الحق إلا باليقين ( ) . وقال سفيان الثوري : لو أن اليقين وقع في القلب كما ينبغي لطارت القلوب اشتياقا إلى الجنة وخوفا من النار ( ) .
ويذكر عن لقمان قال : العمل لا يستطاع إلا باليقين ، ومن يضعف يقينه يضعف عمله ( ). قال عبد الله بن عكيم : سمعت ابن مسعود يقول في دعائه : اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفهما .
قال البخاري : وقال ابن عمر : لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر .
قال زين الدين ابن رجب : هذا الأثر لم أقف عليه إلى الآن في غير كتاب البخاري ( ) ، وقد روي معناه مرفوعا. وموقوفا على أبي الدرداء . فخرج الترمذي ، وابن ماجه من حديث عطية السعدي ، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس " ( ) وفي إسناده بعض مقال . وروى ابن ابي الدنيا بإسناد منقطع ، عن أبي الدرداء قال : تمام التقوى : أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما ، حجابا بينه وبين الحرام ( ).
و إنما ذكر البخاري هذا الأثر في الباب ، لأن خصال التقوى هي خصال الإيمان ، وقد صح عن مجاهد أن أبا ذر سأل النبي صلي الله عليه وسلم عن الإيمان فقرأ :  لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ  [ البقرة : 177] إلى آخر الآية .
وهذا مرسل . وقد روي من وجه آخر ، وفيه انقطاع – أيضا . قال البخاري : وقال مجاهد :  شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا  : أوصيناك وإياه يا محمد ( ) دينا واحدا ( ) .
روى ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله  شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا  [ الشورى : 13] قال : وصاك به وأنبياءه كلهم دينا واحدا ( ).
ومعنى ذلك : أن دين الأنبياء كلهم دين واحد وهو الإسلام العام المشتمل على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وعلى توحيد الله وإخلاص الدين له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة كما قال تعالى :  وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ  [ البينة : 4 ، 5 ] .
والدين : هو الإسلام – كما صرح به في مواضع أخر - ، وإذا أطلق الإسلام دخل فيه الإيمان وبالعكس . وقد استدل على أن الأعمال تدخل في الإيمان بهذه الآية ، وهي قوله :  وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ  طوائف من الأئمة ، منهم الشافعي ، وأحمد ( ) ، والحميدي ( ) ، وقال الشافعي : ليس عليهم أحج من هذه الآية ( ) .
واستدل الأوزاعي ( ) بقوله تعالى  شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا  إلى قوله  أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا  ( الشورى : 13) ، وقال : الدين : الإيمان والعمل ، واستدل بقوله تعالى  فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ  ( التوبة : 11) . وقد ذكر الخلال في كتاب " السنة " أقوال هؤلاء الأئمة بألفاظهم بالأسانيد إليهم .
قال البخاري : وقال ابن عباس :  شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا  [ المائدة : 48] سبيلا وسنة .
وهذا من رواية أبي إسحاق ، عن التيمي ، وعن ابن عباس شرعة ومنهاجا : سبيلا وسنة ( ).
ومعنى قول ابن عباس : أن المنهاج هو السنة ، وهو الطريق الواسعة المسلوكة المداوم عليها ، والشرعة : هي السبيل والطريق الموصل إليها ، فهي كالمدخل إليها كمشرعة الماء وهي المكان الذي يورد الماء منه ، ويقال : شرع فلان في كذا إذا ابتدأ فيه ، وأنهج البلاء في الثوب إذا اتسع فيه . وبذلك فرق طائفة من المفسرين وأهل اللغة بين الشريعة والمنهاج ، منهم الزجاج وغيره .

1- فصل ( )
قال الله تعالى ( )  قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ [ الفرقان : 77] قال البخاري : ومعنى الدعاء في اللغة الإيمان .
اعلم أن أصل الدعاء في اللغة : الطلب ، فهو استدعاء لما يطلبه الداعي ويؤثر حصوله ، فتارة يكون الدعاء بالسؤال من الله عز وجل والابتهال إليه كقول الداعي : اللهم اغفر لي ، اللهم ارحمني ، وتارة يكون بالإتيان بالأسباب التي تقتضي حصول المطالب وهو الاشتغال بطاعة الله وذكره وما يجب من عبده أن يفعله وهذا هو حقيقة الإيمان .
وفي " السنن الأربعة" عن النعمان بن بشير ، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " إن الدعاء هو العبادة " ( ) ثم قرأ :  وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ  [ غافر : 60 ].
فما است*** العبد من الله ما يحب واستدفع منه ما يكره بأعظم من اشتغاله بطاعة الله وعبادته وذكره وهو حقيقة الإيمان ، فإن الله يدفع عن الذين آمنوا .
وفي الترمذي " عن أبي سعيد عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " يقول الرب عز وجل : من شغله القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " ( ) . وقال بعض التابعين : لو أطعتم الله ما عصاكم ، يعني : ما منعكم شيئا تطلبونه منه . وكان سفيان يقول : الدعاء ترك الذنوب – يعني : الاشتغال بالطاعة عن المعصية . وأما قوله تعالى  مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ [ الفرقان : 77 ] فيه للمفسرين قولان : أحدهما : أن المراد : لولا دعاؤكم إياه ، فيكون الدعاء بمعنى الطاعة – كما ذكرنا .
والثاني : لولا دعاؤه إياكم إلى طاعته كما في قوله تعالى  وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ  [ الذاريات: 56] . أي : لأدعوهم إلى عبادتي . (179-أ /ف) .
وإنما اختلف المفسرون في ذلك ، لأن المصدر يضاف إلى الفاعل تارة وإلى المفعول أخرى .
فصل
خرج البخاري من حديث :
8- عكرمة بن خالد عن ابن عمر ، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " بني الإسلام على خمس : شهادة ألا إله إلا الله ، و أن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحج ، وصوم رمضان " . وهذا الحديث دل على أن الإسلام مبني على خمس أركان ، وهذا يدل على أن البخاري يرى أن الإيمان والإسلام مترادفان .
ومعنى قوله صلي الله عليه وسلم " بني الإسلام على خمس " : أن الإسلام مثله كبنيان ، وهذه الخمس : دعائم البنيان وأركانه التي يثبت عليها البنيان . وقد روي في لفظ :" بني الإسلام على خمس دعائم " . خرجه محمد بن نصر المروزي ( ).
وإذا كانت هذه دعائم البنيان وأركانه ، فبقية خصال الإسلام كبقية البنيان، فإذا فقد شيء من بقية الخصال الداخلة في مسمى الإسلام الواجب نقص البنيان ولم يسقط بفقده . وأما هذه الخمس ، فإذا زالت كلها سقط البنيان ولم يثبت بعد زوالها وكذلك (إن ) ( ) زال منها الركن الأعظم وهو الشهادتان ، وزوالهما يكون بالإتيان بما يضادهما ولا يجتمع معهما . وأما زوال الأربع البواقي : فاختلف العلماء هل يزول الاسم بزوالها أو بزوال واحد منها؟ أم لا يزول بذلك ؟ أم يفرق بين الصلاة وغيرها فيزول بترك الصلاة دون غيرها ؟ أم يختص زوال الإسلام بترك الصلاة والزكاة خاصة .
وفي ذلمك اختلاف مشهور ، وهذه الأقوال كلها محكية عن الإمام أحمد ( ) وكثير من علماء أهل الحديث يرى تكفير تارك الصلاة .
وحكاه إسحاق بن راهويه ( ) إجماعا منهم حتى إنه جعل قول من قال : لا يكفر بترك هذه الأركان مع الإقرار بها من أقوال المرجئة . وكذلك قال سفيان بن عيينه : المرجئة سموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم ، وليسا سواء ، لأن ركوب المحارم متعمدا من غير استحلال : معصية ، وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر : هو كفر . وبيان ذلك في أمر آدم وإبليس وعلماء اليهود الذين أقروا ببعث النبي صلي الله عليه وسلم ولم يعملوا بشرائعه . وروي عن عطاء ونافع مولى ابن عمر أنهما سئلا عمن قال : الصلاة فريضة ولا أصلي ، فقالا : هو كافر . وكذا قال الإمام أحمد .
ونقل حرب عن إسحاق قال : غلت المرجئة حتى صار من قولهم : إن قوما يقولون : من ترك الصلوات المكتوبات وصوم رمضان والزكاة والحج وعامة الفرائض من غير جحود لها لا نكفره ، يرجى أمره إلى الله بعد ، إذ هو مقر ، فهؤلاء الذين لا شك فيهم – يعني في أنهم مرجئة . وظاهر هذا : أنه يكفر بترك هذه الفرائض .
وروى يعقوب الأشعري ، عن ليث ، عن سعيد بن جبير قال : من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر ، ومن أفطر يوما في رمضان (179-ب/ف ) فقد كفر ، ومن ترك الحج متعمدا فقد كفر ، ومن ترك الزكاة متعمدا فقد كفر( ).
ويروى عن الحكم بن عتيبة نحوه ، وحكى رواية عن أحمد – اختارها أبو بكر من أصحابه -، وعن عبد الملك بن حبيب المالكي مثله ، وهو قول أبي بكر الحميدي ( ).
وروي عن ابن عباس التكفير ببعض هذه الأركان دون بعض ، فروى مؤمل ، عن حماد بن زيد ، عن عمرو بن مالك النكري ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس – ولا أحسبه إلا رفعه – قال : " عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، و إقام الصلاة ، وصوم رمضان ، من ترك منها واحدة فهو بها كافر حلال الدم ، وتجده كثير المال لم يحج فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل دمه ، وتجده كثير المال لا يزكي فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل دمه ( ) . ورواه قتيبة عن حماد بن زيد فوقفه واختصره ولم يتمه . ورواه سعيد بن زيد – أخو حماد – عن عمرو بن مالك ورفعه ، وقال : " من ترك منهن واحدة فهو بالله كافر ، ولا يقبل منه صرف ولا عدل وقد حل دمه وماله " ولم يزد على ذلك .
والأظهر : وقفه على ابن عباس ، فقد جعل ابن عباس ترك هذه الأركان كفرا ، لكن بعضها كفرا يبيح الدم وبعضها لا يبيحه ، وهذا يدل على أن الكفر بعضه ينقل عن الملة وبعضه لا ينقل .
وأكثر أهل الحديث على أن ترك الصلاة كفر دون غيرها من الأركان كذلك حكاه محمد بن نصر المروزي ( ) وغيره عنهم . وممن قال بذلك : ابن المبارك ، وأحمد – في المشهور عنه - ، وإسحاق ، وحكى عليه إجماع أهل العلم – كما سبق – وقال أيوب : ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه . وقال عبد الله بن شقيق : كان أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة .
خرجه الترمذي ( ) .
وقد روي عن علي وسعد وابن مسعود وغيرهم قالوا : من ترك الصلاة فقد كفر . وقال عمر : لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة ( ) .
وفي صحيح مسلم " عن جابر عن النبي صلي الله عليه وسلم قال " " بين الرجل وبين الشرك والكفر : ترك الصلاة " ( ).
وخرج النسائي والترمذي وابن ماجه من حديث بريدة ، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال " العهد الذي بيننا وبينهم : الصلاة ، فمن تركها فقد كفر " ( ) .وصححه الترمذي وغيره . و من خالف في ذلك جعل الكفر هنا غير ناقل عن الملة كما في قوله تعالى  وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ  [ المائدة : 44] .
فأما بقية خصال الإسلام والإيمان فلا يخرج العبد بتركها من الإسلام عند أهل السنة والجماعة . وإنما خالف في ذلك الخوارج ونحوهم من أهل البدع .
قال حذيفة : الإسلام ثمانية أسهم : الإسلام سهم ، والصلاة سهم ، والزكاة سهم ، والحج سهم ، ورمضان سهم ، والجهاد سهم ، والأمر بالمعروف سهم ، والنهي عن المنكر سهم ، وقد خاب من لا سهم له . وروي مرفوعا، والموقوف أصح ( ).
فسائر خصال الإسلام الزائدة على أركانه الخمسة ودعائمه إذا زال منها شيء نقص البنيان ولم ينهدم أصل البنيان بذلك النقص .
وقد ضرب الله ورسوله مثل الإيمان (180-أ /ف) والإسلام بالنخلة . قال الله تعالى :  ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهاَ  [ إبراهيم : 23-24] .
فالكلمة الطيبة هي كلمة التوحيد وهي أساس الإسلام ، وهي جارة على لسان المؤمن وثبوت أصلها هو ثبوت التصديق بها في قلب المؤمن ، وارتفاع فرعها في السماء هو علو هذه الكلمة وبسوقها وأنها تحرق ( ) الحجب ولا تتناهى دون العرش ، وإتيانها أكلها كل حين : هو ما يرفع بسببها للمؤمن كل حين من القول الطيب والعمل الصالح، فهو ثمرتها . وجعل النبي صلي الله عليه وسلم مثل المؤمن أو المسلم كمثل النخلة ( ).
وقال طاوس : مثل ( الإسلام ) ( ) كشجرة أصلها الشهادة ، وساقها كذا وكذا ، وورقها كذا وكذا، وثمرها : الورع ، ولا خير في شجرة لا ثمر لها ، ولا خير في إنسان لا ورع فيه ( ). ومعلوم أن ما دخل في مسمى الشجرة والنخلة من فروعها وأغصانها وورقها وثمرها إذا ذهب شيء منه لم يذهب عن الشجرة اسمها ، ولكن يقال : هي شجرة ناقصة ، وغيرها أكمل منها ، فإن قطع أصلها وسقطت لم تبق شجرة ، وإنما تصير حطبا ، فكذلك الإيمان والإسلام إذا زال منه بعض ما يدخل في مسماه مع بقاء أركان بنيانه لا يزول به اسم الإسلام والإيمان بالكلية ، وإن كان قد سلب الاسم عنه لنقصه بخلاف ما انهدمت أركانه وبنيانه فإنه يزول مسماه بالكلية ، والله أعلم

2- فصل
في ( ) أمور الإيمان
قال البخاري :
وقول الله عز وجل  لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ  إلى قوله  وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ  [ البقرة : 177] وأمور الإيمان : خصاله وشعبه المتعددة .
واستدل البخاري بقوله تعالى  وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى ( ) الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ  [ البقرة : 177] .
وقد سأل أبو ذر النبي صلي الله عليه وسلم عن الإيمان ، فتلا عليه هذه الآية ( ).
وهذا يدل على أن الخصال المذكورة فيها هي خصال الإيمان المطلق ، فإذا أطلق الإيمان دخل فيه كل ما ذكر في هذه الآية ، كما سأل السائل عن الإيمان ، فتلا عليه النبي صلي الله عليه وسلم هذه الآية .
وإذا قرن الإيمان بالعمل فقد يكون من باب عطف الخاص على العام ، وقد يكون المراد بالإيمان – حينئذ- : التصديق بالقلب ، وبالعمل : عمل الجوارح كما ذكر في هذه الآية الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ، ثم عطف عليه أعمال الجوارح .
وخرج البخاري من حديث :
9- سليمان بن بلال ، عن عبد الله بن دينار ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ( ) ، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " الإيمان بضع وستون شعبة ، والحياء شعبة من الإيمان " .
وخرجه مسلم من هذا الوجه ، ولفظه : " بضع وسبعون " ( ) وخرجه مسلم – أيضا – من رواية جرير ، عن سهيل ، عن عبد الله بن دينار (180-ب / ف) ، وبه قال في حديثه : " بضع وسبعون – أو بضع وستون " ( ) – بالشك - ، وهذا الشك من سهيل ، كذا جاء مصرحا به في " صحيح ابن حبان " ( ) وغيره . وخرجه مسلم – أيضا _ من حديث ابن الهاد ، عن عبد الله بن دينار ، به وقال في حديثه : " الإيمان سبعون – أو اثنان وسبعون – بابا" ( ) . ورواه ابن عجلان ، عن عبد الله بن دينار وقال : " ستون 0 أو سبعون " . وروي عنه أنه قال في حديثه: " ستون أو سبعون " أو بضع واحد من العددين ( ) . وروي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن أبيه بهذا اللفظ – أيضا ( ) .
وروي عنه بلفظ آخر وهو : " الإيمان تسعة – أو سبعة _ وسبعون شعبة " . وخرجه الترمذي من رواية عمارة بن غزية وقال فيه : " الإيمان أربعة وسبعون بابا " ( ) . وقد روي عن عمارة بن غزية ، عن سهيل عن أبيه ( ) . وسهيل لم يسمع من أبيه ، وإنما رواه عن عبد الله بن دينار ، عن أبي صالح ( ) . فمدار الحديث على عبد الله بن دينار ، لا يصح عن غيره .
وقد ذكر العقيلي أن أصحاب عبد الله بن دينار على ثلاث طبقات : أثبات : كمالك وشعبة وسفيان بن عيينه ومشايخ : كسهيل ويزيد بن الهاد وابن عجلان ، قال : وفي رواياتهم عن عبد الله بن دينار اضطراب ، وقال : إن هذا الحديث لم يتابع هؤلاء المشايخ عليه أحد من الأثبات عن عبد الله بن دينار ، ولا تابع عبد الله بن دينار ، عن أبي صالح عليه أحد ، والطبقة الثالثة : الضعفاء ، فيرون عن عبد الله بن دينار المناكير ، إلا أن الحمل فيها عليهم ( ) .
قلت : فد رواه عن عبد الله بن دينار : سليمان بن بلال ، وهو ثقة ثبت ، وقد خرج حديثه في " الصحيحين ". وأما الاختلاف في لفظ الحديث : فالأظهر أنه من الرواة كما جاء التصريح في بعضه بأنه شك من سهيل بن أبي صالح . وزعم بعض الناس أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يذكر هذا العدد بحسب ما ينزل من خصال الإيمان ، فكلما نزلت خصلة منها ضمها إلى ما تقدم وزادها عليها . وفي ذلك نظر .
وقد ورد في بعض روايات " صحيح مسلم " عد بعض هذه الخصال ، ولفظه : " أعلاها : قول لا إله إلا الله ، وأدناها : إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان " ( ) . فأشار إلى أن خصال الإيمان منها قول باللسان ، ومنها ما هو عمل بالجوارح ومنها ما هو قائم بالقلب ، ولم يزد في شيء من هذه الروايات على هذه الخصال .
وقد انتدب لعدها طائفة من العلماء كالحليمي ( ) والبيهقي وابن شاهين وغيرهم ، فذكروا أن كل ما ورد تسميته إيمانا في الكتاب والسنة من الأقوال والأعمال وبلغ بها بعضهم سبع وسبعين ، وبعضهم تسعا وسبعين . و في القطع على أن ذلك هو مراد الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الخصال عسر ( ) كذا قاله ابن الصلاح وهو كما قال . وتبويب البخاري على خصال الإيمان والإسلام والدين من أوله إلى آخره وما خرج فيه من الأحاديث وما (181-أ/ف) استشهد به من الآيات والآثار الموقوفة إذا عدت خصاله وأضيف إليه أضداد ما ذكره في أبواب خصال النفاق والكفر بلغ ذلك فوق السبعين – أيضا – والله أعلم . وقد تكلم الراغب في كتاب " الذريعة " ( ) له على حصرها في هذا العدد ذكره ابن عبد البر ( ) وغيره . فإن قيل : فأهل الحديث والسنة عندهم أن كل طاعة فهي داخلة في الإيمان ، سواء كانت من أعمال الجوارح أو القلوب أو من الأقوال ، وسواء في ذلك الفرائض والنوافل ، هذا قول الجمهور الأعظم منهم وحينئذ فهذا لا ينحصر في بضع وسبعين ، بل يزيد على ذلك زيادة كثيرة ، بل هي غير منحصرة . قيل : يمكن أن يجاب عن هذا بأجوبة :
أحدها : أن يقال : إن عد خصال الإيمان عند قول النبي صلى الله عليه وسلم كان منحصرا في هذا العدد ثم حدثت زيادة فيه بعد ذلك حتى كملت خصال الإيمان في آخر حياة النبي صلي الله عليه وسلم .
والثاني : أن تكون خصال الإيمان كلها تنحصر في بضع وسبعين نوعا ، وإن كان أفراد كل نوع تتعد كثيرا ، وربما كان بعضها لا ينحصر . وهذا أشبه . وإن كان الموقوف على ذلك يعسر أو يتعذر .
والثالث : أن ذكر السبعين على وجه التكثير للعدد ، لا على وجه الحصر كما في قوله تعالى  إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ  [ التوبة : 80 ] والمراد تكثير التعداد من غير حصوله هذا في العدد ( ) ، ويكون ذكره للبضع يشعر بذلك كأنه يقول : هو يزيد على السبعين المقتضية لتكثير العدد وتضعيفه . و هذا ذكره أهل الحديث من المتقدمين ، وفيه نظر .
والرابع : أن هذه البضع وسبعين هي أشرف خصال الإيمان وأعلاها وهو الذي تدعو إليه الحاجة منها . قال ابن حامد من أصحابنا . والبضع في اللغة : من الثلاث إلى التسع ، هذا هو المشهور ، ومن قال : ما بين اثنين إلى عشر فالظاهر إنما أراد ذلك ولم يدخل الاثنين والعشر في العدد . وقيل من أربع إلى تسع . وقيل : مابين الثلاث والعشر . والظاهر أنه هو الذي قبله باعتبار إخراج الثلاث والعشر منه . وكذا قال بعضهم : ما بين الثلاث إلى ما دون العشرة، وعلى هذا فلا يستعمل في الثلاث ولا في العشر ، والله أعلم . ( ) .
3- فصل ( )
خرج البخاري من حديث :
10- الشعبي ، عن عبد الله بن عمرو ( ) عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر : من هجر ما نهى الله عنه "
خرجه من رواية شعبة ، عن عبد الله بن أبي السفر وإسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي عن عبد الله . ثم قال : وقال معاوية : حدثنا داود ، عن عامر قال : سمعت عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلي الله عليه وسلم وقال عبد الأعلى ، عن (181- ب/ف ) داود ، عن عامر ، عن عبد الله ( ) .
مقصود البخاري بهذا : أن شعبة روى الحديث معنعنا إسناده كله . وداود بن أبي هند عن الشعبي واختلف عليه فيه ، فقال عبد الأعلى : عن داود كذلك ، وقال أبو معاوية : عن داود ، عن عامر قال : سمعت عبد الله ، فذكر في حديثه تصريح الشعبي بالسماع له من عبد الله بن عمرو . وإنما احتاج إلى هذا ، لأن البخاري لا يرى أن الإسناد يتصل بدون ثبوت لقي الرواة بعضهم لبعض وخصوصا إذا روى بعض أهل بلد عن بعض أهل بلد ناء عنه ، فإن أئمة أهل الحديث مازالوا يستدلون على عدم السماع بتباعد الرواة ، كما قالوا في رواية سعيد بن المسيب عن أبي الدرداء وما أشبه ذلك ( ) . وهذا الحديث قد رواه الشعبي – وهو من أهل الكوفة - ، عن عبد الله بن عمرو – وهو حجازي – نزل مصر ولم يسكن العراق ، فاحتاج أن يذكر ما يدل على سماعه منه ، وقد كان عبد الله بن عمرو قدم مع معاوية الكوفة عام الجماعة فسمع أهل الكوفة كأبي وائل ، وزر بن حبيش ، والشعبي . وإنما خرج مسلم هذا الحديث من رواية المصريين ، عن عبد الله بن عمرو : من رواية يزيد بن حبيب ، عن أبي الخير سمع عبد الله بن عمرو يقول : أن رجلا سأل النبي صلي الله عليه وسلم : أي المسلمين خير ؟ قال : " من سلم المسلمون من لسانه ويده " ( ) . وهذا اللفظ يخالف لفظ رواية البخاري .
وأما رواية " المسلم " فيقتضي حصر المسلم فيمن سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمراد بذلك المسلم الكامل الإسلام ، فمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده فإنه ينتفي عنه كمال الإسلام الواجب ، فإن سلامة المسلمين من لسان العبد ويده واجبة ، فإن أذى المسلم حرام باللسان وباليد ، فأذى اليد : الفعل ، وأذى اللسان القول .
والظاهر : أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما وصف بهذا في هذا الحديث لأن السائل كان مسلما قد أتى بأركان الإسلام الواجبة لله عز وجل ، وإنما يجهل دخول هذا القدر الواجب من حقوق العباد في الإسلام ، فبين له النبي صلي الله عليه وسلم ما جهله .
ويشبه هذا : أن النبي صلي الله عليه وسلم لما خطب في حجة الوداع وبين للناس حرمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم وأتبع ذلك بقوله : " سأخبركم من المسلم : من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمؤمن : من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم " . خرجه ابن حبان في " صحيحه " من حديث فضالة بن عبيد ( ) .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا يجمع لنم قدم عليه يريد الإسلام بين ذكر حق الله وحق العباد ، كما في " مسند الإمام أحمد " عن عمرو بن عبسة قال : قال رجل : يا رسول الله ! ما الإسلام ؟ قال : " أن تسلم قلبك لله ، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك " ( ) .
وفيه – أيضا - ، عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليسلم فقال له : أسألك بوجه الله بم بعثك الله ربنا إلينا ؟ قال : " بالإسلام قال قلت : وما آية الإسلام ؟ ( 128 – أ / ف ) قال : " أن تقول : أسلمت وجهي لله وتخليت وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وكل مسلم على مسلم محرم " ، وذكر الحديث وقال فيه : قلت : يا رسول الله ! هذا ديننا ؟ قال : " هذا دينكم " ( ) . وخرجه النسائي بمعناه ( ) . وقوله" والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه " . فأصل الهجرة : هجران الشر ومباعدته لطلب ( ) الخير ومحبته والرغبة( ) فيه.
والهجرة عند الإطلاق في كتاب السنة إنما تنصرف إلى هجران بلد الشرك إلى دار الإسلام رغبة في تعلم الإسلام والعمل به ، وإذا كان كذلك فأصل الهجرة : أن يهجر ما نهاه الله عنه من المعاصي ، فيدخل في ذلك هجران بلد الشرك رغبة في دار الإسلام ، وإلا فمجرد هجرة بلد الشرك مع الإصرار على المعاصي ليس بهجرة تامة كاملة ، بل الهجرة التامة الكاملة : هجران ما نهى الله عنه ، ومن جملة ذلك : هجران بلد الشرك مع القدرة عليه .

4- فصل ( )
خرج البخاري من حديث :
11- بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده ( ) أبي بردة عن أبيه أبي موسى ( ) قالوا : يا رسول الله ! أي الإسلام أفضل ؟ قال : " من سلم المسلمون من لسانه ويده " .
وخرجه مسلم ( ) - أيضا - ، وخرج – أيضا – من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي المسلمين خير ؟ قال : " من سلم المسلمون من لسانه ويده " – كما تقدم ذكره ( ) . فعلى هذه الرواية : أي المسلمين خير ؟ وفي رواية أبي موسى : أي الإسلام أفضل ؟ . قال ابن رجب : والذي ظهر لي في الفرق بين " خير " أن لفظ " أفضل " إنما تستعمل في شيئين اشتركا في غير فضل ، وامتاز أحدهما عن الآخر بفضل اختص به ، فهذا الممتاز قد شارك ذاك في الفضل واختص عنه بفضل زائد فهو ذاك . وأما لفظه " خير " فتستعمل في شيئين : في كل منهما نوع من الخير أرجح مما في الآخر سواء كان لزيادة عليه في ذاته أو في نفعه أو غير ذلك ، وإن اختلف جنساهما فترجيح أحدهما على الآخر يكون بلفظة خير ، فيقال مثلا : النفع المتعدي خير من النفع القاصر ، وإن كان جنسهما مختلفا ويقال : زيد أفضل من عمرو ، إذا اشتركوا في علم أو دين ونحو ذلك ، وامتاز أحدهما على الآخر بزيادة . وإن استعمل في النوع الأول لفظة " أفضل " مع اختلاف الجنسين ، فقد يكون المراد : أن ثواب أحدهما أفضل من ثواب الآخر وأزيد منه ، فقد وقع الاشتراك في الثواب وامتاز أحدهما بزيادة منه – وحينئذ – فمن سلم المسلمون من لسانه ويده إسلامه أفضل من إسلام غيره ممن ليس كذلك ، لاشتراكهما في الإتيان بحقوق الله في الإسلام من الشهادتين و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ونحو ذلك ، وامتاز أحدهما بالقيام بحقوق المسلمين ، فصار هذا الإسلام أفضل من ذاك . و أما المسلم : فيقال : هذا أفضل من ذاك لأن إسلامه أفضل من إسلامه ويقال : هو خير من ذاك لترجيح خيره على خير غيره وزيادته عليه .
6 – فصل ( )
خرج البخاري ومسلم من حديث :
12- يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الإسلام خير ؟ قال : ( 182- ب /ف ) " تطعم ( ) الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " .
وخرجه مسلم أيضا ( ) . جعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث خير الإسلام : إطعام الطعام وإفشاء السلام . وفي " المسند " ( ) عن عمرو بن عبسة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم : ما الإسلام ؟ قال : " لين الكلام وإطعام الطعام " .
ومراده : الإسلام التام الكامل . وهذه الدرجة في الإسلام فضل ، وليست واجبة ، إنما هي إحسان . وأما سلامة المسلمين من اللسان واليد فواجبة إذا كانت من غير حق ، فإن كانت السلامة من حق كان – أيضا – فضلا .
وقد جمع الله تعالى بين الأفضال بالنداء وترك الأذى في وصف المتقين في قوله :  الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ  [ آل عمران : 134] فهذا إحسان وفضل وهو بذل النداء واحتمال الأذى .
وجمع في الحديث بين إطعام الطعام وإفشاء السلام ، لأنه به يجتمع الإحسان بالقول والفعل وهو أكمل الإحسان، وإنما كان هذا خير الإسلام بعد الإتيان بفرائض الإسلام وواجباته ، فمن أتى بفرائض الإسلام ثم ارتقى إلى درجة الإحسان إلى الناس كان خيرا ممن لم يرتق إلى هذه الدرجة وأفضل – أيضا - ، وليس المراد أن من اقتصر على هذه الدرجة فهو خير من غيره مطلقا ولا أن إطعام الطعام ولين الكلام خير من أركان الإسلام ومبانيه الخمس ، فإن إطعام الطعام والسلام لا يكونان من الإسلام إلا بالنسبة إلى من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر .
وقد زعم الحكيمي ( ) وغيره أنه قال : خير الأشياء كذا ، والمراد تفضيله من وجه دون وجه وفي وقت دون وقت أو لشخص دون شخص ، ولا يراد تفضيله على الأشياء كلها ، أو أن يكون المراد : إنه من خير الأشياء ، لا خير مطلقا . وهذا فيه نظر ، وهو مخالف للظاهر ، ولو كان هذا حقا لما احتيج إلى تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له : يا خير البرية ، فقال : " ذاك إبراهيم " ( ) . وقد تأوله الأئمة ، فقال الإمام أحمد : هو على وجه التواضع . ولكن هذا يقرب من قول من تأول " أفضل " بمعنى " فاضل " وقال : إن " أفعل " لا تقتضي المشاركة . وهذا غير مطرد عند البصريين ، ويتأول ما ورد منه وحكى عن الكوفيين أنه مطرد لا يحتاج إلى تأويل . وقوله " وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " هذا أفضل أنواع إفشاء السلام . وفي " المسند " عن ابن مسعود مرفوعا : " إن من أشراط الساعة " السلام بالمعرفة " ( ) .
ويخرج من عموم ذلك : من لا يجوز بداءته بالسلام كأهل الكتاب عند جمهور العلماء .
7- فصل ( )
خرج البخاري ومسلم ( ) من حديث :
13- قتادة ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " ( )
لما نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه دل على أن ذلك من خصال الإيمان، بل من واجباته ، فإن الإيمان لا ينفي إلا بانتفاء بعض واجباته ، كما قال : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"( ). الحديث
وإنما يحب الرجل لأخيه ما يحب لنفسه إذا سلم من الحسد والغل والغش والحقد ، وذلك واجب كما قال النبي (183-أ/ ف ) صلى الله عليه وسلم : " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا " ( ) ، فالمؤمن أخو المؤمن يحب له ما يحب لنفسه ويحزنه ما يحزنه كما قال صلى الله عليه وسلم :
" مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر " ( ) فإذا أحب المؤمن لنفسه فضيلة من دين أو غيره أحب أن يكون لأخيه نظيرها من غير أن تزول عنه كما قال ابن عباس : إني لأمر بالآية من القرآن فأفهمها فأود أن الناس كلهم فهموا منها ما أفهم . وقال الشافعي : وددت أن الناس كلهم تعلموا هذا العلم ولم ينسب إلي منه شيء . فأما حب التفرد عن الناس بفعل ديني أو دنيوي : فهو مذموم ، قال الله تعالى :  تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا ( القصص : 83) ، وقد قال علي وغيره : هو أن لا يحب أن يكون نعله خيرا من نعل غيره ولا ثوبه خيرا من ثوبه ( ) وفي الحديث المشهور في " السنن " : " من تعلم العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار ( ) . وأما الحديث الذي فيه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني أحب الجمال ، وما أحب أن يفوقني أحد بشراك أو بشسع نعلي ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " ليس ذلك من الكبر" ( ) ، فإنما فيه أنه أحب أن لا يعلو عليه أحد ، وليس فيه محبة أن يعلو هو على الناس ، بل يصدق هذا أن يكون مساويا لأعلاهم فما حصل بذلك محبة العلو عليه والانفراد عنهم ، فإن حصل لأحد فضيلة خصصه الله بها عن غيره فأخبر بها على وجه الشكر ، لا على وجه الفخر كان حسنا كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " أنا سيد ولد آدم ولا فخر ، وأنا أول شافع ولا فخر " ( ) . وقال ابن مسعود : لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته .
8- فصل ( )
خرج البخاري ومسلم ( ) من حديث :
14- أبي هريرة ( ) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده " .
وخرج البخاري ومسلم ( ) - أيضا – من حديث :
15- أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين " .
محبة النبي صلى الله عليه وسلم من أصول الإيمان وهي مقارنة لمحبة الله عز وجل ، وقد قرنها الله بها ، وتوعد من قدم عليها شيء من الأمور المحبوبة طبعا من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك ، فقال تعالى :  قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ  [ التوبة : 24] .
و لما قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم : أنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال : " لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك " فقال عمر : والله أنت الآن أحب إلي من نفسي ، قال : " الآن يا عمر " . ( ) فيجب تقديم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم (183- ب /ف ) على النفوس والأولاد والأقارب والأهلين والأموال والمساكين ، وغير ذلك مما يحبه الناس غاية المحبة ، وإنما تتم المحبة بالطاعة كما قال تعالى :  قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ  [ آل عمران : 31 ] وسئل بعضهم عن المحبة ، فقال : الموافقة في جميع الأحوال. فعلامة تقديم محبة الرسول على محبة كـل مخلوق : أنه إذا تعارض طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أوامره وداع آخر يدعو إلى غيرها من هذه الأشياء المحبوبة ، فإن قدم المرء طاعة الرسول وامتثال أوامره على ذلك الداعي : كان دليلا على صحة محبته للرسول وتقديمها على كل شيء ، وإن قدم على طاعته وامتثال أوامره شيئا من هذه الأشياء المحبوبة طبعا : دل ذلك على عدم إتيانه بالإيمان التام الواجب عليه . وكذلك القول في تعارض محبة الله ومحبة داعي الهوى والنفس ، فإن محبة الرسول تبع لمحبة مرسله عز وجل . هذا كله في امتثال الواجبات وترك المحرمات . فإن تعارض داعي النفس ومندوبات الشريعة ، فإن بلغت المحبة على تقديم المندوبات على دواعي النفس كان ذلك علامة كمال الإيمان وبلوغه إلى درجة المقربين والمحبوبين المتقربين بالنوافل بعد الفرائض ، وإن لم تبلغ هذه المحبة إلى الدرجة فهي درجة المقتصدين أصحاب اليمين الذين كملت محبتهم ولم يزيدوا عليها
9- فصل ( )
خرج البخاري ومسلم ( ) من حديث :
16- أبي قلابة ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار " . وقد خرجه مسلم وعنده في رواية : " فقد وجد طعم الإيمان ( ) ، وجاء في رواية : " وجد طعم الإيمان وحلاوته " .
فهذه الثلاث خصال من أعلى خصال الإيمان ، فمن كملها فقد وجد حلاوة الإيمان وطعم طعمه ، فالإيمان له حلاوة وطعم يذاق بالقلوب كما يذاق حلاوة الطعام والشراب بالفم ، فإن الإيمان هو غذاء القلوب وقوتها كما أن الطعام و الشراب غذاء الأبدان وقوتها ، وكما أن الجسد لا يجد حلاوة الطعام والشراب إلا عند صحته فإذا سقم لم يجد حلاوة ما ينفعه من ذلك ، بل قد يستحلي ما يضره وما ليس فيه حلاوة لغلبة السقم عليه ، فكذلك القلب إنما يجد حلاوة الإيمان من أسقامه وآفاته ، فإذا سلم من مرض الأهواء المضلة والشهوات المحرمة وجد حلاوة الإيمان حينئذ ، ومتى مرض وسقم لم يجد حلاوة الإيمان ، بل يستحلي ما فيه هلاكه من الأهواء والمعاصي . ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " ( ) ، لأنه لو كمل إيمانه لوجد حلاوة الإيمان فاستغنى بها عن استحلاء المعاصي .
سئل وهيب بن الورد : هل يجد طعم الإيمان من يعصي الله ؟ قال : لا ، ولا من هم بالمعصية . وقال ذو النون : كما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب . فمن جمع هذه الخصال الثلاثة المذكورة في هذا الحديث (184 – أ /ف ) فقد وجد حلاوة الإيمان وطعم طعمه :
أحدها : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . ومحبة الله تنشأ تارة من معرفته ، وكمال معرفته : تحصل من معرفة أسمائه وصفاته وأفعاله الباهرة والتفكير في مصنوعاته وما فيها من الإتقان والحكم والعجائب ، فإن ذلك كله يدل على كماله وقدرته وحكمته وعلمه ورحمته .
وتارة ينشأ ( ) من مطالعة النعم ، وفي حديث ابن عباس المرفوع : " أحبوا الله لما يغدوكم ( ) من نعمه وأحبوني لحب الله " . خرجه الترمذي في بعض نسخ كتابه ( ) . وقال بعض السلف : من عرف الله أحبه ، ومن أحبه أطاعه فإن المحبة تقتضي الطاعة كما قال بعض العارفين : الموافقة في جميع الأحوال ، ثم أنشد : ولو قلت لي مت مت سمعا وطاعة وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا
ومحبة الله على درجتين :
إحداهما : فرض ، وهي المحبة المقتضية لفعل أوامره الواجبة والانتهاء عن زواجره المحرمة والصبر على مقدوراته المؤلمة ، فهذا القدر لابد منه في محبة الله ، ومن لم تكن محبته على هذا الوجه فهو كاذب في دعوى محبة الله ، كما قال بعض العارفين : من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده فهو كاذب ، فمن وقع في ارتكاب شيء من المحرمات أو أخل بشيء من فعل الواجبات فلتقصره في محبة الله حيث قدم محبة نفسه وهواه على محبة الله ، فإن محبة الله لو كملت لمنعت من الوقوع فيما يكرهه . وإنما يحصل الوقوع فيما يكرهه لنقص محبته الواجبة في القلوب وتقديم هوى النفس على محبته وبذلك ينقص الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " ( ) الحديث .
والدرجة الثانية من المحبة - وهي فضل مستحب -: أن ترتقي المحبة من ذلك إلى التقرب بنوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق الشبهات والمكروهات ، والرضى بالأقضية المؤلمات ، كما قال عامر بن عبد قيس : أحببت الله حبا هون علي كل مصيبة ورضاني بكل بلية ، فما أبالي مع حبي إياه على ما أصبحت ، ولا على ما أمسيت ( ) . و قال عمر بن عبد العزيز أصبحت ومالي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر ، ولما مات ولده الصالح قال : إن الله أحب قبضه ، وأعوذ بالله أن تكون لي محبة تخالف محبة الله . وقال بعض التابعين في مرضه : أحبه إلي أحبه إليه . وأما محبة الرسول : فتنشأ عن معرفته ومعرفة كماله وأوصافه وعظم ما جاء به ، وينشأ ذلك في معرفة مرسله وعظمته - كما سبق - ، فإن محبة الله لا تتم إلا بطاعته ، ولا سبيل إلى طاعته إلا بمتابعة رسوله ، كما قال تعالى :  قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ  [ آل عمران : 31] ومحبة الرسول على درجتين - أيضا : إحداهما : فرض ، وهي ما اقتضى طاعته في امتثال ما أمر به من الواجبات والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات والرضى بذلك ، وأن لا يجد في نفسه حرجا مما جاء به ويسلم له تسليما ، وأن لا يتلقى الهدى من غير مشكاته ولا يطلب شيئا من الخير إلا مما جاء به .
الدرجة الثانية : فضل مندوب إليه ، وهي : ما ارتقى بعد ذلك إلى اتباع سنته وآدابه وأخلاقه والاقتداء به في هديه وسمته وحسن معاشرته لأهله وإخوانه وفي التخلق بأخلاقه الظاهرة في الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة وفي جوده وإيثاره وصفحه وحلمه واحتماله وتواضعه ، وفي أخلاقه الباطنة من كمال خشيته لله ومحبته له وشوقه إلى لقائه ورضاه بقضائه وتعلق قلبه به دائما وصدق الالتجاء إليه والتوكل والاعتماد عليه ، وقطع تعلق القلب بالأسباب كلها ودوام لهج القلب واللسان بذكره والأنس به والتنعم بالخلوة بمناجاته ودعائه وتلاوة كتابه بالتدبر والتفكر .
وفي الجملة : فكان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن ، يرضى لرضاه ويسخط لسخطه ، فأكمل الخلق من حقق متابعته وتصديقه قولا وعملا وحالا وهم الصديقون من أمته الذين رأسهم : أبو بكر – خليفته بعده – وهم أعلى أهل الجنة درجة بعد النبيين كما قال صلى الله عليه وسلم : " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون ( ) الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق إلى المغرب لتفاضل ما بينهم " قالوا " : يا رسول الله ! تلك منازل الأنبياء ما يبلغها غيرهم ، قال : " إي والذي نفسي بيده ، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " . خرجاه في " الصحيحين " من حديث أبي سعيد ( ) .
الخصلة الثانية : أن يحب المرء لا يحبه إلا لله . والحب في الله من أصول الإيمان وأعلى درجاته . وفي " المسند " ( ) عن معاذ بن أنس الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الإيمان ، فقال : أن تحب لله وتبغض لله وتعمل لسانك في ذكر الله " . وفيه - أيضا – عن عمرو بن الجموح ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحق العبد حق صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله ، فإذا أحب لله ، وأبغض لله فقد استحق الولاية من الله " ( ) وفيه : عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أوثق عرى الإيمان : أن تحب في الله وتبغض في الله ( ) وخرج الإمام أحمد، وأبو داود عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أفضل الأعمال : الحب في الله والبغض في الله"( ). ومن حديث أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان " ( ) . وخرجه أحمد ، والترمذي من حديث معاذ بن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد أحمد في رواية " وأنكح لله " ( ) .
وإنما كانت هذه الخصلة تالية لما قبلها ، لأن من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما فقد صار حبه كله له ، ويلزم من ذلك أن يكون بغضه لله وموالاته له ومعاداته له ، وأن لا تبقى له بقية من نفسه وهواه ، وذلك يستلزم محبة ما يحبه الله من الأقوال والأعمال ، وكراهة ما يكرهه من ذلك ، وكذلك من الأشخاص ، ويلزم من ذلك معاملتهم بمقتضى الحب والبغض ، فمن أحبه الله أكرمه وعامله بالعدل والفضل ، ومن أبغضه لله أهانه بالعدل ، ولهذا وصف الله المحبين له بأنهم  أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( 185- أ /ف ) أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ  [ المائدة : 54] . وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : " أسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يبلغني إلى حبك " ( ) فلا تتم محبة الله ورسوله إلا بمحبة أوليائه وموالاتهم وبغض أعدائه ومعاداتهم . وسئل بعض العارفين : بما تنال المحبة ؟ قال : بموالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه ، وأصله الموافقة .
الخصلة الثالثة : أن يكره الرجوع إلى الكفر كما يكره الرجوع إلى النار . فإن علامة محبة الله ورسوله : محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه الله ورسوله – كما سبق – فإذا رسخ الإيمان في القلب وتحقق به ووجد حلاوته وطعمه أحبه وأحب ثباته ودوامه والزيادة منه وكره مفارقته وكان كراهته لمفارقته أعظم عنده من كراهة الإلقاء في النار ، قال الله تعالى  وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ  [ الحجرات : 7] . والمؤمن يحب الإيمان أشد من حب الماء البارد في شدة الحر للظمآن ، ويكره الخروج منه أشد من كراهة التحريق بالنيران ، كما في " المسند " عن أبي رزين العقيلي أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال : " أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما ، وأن تحرق في النار أحب إليك من أن تشرك بالله ، وأن تحب غير ذي نسب لا تحبه إلا لله فإذا كنت كذلك فقد دخل حب الإيمان في قلبك كما دخل حب الماء للظمآن في اليوم القائظ( )
وفي " المسند " – أيضا – أن النبي صلى الله عليه وسلم وصى معاذ بن جبل فقال له فيما وصاه به : " لا تشرك بالله شيئا وإن قطعت وحرقت " ( ) .
وفي " سنن ابن ماجة " ( ) أن النبي صلى الله عليه وسلم وصي أبا الدرداء وغيره – أيضا . وقد أخبر الله عن أصحاب الأخدود بما أخبر به وقد كانوا فتنوا المؤمنين والمؤمنات وحرقوهم بالنار ليرتدوا عن الإيمان ، فاختاروا الإيمان على النار . وفي " الصحيح " عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن امرأة منهم أتى به ومعها صبي لها يرضع فكأنها تقاعست أن تلقي نفسها في النار من أجل الصبي فقال لها الصبي : يا أمه ! اصبري فإنك على الحق " ( ) . وألقي أبو مسلم الخولاني في النار على امتناعه أن يشهد للأسود بالنبوة فصارت عليه بردا وسلاما . وعرض على عبد الله بن حذافة أن يتنصر فأمر ملك الروم بإلقائه في قدر عظيمة مملوءة ماء تغلي عليه فبكى وقال : لم أبك جزعا من الموت ، لكن أبكي أنه ليس لي إلا نفس واحدة يفعل بها هذا في الله ، لوددت أنه كان لي مكان كل شعرة مني نفسا يفعل بها ذلك في الله عز وجل . هذا مع أن التقية في ذلك باللسان جائزة مع طمأنينة القلب بالإيمان كما قال تعالى  إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ  [ النحل : 106] . ولكن الأفضل الصبر وعدم التقية في ذلك . فإذا وجد القلب حلاوة الإيمان أحس بمرارة الكفر والفسوق والعصيان ولهذا قال يوسف عليه السلام :  رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ  [ يوسف " 33] . سئل ذو النون : متى أحب ربي ؟ قال : إذا كان ما يكرهه أمر عندك من الصبر . وقال ( 185- ب /ف ) بشر بن السري : ليس من أعلام المحبة أن تحب ما يبغضه حبيبك . واعلم أن القدر الواجب من كراهة الكفر والفسوق والعصيان هو أن ينفر من ذلك ويتباعد منه جهده ويعزم على أن لا يلابس شيئا من جهده لعلمه بسخط الله له وغضبه على أهله . فأما ميل الطبع إلى ما يميل من ذلك – خصوصا لمن اعتاده ثم تاب منه – فلا يؤاخذ به إذا لم يقدر على إزالته ، ولهذا مدح الله من نهى النفس عن الهوى ، وذلك يدل على أن الهوى يميل إلى ما هو ممنوع منه وأن من عصى هواه كان محمودا عند الله عز وجل .
وسئل عمر عن قوم يشتهون المعاصي ولا يعملون بها ، قال :  أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ  ( ) [ الحجرات : 3 ] . وقد ترتاض النفس بعد ذلك وتألف التقوى حتى تتبدل طبيعتها وتكره ما كانت مائلة إليه وتصير ( ) التقوى لها طبيعة ثابتة . وهل هذا أفضل من الأول أم الأول أفضل ؟
هذا وقد يخرج على اختلاف العلماء فيمن عمل طاعة ونفسه تأباها وهو يجاهدها ، وآخر عملها ونفسه طائعة مختارة لها أيهما أفضل ؟ وفيه قولان مشهوران للعلماء والصوفية . والأظهر : أن الثاني أفضل . وفي كلام الإمام أحمد ما يدل على خلافه . وفي " مسند الإمام أحمد " : حدثنا يحي بن سعيد ، عن حميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : " أسلم " قال : أجدني كارها قال : " ، إن كنت كارها " ( ) وهذا يدل على صحة الإسلام مع نفور القلب عنه وكراهته له ، لكن إذا دخل في الإسلام واعتاده وألفه : دخل حبه قلبه ووجد حلاوته . وخرج مسلم حديث أنس المتقدم ، ولفظه : " ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه " ( ) .
ويستشكل من هذا اللفظ أنه يقتضي ( ) وجود محبة الأمرين – أعني : الإلقاء في النار والرجوع إلى الكفر - ، وترجع محبة الأول على الثاني ، ووقع مثله في القرآن في قوله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام –  قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ  [ يوسف : 33 ] ومثله قول علي رضي الله عنه : إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أكذب عليه ( ) . ويجاب عن ذلك : بأن من خير بين أمرين مكروهين فاختار أحدهما على الآخر لشدة كراهته لما رغب عنه فإنه يقال : إنه محب لما اختاره مريد له وإن كان لا يحبه ولا يختاره لنفسه ، بل لدفع ما عنده أشد كراهة وأعظم ضررا . ومن هنا ورد ما ورد من حب الموت في الفتنة والتخلص منها . وقيل لعطاء السليمي : لو أججت نار وقيل : من دخلها نجا من جهنم هل كنت تدخله ؟ فقال : بل كنت أخشى أن تخرج نفسي فرحا بها قبل وصولي إليها ( ) ويشبه هذا حال المكره على فعل بضرب أو سجن أو تهديد أو بقتل ونحو ذلك إذا فعله افتداء لنفسه مما أكره عليه هل هو مختار له أم لا ؟ وفيه اختلاف مشهور بين الأصوليين .
والتحقيق : أنه مختار له ، لا لنفسه ، بل للافتداء به من المكروه الأعظم ، فهو مختار له من وجه دون وجه ، وهذا بخلاف فعل المؤمن الطاعات خوفا من الله ، فإنه ليس فعله كفعل ( 186 – أ / ف ) المكره ، لأن المؤمن يجب عليه أن يأتي بالطاعة خوفا من عقاب الله ورجاء لثوابه وحبا له ، فبذلك يفارق حال المكره . ومن هنا تظهر المسألة التي تفر منها الفقهاء وهي : إذا قال رجل لامرأته : إن كنت تحبيني ( ) أن يعذبك الله بالنار فأنت طالق ، فقالت : أنا أحبه ، فقال كثير منهم من أصحابنا وغيرهم : إنها تطلق لأنها قد تختار ذلك وتحبه افتداء به من معاشرة زوجها لشدة بغضها له وجهلا منها بتصور عذاب جهنم فتكون صادقة فيما أخبرت به . و من هذا : الحديث الذي فيه أن الكافر يقول من شدة ما يجد في الموقف يوم القيامة : رب أرحني حتى ولو إلى النار . فظهر بهذا : أن من خير بين مكروهين فاختار أخفهما دفعا لأعظمهما أنه يكون محبا لما اختاره مختارا له من وجه دون وجه . وأما ما يقتضيه لفظ الحديث من كونه محبا للآخر : فهذا – أولا – غير لازم على قول الكوفيين الذين لا يرون أن " أفعل " التفضيل يلزم منه المشاركة مطلقا ، فيجوز عندهم أن يقال : الثلج أبرد من النار ، وأما على قول البصريين فإنه قد ورد في كثير من نصوص الكتاب والسنة ما تمتنع فيه المشاركة وتأولوا فيه " أفعل " بـ " فاعل " فكذلك تتأول هنا . ومما بقي مما يتعلق بلفظ هذا الحديث : أن قوله صلى الله عليه وسلم : " أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما " يدل على أنه يجوز الجمع بين اسم الله واسم غيره من المخلوقين في كلمة واحدة . وفي " سنن أبي داود " عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته : " من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا ( ) .
و قال ابن مسعود – لما قضي في بروع ( ) - : إن يكون صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان من الخطأ . وقد اختلف الناس في جواز مثل هذا التركيب في الكلام على أقوال :
أحدهما : أنه لا يجوز . و الثاني : أنه لا يجوز في كلام الله عز وجل دون غيره . والثالث : أنه ممتنع مطلقا . واحتجوا بحديث عدي بن حاتم أن رجلا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ومن يعصهما فقد غوى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " بئس الخطيب أنت ، قل : ومن يعص الله ورسوله " . خرجه مسلم . و قد قيل : إن قوله : " قل : ومن يعص الله ورسوله " مدرجة في الحديث ( ) وإنما أنكر عليه وقفه في قوله : " و من يعصهما". وقد ذكر هذا الاختلاف ابن عطية في " تفسيره " وغيره .
و فيه قول آخر : أنه يمتنع في واو الجمع أو ألف التثنية المتصلين بالأفعال نحو : يفعلون ، وتفعلان ، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ  ( الأحزاب : 56) ، وهذا هو الذي ذكره القاضي أبو يعلي في كتابه " أحكام القرآن "( ) . و من منع ذلك : أجاب بأن في الكلام حذفا تقديره : إن الله يصلي وملائكته يصلون، والله أعلم .
10 – فصل ( )
خرج البخاري ومسلم ( ) من حديث :
17- أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " آية الإيمان : حب الأنصار ، وآية النفاق : بغض الأنصار " .
هذا المعنى يرجع إلى ما تقدم من حب المرء لا يحبه إلا لله ( ) من علامات وجود حلاوة الإيمان وأن الحب في الله من أوثق عرى الإيمان ، وأنه أفضل ( 186- ب / ف ) الإيمان ، فالأنصار نصروا الله ورسوله فمحبتهم من تمام حب الله ورسوله . وخرج الإمام أحمد من حديث سعيد بن زيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يؤمن بالله من لا يؤمن بي ، ولا يؤمن بي من لا يحب الأنصار " ( ) وخرج الطبراني وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أحب الأنصار فبحبي أحبهم ، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم " ( ) وفي صحيح مسلم " عن أبي سعيد وأبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر " ( ) وفي " المسند " عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " حب الأنصار إيمان وبغضهم نفاق " . ( ) وكذلك حب المهاجرين - الذين هم أفضل من الأنصار – من الإيمان . وفي " صحيح مسلم " ، عن علي قال : إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم إلي : لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق ( ) وفي " المسند " والترمذي ، عن عبد الله بن مغفل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم " ( ) وفي بعض نسخ كتاب الترمذي ، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أحبوا الله لما يغدوكم به من نعمه ، وأحبوني لحب الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبي " ( ) .
وفي " المسند " وكتاب النسائي ، وابن ماجه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحسن والحسين : " من أحبهما فقد أحبني ، ومن أبغضهما فقد أبغضني " ( ) . فمحبة أولياء الله وأحبابه عموما من الإيمان، وهي من أعلى مراتبه ، وبغضهم محرم فهو من خصال النفاق ، لأنه مما لا يتظاهر به غالبا ، ومن تظاهر به فقد تظاهر بنفاقه فهو شر ممن كتمه وأخفاه .
و من كان له مزية في الدين لصحبته النبي صلى الله عليه وسلم أو لقرابته أو نصرته فله مزيد خصوصية في محبته وبغضه . و من كان من أهل السوابق في الإسلام كالمهاجرين الأولين فهو أعظم حقا مثل علي رضي الله عنه . وقد روي أن المنافقين إنما كانوا يعرفون ببغض علي رضي الله عنه ، ومن هو أفضل من علي كأبي بكر وعمر ، فهو ( ) أولى بذلك ، ولذلك قيل : إن حبهما من فرائض الدين ، وقيل : إنه يرجى على حبهما ما يرجى على التوحيد من الأجر .
11 – فصل ( )
قال البخاري :
18 – حدثنا أبو اليمان : أنا شعيب عن الزهري : أخبرني أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن عبادة بن الصامت ( ) - وكان شهد بدرا ، وهو أحد النقباء ليلة العقبة – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال – وحوله عصابة من أصحابه - : " بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف ، فمن وفي منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب [ به ] ( ) في الدنيا فهو كفارة ، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه " فبايعناه على ذلك .
هذا الحديث سمعه أبو إدريس ، عن عقبة بن عامر ، عن عبادة ، وزيادة عقبة في إسناده : وهم . وقد خرج البخاري الحديث في " ذكر بيعة العقبة " ( ) وفي " تفسير سورة الممتحنة " ( ) من كتابه هذا ، وفيه التصريح بأن أبا إدريس أخبره به عبادة وسمعه منه ( 187- أ/ ف ) .
وكان عبادة قد شهد بدرا وهو أحد النقباء ليلة العقبة حيث بايعت الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة ، لكن هذه البيعة المذكورة في هذا الحديث كانت ليلة العقبة أم لا ؟ هذا وقع فيه تردد ، فرواه ابن إسحاق ، عن الزهري وذكر في روايته أن هذه البيعة كانت ليلة العقبة . وروى ابن إسحاق – أيضا - ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله ، عن الصنابحي ، عن عبادة بن الصامت قال : كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنا اثني عشر رجلا ، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء وذلك قبل أن تفرض الحرب على أن لا نشرك بالله شيئا ، ولا نسرق ولا نـزني ، الحديث ( ) . خرجه الإمام أحمد من رواية ابن إسحاق هكذا( ). وكذا رواه الواقدي عن يزيد بن حبيب . وخرجاه في " الصحيحين " من حديث الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن الصنابحي ، عن عبادة قال : إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بايعنا على أن لا نشرك بالله شيئا فذكر الحديث ( ) . وليس هذا بالصريح في أن هذه البيعة كانت ليلة العقبة . ولفظ مسلم بهذه الرواية ( ) : عن عبادة بن الصامت قال : إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : بايعناه على أن لا نشرك ، الحديث . وهذا اللفظ قد يشعر بأن هذه البيعة غير ( ) بيعة النقباء .
وخرجه مسلم ، من وجه آخر من رواية أبي قلابة ، عن أبي الأشعث ، عن عبادة قال : أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء أن لا نشرك بالله شيئا ( ) .
هذا قد يشعر بتقدم أخذه على النساء على أخذه عليهم . وخرج مسلم حديث عبادة من رواية أبي إدريس ، عنه وقال في حديثه : فتلا علينا آية النساء أن لا نشرك بالله شيئا ، الآية ( ) . وخرجه البخاري في " تفسير الممتحنة " من رواية ابن عيينه ، عن الزهري وقال فيه : وقرأ آية النساء ، وأكثر لفظ سفيان : وقرأ الآية ، ثم قال : تابعه عبد الرزاق ، عن معمر في الآية ( ) . وكذا خرجه الإمام أحمد والترمذي وعندهما : فقرأ عليهم الآية ، زاد الإمام أحمد: التي أخذت على النساء  إذا جاءك المؤمنات  ( ) [ الممتحنة : 12] . وهذا تصريح بأن هذه البيعة كانت بالمدينة، لأن بيعة النساء مدنية . وروى هذا الحديث سفيان بن حسين ، عن الزهري ، وقال في حديثه : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : " أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ؟ ثم تلا هذه الآية} قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} [ الأنعام : 151] حتى فرغ من الثلاث آيات . خرجه الهيثم بن كليب في " مسنده " وسفيان بن حسين ليس بقوي ، خصوصا في حديث الزهري ، وقد خالف سائر الثقات من أصحابه في هذا ( ) .
وقد روى عبادة بن الصامت أنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ينازعوا الأمر أهله ،أن يقولوا بالحق ( ) .فهذه صفة أخرى غير صفة البيعة المذكورة في الأحاديث المتقدمة .
وهذه البيعة الثانية مخرجة في " الصحيحين " من غير وجه عن عبادة . وقد خرجها الإمام أحمد ( ) من رواية ابن إسحاق : حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ، عن أبيه عن جده عبادة – وكان أحد النقباء – قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الحرب . وكان عبادة من الاثنى عشر ( 187- ب / ف ) نقيبا الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة الأولى على بيعة النساء على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ، وذكر الحديث . و هذه الرواية تدل على أن هذه البيعة هي بيعة الحرب وأن بيعة النساء كانت في العقبة الأولى قبل أن يفرض ( ) الحرب ، فهذا قد يشعر بأن هذه البيعة كانت بالمدينة بعد فرض الحرب . وفي هذا نظر . وقد خرجه الهيثم بن كليب في " مسنده " من رواية ابن إدريس ، عن ابن إسحاق ويحي بن سعيد وعبيد الله بن عمر ، عن عبادة بن الوليد أن أباه حدثه ، عن جده قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة الآخرة على السمع والطاعة، فذكره .
وخرجه ابن سعد من وجه آخر ، عن عبادة بن الوليد مرسلا ( ) . وخرج الإمام أحمد من وجه آخر ، عن عبادة أنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم هذه البيعة على السمع والطاعة ، الحديث وقال فيه : وعلى أن ننصر النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب ، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا ( ) . وهذا يدل على أن هذه البيعة كانت قبل الهجرة وذلك ليلة العقبة .
وخرج – أيضا ( ) – هذا المعنى من حديث جابر بن عبد الله أن هذه البيعة كانت للسبعين بشعب العقبة وهي البيعة الثانية ، وتكون سميت هذه البيعة الثانية ، بيعة الحرب ، لأن فيها البيعة على منع النبي صلى الله عليه وسلم وذلك يقتضي القتال دونه ، فهذا هو المراد بالحرب وقد شهد عبادة البيعتين معا . ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبايع أصحابه على بيعة النساء قبل نـزول أية مبايعتهن ، ثم نـزلت الآية بموافقة ذلك .
و في المسند ( ) عن أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة جمع النساء فبايعهن على هذه الآية إلى قوله  ولا يعصينك في معروف  [ الممتحنة : 12] .
وهذا قبل نـزول سورة الممتحنة ، فإنها إنما أنـزلت قبل الفتح بيسير والله أعلم بحقيقة ذلك كله . وأما ما بايعهم عليه : فقد اتفقت روايات حديث عبادة من طرقه الثلاث عن أنهم بايعوه على أن لا يشركوا بالله ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا . و في بعض الروايات : لا يقتلوا أولادهم – كما في لفظ الآية - ، وفي بعضها : لا يقتلوا النفس التي حرم الله . وهذه رواية الصنابحي ، عن عبادة . ثم إن من الرواة من اقتصر علي هذه الأربع ولم يزد عليها . ومنهم من ذكر خصلة خامسة بعد الأربع ، ولكن لم يذكرها باللفظ الذي في الآية ، ثم اختلفوا في لفظها : فمنهم من قال : " ولا تنتهب " – وهي رواية الصنابحي ، عن عبادة المخرجة في " الصحيحين " ومنهم من قال " ولا يعضه – بعضنا بعضا " وهي رواية أبي الأشعث عن عبادة - ، خرجها مسلم . ومنهم من قال : " ولا يغتب بعضنا بعضا " – وهي رواية الإمام أحمد ( ) . و أما الخصلة السادسة : فمنهم من لم يذكرها بالكلية – وهي رواية أبي الأشعث التي خرجها مسلم . ومنهم من ذكرها وسماها المعصية فقال : " ولا نعصي " – كما في رواية الصنابحي – وفي رواية أبي إدريس : " ولا تعصوا في معروف " . فأما الشرك والسرقة ( ) والزنا والقتل : فواضح ، وتخصيص قتل الأولاد بالذكر في بعض الروايات موافق لما ورد في القرآن في مواضع ( 188- أ / ف ) وليس له مفهوم ، وإنما خصص بالذكر للحاجة إليه ، فإن ذلك كان معتادا بين أهل الجاهلية .
وأما الإتيان ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم - على ما جاء في رواية البخاري - : فهذا يدل على أن هذا البهتان ليس مما يختص به النساء . وقد اختلف المفسرون في البهتان المذكور في آية بيعة النساء : فأكثرهم فسروه بإلحاق المرأة بزوجها ولدا من غيره ، رواه علي بن أبي طلحة ( ) ، عن ابن عباس ، وقاله مقاتل بن حيان ( ) وغيره. واختلفوا في معنى قوله : " بين أيديهم وأرجلهن " : فقيل لأن الولد إذا ولدته أمه سقط بين يديها ورجليها . وقيل : بل أراد بما تفتريه بين يديها : أن تأخذ لقيطا فتلحقه بزوجها ، وبما تفتريه بين رجليها : أن تلده من زنا ثم تلحقه بزوجها .
ومن المفسرين من فسر البهتان المفترى بالسحر ، ومنهم من فسره بالمشي بالنميمة والسعي في الفساد ، ومنهم من فسره بالقذف والرمي بالباطل . وقيل : البهتان المفترى يشمل ذلك كله وما كان في معناه ، ورجحه ابن عطية( ) وغيره . وهو الأظهر ، فيدخل فيه كذب المرأة فيما اؤتمنت عليه من حمل وحي وغير ذلك . ومن هؤلاء من قال: أراد بما بين يديها : حفظ لسانها وفمها ووجهها عما لا يحل لها ، وبما بين رجليها : حفظ فرجها ، فيحرم عليها الافتراء ببهتان في ذلك كله . ولو قيل : إن من الافتراء ببهتان بين يديها خيانة الزوج في ماله الذي في بيتها لم يبعد ذلك .
وقد دل مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم الرجال على أن لا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم : أن ذلك لا يختص بالنساء ، وجميع ما فسر به البهتان في حق النساء يدخل فيه الرجال – أيضا - ، فيدخل فيه استلحاق الرجل ولد غيره سواء كان لاحقا غيره أو غير لاحق كولد الزنا ، ويدخل فيه الكذب والغيبة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " خرجه مسلم ( ) وكذلك القذف ، وقد سمى الله قذف عائشة بهتانا عظيما . وكذلك النميمة من البهتان . وفي رواية أبي الأشعث ، عن عبادة : " ولا يعضه بعضكم بعضا " ( ) ، فالعضيهة : النميمة . وفي " صحيح مسلم " عن ابن مسعود مرفوعا:" ألا أنبئكم ما العضيهة ( ) ؟ هي النميمة القالة بين الناس " ( ) .
وروى إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعود قال : كنا نسمي العضيهة : السحر ، وهو اليوم : قيل وقال . وفسر إسحاق بن راهويه العضيهة في حديث عبادة بن الصامت قال : " لا يبهت بعضكم بعضا " ، نقله عنه محمد بن نصر ( ). وذكر أهل اللغة أن العضيهة : الشتيمة ، والعضيهة : البهتان ، والعاضهة ، والمستعضهة : الساحرة المستسحرة ( ) . وفي رواية الصنابحي : " ولا ننتهب " والنهبة من البهتان ، فإن المنتهب يبهت الناس بانتهابه منه ما يرفعون عليه أبصارهم فيه . فكل ما بهت صاحبه وحيره وأدهشه من قول أو فعل لم يكن في حسابه فهو بهتان ، فأخذ المال بالنهيى أو بالدعاوى الكاذبة : بهتان ، وقد قال تعالى :  وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِينا [ النساء 20 ] .
وفي المسند ، والترمذي ( 188- ب / ف ) ، والنسائي ، عن صفوان ابن عسال أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن التسع آيات البينات التي أوتيها موسى فقال : لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف ، وعليكم اليهود خاصة أن لا تعدوا في السبت ( ) .
فلم يذكر في هذا الحديث البهتان المفترى بلفظه ، ولكن ذكر مما فسر به البهتان المذكور في القرآن عدة خصال : السحر ، والمشي ببريء على السلطان ، وقذف المحصنات . وهذا يشعر بدخول ذلك كله في اسم البهتان . وكذلك الأحاديث التي ذكر فيها عدد الكبائر ذكر في بعضها القذف ، وفي بعضها قول الزور أو شهادة الزور ، وفي بعضها اليمين الغموس والسحر ، وهذا كله من البهتان المفترى . وأما الخصلة السادسة : فهي المعصية ، وتشمل جميع أنواع المعاصي ، فهو من باب ذكر العام بعد الخاص ، وهو قريب من معنى قوله تعالى :  وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ  [ النور : 56] ، وقوله تعالى  ولا يعصينك في معروف  [ الممتحنة : 12] . وفي بعض ألفاظ حديث عبادة : " ولا تعصوا في معروف " ، وفي بعضها " ولا تعصوني في معروف " ، وقد خرجها البخاري في موضع آخر ( ) . وكل هذا إشارة إلى أن الطاعة لا تكون إلا في معروف ، فلا يطاع مخلوق إلا في معروف ولا يطاع في معصية الخالق .
وقد استنبط هذا المعنى من هذه الآية طائفة من السلف ، فلو كان لأحد من البشر أن يطاع بكل حال لكان ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم ، فلما خصت طاعته بالمعروف – مع أنه لا يأمر إلا بما هو معروف – دل على أن الطاعة في الأصل لله وحده ، والرسول مبلغ عنه وواسطة بينه وبين عباده ، ولهذا قال تعالى :  مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه  [ النساء : 80] . فدخل في هذه الخصلة السادسة الانتهاء عن جميع المعاصي . ويدخل فيها – أيضا – القيام بجميع الطاعات على رأي من يرى أن النهي عن شيء أمر بضده .
فلما تمت هذه البيعة على هذه الخصال ذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم حكم من وفى بها وحكم من لم يف بها عند الله عز وجل . فأما من وفى بها فأخبر أن أجره على الله – كذا رواية أبي إدريس وأبي الأشعث ، عن عبادة ، وفي رواية الصنابحي ، عنه : فالجنة إن فعلنا ذلك . وقد قال الله تعالى  إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا  [ الفتح : 10] . وفسر الأجر العظيم بالجنة ، كذا قاله قتادة ( ) . وغيره من السلف . ولا ريب أن من اجتنب الشرك والكبائر والمعاصي كلها فله الجنة ، وعلى ذلك وقعت هذه البيعة ، وإن اختصر ذلك بعض الرواة فأسقط بعض هذه الخصال . وأما من لم يوف بها ، بل نكث بعض ما التزم بالبيعة تركه لله عز وجل . والمراد : ما عدا الشرك من الكبائر ، فقسمه إلى قسمين :
أحدهما : أن يعاقب في الدنيا ، فأخبر ( 189- أ/ف ) أن ذلك كفارة له ، وفي رواية : " فهو طهور له " ، وفي رواية " طهور له أو كفارة " – بالشك - ، ورواه بعضهم : " طهور وكفارة " – بالجمع . وقد خرجها البخاري في موضع آخر في " صحيحه " ( ) .
وروى ابن اسحاق ، عن الزهري حديث أبي إدريس ، عن عبادة وقال فيه : " فأقيم عليه الحد فهو كفارة له"( ). وفي رواية أبي الأشعث ، عن عبادة : " ومن أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارة " خرجه مسلم ( ) . وهذا صريح في أن إقامة الحدود كفارات لأهلها . وقد صرح بذلك سفيان الثوري ، ونص على ذلك أحمد في رواية عبدوس بن مالك العطار ، عنه ( ) . و قال الشافعي : لم أسمع في هذا الباب أن الحد كفارة أحسن من حديث عبادة( ) . وإنما قال هذا ، لأنه قد روى هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة ، عن علي ، وجرير ، وخزيمة بن ثابت ،وعبد الله بن عمرو ، وغيرهم ، وفي أسانيد كلها مقال ، وحديث عبادة صحيح وثابت . وقد روى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما أدري ما الحدود طهارة لأهلها أم لا ؟ " وذكر كلاما آخر . خرجه الحاكم . وخرج أبو داود بعض الحديث ( ) . وقد رواه هشام بن يوسف ، عن معمر ، عن الزهري مرسلا . قال البخاري في " تاريخه " : المرسل أصح ، قال : ولا يثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت عنه أن الحدود كفارة ( ) . انتهى . وقد خرجه البيهقي من رواية آدم بن أبي أياس ، عن ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن أبي هريرة مرفوعا – أيضا ( ) . وخرجه البزار من وجه آخر فيه ضعف ، عن المقبري ، عن أبي هريرة مرفوعا – أيضا ( ) . وعلى تقدير صحته ، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلمه ثم علمه فأخبر به جزما . فإن كان الأمر كذلك ، فحديث عبادة إذن – لم يكن ليلة العقبة بلا تردد ، لأن حديث أبي هريرة متأخر عن الهجرة ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم علم – حينئذ – أن الحدود كفارة ، فلا يجوز أن يكون قد أخبر قبل الهجرة بخلاف ذلك . وقد اختلف العلماء : هل إقامة الحد بمجرده كفارة للذنب من غير توبة أم لا ؟ على قولين :
أحدهما : أن إقامة الحد كفارة للذنب بمجرده كفارة ( ) . وهو مروي عن علي بن أبي طالب ، وابنه الحسن ، وعن مجاهد ، وزيد بن أسلم ، وهو قول الثوري والشافعي وأحمد ، واختيار ابن جرير وغيره من المفسرين ( ) .
والثاني : أنه ليس بكفارة بمجرده ، فلابد من توبة . وهو مروي عن صفوان بن سليم وغيره ، ورجحه ابن حزم( ) . وطائفة من متأخري المفسرين كالبغوي وأبي عبد الله بن تيمية وغيرهما . واستدلوا بقوله تعالى في المحاربين :  ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ [ المائدة : 33 ] .
وقد يجاب عن هذا : بأن عقوبة الدنيا والآخرة لا يلزم اجتماعها ، فقد دل الدليل على أن عقوبة الدنيا تسقط عقوبة الآخرة . وأما استثناء الذين تابوا فإنما استثناهم من عقوبة الدنيا خاصة ، ولهذا خصهم بما قبل القدرة ، وعقوبة الآخرة تندفع بالتوبة قبل القدرة وبعدها . ويدل على أن الحد يطهر الذنب : قول ماعز للنبي صلى الله عليه وسلم : إني أصبت حدا فطهرني . وكذلك قالت له الغامدية ( ) ولم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فدل على أن الحد طهارة لصاحبه . ويدخل ( 189 – ب / ف ) في قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من أصاب شيئا من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارته " : العقوبتان القدرية من الأمراض والأسقام . والأحاديث في تكفير الذنوب بالمصائب كثيرة جدا . وهذه المصائب يحصل بها للنفوس من الألم نظير الألم الحاصل بإقامة الحد وربما زاد على ذلك كثيرا . وقد يقال في دخول هذه العقوبات القدرية في لفظ حديث عبادة نظر ، لأنه قابل من عوقب في الدنيا ستر الله عليه ، وهذه المصائب لا تنافي الستر ، والله أعلم .
والقسم الثاني : أن لا يعاقب في الدنيا بذنبه ، بل ستر عليه ذنبه ويعافى من عقوبته . فهذا أمره إلى الله في الآخرة إن شاء عفا عنه ، وهذا موافق لقول الله عز وجل  إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء  [ النساء : 48]. وفي ذلك رد على الخوارج والمعتزلة في قوله : إن الله يخلده في النار إذا لم يتب . وهذا المستور في الدنيا له حالتان :
إحداهما : أن يموت غير تائب ، فهذا في مشيئة الله - كما ذكرنا .
والثانية : أن يتوب من ذنبه .
فقال طائفة : إنه تحت المشيئة - أيضا - ، واستدلوا بالآية المذكورة وحديث عبادة . والأكثرون على أن التائب من الذنب مغفور له وأنه كمن لا ذنب له كما قال تعالى  إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ  [ الفرقان : 70] وقال :  أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا  [ آل عمران : 136] . فيكون التائب – حينئذ – ممن شاء الله أن يغفر له . واستدل بعضهم – وهو ابن حزم ( ) - بحديث عبادة هذا : على أن من أذنب ذنبا فإن الأفضل له أن يأتي الإمام فيعترف عنده ليقيم عليه الحد حتى يكفر عنه ولا يبقى تحت المشيئة في الخطر ، وهذا مبني على قوله : إن التائب في المشيئة . والصحيح : أن التائب توبة نصوحا مغفور له جزما ، لكن المؤمن يتهم توبتة ولا يجزم بصحتها ولا بقبولها ، فلا يزال خائفا من ذنبه وجلا .ثم إن هذا القائل لا يرى أن الحد بمجرده كفارة ، وإنما الكفارة التوبة ، فكيف لا يقتصر على الكفارة ؟ بل يكشف ستر الله عليه ليقام عليه ما لا يكفر عنه .
وجمهور العلماء على أن من تاب من ذنب فالأصل أن يستر على نفسه ولا يقر به عند أحد ، بل يتوب منه فيما بينه وبين الله عز وجل . روي ذلك عن أبي بكر ، وعمر ، وابن مسعود ، وغيرهم ، ونص عليه الشافعي ( ) . ومن أصحابه وأصحابنا من قال : إن كان غير معروف بين الناس بالفجور فكذلك ، وإن كان معلنا بالفجور مشتهرا به فالأولى أن يقر بذنبه عند الإمام ليطهره منه .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ : " إذا أحدثت ذنبا فأحدث عنده توبة إن سرا فسرا وإن علانية فعلانية " ( ) . وفي إسناده مقال . وهو إنما هو يدل ( ) على إظهار التوبة ، وذلك لا يلزم منه طلب إقامة الحد .وقد وردت أحاديث تدل على أن من ستر الله عليه في الدنيا فإن الله يستر عليه في الآخرة ، كحديث ابن عمر في النجوى ، وقد خرجه البخاري في " التفسير " ( ) . وخرج الترمذي ، وابن ماجه عن علي مرفوعا : " من أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه فالله أكرم ( 190 – أ / ف ) أن يعود في شيء قد عفا عنه " ( ) .
وفي " المسند " ( ) عن عائشة مرفوعا : " لا يستر الله على عبد ذنبا في الدنيا إلا ستره عليه في الآخرة " وروي مثله ذلك عن علي ، وابن مسعود من قولهما . وقد يحمل ذلك كله على التائب من ذنبه جمعا بين هذه النصوص وبين حديث عبادة هذا . وأصح هذه الأحاديث المذكورة ها هنا : حديث بن عمرو النجوي ، وليس فيه تصريح بأن ذلك عام لكل من ستر عليه ذنبه ، والله تعالى أعلم . وقد قيل : إن البيعة سميت بيعة لأن صاحبها باع نفسه لله.
والتحقيق : أن البيع والمبايعة مأخوذان من مد الباع لأن المتبايعين ( ) للسلعة كل منهما يمد باعه للآخر ويعاقده عليها ، وكذلك من بايع الإمام ونحوه فإنه يمد باعه إليه ويعاهده ويعاقده على ما يبايعه عليه . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه عند دخولهم في الإسلام على التزام أحكامه ، وكان أحيانا يبايعهم على ذلك بعد إسلامهم تجديدا للعهد وتذكيرا بالمقام عليه . وفي " الصحيحين " عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى النساء في يوم عيد وتلا عليهن هذه الآية :  يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا  الآية [ الممتحنة : 12 ] وقال : " أنتن على ذلك ؟ " فقالت امرأة منهن : نعم ( ) . وفي صحيح مسلم " عن عوف بن مالك قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال : " ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ " – ومنا حديث عهد ببيعة – فقلنا : قد بايعناك يا رسول الله ، فقال : " ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ " قلنا : قد بايعناك يا رسول الله ، ثم قال : " ألا تبايعون رسول الله ؟ " فبسطنا أيدينا وقلنا : قد بايعناك يا رسول الله ، فعلى ما نبايعك ؟ فقال : " أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا والصلوات الخمس وتطيعوا " – وأسر كلمة خفية - : " ولا تسألوا الناس شيئا " ( ) . وحديث عبادة المذكور هاهنا في البيعة : قد سبق أنه كان ليلة العقبة الأولى فيكون بيعة لهم على الإسلام والتزام أحكامه وشرائعه .
وقد ذكر طائفة من العلماء – منهم القاضي أبو يعلي في كتاب " أحكام القرآن " من أصحابنا – أن البيعة على الإسلام كانت من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم واستدلوا بأن الأمر بالبيعة في القرآن يخص الرسول بالخطاب بها وحده كما قال تعالى "  يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا  [ الممتحنة : 12] . ولما كان الامتحان وجه الخطاب إلى المؤمنين عموما فقال :  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ  [ الممتحنة : 10] فدل على أنه يعم المؤمنين ، وكذلك قوله تعالى  إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [ الفتح : 10] ، وهذا أمر يخص به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يشركه فيه غيره . ولكن قد روى عثمان أنه كان بايع على الإسلام . قال الإمام أحمد : حدثنا مسكين بن بكير قال : ثنا ثابت بن عجلان ، عن سليم أبي ( ) عامر أن وفد الحمراء أتوا عثمان بن عفان يبايعونه على الإسلام وعلى من ورائهم فبايعهم على أن لا يشركوا بالله شيئا وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويصوموا رمضان ويدعوا عيد المجوس فلما قالوا بايعهم . وقد بايع عبد الله بن حنظلة الناس يوم الحرة ( 190- ب / ف ) على الموت ، فذكر ذلك لعبد الله بن زيد الأنصاري فقال : لا أبايع على هذا أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . خرجه البخاري في الجهاد( ) وإنما أنكر البيعة على الموت لا أصل المبايعة . وقال أبو إسحاق الفزاري : قلت للأوزاعي : لو أن إمامنا أتاه عدو كثير فخاف على من معه فقال لأصحابه : تعالوا نتبايع على أن لا نفر ، فبايعوا على ذلك ؟ . قال : ما أحسن هذا . قلت : فلو أن قوما فعلوا ذلك بينهم دون الإمام ؟ قال : لو فعلوا ذلك بينهم شبه العقد في غير بيعة ( ) .
فصل
قال البخاري :
13- باب ( )
قول النبي صلى الله عليه وسلم : أنا أعلمكم بالله ، وأن المعرفة فعل القلب لقوله تعالى  وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ  . [ البقرة : 225] .
مراده بهذا التبويب : أن المعرفة بالقلب التي هي أصل الإيمان فعل للعبد وكسب له ، واستدل بقوله تعالى  بِمَاكَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ  [ البقرة : 225 ] فجعل للقلوب كسبا كما جعل للجوارح الظاهرة ( ) كسبا .
والمعرفة مركبة من تصور وتصديق ، فهي تتضمن علما وعملا وهو تصديق القلب ، فإن التصور قد يشترك فيه المؤمن والكافر ، والتصديق يختص به المؤمن ، فهو عمل قلبه وكسبه .
وأصل هذا : أن المعرفة مكتسبة تدرك بالأدلة ، وهذا قول أكثر أهل السنة من أصحابنا وغيرهم ورجحه ابن جرير الطبري ، وروى بإسناده عن الفضيل ابن عياض أنه قال : أهل السنة يقولون : الإيمان والقول والعمل . وقالت طائفة : إنها اضطرارية لا كسب فيها . وهو قول بعض أصحابنا وطوائف من المتكلمين والصوفية وغيرهم . وخرج البخاري في هذا الباب : حديث :
20- هشام عن أبيه ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون قالوا : إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله ، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه ثم يقول : " إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا " .
كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بما يطيقون من الأعمال ، وكانوا لشدة حرصهم على الطاعات يريدون الاجتهاد في العمل ، فربما اعتذروا عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق واستعماله له في نفسه أنه غير محتاج إلى العمل بضمان المغفرة له وهم غير مضمون لهم المغفرة ، فهم يحتاجون إلى الاجتهاد ما لا يحتاج هو إلى ذلك، فكان صلى الله عليه وسلم يغضب من ذلك ويخبرهم أنه أتقاهم وأعلمهم به . فكونه أتقاهم لله يتضمن شدة اجتهاده في خصال التقوى وهو العمل ، وكونه أعلمهم به يتضمن أن علمه بالله أفضل من علمهم بالله وإنما زاد علمه بالله لمعنيين :
أحدهما : زيادة معرفته بتفاصيل أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وعظمته وكبريائه وما يستحقه من الجلال والإكرام والإعظام .
والثاني : أن علمه بالله مستند إلى عين اليقين ، فإنه رآه إما بعين بصره أو بعين بصيرته ، كما قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما : رآه بفؤاده مرتين ، وعلمهم به مستند إلى علم يقين ، وبين المرتين [ تباين ] ( ) ، ولهذا سأل إبراهيم عليه السلام ربه أن يرقيه من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين بالنسبة إلى رؤية إحياء الموتى – وقد سبق التنبيه على ذلك والكلام في تفاصيل المعرفة التامة بالقلب ( ) – فلما زادت معرفة الرسول ( 191- أ / ف ) بربه زادت خشيته له وتقواه ، فإن العلم التام يستلزم الخشية كما قال تعالى  إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء [ فاطر : 28 ] فمن كان بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه أعلم كان له أخشى وأتقى ، ،إنما تنقص الخشية والتقوى بحسب نقص المعرفة بالله . وقد خرج البخاري في آخر " صحيحه " عن مسروق قال : قالت عائشة : صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ترخص فيه وتنـزه عنه قوم ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله ثم قال : " ما بال أقوام يتنـزهون عن الشيء أصنعه ؟ ! فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم خشية " ( ) .
وفي " صحيح مسلم " عن عائشة أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ! إني أصبح جنبا وأنا أريد الصيام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وأنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم " فقال الرجل : يا رسول الله ! إنك لست مثلنا ، قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي " ( ) . وفي حديث أنس أن ثلاث رهط جاءوا إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها ، فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فقال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا ، وقال آخر : أصوم الدهر ولا أفطر ،وقال الآخر : أنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال : " أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ ! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكن أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " . وقد خرجاه في " الصحيحين " بمعناه ( ) .
ففي هذه الأحاديث كلها الإنكار على من نسب إليه التقصير في العمل للاتكال على المغفرة ؛ فإنه كان يجتهد في الشكر أعظم الاجتهاد فإذا عوتب على ذلك وذكرت له المغفرة أخبر أنه يفعل ذلك شكرا ؛ كما في " الصحيحين " عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم حتى تتفطر قدماه فيقال له : تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فيقول : " أفلا أكون عبدا شكورا " ( ) . وقد يواصل في الصيام وينهاهم ويقول :" إني لست كهيئتكم ؛ إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني " ( ) ، فنسبة التقصير إليه في العمل لاتكاله على المغفرة خطأ فاحش ؛ لأنه يقتضي أن هديه ليس هو أكمل الهدى وأفضله ، وهذا خطأ عظيم ؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته : " خير الهدى هدى محمد " ( ) . ويقتضي – أيضا – هذا الخطأ : أن الاقتداء به في العمل ليس هو أفضل ؛ بل الأفضل الزيادة على هديه في ذلك ، وهذا خطأ عظيم جدا ؛ فإن الله تعالى قد أمر بمتابعته وحث عليها ، قال تعالى  قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [ آل عمران : 31] . فلهذا كان صلى الله عليه وسلم يغضب من ذلك غضبا شديدا لما في هذا الظن من القدح في هديه ومتابعته والاقتداء به . وفي رواية للإمام أحمد : " والله إني لأعلمكم بالله وأتقاكم له قلبا " ( ) . وقوله في الرواية التي خرجها البخاري في هذا الباب " إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا " فيه الإتيان بالضمير المنفصل مع تأتي الإتيان بالضمير المتصل ، وهو ممنوع عند أكثر النحاة ( 191 – ب / ف ) إلا للضرورة كقول الشاعر : " ضمنت إياهم الأرض في دهر الدهارير " . وإنما يجوز اختيارا إذا لم يتأت ( ) الإتيان بالمتصل مثل أن يبتدأ بالضمير قبل عامله نحو : إياك نعبد ؛ فإنه لا يبتدأ بضمير متصل أو يقع بعد نحو إلا إياه . فأما قول الشاعر : " أن لا يجاوزنا إلاك " ، فشاذ . وأما قوله : " وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي " ، فهو عندهم متأول على أن فيه معنى الاستثناء ، كأنه قال : ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا .
ولكن هذا الذي وقع في هذا الحديث يشهد لجوازه من غير ضرورة ، ويكون حينئذ قوله : " إنما يدافع عن أحسابهم أنا " : شاهدا له غير محتاج إلى تأويل ، والله أعلم .

14- فصل ( )
تقدم عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان "
وقد تقدم من رواية أبي قلابة ، عن أنس ، وزاد في رواية قتادة : " ومن كره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه " . وقوله " بعد إذ أنقذه الله منه " لا يستلزم أنه كان واقعا فيه فإن كل من أدخل الله الإسلام في قلبه فقد أنقذه الله من الكفر وإن لم يكن قد وقع في الكفر قبل ذلك ؛ وهذا كما قال شعيب عليه السلام  قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّه [ الأعراف : 89] وقال تعالى  وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا  [ آل عمران : 103 ] وقال تعالى  اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ  [ البقرة : 257] .
والمراد : أنه ينجيهم من الشرك ويدخلهم في الإيمان ؛ وكثير منهم لم يكن داخلا في الشرك قط .

15- فصل ( )
خرج البخاري ومسلم ( ) من حديث :
22- عمرو بن يحي المازني ، عن أبيه عن أبي سعيد ( ) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، ثم يقول الله عز وجل : أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ، فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحيا أو الحياة – شك : مالك – فينبتون كما تنبت الحبة في حميل ( ) السيل ، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية " . قال البخاري : و ( ) قال وهيب : حدثنا عمرو " الحياة " وقال : " خردل من خير " . قد قيل : إن الرواية الصحيحة : " الحيا " هو : المطر ، قاله الخطابي ( ) وغيره ( ) . هذا الحديث نص في أن الإيمان في القلوب يتفاضل ، فإن أريد به مجرد التصديق ففي تفاضله خلاف سبق ذكره ( ) ، إن أريد به ما في القلوب من أعمال الإيمان كالخشية والرجاء والحب والتوكل ، ونحو ذلك فهو متفاضل بغير نـزاع . وقد بوب البخاري على هذا الحديث : " باب تفاوت ( ) أهل الإيمان في الأعمال " فقد يكون مراده الأعمال القائمة بالقلب كما بوب على أن المعرفة فعل القلب . وقد يكون مراده أن أعمال الجوارح تتفاوت بحسب تفاوت إيمان القلوب فإنهما متلازمان .
وقد ذكر البخاري أن وهيبا خالف مالكا في هذا الحديث وقال : " مثقال حبة ( ) من خير " . وفي الباب – أيضا – من حديث أنس بمعنى حديث أبي سعيد ، وفي لفظه اختلاف كالاختلاف في حديث أبي سعيد . وقد خرجه البخاري في موضع آخر وفيه زيادة : " من قال لا إله إلا الله " ( ) . وهذا يستدل به على أن الإيمان يفوق معنى ( ) كلمة التوحيد والإيمان القلبي وهو التصديق لا تقتسمه ( ) الغرماء بمظالمهم ؛ بل يبقى ( 192- أ / ف ) على صاحبه ؛ لأن الغرماء لو اقتسموا ذلك لخلد بعض أهل التوحيد وصار مسلوبا ما في قلبه من التصديق وما قاله بلسانه من الشهادة ، وإنما يخرج عصاة الموحدين من النار بهذين الشيئين ، فدل على بقائهما على جميع من دخل النار منهم وأن الغرماء إنما يقتسمون الإيمان العملي بالجوارح ، وقد قال ابن عيينه وغيره : إن الصوم خاصة من أعمال الجوارح لا تقتسمه الغرماء – أيضا . وأما الحبة بكسر الحاء فهي أصول النبات والعشب وقد قيل : أنها تنـزل مع المطر من السماء ، كذا قاله كعب غيره . وقد ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب " المطر " وذكر فيه آثارا عن الأعراب .
وحميل السيل : محمولة ؛ فإن السيل يحمل من الغثاء ونحوه ما ينبت منه العشب ، وشبه نبات الخارجين من النار إذا ألقوا في نهر الحيا – أو الحياة – بنبات هذه الحبة لمعنيين : أحدهما : سرعة نباتها . والثاني : أنها صفراء ملتوية ثم تستوي وتحسن ، فكذلك ينبت من يخرج من النار بهذا الماء نباتا ضعيفا ثم يقوى ويكمل نباته ويحسن خلقه . وقد جعل الله نبات أجساد بني آدم كنبات الأرض ، قال الله تعالى  وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا  [ نوح : 17 ] وحياتهم من الماء ، فنشأتهم الأولى في بطون أمهاتهم من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب ، ونشأتهم الثانية من قبورهم ( ) من الماء الذي ينـزل من تحت العرش ، فينبتون فيه كنبات البقل حتى تتكامل أجسادهم ، ونبات من يدخل النار ثم يخرج منها من ماء نهر الحياة – أو الحيا .
وفي " صحيح مسلم " عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون ؛ ولكن أناس أصابتهم النار بذنوبهم – أو قال : بخطاياهم - ، فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل : يا أهل الجنة ! أفيضوا عليهم ، فينبتون نبات الحبة في حميل السيل ( ) . وظاهر هذا : أنهم يموتون بمفارقة أرواحهم لأجسادهم [ و ] ( ) يحيون بإعادتها ، ويكون ذلك قبل ذبح الموت . ويشهد له : ما خرجه البزار في " مسنده " من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أدنى أهل الجنة منـزلة أو نصيبا : قوم يخرجهم الله من النار فيرتاح لهم الرب عز وجل أنهم كانوا لا يشركون بالله شيئا فينبذون بالعراء فينبتون كما ينبت البقل ، حتى إذا دخلت الأرواح في أجسادهم قالوا : ربنا ! فالذي ( ) أخرجتنا من النار ورجعت الأرواح إلى أجسادنا فاصرف وجوهنا عن النار ، فتصرف وجوههم عن النار ( ) . ثم خرج البخاري حديث :
23- أبي سعيد ، عن النبي ( ) صلى الله عليه وسلم قال : بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص ، فمنها ( ) ما يبلغ الثدي ، ومنها مايبلغ ( ) دون ذلك ، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره " قالوا : فما أولت ذلك يا رسول الله ؟ قال : " الدين "
وهذا الحديث نص في أن الدين يتفاضل ؛ وقد استدل عليه بقوله تعالى :  الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ  [ المائدة : 3 ]وأشار البخاري إلى ذلك في موضع آخر . ويدل عليه – أيضا – قول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم ( 192- ب / ف ) من إحداكن " ( ) . وفسر نقصان دينها بتركها الصوم والصلاة أيام حيضها ؛ فدل على دخول الصوم والصلاة في اسم الدين . وقد صرح بدخول الأعمال في الدين طوائف من العلماء والمتكلمين من أصحابنا وغيرهم .
فمن قال : الإسلام والإيمان واحد فالدين عنده مرادف لهما ، وهو اختيار البخاري ومحمد بن نصر المروزي ( ) وغيرهما من أهل الحديث .
و من فرق بينهما ، فاختلفوا في ذلك ؛ فمنهم من قال : إن الدين أعم منهما ، فإنه يشمل الإيمان والإسلام والإحسان ، كما دل عليه حديث جبريل ، وقد أشار البخاري إلى هذا – فيما بعد - ؛ لكنه من لا يفرق بين الإسلام والإيمان .
و من قال : الإيمان : التصديق ، والإسلام : الأعمال ، فأكثرهم جعل الدين هو الإسلام وأدخل فيه الأعمال . وإنما أخرج الأعمال من مسمى الدين : بعض المرجئة .
ومن قال : الإسلام : الشهادتان ، والإيمان : العمل – كالزهري ، وأحمد في رواية وهي التي نصرها القاضي أبو يعلي – جعل الدين هو الإيمان بعينه ، وأجاب عن قوله تعالي  إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ  [ آل عمران : 19 ] أن بعض الدين الإسلام . وهذا بعيد .
وأما من قال : إن كلا من الإسلام والإيمان إذا أطلق مجردا دخل الآخر فيه ، وإنما يفرق بينهما عند الجمع بينهما ، وهو الأظهر ؛ فالدين هو مسمى كل واحد منهما عند إطلاقه ، وأما عند اقترانه بالآخر : فالدين أخص باسم الإسلام ؛ لأن الإسلام هو الاستسلام والخضوع والانقياد وكذلك الدين يقال : : دانه يدينه إذا قهره ، ودان له إذا استسلم له وخضع وانقاد ؛ ولهذا سمى الله الإسلام دينا فقال :  إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ   آل : عمران 19] ، وقال : {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ  [ آل عمران : 85] ، وقال :  وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [ المائدة : 3 ] .
وإنما فسر القمص في المنام : الدين ؛ لأن الدين والإسلام والتقوى كل هذه توصف بأنها لباس ، قال تعالى  وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ [ الأعراف : 26 ] ، وقال أبو الدرداء : الإيمان كالقميص يلبسه الإنسان تارة وينـزعه أخرى ، وفي الحديث : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ينـزع منه سربال الإيمان " ( ) .
وقال النابغة :
الحمد لله الذي لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
وقال أبو العتاهية :
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى تقلب عريانا وإن كان كاسيا
فهذه كلها كسوة الباطن وهو الروح وهو زينة لها ، كما في حديث عمار : " اللهم زينا بزينة الإيمان " ( ) .كما أن الرياش زينة للجسد وكسوة له ، قال تعالى  يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزـَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ [ الأعراف : 26] . ومن هنا قال مجاهد والشعبي وقتادة والضحاك والنخعي والزهري وغيرهم في قوله تعالى  وثيابك فطهر  [ المدثر : 4 ] إن المعنى : طهر نفسك من الذنوب .
وقال سعيد بن جبير : وقلبك ونيتك ( ) فطهر . وقريب منه : قول من قال : وعملك فأصلح ( ) . روى عن مجاهد وأبي روق والضحاك . وعن الحسن والقرظي ( ) قالا : خلقك حسنه . فكنى بالثياب عن الأعمال ( 193- أ / ف ) وهي ( ) الدين والتقوى والإيمان والإسلام ، وتطهيره : إصلاحه وتخليصه من المفسدات له ، وبذلك تحصل طهارة النفس والقلب والنية ، وبه يحصل حسن الخلق ؛ لأن الدين هو الطاعات التي تصير عادة وديدنا وخلقا ، قال تعالى  وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم  [ القلم : 4] . وفسره ابن عباس بالدين ( ) .
16- فصل ( )
خرج البخاري ومسلم ( ) من حديث :
23- ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل ( ) وهو يعظ أخاه في الحياء فقال ( ) : " دعه ؛ فإن الحياء من الإيمان " .
هذا المعنى مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة ، وقد سبق حديث أبي هريرة : " الحياء شعبة من الإيمان " ( ) . والحياء نوعان :
أحدهما : غريزي ، وهو خلق يمنحه الله العبد ويجبله عليه فيكفه عن ارتكاب القبائح والرزائل ، ويحثه على فعل الجميل وهو من أعلى مواهب الله للعبد ، فهذا من الإيمان باعتبار أنه يؤثر ما يؤثره الإيمان من فعل الجميل والكف عن القبيح ، وربما ارتقى صاحبه بعده إلى درجة الإيمان ’ فهو وسيلة إليه كما قال عمر : من استحيى اختفى ، ومن اختفى اتقى ومن اتقى وقي .
وقال بعض التابعين تركت الذنوب حياء أربعين سنة ، ثم أدركني الورع . وقال ابن سمعون ( ) : رأيت المعاصي نذالة ؛ فتركتها مروءة فاستحالت ديانة ( ) .
والنوع الثاني : أن يكون مكتسبا ، إما من مقام الإيمان كحياء العبد من مقامه بين يدي الله يوم القيامة فيوجب له ذلك الاستعداد للقائه ، أو من مقام الإحسان ، كحياء العبد من اطلاع الله عليه وقربه منه ، فهذا من أعلى خصال الإيمان .
وفي حديث مرسل : " استحيي من الله كما تستحيي من رجلين من صالحي عشيرتك لا يفارقانك " ، وروى موصولا ( ) . وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن كشف العورة خاليا ، فقال : " الله أحق أن يستحيي منه ( ) . وفي حديث ابن مسعود المرفوع : " الاستحياء من الله : أن تحفظ ( ) الرأس وما وعي والبطن وما حوى وأن تذكر ( ) الموت والبلى ، ومن أراد ترك الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء " . خرجه الترمذي وغيره ( ) . وخرج البخاري في " تفسيره " ( ) عن ابن عباس في قوله تعالى  أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْه [ هود : 5 ] أنها نـزلت في قوم كانوا يجامعون نساءهم ويتخلون فيستحيون من الله فنـزلت الآية .
وكان الصديق يقول : استحيوا من الله ؛ فإني أذهب إلى الغائط فأظل متقنعا بثوبي حياء من ربي عز وجل ( ) . وكان أبو موسى إذا اغتسل في بيت مظلم لا يقيم صلبه حياء من الله عز وجل ( ) .
قال بعض السلف : خف الله على قدر قدرته عليك ، واستحيي منه على قدر قربه منك . وقد يتولد الحياء من الله من مطالعة النعم فيستحيي العبد من الله أن يستعين بنعمته على معاصيه ، فهذا كله من أعلى خصال الإيمان .

فصل
قال البخاري :
12- باب ( )
من الدين الفرار من الفتن
19- حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري ( ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن " ( ) .
بوب البخاري على أن الفرار ( 193- ب / ف ) من الفتن من الدين ؛ وليس في الحديث إلا الإشعار بفضل من يفر بدينه من الفتن ؛ لكن لما جعل الغنم خير مال المسلم في هذه الحال دل على أن هذا الفعل من خصال الإسلام والإسلام هو الدين . وأصرح من دلالة هذا الحديث الذي خرجه في أول " الجهاد " من رواية الزهري ، عن عطاء بن يزيد ، عن أبي سعيد قال : قيل : يا رسول الله ! أي الناس أفضل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله " قالوا : ثم من ؟ قال : " مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره " ( ) . وليس في هذا الحديث ذكر الفتن . وخرجه أبو داود ( ) ، وعنده : سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي المؤمنين أكمل إيمانا ؟ . فذكره . وهذا فيه دلالة على أن الاعتزال عن الشر من الإيمان . وفي " المسند " و " جامع الترمذي " ، عن طاوس ، عن أم مالك البهزية قالت : قال رسول الله : " خير الناس في الفتنة : رجل معتزل في ماله ، يعبد ربه ويؤدي حقه ، ورجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله " ( ) .
وروي عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . خرجه الحاكم ( ) . وروي عن طاوس مرسلا . وخرج الحاكم – أيضا – من حديث أبي هريرة مرفوعا : " أظلتكم فتن كقطع الليل المظلم أنجى الناس منها: صاحب شاهقة يأكل من رسل غنمها ، ورجل من وراء الدروب بعنان فرسه يأكل من فيء سيفه " ( ) . وقد وقفه بعضهم .
فهذه الروايات المقيدة بالفتن تقضي على الروايات المطلقة . وحديث أبي سعيد الذي خرجه البخاري هنا لم يخرجه مسلم . وقد روي عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن ، عن أبي سعيد ؛ وهو وهم . وروي عن يحيي بن سعيد ، عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن نهار العبدي ، عن أبي سعيد ؛ وذكر " نهار " في إسناده : وهم . قاله الدار قطني ( ) . فقوله صلى الله عليه وسلم " يوشك " تقريب منه للفتنة ، وقد وقع ذلك في زمن عثمان كما أخبر به صلى الله عليه وسلم وهذا من جملة أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم .
وإنما كان الغنم خير مال المسلم – حينئذ - ؛ لأن المعتزل عن الناس بالغنم يأكل من لحومها ونتاجها ويشرب من ألبانها ويستمتع بأصوافها باللبس وغيره ، وهي ترعى الكلأ في الجبال وترد المياه ؛ وهذه المنافع والمرافق لا توجد في غير الغنم ؛ ولهذا قال : " يتبع بها شعف الجبال " وهي رءوسها وأعاليها ؛ فإنها تعصم من لجأ إليها من عدو . و" مواقع القطر " لأنه يجد فيها الكلأ والماء فيشرب منها ويسقي غنمه وترعى غنمه من الكلأ . وفي " مسند البزار " ، عن مخول البهزي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " سيأتي على الناس زمان فيه غنم بين السجدتين ( ) تأكل من الشجر وترد الماء ، يأكل صاحبها من رسلها ويشرب من ألبانها ويلبس من أشعارها – أو قال من أصوافها _ ، والفتن ترتكس بين جراثيم العرب " ( ) . وروي هذا المعنى عن عبادة بن الصامت من قوله . وواحد الجراثيم : جرثومة ؛ وهي أصل الشيء . وفي هذا دلالة ‘على أن من خرج من الأمصار فإنه يخرج معه بزاد وما يقتات منه .
وقوله : ( 194 – أ / ف ) " يفر بدينه من الفتن " يعني : يهرب خشية على دينه من الوقوع في الفتن ؛ فإن من خالط الفتن ، وأهل القتال على الملك لم يسلم دينه من الإثم إما بقتل معصوم أو أخذ مال معصوم أو المساعدة على ذلك بقول و نحوه وكذلك لو غلب على الناس من يدعوهم إلى الدخول في كفر أو معصية حسن الفرار منه . وقد مدح الله من فر بدينه خشية الفتنة عليه فقال – حكاية عن أصحاب الكهف _  وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ [ الكهف : 16] . وروى عروة ، عن كرز الخزاعي قال : سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي : هل لهذا الإسلام من منتهى ؟ قال : " من يرد الله به خيرا من عرب أو عجم أدخله عليه " قال : ثم ماذا ؟ قال : " تقع فتن كالظلل " قال : كلا يا نبي الله ، قال : " بلى ، والذي نفسي بيده لتعودون فيها أساود صبا يضرب بعضكم رقاب بعض وخير الناس يومئذ : رجل يتقي ربه ويدع الناس من شره " ( ) .
الأساود : جمع أسود ، وهو أخبث الحيات وأعظمها .
والصب : جمع صبوب ، على أن أصله : صبب كرسول ورسل ، ثم خفف كرسل ؛ وذلك أن الأسود إذا أراد أن ينهش ارتفع ثم انصب على الملدوغ ، ويروى " صي " على وزن حبلى "
وفي "الصحيحين " عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له الفتن فقال له : فما تأمرني يا رسول الله إن أدركني ذلك ؟ قال : " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " قال : فإن لم يكن جماعة ولا إمام ؟ قال : " فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك " ( ) . وقد اعتزل جماعة من أصحابه في الفتن في البوادي . وقال الإمام أحمد : إذا كانت الفتنة فلا بأس أن يعتزل الرجل حيث شاء ، فأما إذا لم يكن فتنة فالأمصار خير . فأما سكنى البوادي على وجه العبادة وطلب السياحة والعزلة فمنهي عنه ، كما في الترمذي و " صحيح الحاكم " ، عن أبي هريرة قال : مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عيينه من ماء عذب فأعجبه طيبه وحسنه فقال : لو اعتزلت الناس وأقمت في هذا الشعب ولا أفعل حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستأمره فقال : " لا تفعل ؛ فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في أهله ستين عاما " ( ) .
وخرج الإمام أحمد نحوه من حديث أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لم أبعث باليهودية ولا النصرانية ؛ ولكني بعثت بالحنيفية السمحة " ( ) . وذكر باقيه بمعناه . وخرج داود من حديث أبي أمامة أن رجلا قال : يا رسول الله ! ايذن لي بالسياحة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن سياحة أمتي : الجهاد في سبيل الله " ( ) . وفي " المسند " عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عليك بالجهاد ؛ فإنه رهبانية الإسلام " ( ) . وفي مراسيل طاوس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا رهبانية في الإسلام ولا سياحة " . وفي المعنى مراسيل أخر متعددة .
قال الإمام أحمد : ليست السياحة من الإسلام في شيئ ولا من فعل النبيين ولا الصالحين . والسياحة على هذا الوجه قد ( 194 – ب / ف ) فعلها طوائف ممن ينسب على عبادة واجتهاد بغير علم ، ومنهم من رجع لما عرف ذلك . وقد كان في زمن ابن مسعود من المتعبدين خرجوا إلى ظاهر الكوفة وبنوا مسجدا يتعبدون فيه ، منهم : عمرو بن هتبة ، ومفضل العجلي ، فخرج إليهم ابن مسعود وردهم على الكوفة وهدم مسجدهم وقال : إما أن تكونوا أهدى من أصحاب محمد أو تكونوا متمسكين بذنب الضلالة . وإسناده هذا صحيح عن الشعبي أنه حكى ذلك . وقد رأى عبد الله بن غالب الحداني رجلا في فلاة رزقه لا يدري من أين يأتيه فقال له : إن هذه الأمة لم تؤمر بهذا ؛ إنما أمرت بالجمعة والجماعة وعيادة المرضى وتشييع الجنائز ، فقبل منه وانتقل من ساعته إلى قرية فيها هذا كله. خرج حكايته ابن أبي الدنيا . وروي نحو هذه الحكاية – أيضا - ، عن أبي غالب صاحب أبي أمامة الباهلي . خرجها حميد بن زنجوية . وكذلك سكنى البوادي لتنمية المواشي والأموال – كما جرى لثعلبة في ماله – فمذموم – أيضا .
وفي " سنن ابن ماجه " ، عن أبي هريرة مرفوعا : " ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين فيتعذر عليه الكلأ فيرتفع ثم تجيء الجمعة فلا يشهدها وتجيء الجمعة فلا يشهدها ( ) حتى يطبع على قلبه " ( ) . وخرجه الخلال من حديث جابر بمعناه ( ) – أيضا . وخرج حميد بن زنجويه من رواية ابن لهيعه : ثنا عمر ( ) مولى غفرة أنه سمع ثعلبة بن أبي مالك الأنصاري يقول : قال حارثة بن النعمان : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يخرج الرجل في حاشية القرية في غنيمة يشهد الصلوات ويؤب إلى أهله إذا أكل ما حوله وتعذرت عليه الأرض قال : لو ارتفعت إلى ردعة هي أعفى ملأ من هذه ، فيرتفع حتى لا يشهد من الصلوات إلا الجمعة حتى إذا أكل ما حوله وتعذرت عليه الأرض قال : لو ارتفعت إلى ردعة هي أعفى كل أمن هذه فيرتفع حتى لا يشهد جمعة ولا يدري متى الجمعة حتى يطبع الله على قلبه " . وخرجه الإمام أحمد بمعناه ( ) .
وفي " سنن أبي داود " والترمذي وغيرهما ، عن أبي هريرة ( ) ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من سكن البادية جفا " . وقال ابن مسعود في الذي يعود أعرابيا بعد هجرته : إنه ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي " الصحيحين " ( ) أن سلمة بن الأكوع قال : أذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في البدو .وفي رواية للبخاري أن سلمة لما قتل عثمان خرج إلى الربزة فلم يزل بها حتى قبل أن يموت بليال نـزل المدينة ( ) . وفي " المسند " أن سلمة قدم المدينة فقيل له : ارتددت عن هجرتك يا سلمة ؟ فقال : معاذ الله إني في إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ابدوا يا أسلم ، فتنسموا الرياح واسكنوا الشعاب " فقالوا : يا رسول الله ! إنا نخاف أن يضرنا ذلك في هجرتنا ، قال : " أنتم مهاجرون حيث ما كنتم " ( ) .
وفي الطبراني ، عن ابن عمر أنه قيل له : يا أبا عبد الرحمن ! قد أعشبت القفار فلو ابتعت أعنـزا فتنـزهت تصح ، فقال : لم يؤذن لأحد منا في البداء غير أسلم " ( ) . وأسلم : هي : قبيلة سلمة بن الأكوع .
وقد ترخص كثير من الصحابة من المهاجرين وغيرهم في سكنى البادية ، كسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد ، فإنهما لزما منـزلهما بالعقيق فلم يكونا يأتيان المدينة ( 195- أ / ف ) في جمع ولا غيرها حتى لحقا بالله عز وجل . خرجه بن أبي الدنيا في كتاب " العزلة " . وكان أبو هريرة ينـزل بالشجرة وهي ذو الحليفة . وفي " صحيح البخاري " ، عن عطاء قال : ذهبت مع عبيد بن عمير إلى عائشة وهي مجاورة بثبير فقالت لنا : انقطعت الهجرة منذ ( ) فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم مكة ( ) . وفي رواية له : قال : فسألنا عن الهجرة ، فقالت : لا هجرة اليوم ، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه على الله ورسوله مخافة أن يفتن عليه ، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام ، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء ؛ ولكن جهاد ونية " ( ) . وهذا يشعر بأنها إنما كانت تبدو ، لاعتقادها انقطاع الهجرة بالفتح . وكان أنس بن مالك يسكن بقصره خارج البصرة ، وكان ربما شهد الجمعة وربما لم يشهدها . وقد نص أحمد على كراهة المقام بقرية لا يقام فيها الجمعة وإن أقيمت فيها الجماعة . وقد يحمل ذلك على من كان بمصر جامع يجمع فيه، ثم تركه وأقام بمكان لا جمعة فيه . وفي كلامه إيماء إليه – أيضا . وقد يحمل كلامه على كراهة التنـزيه دون التحريم. فأما المقام بقرية لا جمعة فيها ولا جماعة فمكروه .
وقد قال أبو الدرداء لمعدان بن أبي طلحة : أين ينـزل ؟ فقال : بقرية دون حمص ، فقال له : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا يؤذن ولا يقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان ، فعليك بالجماعة ؛ فإن الذئب يأكل القاصية " . خرجه النسائي ( ) . وغيره وخرجه أحمد وأبو داود مختصرا ( ) . وفي رواية لأحمد : " فعليك بالمدائن ويحك يا معدان " ( ) . وفي " المسند " – أيضا - ، عن معاذ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم ، يأخذ الشاة القاصية والناحية ؛ فإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة والمساجد " ( ) . فنهى عن سكنى الشعاب – وهي البوادي – وأمر بسكنى الأماكن التي فيها عامة الناس ومساجدهم وجماعتهم . وقد روي عن قتادة أنه فسر الشعاب في هذا الحديث بشعاب الأهواء المضلة المخالفة لطريق الهدي المستقيم . خرجه أبو موسى المديني عنه بإسناده . وفي هذا بعد ؛ وإنما فسر بهذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ( ) . ؛ فإن الأوزاعي فسره بالبدعة يخرج إليها الرجل من الجماعة . فأما الخروج إلى البادية أحيانا للتنـزه ونحوه في أوقات الربيع وما أشبهه: فقد ورد فيه رخصة : ففي " سنن أبي داود " عن المقدام بن شريح ، عن أبيه أنه قال أنه سأل عائشة : هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدو ؟ فقالت : نعم إلى هذه التلاع ، ولقد بدا مرة فأتى بناقة مخرمة فقال : " اركبيها يا عائشة وارفقي ؛ فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه ولا نـزع منه إلا شانه " ( ) . وخرج مسلم آخر الحديث دون أوله ( ) . وورد النهي عنه ؛ ففي " المسند " عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " هلاك أمتي في اللبن " قيل : يا رسول الله ! ما اللبن ؟ قال : تحبون اللبن وتدعون الجماعات والجمع وتبدون " ( ) . وفي إسناده : ابن لهيعة . وإن صح فيحمل على إطالة المقام بالبادية مدة أيام كثرة اللبن كلها وهي مدة طويلة يدعون فيها الجمع والجماعات .
وعن أبي عبد الله الجدلي قال : فضل أهل الأمصار على ( 195- ب / ف ) أهل ( ) القرى كفضل الرجال على النساء ، وفضل أهل القرى على أهل الكفور ( ) كفضل الأحياء على الأموات ، وسكان الكفور كسكان القبور ، وإن اللبن والعشب ليأكلان إيمان العبد كما تأكل النار الحطب . خرجه حميد بن زنجويه ، وروى في إسناده عن مكحول معنى أوله .
ونص أحمد – في رواية مهنا – على كراهية الخروج إلى البادية لشرب اللبن ونحوه تنـزها لما به من ترك الجماعة ؛ إلا أن يخرج لعلة ، يعني : إنه إذا خرج تداويا لعله به جاز ، كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم للعرنيين لما اجتووا المدينة أن يخرجوا إلى البادية ليشربوا من ألبان الإبل وأبوالها ( ) .
قال أبو بكر الأثرم : النهي عن التبدي محمول على سكنى البادية والإقامة بها ، فأما التبدي ساعة أو يوما ونحوه فجائز . انتهى .
وقد كان السلف كثير منهم يخرج إلى البادية أيام الثمار واللبن . قال الجريري : كان الناس يبدون ها هنا في الثمار – ثمار قصيرة - ، و ذكر منهم عبد الله بن شقيق وغيره . وكان علقمة يتبدا إلى ظهر النجف ( ) . وقال النخعي : كانت البداوة إلى أرض السواد أحب إليهم من البداوة إلى أرض البادية . يعني أن الخروج إلى القرى أهون من الخروج إلى البوادي . وكان بعضهم يمتنع من ذلك لشهود الجماعة .
فروى أبو نعيم بإسناده ، عن أبي حرملة قال : اشتكى سعيد بن المسيب عينه فقيل له : يا أبا محمد ! لو خرجت إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة ووجدت ريح البرية لنفع ذلك بصرك ، فقال سعيد : وكيف أصنع بشهود العشاء والعتمة ( ) ؟ وما ذكره الأثرم من التفريق بين قصر المدة وطولها حسن ؛ لكنه حد القليل باليوم ونحوه ؛ وفيه نظر .
وفي " مراسيل أبي داود " من رواية معمر ، عن موسى بن شيبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من بدا أكثر من شهرين فهي أعرابية " ( ) . وروى حميد بن زنجوية بإسناده ، عن خلف بن خليفة ، عن أبي هاشم قال : بلغني أن من نـزل السواد أربعين ليلة كتب عليها الجفا . و عن معاوية بن قرة قال : البداوة شهران فما زاد فهو تعرب ( ) .
فصل
قال البخاري :
18- باب ( )
من قال : إن الإيمان هو العمل ؛ لقول الله تعالى  وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: 72] . وقال عدة من أهل العلم في قوله عز وجل  فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْن عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ الحجر : 92] : عن قول لا إله إلا الله . وقال  لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [ الصافات : 61] .
ثم خرج حديث :
26- أبي هريرة أن النبي ( ) صلى الله عليه وسلم سئل : أي العمل أفضل ؟ قال : " إيمان بالله ورسوله " قيل : ثم ماذا ؟ قال : الجهاد في سبيل الله " قيل : ثم ماذا ؟ قال : " حج مبرور " .
مقصود البخاري بهذا الباب : أن الإيمان كله عمل ؛ مناقضة لقول من قال : إن الإيمان ليس فيه عمل بالكلية ؛ فإن الإيمان أصله تصديق بالقلب ، وقد سبق ما قرره البخاري أن تصديق القلب كسب له وعمل ، ويتبع هذا التصديق قول اللسان .
و مقصود البخاري هاهنا : أن يسمى عملا – أيضا - ، ،أما أعمال الجوارح فلا ريب في دخولها في اسم العمل، ولا حاجة إلى تقرير ذلك ؛ فإنه لا يخالف فيه أحد ، فصار الإيمان كله – على ما قرره – عملا .
و المقصود بهذا الباب : تقرير أن قول اللسان : عمله ؛ واستدل لذلك بقوله تعالى  وَتِلْك َ( ) الْجَنَّةُ الَّتِي( 196- أ / ف) أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [ الزخرف : 72] وقوله  {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [ الصافات : 61] . و معلوم أن الجنة إنما يستحق دخولها بالتصديق بالقلب مع شهادة اللسان ، وبها يخرج من يخرج من أهل النار فيدخل الجنة – كما سبق ذكره . وفي " المسند " ، عن معاذ بن جبل مرفوعا :" مفتاح الجنة : لا إله إلا الله " ( ) . وحكى البخاري عن عدة من أهل العلم أنهم قالوا في قوله تعالى  فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْن عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ الحجر : 92]: عن قول لا إله إلا الله ؛ ففسروا العمل بقول كلمة التوحيد .
وممن روي عنه هذا التفسير : ابن عمر ، ومجاهد ( ) . ورواه ليث بن أبي سليم ، عن بشير بن نهيك ، عن أنس موقوفا ( ) . روي عنه مرفوعا – أيضا – خرجه الترمذي وغربه ( ) . وقال الدار قطني : ليث غير قوي ، ورفعه غير صحيح ( ). وقد خالف في ذلك طوائف من العلماء من أصحابنا وغيرهم كأبي عبد الله بن بطة ، وحملوا العمل في هذه الآيات على أعمال الجوارح ؛ واستدلوا بذلك على دخول الأعمال في الإيمان .
وأما حديث أبي هريرة : فهو يدل على أن الإيمان بالله ورسوله عمل لأنه جعله أفضل الأعمال ، والإيمان بالله ورسوله الظاهر أنه إنما يراد به الشهادتان مع التصديق بهما ؛ ولهذا ورد في حديث : " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " ( ) وفي رواية ذكر الإيمان بالله ورسوله " بدل الشهادتين " ؛ فدل على أن المراد بهما واحد ؛ ولهذا عطف في حديث أبي هريرة على هذا الإيمان " الجهاد " ثم " الحج " ، وهما مما يدخل في اسم الإيمان المطلق ؛ لكن الإيمان بالله أخص من الإيمان المطلق ، فالظاهر أنه إنما يراد بهما الشهادتان مع التصديق بهما ، فإذا سمى الشهادتين عملا دل على أن قول اللسان عمل .
وقد كان طائفة من المرجئة يقولون : الإيمان قول وعمل – موافقة لأهل الحديث - ، ثم يفسرون العمل بالقول ويقولون : هو عمل اللسان . وقد ذكر الإمام أحمد هذا القول عن شبابه بن سوار وأنكره عليه وقال : هو أخبث قول ما سمعت أن أحدا قال به ولا بلغني . يعني أنه بدعة لم يقله أحد ممن سلف ( ) . لعل مراده إنكار تفسير قول أهل السنة :الإيمان قول وعمل بهذا التفسير ؛ فإنه بدعة وفيه عي وتكرير ؛ إذ العمل على هذا القول بعينه ، ولا يكون مراده إنكار أن القول يسمى عملا .
ولكن روي عنه ما يدل على إنكار دخول الأقوال في اسم الأعمال ، فإنه قال في رواية أبي طالب – في رجل طلق امرأته واحدة ونوى ثلاثا ، قال بعضهم : له نيته ، ويحتج بقوله : " الأعمال بالنيات " قال أحمد : ما يشبه هذا بالعمل ؛ إنما هذا لفظ كلام المرجئة يقولون : القول هو عمل . لا يحكم عليه بالنية ولا هو من العمل . وهذا ظاهر في إنكار تسمية القول عملا بكل حال وأنه لا يدخل تحت قوله " الأعمال بالنيات " . وكذلك ذكر أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتاب " السنة " . وهذا على إطلاقه لا يصح ؛ فإن كنايات الطلاق كلها أقوال ويعتبر لها النية ، وكذلك ألفاظ الإيمان والنذور أقوال ويعتبر لها النية وألفاظ عقود البيع ( 196- ب /ف ) والنكاح وغيرهما أقوال ويؤثر فيها النية عند أحمد ، كما تؤثر النية [ في ] ( ) بطلان نكاح التحليل وعقود التحليل على الربا . و قد نص أحمد على أن من أعتق أمته وجعل عتقها صداقها أنه يعتبر له النية ، فإن أراد نكاحها بذلك وعتقها انعقدا بهذا القول. وكذلك ألفاظ الكفر المحتملة تصير بالنية كفرا . و هذا كله يدل على أن الأقوال تدخل في الأعمال ويعتبر لها النية . ومسألة الطلاق المذكورة فيها عن أحمد روايتان – أيضا .
وقد خرج أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " الطلاق " له بدخول القول في العمل ، وأن الأقوال تدخل في قوله صلى الله عليه وسلم " الأعمال بالنيات "
وأبو عبيد محله من معرفة لغة العرب المحل الذي لا يجهله عالم . وقد اختلف الناس لو حلف لا يعمل عملا أو لا يفعل فعلا فقال قولا هل يحنث أم لا ؟ وكذا لو حلف ليفعلن أو ليعملن هل يبر بالقول أم لا ؟
و قد حكى القاضي أبو يعلي في ذلك اختلافا بين الفقهاء ، وذكر هو في كتاب " الأيمان " له أنه لا يبر ولا يحنث بذلك . و أخذه من رواية أبي طالب ، عن أحمد – التي سبق ذكرها – واستدل له بأن الأيمان يرجع فيها إلى العرف ، والقول لا يسمى عملا في العرف ؛ ولهذا يعطف القول على العمل كثيرا فيدل على تغايرهما عرفا واستعمالا.
و من الناس من قال : القول يدخل في مسمى الفعل ولا يدخل في مسمى العمل . وهو الذب ذكره ابن الخشاب النحوي ( ) وغيره .
وقد ورد تسمية القول فعلا في القرآن في قوله تعالى  وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ  [ الأنعام : 112] .
فصل
قال البخاري :
19- باب
إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل لقوله عز وجل  قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا [ الحجرات : 14] . فإذا كان على الحقيقة فهو على قوله ( )  إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ  [ آل عمران : 19 ] وقوله  وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ  ( ) [ آل عمران : 85] .
معنى هذا الكلام : أن الإسلام يطلق باعتبارين :
أحدهما : باعتبار الإسلام الحقيقي وهو دين الإسلام الذي قال الله فيه  إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ  وقال  {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ  .
والثاني : باعتبار الاستسلام ظاهرا مع عدم إسلام الباطن إذا وقع خوفا كإسلام المنافقين ، واستدل بقوله تعالى  قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ  وحمله عل الاستسلام خوفا وتقية .وهذا مروي عن طائفة من السلف ، منهم مجاهد ، وابن زيد ، ومقاتل بن حيان وغيرهم ( ) . وكذلك رجحه محمد بن نصر المروزي ( ) – كما رجحه البخاري - ؛ لأنهما لا يفارقان بين الإسلام والإيمان ، فإذا انتفى أحدهما انتفى الآخر . وهو اختيار ابن عبد البر ، وحكاه عن أكثر أهل السنة من أصحاب مالك والشافعي وداود .
وأما من يفرق بين الإسلام والإيمان فإنه يستدل بهذه الآية ( 197 – أ / ف ) على الفرق بينهما ويقول : نفي الإيمان عنهم لا يلزم منه نفي الإسلام كما نفي الإيمان عن الزاني والسارق والشارب وإن كان الإسلام عنهم غير منفي . وقد ورد هذا المعنى في الآية عن ابن عباس ، وقتادة ، والنخعي ، وروي عن ابن زيد معناه – أيضا - ، وهو قول الزهري ، وحماد بن زيد ، وأحمد ، ورجحه ابن جرير وغيره ( ) .
واستدلوا به على التفريق بين الإسلام والإيمان . وكذا قال قتادة في هذه الآية قال : " قولوا أسلمنا " : شهادة أن لا إله إلا الله ، وهو دين الله ،والإسلام درجة الإيمان تحقيق في القلب و والهجرة في الإيمان درجة ، والجهاد درجة ، والقتل في سبيل الله درجة . خرجه ابن أبي حاتم .
فجعل قتادة الإسلام الكلمة ، وهي أصل الدين ، والإيمان ما قام بالقلوب من تحقيق التصديق بالغيب ، فهؤلاء القوم لم يحققوا الإيمان في قلوبهم ، وإنما دخل في قلوبهم تصديق ضعيف بحيث صح به إسلامهم ، ويدل عليه :  وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا  [ الحجرات : 14 ] .
واختلف من فرق بين الإسلام والإيمان في حقيقة الفرق بينهما . فقالت طائفة : الإسلام : كلمة الشهادتين ، والإيمان العمل . وهذا مروي عن الزهري ( ) وابن أبي ذئب ( ) ، وهو رواية عن أحمد ( ) ، وهي المذهب عند القاضي أبي يعلى وغيره من أصحابه . ويشبه هذا : قول ابن زيد في تفسير هذه الآية قال : لم يصدقوا إيمانهم بأعمالهم فرد الله عليهم وقال :  لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا  فقال : الإسلام إقرار ، والإيمان تصديق ( ) . وهو قول أبي خيثمة وغيره من أهل الحديث . وقد ضعف ابن حامد من أصحابنا هذا القول عن أحمد وقال : الصحيح : أن مذهبه : أن الإسلام قول وعمل ورواية واحدة ؛ ولكن لا يدخل كل الأعمال في الإسلام كما يدخل في الإيمان، وذكر أن المنصوص عن أحمد أنه لا يكفر تارك الصلاة ، فالصلاة من خصال الإيمان دون الإسلام وكذلك اجتناب الكبائر من شرائط الإيمان دون الإسلام . كذا قال ، وأكثر أصحابنا أن ظاهر مذهب أحمد تكفير تارك الصلاة فلو لم تكن الصلاة من الإسلام لم يكن تاركها عنده كافرا . والنصوص الدالة على أن الأعمال داخلة في الإسلام كثيرة جدا . وقد ذهب طائفة إلى أن الإسلام عام والإيمان خاص ، فمن ارتكب الكبائر خرج من دائرة الإيمان الخاصة إلى دائرة الإسلام العامة .
هذا مروي عن أبي جعفر محمد بن علي ، وضعفه ابن نصر المروزي من جهة راويه عنه وهو فضيل بن يسار ، وطعن فيه ( ) ، وروي عن حماد ابن زيد نحو هذا – أيضا . وحكى رواية عن أحمد – أيضا - ؛ فإنه قال في رواية الشالنجي ( ) في مرتكب الكبائر : يخرج من الإيمان ويقع في الإسلام . ونقل حنبل عن أحمد معناه ( ) . وقد تأول هذه الرواية القاضي أبو يعلى وأقرها غيره ، و هي اختيار أبي عبد الله بن بطة وابن حامد وغيرهما من الأصحاب . و قالت طائفة : الفرق بين الإسلام والإيمان : أن الإيمان هو التصديق تصديق القلب فهو علم القلب وعمله ، والإسلام: الخضوع والاستسلام والانقياد ؛ فهو عمل القلب والجوارح . وهذا قول كثير من العلماء ، وقد حكاه أبو الفضيل التميمي عن أصحاب أحمد ، وهو قول طوائف من المتكلمين ( 197- ب/ ف ) ؛ لكن المتكلمون عندهم أن الأعمال لا تدخل في الإيمان وتدخل في الإسلام .
وأما أصحابنا وغيرهم من أهل الحديث فعندهم أن الأعمال تدخل في الإيمان مع اختلافهم في دخولها الإسلام – كما سبق – فلهذا قال كثير من العلماء : إن الإسلام والإيمان تختلف دلالتهما بالإفراد والاقتران ، فإن أفرد أحدهما دخل الآخر فيه ، وإن قرن بينهما كانا شيئين حينئذ .
وبهذا يجمع بين حديث سؤال جبريل عن السلام والإيمان ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وبين حديث وفد عبد القيس حيث فسر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان المنفرد بما فسر به الإيمان المقرون في حديث جبريل . وقد حكى هذا القول أبو بكر الإسماعيلي عن كثير من أهل السنة والجماعة ، وروي عن أبي بكر بن أبي شيبة ما يدل عليه ( ) ، وهو أقرب الأقوال في هذه المسألة وأشبهها بالنصوص والله أعلم .
والقول بالفرق بين الإسلام والإيمان مروي عن : الحسن ، وابن سيرين ، وشريك ، وعبد الرحمن بن مهدي ، ويحيي بن معين ، ومؤمل ابن إهاب ، وحكى عن مالك - أيضا - ، وقد سبق حكايته عن قتادة ، وداود بن أبي هند ، والزهري ، وابن أبي ذئب ، وحماد بن زيد ، وأحمد ( ) ، وأبي خيثمة وكذلك ( ) حكاه أبو بكر بن السمعاني عن أهل السنة والجماعة جملة .
فحكاية ابن نصر ( ) وابن عبد البر عن الأكثرين التسوية بينهما غير جيد ؛ بل قد قيل : إن السلف لم يرو عنهم غير التفريق ، والله أعلم .
وخرج البخاري في هذا الباب حديث :
27- الزهري ، عن ( ) عامر بن سعد ، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رهطا وسعد جالس فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا هو أعجبهم إلي فقلت : ما لك يا رسول الله ( ) عن فلان ؟ ! فوالله إني لأراه مؤمنا ، فقال : " أو مسلما " فسكت قليلا ثم غلبني ما أعلم منه ( ) فقلت يا رسول الله ( ) ! مالك عن فلان ؟ فوالله إني لأراه مؤمنا ، قال ( ) : " أو مسلما " فسكت قليلا ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " يا سعد ! إني لأعطي الرجل وغيره أعجب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار "
خرجه من طريق شعيب ، عن الزهري ثم قال : رواه يونس وصالح وابن معمر وابن أخي الزهري ، عن الزهري( ) .
وقد رواه ابن أبي ذئب – أيضا - ، عن الزهري كذلك . ورواه العباس الخلال ( ) ، عن الوليد بن مسلم ، عن ابن وهب . ورشدين بن سعد ، عن يونس ، عن الزهري ، عن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخطئا في ذلك . نقله ابن أبي حاتم الرازي عن أبيه ( ) . فهذا الحديث محمول عند البخاري على أن هذا الرجل كان منافقا ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم نفى عنه الإيمان وأثبت له الاستسلام دون الإسلام الحقيقي ، وهو – أيضا – قول محمد بن نصر المروزي ( ) . وهذا غاية البعد ، وآخر الحديث يرد على ذلك ، وهو : قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه " فإن هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وكله إلى إيمانه كما كان يعطي المؤلفة قلوبهم ويمنع المهاجرين والأنصار .
وزعم علي بن المديني في كتاب " العلل " له أن هذا باب المزاح من النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه كان يمزح ولا يقول إلا حقا ، فأوهم سعدا أنه ليس بمؤمن ؛ بل مسلم وهما بمعنى واحد كما يقول ( 198- أ/ ف ) لرجل يمازحه وهو يدعى أنه أخ لرجل فيقول : إنما أنت ابن أبيه أو ابن أمه ، وما أشبه ذلك مما يوهم الفرق والمعنى واحد. وهذا تعسف شديد .
والظاهر – والله أعلم – أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر سعدا عن الشهادة بالإيمان ؛ لأن الإيمان باطن في القلب لا اطلاع للعبد عليه ، فالشهادة به شهادة على ظن فلا ينبغي الجزم بذلك كما قال : " إن كنت مادحا لا محالة فقل : أحسب فلانا كذا ولا أزكي على الله أحدا " ( ) ، وأمره أن يشهد بالإسلام لأنه أمر مطلع عليه كما في " المسند " عن أنس مرفوعا : " الإسلام علانية ، والإيمان في القلب " ( ) .
ولهذا كره أكثر السلف أن يطلق الإنسان على نفسه أنه مؤمن ، وقالوا : هو صفة مدح ، وتزكية للنفس بما غاب من أعمالها ؛ وإنما يشهد لنفسه بالإسلام لظهوره ، فأما حديث : " إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان " : فقد خرجه أحمد ، والترمذي ، وابن ماجه من حديث دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد مرفوعا ( ). وقال أحمد : هو حديث منكر ، و دراج له مناكير ( ) ، والله أعلم .
وهذا الذي ذكره البخاري في هذا الباب من الآية والحديث إنما يطابق التبويب على اعتقاده أنه فرق بين الإسلام والإيمان .
وأما على قول الأكثرين بالتفريق بينهما : فإنما ينبغي أن يذكر في هذا الباب قوله عز وجل  وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا  [ آل عمران : 83] فإن الجمهور على أنه أراد استسلام الخلق كلهم له وخضوعهم فأما المؤمن فيستسلم ويخضع طوعا ، وأما الكافر فإنه يضطر إلى الاستسلام عند الشدائد ونـزول البلاء به كرها ثم يعود إلى شركه عند زوال ذلك كله كما أخبر الله عنهم بذلك في مواضع كثيرة من القرآن .
والحديث الذي يطابق الباب على اختيار المفرقين بين الإسلام والإيمان : قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر قرينه من الجن : " ولكن الله أعانني عليه فأسلم " ( ) . وقد روي بضم الميم وفتحها ؛ فمن رواه بضمها قال : المراد: أي أنا أسلم من شره ، ومن رواه بفتحها ، فمنهم من فسره بأنه أسلم من كفره فصار مسلما . وقد ورد التصريح بذلك في رواية خرجها البزار في " مسنده " ( )بإسناد فيه ضعف .
ومنهم من فسره بأنه استسلم وخضع وانقاد كرها ، وهو تفسير ابن عيينه وغيره ، فيطابق على هذا ترجمة الباب، والله أعلم
20- فصل ( )
قال البخاري :
قال عمار : ثلاث من جمعهن جمع الإيمان : الإنصاف من نفسك ، وبذل السلام للعالم ، والإنفاق من الإقتار.
هذا الأثر معروف من رواية أبي إسحاق ، عن صلة بن زفر ، عن عمار ، رواه عنه الثوري وشعبة وإسرائيل وغيرهم .
وروي عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أبي إسحاق مرفوعا . خرجه البزار وغيره ( ) ، ورفعه وهم ، قال أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان ، وتردد أبو حاتم هل الخطأ منسوب فيه إلى عبد الرزاق أو معمر ( ) ، ومعمر ليس بالحافظ لحديث العراقيين كما ذكر ابن معين وغيره ( ) . وقد روي مرفوعا من وجهين آخرين ولا يثبت واحد منهما ( ) . وإنما ذكر البخاري قول عمار في باب " إفشاء السلام من الإسلام " لأنه لا يفرق بين الإسلام والإيمان – كما تقدم.
ثم خرج البخاري حديث :
28- عبد الله بن عمرو قال : سئل النبي ( ) صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير ؟ قال : " أن ( ) تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " .
وقد خرجه – فيما مضى – وبوب عليه باب " إطعام الطعام من الإسلام " ( ) وقول عمار فيه زيادة على هذا الحديث بذكر الإنصاف من النفس ، وهو من أعز الخصال ، ومعناه : ( 198 – ب / ف ) أن يعرف الإنسان الحق على نفسه ويوفيه من غير طلب .
وفيه - أيضا - : زيادة الإنفاق من الإقتار ؛ ويشهد لفضله : قوله تعالى  وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة  [ الحشر : 9 ] وقوله  الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء  [ آل عمران : 134] .
وفي " المسند " من حديث علي ابن أبي طالب أن ثلاثة تصدقوا : رجل كان له ألف درهم فتصدق بمائة ، وآخر كان له مائة فتصدق بعشرة ، وآخر كان له عشرة فتصدق بدرهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أنتم في الأجر سواء " ( ) .
يعني أن كلا منهم تصدق بعشر ماله ، فاعتبر الباقي بعد الصدقة ؛ فمن تصدق بدرهم وبقي له بعده كثير ليس كمن تصدق بدرهم وبقي له بعده درهم آخر أو درهمان . وروى مسدد : حدثنا أبو قدامة ثنا صفوان ابن عيسى : ثنا محمد بن عجلان ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سبق درهم مائة ألف درهم " قالوا : يا رسول الله ! وكيف يسبق درهم مائة ألف درهم ؟ قال : " رجل له درهمان فأخذ أجودهما فتصدق به ، ورجل له مال كثير فأخرج منه عرضه مائة ألف درهم فتصدق بها " ( ) .
21- فصل ( )
خرج البخاري ومسلم ( ) من حديث :
29- مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ): " أريت النار فرأيت ( ) أكثر أهلها النساء بكفرهن " قيل أيكفرون ( ) ؟ قال : " يكفرن العشير ويكفرن الإحسان ؛ لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت : ما رأيت منك خيرا قط "
وقال البخاري : كفر دون كفر ( ) . والكفر قد يطلق ويراد به الكفر الذي لا ينقل عن الملة مثل كفران العشير ونحوه عند إطلاق الكفر ( ) .
فأما إن ورد الكفر مقيدا بشيء فلا إشكال في ذلك كقوله تعالى  فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ  [ النحل : 112] . وإنما المراد هاهنا : أنه قد يرد إطلاق الكفر ثم يفسر بكفر غير ناقل عن الملة ، وهذا كما قال ابن عباس في قوله تعالى  وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزـَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون  [ المائدة : 44 ] قال : ليس بالكفر الذي تذهبون إليه ؛ إنه ليس بكفر ينقل عن الملة  وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزـَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون  كفر دون كفر . خرجه الحاكم ( ) وقال : صحيح الإسناد .
وعنه في هذه الآية قال : هو به كفر ، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . وكذا قال عطاء وغيره : كفر دون كفر . وقال النخعي : الكفران كفران : كفر بالله وكفر بالمنعم ( ) . واستدل البخاري لذلك بحديث ابن عباس الذي خرجه هاهنا ، وهو قطعة من حديث طويل خرجه في " أبواب الكسوف " ( ) ، فإنه النبي صلى الله عليه وسلم أطلق على النساء الكفر فسئل عنه فسره بكفر العشير .
وحديث أبي سعيد ( ) في هذا المعنى يشبه حديث ابن عباس . وقد خرج هذا المعنى من حديث ابن عمر ، وأبي هريرة – أيضا – وفي المعنى – أيضا - حديث ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " وقد خرجه البخاري ( ) في موضع آخر . و كذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ( ) . وقوله من قال لأخيه : ياكافر ، فقد باء بها أحدهما " ( ) . و للعلماء في هذه الأحاديث وما أشبهها مسالك متعددة : منهم : من حملها على من فعل ذلك مستحلا لذلك .
وقد حمل مالك حديث : " من قال لأخيه : يا كافر " على الحرورية المعتقدين لكفر المسلمين بالذنوب . نقله عنه أشهب ( ) وكذلك حمل ( 199 – أ / ف ) إسحاق بن راهوية حديث " من أتى حائضا أو امرأة في دبرها فقد كفر " ( ) على المستحل لذلك . نقله عنه حرب وإسحاق الكوسج . ومنهم من يحملها على التغليظ والكفر الذي لا ينقل عن الملة – كما تقدم عن ابن عباس وعطاء . ونقل إسماعيل الشالنجي عن أحمد – وذكر له قول ابن عباس المتقدم وسأله : ما هذا الكفر ؟ - قال أحمد : هو كفر لا ينقل عن الملة مثل الإيمان بعضه دون بعض ، فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف ( ) فيه .
قال محمد بن نصر المروزي ( ) : . واختلف من قال من أهل الحديث أن مرتكب الكبائر مسلم وليس بمؤمن هل يسمى كافرا كفرا لا ينقل عن الملة كما قال عطاء : كفر دون كفر ، وقال ابن عباس وطاوس : كفر لا ينقل عن الملة ( ) ؟ على قولين لهم . قال : وهما مذهبان في الجملة محكيان عن أحمد بن حنبل في موافقيه من أهل الحديث . قلت : قد أنكر أحمد في رواية المروذي ما روي عن عبد الله بن عمرو أن شارب الخمر يسمى كافرا ولم يثبته عنه ؛ مع أنه قد روي عنه من وجوه كثيرة وبعضها إسناده حسن ، وروي عنه مرفوعا ( ) .
وكذلك أنكر القاضي أبو يعلى جواز إطلاق كفر النعمة على أهل الكبائر ، ونصب الخلاف في ذلك مع الزيدية من الشيعة ، والإباضية من الخوارج . ورواية إسماعيل الشالنجي عن أحمد قد توافق ذلك . فمن هنا حكى محمد بن نصر عن أحمد في ذلك مذهبين ( ) .
والذي ذكره القاضي أبو عبد الله بن حامد شيخ القاضي أبو يعلى عن أحمد جواز إطلاق الكفر والشرك على بعض الذنوب التي لا تخرج عن الملة ، وقد حكاه عن أحمد ( ) .
وقد روي عن جابر بن عبد الله أنه سئل : هل كنتم تسمون شيئا من الذنوب : الكفر أو الشرك ؟ قال : معاذ الله ؛ ولكنا نقول مذنبين . خرجه محمد بن نصر ( ) وغيره . وكان عمار ينهى أن يقال لأهل الشام الذين قاتلوهم بصفين : كفروا وقال : قولوا فسقوا . قولوا ظلموا . وهذا قول ابن مبارك وغيره من الأئمة . وقد ذكر بعض الناس أن الإيمان قسمان :
أحدهما : إيمان بالله ، وهو الإقرار والتصديق به .
والثاني : إيمان لله ، وهو الطاعة والانقياد لأوامره .
فنقيض الإيمان الأول : الكفر ، ونقيض الإيمان الثاني : الفسق ؛ وقد يسمى كفرا ؛ ولكن لا ينقل عن الملة .
وقد وردت نصوص اختلف العلماء في حملها عل الكفر الناقل عن الملة أو على غيره مثل الأحاديث الواردة في كفر تارك الصلاة ، وتردد إسحاق بن راهوية فيما ورد في إتيان المرأة في دبرها أنه كفر هل هو مخرج عن الدين بالكلية أم لا ؟
ومن العلماء من يتوقى الكلام في هذه النصوص تورعا ويمرها كما جاءت من غير تفسير مع اعتقادهم أن المعاصي لا تخرج عن الملة .
وحكاه ابن حامد في رواية عن أحمد ، ذكر صالح بن أحمد وأبو الحارث أن أحمد سئل عن حديث أبي بكر الصديق " كفر بالله تبري من نسب وإن دق ، وكفر بالله ادعاء إلى نسب لا يعلم " ( ) قال أحدهما : قال أحمد : قد روي هذا عن أبي بكر ، والله أعلم ، وقال الآخر : قال ما أعلم ، قد كتبناها هكذا . قال أبو الحارث : قيل لأحمد : حديث أبي هريرة " من أتى النساء في أعجازهن فقد كفر " ( ) فقال : قد روي هذا . ولم يزد على هذا الكلام . وكذا قال الزهري لما سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : ليس منا من لطم الخدود " وما أشبهه من الحديث فقال : من الله العلم وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم ( ) .
ونقل عبدوس بن ( 199 – ب / ف ) مالك العطار أنه ذكر هذه الأحاديث التي ورد فيها لفظ الكفر فقال : نسلمها وإن لم نعرف تفسيرها ولا نتكلم فيه ولا نفسرها إلا بما جاءت ( ) .
ومنهم من فرق بين إطلاق لفظ الكفر فجوزه في جميع أنواع الكفر سواء كان ناقلا عن الملة أو لم يكن وبين إطلاق اسم الكافر ، فمنعه إلا في الكفر الناقل عن الملة ؛ لأن اسم الفاعل لا يشتق من الفعل الكامل ، ولذلك قال في اسم المؤمن : لا يقال إلا للكامل الإيمان ، فلا يستحقه من كان مرتكبا للكبائر حال ارتكابه وإن كان يقال : قد آمن ، ومعه إيمانه . وهذا اختيار ابن قتيبة . وقريب منه : قول من قال : إن أهل الكتاب يقال : إنهم أشركوا وفيهم شرك كما قال تعالى  سبحانه عما يشركون  [ التوبة : 31] ولا يدخلون في اسم المشركين عند الإطلاق ؛ بل يفرق بينهم وبين المشركين كما في قوله تعالى  لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين  [ البينة : 1 ] فلا يدخل الكتابية في قوله تعالى  َ وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ  [ البقرة : 221 ] وقد نص على ذلك الإمام أحمد وغيره . وكذلك كره أكثر السلف أن يقول الإنسان : أنا مؤمن ، حتى يقول : إن شاء الله ، وأباحوا أن يقول: آمنت بالله .
وهذا القول حسن ، لولا ما تأوله ابن عباس وغيره في قوله تعالى  وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزـَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون  [ المائدة : 44 ] ، والله أعلم .
23فصل ( )
خرج البخاري ومسلم ( ) من حديث :
32- ابن مسعود قال : لما نـزلت الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْم  [ الأنعام : 82] قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أينا لم يظلم نفسه ( ) ، فأنـزل الله  إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ  [ لقمان : 13]
معنى هذا : أن الظلم يختلف : فيه ظلم ، ينقل عن الملة كقوله تعالى  وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ  [ البقرة : 254 ] فإن الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وأعظم ذلك : أن يوضع المخلوق في مقام الخالق ويجعل شريكا له في الربوبية وفي الإلهية سبحانه وتعالى عما يشركون . وأكثر ما يرد في القرآن وعيد الظالمين يراد به الكفار كقوله تعالى  وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُون  الآيات [ إبراهيم : 42] ، وقوله  وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيل  الآيات [ الشورى : 44 ] ومثل هذا كثير .
ويراد بالظلم : ما لا ينقل عن الملة ، كقوله تعالى  فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَات  [ فاطر : 32] وقوله  وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُون  [ البقرة : 229 ] .
وحديث ابن مسعود هذا صريح في أن المراد بقوله تعالى الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْم  أن الظلم هو الشرك ، وجاء في بعض رواياته زيادة : قال " إنما هو الشرك " ( ) .
وروى حمادة بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ ، فدخل ذات يوم فقرأ فأتى على هذه الآية الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْم  إلى آخر الآية فانتعل وأخذ رداءه ثم أتى أبي ابن كعب فقال : يا أبا المنذر ! أتيت قبل على هذه الآية الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْم  وقد ترى أنا نظلم ونفعل ، فقال : يا أمير المؤمنين ! إن هذا ليس بذلك ، يقول الله تعالى  إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ  . -، إنما ذلك الشرك . خرجه محمد بن نصر المروزي ( ). وخرجه – أيضا – من طريق حماد بن زيد ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب أن عمر أتى على هذه الآية ، فذكره ( ) . وحماد بن سلمه مقدم على حماد بن زيد في علي بن زيد خاصة ( ) . وروي – أيضا – بإسناده ، عن سفيان ، عن ( 200 – أ/ف) ابن جريج ، عن عطاء قال : كفر دون كفر وظلم دون ظلم ، وفسوق دون فسق ( ) .
يعني : أن الفسق قد يكون ناقلا عن الملة كما قال في حق إبليس  فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّه [ الكهف : 50 ] وقال  وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ  [ السجدة : 20 ] .
وقد لا يكون الفسق ناقلا عن الملة كقوله تعالى  وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ  [ البقرة : 282 ] ، وقوله في الذين يرمون المحصنات  وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ  [ النور : 4 ] وقوله :  فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَج  [ البقرة : 197] ، وفسرت الصحابة الفسوق في الحج بالمعاصي كلها ، ومنهم من خصها بما ينهى عنه في الإحرام خاصة . وكذلك الشرك : منه ما ينقل عن الملة ، واستعماله في ذلك كثير في الكتاب والسنة . ومنه : ما لا ينقل ، كما جاء في الحديث : " من حلف بغير الله فقد أشرك " ِ ( ) ، وفي الحديث : " الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل " ( ) ، وسمي الرياء : شركا . وتأول ابن عباس على ذلك قوله تعالى  وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُون [ يوسف : 106 ] قال : إن أحدهم يشرك حتى يشرك بكلبه : لولا الكلب لسرقنا الليلة ، قال تعالى :  فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [ الكهف : 110] .
وقد روي أنها نـزلت في الرياء في العمل . وقيل للحسن : يشرك بالله ؟ قال : لا ؛ ولكن أشرك بذلك العمل عملا يريد به الله والناس ، فذلك يرد عليه .
29- فصل ( )
خرج الإمام أحمد من طريق ابن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة و عن ابن عباس قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الأديان أحب على الله ؟ قال : : الحنيفية السمحة " ( ) . وخرجه الطبراني ولفظه : أي الإسلام أفضل ؟ ( ) . وخرجه البزار في " مسنده ولفظه : أي الإسلام – أو أي الإيمان – أفضل ؟ ( ) . وهذا الإسناد ليس على شرط البخاري ؛ لأنه لا يحتج بابن إسحاق ولا بروايات داود بن الحصين ، عن عكرمة فإنها مناكير عند ابن المديني ، والبخاري لا يخالف في ذلك وإن كان قد خرج لهما منفردين .
وخرج البزار هذا الحديث من وجه آخر ؛ لكن إسناده لا يصح ( ) . وخرجه الطبراني من وجه ثالث ، ولا يصح إسناده – أيضا ( ) .
وخرج الإمام أحمد من حديث ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن عروة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم يوم زفن ( ) الحبشة في المسجد : " لتعلم يهود أن في ديننا فسحة ؛ إني أرسلت بحنيفية سمحة " ( ) .
وخرج – أيضا – من رواية معان بن رفاعة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ؛ ولكني بعثت بالحنيفية السمحة " ( ) .إسناده ضعيف .
وخرج البخاري من حديث :
39- معن بن محمد الغفاري ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة " .
وهذا الحديث تفرد به البخاري ، وتفرد بالتخريج لمعن الغفاري . ومعنى الحديث : النهي عن التشديد في الدين بأن يحمل الإنسان نفسه من العبادة مالا يحتمله إلا بكلفة شديدة ، وهذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم " لن يشاد الدين أحد إلا غلبه " يعني : أن الدين لا يؤخذ بالمغالبة فمن شاد الدين غلبه وقطعه ( ) .
وفي " مسند الإمام أحمد " ( 200- ب / ف ) عن محجن بن الأدرع قال : أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بباب المسجد إذا رجل يصلي قال : " أتقوله صادقا " ؟ قلت : يا نبي الله ! هذا فلان وهذا من أحسن أهل المدينة أو من أكثر أهل المدينة صلاة ، قال : " لا تسمعه فتهلكه – مرتين أو ثلاث – إنكم أمة أريد بكم اليسر"( ) . وفي رواية له : " إن خير دينكم أيسره ، إن خير دينكم أيسره " ( ) .وفي رواية له – أيضا – قال : " إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة " . وخرجه حميد بن زنجويه وزاد : " اكلفوا من العمل ما تطيقون ؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا ، الغدوة والروحة وشيء من الدلجة " وخرجه ابن مردويه وعنده : قال : " إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليسر ولم يرد بها العسر " ( ) .
وفي " المسند " –أيضا - ، عن بريدة قال : خرجت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي فلحقته فإذا بين أيدينا برجل يصلي يكثر الركوع والسجود فقال لي : " أتراه يرائي ؟" قلت : الله ورسوله أعلم قال : فترك يده من يدي ثم جمع بين يديه يصوبهما ويرفعهما ويقول " عليكم هديا قاصدا ، عليكم هديا قاصدا ، عليكم هديا قاصدا ؛ فإنه من يشاد ( ) هذا الدين يغلبه " ( ) .
وفي " المسند " – أيضا - ، عن عاصم بن هلال ، عن غاضرة بن عروة الفقيمي ، عن أبيه : كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج فصلى ، فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه : علينا حرج في كذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن دين الله في يسر " – قالها ثلاثا ( ) . وفي المعنى أحاديث أخر . وقوله صلى الله عليه وسلم: سددوا وقاربوا وأبشروا " . التسديد : هو إصابة الغرض المقصود ، وأصله من تسديد السهم إذا أصاب الغرض المرمى إليه ولم يخطه . والمقاربة : أن يقارب الغرض وإن لم يصبه ؛ لكن يكون مجتهدا على الإصابة فيصيب تارة ويقارب تارة أخرى ، أو تكون المقاربة لمن عجز عن الإصابة كما قال تعالى  فاتقوا الله ما استطعتم  [ التغابن : 16] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم "( ) .
وفي " المسند " و " سنن أبي داود " ، عن الحكم بن حزن الكلفي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر يوم الجمعة : " أيها الناس ! إنكم لن تطيقوا – أو لن تفعلوا – كل ما أمرتكم ؛ ولكن سددوا وأبشروا " ( ) . وقيل : أراد التسديد : العمل بالسداد – وهو القصد والتوسط في العبادة – فلا يقصر فيما أمر به و ولا يتحمل منها مالا يطيقه .
قال النضر بن شميل : السداد : القصد في الدين والسبيل ، وكذلك المقاربة المراد بهما : التوسط بين التفريط والإفراط ، فهما كلمتان بمعنى واحد .
وقيل : بل المراد بالتسديد : التوسط في الطاعات بالنسبة إلى الواجبات والمندوبات ، وبالمقاربة : الاقتصار على الواجبات . وقيل فيهما غير ذلك . وقوله " أبشروا " يعني : أن من قصد المراد فليبشر . وخرج البخاري في موضع آخر من " صحيحه " من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سددوا وقاربوا وأبشروا " ( ) . وقوله" واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة " يعني أن هذه الأوقات الثلاثة أوقات العمل والسير إلى الله ، وهي / أول النهار وآخره ، وآخر الليل . فالغدوة : أول النهار ، والروحة آخره ، والدلجة : سير آخر الليل .
وفي " سنن أبي داود " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سافرتم فعليكم بالدلجة ، فإن الأرض تطوى بالليل " ( ) . فسير آخر الليل محمود في سير الدنيا بالأبدان وفي سير القلوب إلى الله بالأعمال .
وخرج البخاري ( 201 – أ / ف هذا الحديث في أواخر كتابه ، وزاد فيه : " والقصد القصد تبلغوا " ( ) ، يعني أن من دام على سيره إلى الله في هذه الأوقات الثلاثة مع الاقتصاد بلغ ، ومن لم يقتصد ؛ بل بالغ واجتهد فربما انقطع في الطريق ولم يبلغ .
وقد جاء في رواية عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا : " إن هذا الدين متين ، فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله ؛ فإن المنبت لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى " ( ).
والمنبت : هو المنقطع في سفره قبل وصوله ، فلا سفر قطع ولا ظهره الذي يسير عليه أبقى حتى يمكنه السير عليه بعد ذلك ؛ بل هو كالمنقطع في المفاوز ، فهو إلى الهلاك أقرب ، ولو أنه رفق براحلته واقتصد في سيره عليها لقطعت به سفره وبلغ إلى المنـزل .
كما قال الحسن : نفوسكم مطاياكم ؛ فأصلحوا مطاياكم تبلغكم إلى ربكم عز وجل ، والله أعلم

31- فصل ( )
خرج البخاري من حديث :
41- زيد بن أسلم ، عن ( ) عطاء بن يسار ، عن أبي( ) سعيد الخدري ( ) أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر الله عنه كل سيئة كان أزلفها ( ) ، وكان بعد ذلك القصاص: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، والسيئة بمثلها ؛ إلا أن يتجاوز الله عنها "
وخرج البخاري – أيضا – من حديث :
42- همام بن منبه ، عن أبي هريرة عن النبي ( ) صلى الله عليه وسلم قال " إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها " .
إحسان الإسلام تفسر بمعنيين : أحدهما : بإكمال واجتناب محرماته . ومنه الحديث المشهور المروي في " السنن":" من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ( ) فكمال حسن إسلامه – حينئذ – بترك ما لا يعنيه وفعل ما يعنيه. ومنه حديث ابن مسعود الذي خرجاه في" الصحيحين " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أنؤاخذ بأعمالنا في الجاهلية ؟ فقال : " من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر" ( ) . فإن المراد بإحسانه في الإسلام : فعل واجباته والانتهاء عن محرماته ، وبالإساءة في الإسلام : ارتكاب بعض محظوراته التي كانت ترتكب في الجاهلية .
وفي حديث ابن مسعود هذا حديث أبي سعيد – الذي علقه البخاري هنا في أول الباب ( ) – دليل على أن الإسلام إنما يكفر ما كان قبله من الكفر ولواحقه التي اجتنبها المسلم بإسلامه ، فأما الذنوب التي فعلها في الجاهلية إذا أصر عليها في الإسلام فإنه يؤاخذ بها ، فإنه إذا أصر عليها في الإسلام لم يكن تائبا منها فلا يكفر عنه بدون التوبة منها .
و قد ذكر ذلك طوائف من العلماء من أصحابنا كأبي بكر بن عبد العزيز ابن جعفر وغيره ، وهو قول طوائف من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم وهو اختيار الحليمي . ثم وجدته منصوصا عن الإمام أحمد ؛ فنقل الميموني في " مسائله " عن أحمد قال : بلغني عن أبي حنيفة أنه كان يقول : لا يؤاخذ بما كان في الجاهلية ، والنبي النبي صلى الله عليه وسلم يقول في غير حديث : " إنه يؤاخذ " ، يعني : حديث شقيق ، عن ابن مسعود : أزاد ( ) " إذا أحسنت في الإسلام " . انتهى
وكذلك حكى الجوزجاني عن أهل الرأي أنهم قالوا : إن من أسلم وهو مصر على الكبائر ، كفر ( 201 – ب / ف ) الإسلام كبائره كلها ، ثم أنكر عليهم وجعله من جملة أقوال المرجئة . وخالف في ذلك آخرون ، وقالوا : بل يغفر له في الإسلام كل ما سبق منه في الجاهلية من كفر وذنب وإن أصر عليها في الإسلام . وهذا قول كثير من المتكلمين والفقهاء من أصحابنا وغيرهم كابن حامد والقاضي وغيرهما واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم " الإسلام يهدم ما كان قبله " . خرجه مسلم من حديث عمرو بن العاص ( ) .
وأجاب الأولون عنه : بأن المراد أنه يهدم ما كان قبله مما ينافيه الإسلام من كفر وشرك ولواحق ذلك مما يكون الإسلام توبة منه وإقلاعا عنه جميعا بينه وبين الحديثين المتقدمين . واستدلوا بقوله تعالى  قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ  [ الأنفال : 38 ] .
وأجاب الأولون بأن المراد : يغفر لهم ما سلف مما انتهوا عنه . وتأول بعض أهل القول الثاني حديث ابن مسعود على أن إساءته في الإسلام ارتداده عنه إلى الكفر ، فيؤاخذ بكفره الأول والثاني . ومنهم من حمله على إسلام المنافق . وهذا بعيد جدا . ومتى ارتد عن الإسلام أو كان منافقا فلم يبق معه الإسلام حتى يسيء فيه . والاختلاف في هذه المسألة مبني على أصول :
أحدها : قول جمهور أهل السنة والجماعة ، والخلاف فيه عن الإمام احمد لا يثبت . وقد تأول ما روي عنه في ذلك المحققون من أصحابه كابن شاقلا والقاضي في كتاب " المعتمد " وابن عقيل في " فصوله " . وأما المعتزلة : فخالفوا في ذلك ، وقال من قال منهم كالجبائي ( ) بناء على هذا : إن الكافر لا يصح إسلامه مع إصراره على كبيرة كان عليها في حال كفره . وهذا قول باطل لم يوافقهم عليه أحد من العلماء .
الأصل الثاني : أن التوبة هل من شرط صحتها إصلاح العمل بعدها أم لا ؟ وفي ذلك اختلاف بين العلماء ، وقد ذكره ابن حامد من أصحابنا وأشار إلى بناء الخلاف في هذه المسألة على ذلك ، والصحيح عنده وعند كثير من العلماء : أن ذلك ليس بشرط .
والأصل الثالث : أن بعض الذنوب قد يعفى عنها بشرط اجتناب غيرها ، فإن لم يحصل الشرط لم يحصل ما علق به . وهذا مأخذ أبي بكر عبد العزيز من أصحابنا ، وجعل من هذا الباب أن الصغائر إنما تكفر باجتناب الكبائر ، فإن لم يجتنب الكبائر وقعت المؤاخذة بالصغائر والكبائر . وهذا فيه خلاف يذكر في موضع آخر إن شاء الله . وجعل منه أن النظرة الأولى يعفى عنها بشرط عدم المعاودة ، فإن أعاد النظرة أخذ بالأولى والثانية .
والأصل الرابع : أن التوبة من الذنب هي الندم عليه بشرط الإقلاع عنه والعزم على عدم العود إليه ،فالكافر إذا أسلم وهو مصر على ذنب آخر صحت توبته مما تاب منه وهو الكفر دون الذنب الذي لم يتب منه ؛ بل هو مصر عليه .
وخرج النسائي حديث مالك الذي علقه البخاري هنا ، وزاد في أوله : " كتب الله كل حسنة كان أزلفها " ( ). وهذا يشبه قول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام لما قال له : أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية ، هل لي منها من شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أسلمت على ما أسلفت من خير " خرجه مسلم ( ) .
وكلاهما يدل على أن الكافر إذا عمل حسنة في حال كفره ثم أسلم فإنه يثاب عليها ويكون إسلامه المتأخر كافيا له في حصول الثواب على حسناته السابقة منه قبل إسلامه ( 202- أ / ف ) .
ورجح هذا القول ابن بطال والقرظي وغيرهما . وهو مقتضى قول من قال : إنه يعاقب بما أصر عليه من سيئاته إذا أسلم – كما سبق وحكى مثله عن إبراهيم الحربي . ويدل عليه - أيضا - : أن عائشة لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن جدعان وما كان يصنعه من المعروف هل ينفعه ذلك ؟ فقال : " إنه لم يقل يوما قط : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " ( ) . و هذا يدل على أنه لو قال ذلك يوما من الدهر – ولو قبل موته بلحظة لنفعه ذلك . ومما يستدل به – أيضا - : قول النبي صلى الله عليه وسلم في مؤمن أهل الكتاب إذا أسلم : " إنه يؤتى أجره مرتين( ) ؛ مع أنه لو وافى على عمله بكتابه الأول لكان حابطا ، وهذا هو اللائق بكرم الله وجوده وفضله . وخالف في ذلك طوائف من المتكلمين وغيرهم وقالوا : الأعمال في حال الكفر حابطة لا ثواب لها بكل حال ، وتأولوا هذه النصوص الصحيحة بتأويلات مستكرهة مستبعدة ، ولذلك ( ) من كان له عمل صالح فعمل سيئة أحبطته ثم تاب ؛ فإنه يعود إليه ثواب ما حبط من عمله بالسيئات .
وقد ورد في هذا آثار عن السلف ، قال ابن مسعود : عبد الله رجل سبعين سنة ثم أصاب فاحشة فأحبط الله عمله ، ثم أصابته زمانه وأقعد فرأى رجلا يتصدق على مساكين فجاء إليه فأخذ منه رغيفا فتصدق به على مسكين فغفر الله له ورد عليه عمل سبعين سنة . خرجه ابن المبارك في كتاب : البر والصلة "
بل عود العمل هاهنا بالتوبة أولى ؛ لأن العمل الأول كان مقبولا ، وإنما طرأ عليه ما يحبطه بخلاف عمل الكافر قبل إسلامه . ومن كان مسلما وعمل صالحا في إسلامه ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام ، ففي حبوط عمله الأول بالردة خلاف مشهور ، ولا يبعد أن يقال : إنه إليه بإسلامه الثاني على تقدير حبوطه ، والله أعلم .
وقد وردت نصوص أخر تدل على أن الكافر إذا أسلم وحسن إسلامه فإنه تبدل سيئاته في حال كفره حسنات ، وهذا أبلغ مما قبله ، ويدل على أن التائب من ذنب تبدل سيئاته قبل التوبة بالتوبة حسنات كما دلت عليه الآية في سورة الفرقان ، وفي ذلك كلام يطول ذكره هاهنا .
ولا يستبعد إثابة المسلم في الآخرة بما عمل قبل إسلامه من الحسنات ؛ فإنه لابد أن يثاب عليها في الدنيا . وفي إثابته عليها في الآخرة بتحقيق العذاب نـزاع مشهور . فإذا لم يكن بد من إثابته فلا يستنكر أن يثاب عليها بعد إسلامه في الآخرة ؛ لأن المانع من إثابته عليها في الآخرة هو الكفر ، وقد زال . وقد يستدل ( ) لهذا – أيضا – بقول الله عز وجل في قصة أسارى بدر  يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى ( ) إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ  [ الأنفال : 70] وقد كان العباس بن عبد المطلب – وهو من جملة هؤلاء الأسارى – يقول : أما أنا فقد آتاني الله خيرا مما أخذ مني ووعدني المغفرة ( ) . فهذه الآية تدل على أن الكافر إذا أصيب بمصيبة في حال كفره ثم أسلم فإنه يثاب على مصيبته ، فلأن يثاب على ما سلف منه من أعماله الصالحة أولى ؛ فإن المصائب يثاب على الصبر عليها والرضى بها ، وأما نفس المصيبة ( 202 – ب / ف ) فقد قيل : إنه يثاب عليها ، وقيل : إنه لا يثاب عليها ؛ وإنما يكفر عنه ذنوبه . وهذا هو المنقول عن كثير من الصحابة .
والمعنى الثاني – مما يفسر به إحسان الإسلام - : أن تقع طاعات المسلم على أكمل وجوهها وأتمها بحيث يستحضر العامل في حال عمله قرب الله منه واطلاعه عليه فيعمل له على المراقبة والمشاهدة لربه بقلبه . وهذا هو الذي فسر النبي صلى الله عليه وسلم به الإحسان في حديث سؤال جبريل عليه السلام .
وقد دل حديث أبي سعيد وحديث أبي هريرة المذكوران على أن مضاعفة الحسنات للمسلم بحسب حسن إسلامه.
وخرج ابن أبي حاتم( ) من رواية عطية العوفي ، عن ابن عمر قال : نـزلت  مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [ الأنعام : 160 ] في الأعراب فقال رجل : يا أبا عبد الرحمن ! فما للمهاجرين ؟ قال : ما هو أكثر ثم تلا قوله  وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا  [ النساء : 40 ] . ويشهد لهذا المعنى : ما ذكره الله عز وجل في حق أزواج نبيه فقال  يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَة  إلى قوله  وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ [ الأحزاب: 30 – 32] فدل على أن من عظمت منـزلته ودرجته عند الله فإن عمله يضاعف له أجره .
وقد تأول بعض السلف من بني هاشم دخول آل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى لدخول أزواجه ؛ فلذلك ( ) من حسن إسلامه بتحقيق إيمانه وعمله الصالح فإنه يضاعف له أجر عمله بحسب حسن إسلامه وتحقيق إيمانه وتقواه والله أعلم .
ويشهد لذلك : أن الله ضاعف لهذه الأمة لكونها خير أمة أخرجت للناس أجرها مرتين ، قال الله تعالى  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ  [ الحديد : 28 ] .
وفي الحديث الصحيح : " إن أهل التوراة عملوا إلى نصف النهار على قيراط قيراط ، وعمل أهل الإنجيل إلى العصر على قيراط قيراط ، وعملتم أنتم من العصر إلى غروب الشمس على قيراطين فغضبت اليهود والنصارى وقالوا: ما لنا أكثر عملا وأقل أجرا ؟ ! فقال الله : هل ظلمتكم من أجوركم شيئا ؟ قالوا : لا ، قال : فذلك فضلي أوتيه من أشاء ( ) .
وأما من أحسن عمله وأتقنه وعمله على الحضور والمراقبة ، فلا ريب أنه يتضاعف بذلك أجره وثوابه في هذا العمل بخصوصه على من عمل ذلك العمل بعينه على وجه السهو والغفلة . ولهذا روي في حديث عمار المرفوع : " إن الرجل ينصرف من صلاته وما كتب له إلا نصفها ، إلا ثلثها ، إلا ربعها ، حتى بلغ العشر ( ) ؛ فليس ثواب من كتب له عشر عمله كثواب من كتب له نصف ولا ثواب من كتب له نصف عمله كثواب من كتب له عمله كله، والله أعلم
32- فصل ( )
خرج البخاري ومسلم ( ) من حديث :
43- عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة فقال : " من هذه " فقالت ( ) : فلانة – تذكر من صلاتها – فقال( ) : " مه ، عليكم بما تطيقون ، فوالله لا يمل الله حتى تملوا " . وكان أحب الدين إليه : مادام عليه صاحبه .
وقد ورد في رواية أخرى مخرجة في غير هذا الموضع أن هذه المرأة اسمها : الحولاء بنت تويت ( ) ( 203 – أ / ف ) وأن عائشة قالت عنها : زعموا أنها لا تنام الليل " ( ) . وقول النبي صلى الله عليه وسلم " مه " زجر لعائشة عن قولها عن هذه المرأة في كثرة صلاتها وأنها لا تنام الليل وأمر لها بالكف عما قالته في حقها ؛ فيحتمل أن ذلك كراهية للمدح في وجهها ؛ حيث كانت المرأة حاضرة ، ويحتمل – وهو الأظهر وعليه يدل سياق الحديث – أن النهي إنما هو لمدحها بعمل ليس بممدوح في الشرع وعلى هذا فكثيرا ما يذكر في مناقب العباد من الاجتهاد المخالف للشرع ينهى عن ذكره على وجه التمدح به والثناء به على فاعله ، وقد سبق شرح هذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم : " الدين يسر " ( ) .
فإن المراد بهذا الحديث : الاقتصاد في العمل والأخذ منه بما يتمكن صاحبه من المداومة عليه ، وأن أحب العمل إلى الله مادام صاحبه عليه وإن قل . وقد روي ذلك في حديث آخر . وكذلك كان حال النبي صلى الله عليه وسلم كان عمله ديمة ، وكان إذا عمل عملا أثبته . وقد كان ينهى عن قطع العمل وتركه ، كما قال لعبد الله بن عمرو " لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل " ( ) . وقوله " إن الله لا يمل حتى تملوا " ( ) . وفي رواية : " لا يسأم حتى تسأموا " ( ) . الملل والسآمة للعمل يوجب قطعه وتركه ، فإذا سأم العبد من العمل ومله قطعه وتركه فقطع الله عنه ثواب ذلك العمل ؛ فإن العبد إنما يجازى بعمله ، فمن ترك عمله انقطع عنه ثوابه وأجره إذا كان قطعه لغير عذر من مرض أو سفر أو هرم .
كما قال الحسن : إن دور الجنة تبنيها الملائكة بالذكر فإذا فتر العبد انقطع الملك عن البناء فتقول له الملائكة : ما شأنك يا فلان ؟ فيقول : إن صاحبي فتر ، قال الحسن : أمدوهم – رحمكم الله – بالنفقة . وأيضا – فإن دوام العمل وإيصاله ربما حصل للعبد به في عمله الماضي ما لا يحصل له فيه عند قطعه ؛ فإن الله يحب مواصلة العمل ومداومته ، ويجزي على دوامه ما لا يجزي على المنقطع منه .
وقد صح هذا المعنى في الدعاء وأن العبد يستجاب له ما لم يعجل فيقول : قد دعوت فلم يستجب لي ، فيدع الدعاء ، فدل هذا على أن العبد إذا أدام الدعاء وألح فيه أجيب وإن قطعه واستحسر منع إجابته وسمي هذا المنع من الله مللا وسآمة مقابلة للعبد على ملله وسآمته ، كما قال تعالى  نسوا الله فنسيهم  [ التوبة : 67 ] فسمى إهمالهم وتركهم نسيانا مقابلة لنسيانهم له . هذا أظهر ماقيل في هذا . ويشهد له : أنه قد روي من حديث عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اكلفوا من العمل ما تطيقون ؛ فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل " . خرجه بقي بن مخلد ؛ وفي إسناده : موسى بن عبيدة . وقد قيل : إن " حتى " هاهنا بمعنى واو العطف ؛ ولكن لا يصح دعوى كون " حتى " عاطفة ؛ لأنها إنما تعطف المفردات لا الجمل ، هذا هو المعروف عند النحويين ، وخالف فيه بعضهم . وقيل : إن " حتى " فيه بمعنى " حين " ، وهذا غير معروف . وزعم ابن قتيبة أن المعنى : " لا يمل إذا مللتم " ، وزعم أن هذا الاستعمال معروف في كلام العرب ، وقد يقال : إن " حتى " بمعنى لام التعليل ، وأن المراد أن الله لا يمل لكي تملوا أنتم من العمل . وفيه بعد – أيضا . ولو كان كذلك لقال : حتى لا تملوا ، ويكون التعليل – حينئذ – بإعلامهم بأن الله لا يمل من العطاء ، فيكون إخبارهم بذلك مقتضيا ( 203 – ب / ف ) لمدوامتهم على العمل وعدم مللهم وسآمتهم .
و قد يقال : إنما يدل هذا الكلام عل نسبة الملل والسآمة إلى الله بطريق مفهوم الغاية . و من يقول : إنه لا مفهوم لها فإنه يمنع من دلالة الكلام على ذلك بالكلية . ومن يقول ذلك بالمفهوم فإنه يقول : متى دل الدليل على انتقائه لم يكن مرادا من الكلام . وقد دلت الأدلة عل انتفاء النقائص والعيوب عن الله تعالى ، ومن جملة ذلك : لحوق السآمة والملل له .
ولكن بعض ( ) أصحابنا ذكر أن دلالة مفهوم الغاية كالمنطوق ؛ بمعنى أنه لا يجوز أن يكون ما يعد الغاية موافقا لما قبلها بمفهوم الموافقة أو غيره . فعلى قوله يتعين في هذا الحديث أحد الأجوبة المتقدمة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
فصل ( )
قال البخاري :
33- باب
زيادة الإيمان ونقصانه . وقول الله تعالى  وَزِدْنَاهُمْ هُدًى  [ الكهف : 13] ،  وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [ المدثر : 31 ] وقال  الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ  [ المائدة : 3 ] فإذا ترك شيئا من الكمال فهو ناقص .
استدل البخاري على زيادة الإيمان ونقصانه بقول الله عز وجل  وَزِدْنَاهُمْ هُدًى  وفي زيادة الهدى إيمان آخر كقوله تعالى  وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى  [ مريم : 76] ، ويفسر هذا الهدى بما في القلوب من الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وتفاصيل ذلك .
ويفسر بزيادة ما يترتب على ذلك من الأعمال الصالحة ، إما القائمة بالقلوب كالخشية لله ومحبته ورجائه والرضا بقضائه والتوكل عليه ونحو ذلك ، أو المفعولة بالجوارح كالصلاة والصيام والصدقة والحج والجهاد والذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك ، وكل ذلك داخل في مسمى الإيمان عند السلف وأهل الحديث ومن وافقهم – كما سبق ذكره .
واستدل – أيضا – بقوله تعالى  وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا  [ المدثر : 31 ] وفي معنى هذه الآية قوله تعالى  وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا  [ الأنفال : 2 ] وقوله  فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا  [ التوبة : 124] . ويفسر الإيمان في هذه الآيات بمثل ما فسر به الهدى في الآيات المتقدمة . واستدل – أيضا – بقول الله عز وجل  {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ  [ المائدة : 3 ] فدل على أن الدين ذو أجزاء يكمل بكمالها وينقص بفوات بعضها ، وهذه الآية نـزلت في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، وقد قيل : إنه لم ينـزل بعدها حلال ولا حرام – كما قال السدي ( ) وغيره
وكذا قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : بعث الله نبيه بشهادة أن لا إله إلا الله ، فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة ، فلما صدقوا بها زادهم الصيام ، فلما صدقوا به زادهم الزكاة ، فلما صدقوا بها زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد ، ثم أكمل الله لهم دينهم فقال  الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ( ) [ المائدة : 3 ] .
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يحجوا حجة الفرض إلا ذلك العام ، فلما حجوا حجة الإسلام كمل لهم الدين بتكميلهم أركان الإسلام – حينئذ – ولم يكن الدين قبل ذلك ناقصا كنقص من ترك شيئا من واجبات دينه ؛ بل كان الدين في كل زمان كاملا بالنسبة إلى ذلك الزمان بما فيه من الشرائع والأحكام ما لم يكن قبل ذلك ، كما يقال : إن شريعة الإسلام أكمل من شريعة موسى وعيسى ، وإن القرآن أكمل من التوراة ( 204 – أ / ف ) والإنجيل ، وهذا كما سمى النبي صلى الله عليه وسلم النساء ناقصات دين وفسر نقصان دينهن بترك الصلاة والصيام في زمن حيضهن مع أنها قائمة في تلك الحال بما وجب عليها من غير الصلاة ؛ ولكن نقصان دينها بالنسبة إلى من هي طاهرة تصلي وتصوم . وهذا مبني على أن الدين هو الإسلام بكماله – كما تقدم ذكره – والبخاري عنده أن الإسلام والإيمان واحد – كما تقدم ذكره .
وقد احتج سفيان بن عيينة وأبو عبيد وغيرهما بهذه الآية على تفاضل الإيمان ( ) ، قال أبو عبيد : قد أخبر الله أنه أكمل الدين في حجة الوداع في آخر الإسلام ، وزعم هؤلاء أنه كان كاملا قبل ذلك بعشرين سنة في أول نـزول الوحي ، قال : وقد اضطر بعضهم حين أدخلت عليه هذه الحجة إلى أن قال : الإيمان ليس هو مجموع الدين ؛ ولكن الدين ثلاثة أجزاء ، فالإيمان جزء ، والفرائض جزء ، والنوافل جزء . قال أبو عبيد : وهذا غير ما نطق به الكتاب ؛ فإن الله أخبر أن الإسلام هو الدين برمته ، وزعم هؤلاء أنه ثلث الدين . انتهى .
فالمرجئة عندنهم : الإيمان : التصديق ، ولا يدخل فيه الأعمال ، وأما الدين : فأكثرهم أدخل الأعمال في مسماه، وبعضهم خالف في ذلك – أيضا - ، والآية نص في رد ذلك ، والله أعلم .
ثم خرج البخاري في هذا الباب حديثين : أحدهما : حديث :
44- هشام الدستوائي : ثنا قتادة ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي فلبه ( ) وزن برة من خير ويخرج من النار من قال : لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير ".
خرجه عن مسلم بن إبراهيم ، عن هشام به ، ثم قال : قال أبان : ثنا قتادة : ثنا أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم " من إيمان " مكان " خير " ( ) ففي هذه الرواية التي ذكرها تعليقا صريحا بتفاوت الإيمان الذي في القلوب – وأيضا – فيها التصريح بسماع قتادة له من أنس ، فزال ما كان يتوهم من تدليس قتادة . وقد خرج البخاري هذه اللفظة في حديث أنس في أواخر كتابه مسنده من رواية معبد بن هلال العنـزي ، عن أنس ( ) . وخرج حديث أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى – فبما تقدم من كتابه ( ) – باختلاف لفظ الخير والإيمان كاختلاف حديث أنس .
والحديث نص في تفاوت الإيمان الذي في القلوب ، وقد سبق القول في تفاوت المعرفة وتفاضلها – فيما تقدم ( ).
الحديث الثاني الذي خرجه في هذا الباب : حديث :
45- طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب أن رجلا من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين ! آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نـزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ، قال : أي آية ؟ قال :  الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا  [ المائدة : 3 ] ، فقال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نـزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم ، نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة يوم الجمعة .
وقد خرجه ابن جرير الطبري في تفسيره ( ) من وجه آخر عن عمر ، وزاد فيه أنه قال : وكلاهما بحمد الله لنا عيد .
وخرج الترمذي ، عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية وعنده يهودي فقال : لو أنـزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدا ، فقال ابن عباس : فإنها نـزلت في يوم عيدين : يوم جمعة ويوم عرفة ( ) . ( 204 – ب / ف )
فهذا قد يؤخذ من أن الأعياد لا تكون بالرأي والاختراع كما يفعله أهل الكتابين من قبلنا ؛ إنما تكون بالشرع والاتباع ، فهذه الآية لما تضمنت إكمال الدين وإتمام النعمة أنـزلها الله في يوم شرعه عيدا لهذه الأمة من وجهين :
أحدهما : أنه يوم عيد الأسبوع وهو يوم الجمعة .
والثاني : أنه يوم عيد أهل الموسم وهو يوم مجمعهم الأكبر وموقفهم الأعظم ، وقد قيل : أنه يوم الحج الأكبر .
وقد جاء تسمية عيدا من حديث مرفوع خرجه أهل السنن من حديث عقبة بن عامر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام ، وهي أيام أكل وشرب " ( ) .
وقد أشكل وجهه على كثير من العلماء ؛ لأنه يدل على أن يوم عرفة يوم عيد لا يصام ، كما روي ذلك عن بعض المتقدمين ، وحمله بعضهم على أهل الموقف وهو الأصح لأنه اليوم الذي فيه أعظم مجامعهم ومواقفهم بخلاف أهل الأمصار فإن اجتماعهم يوم النحر ، وأما أيام التشريق فيشارك أهل الأمصار أهل الموسم فيها ؛ لأنها أيام ضحاياهم وأكلهم من نسكهم . هذا قول جمهور العلماء .
وقال عطاء : إنما هي أعياد لأهل الموسم ، فلا ينهى أهل الأمصار عن صيامها . وقول الجمهور أصح . ولكن الأيام التي يحدث فيها حوادث من نعم الله على عباده لو صامها بعض الناس شكرا من غير اتخاذها عيدا كان حسنا استدلالا بصيام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء لما أخبره اليهود بصيام موسى له شكرا ، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن صيام يوم الاثنين ، قال : " ذلك يوم ولدت فيه وأنـزل علي فيه " ( ) .
فأما الأعياد التي يجتمع عليه الناس فلا يتجاوز بها شرعه الله لرسوله وشرعه الرسول لأمته . والأعياد : هي مواسم الفرح والسرور ؛ وإنما شرع الله لهذه الأمة الفرح والسرور بتمام نعمته وكمال رحمته ، كما قال تعالى  قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ  [ يونس : 58 ] فشرع لهم عيدين في سنة وعيدا في كل أسبوع ، فأما عيدا السنة :
فأحدهما : تمام صيامهم الذي افترضه عليهم كل عام ، فإذا أتموا صيامهم أعتقهم من النار ، فشرع لهم عيدا بعد إكمال صيامهم وجعله يوم الجوائز يرجعون فيه من خروجهم إلى صلاتهم وصدقتهم بالمغفرة وتكون صدقة الفطر وصلاة العيد ( ) شكرا لذلك .
والعيد الثاني : أكبر العيدين عند تمام حجهم بإدراك حجهم بالوقوف بعرفة وهو يوم العتق من النار ، ولا يحصل العتق من النار والمغفرة للذنوب والأوزار في يوم من أيام السنة أكثر منه ، فجعل الله عقب ذلك عيدا ؛ بل هو العيد الأكبر ، فيكمل أهل الموسم فيه مناسكهم ويقضوا فيه تفثهم ويوفون نذورهم ويطوفون بالبيت العتيق ويشاركهم أهل الأمصار في هذا العيد ؛ فإنهم يشاركونهم في يوم عرفة في العتق والمغفرة وإن لم يشاركوهم في الوقوف بعرفة ، لأن الحج فريضة العمر لا فريضة كل عام ، بخلاف الصيام ويكون شكر ( ) عند أهل الأمصار : الصلاة والنحر ، والنحر أفضل من الصدقة التي في يوم الفطر ؛ ولهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشكر نعمته عليه بإعطائه الكوثر بالصلاة له والنحر كما شرع ذلك لإبراهيم خليله عليه السلام عند أمره بذبح ولده وافتدائه بذبح عظيم .
وأما ( 205 0 أ / ف ) عيد الأسبوع : فهو يوم الجمعة ، وهو متعلق بإكمال فريضة الصلاة ؛ فإن الله فرض على عباده المسلمين الصلاة كل يوم وليلة خمس مرات ، فإذا كملت أيام الأسبوع التي تدور الدنيا عليها وأكملوا صلاتهم فيها شرع لهم يوم إكمالها – وهو اليوم الذي انتهى فيه الخلق وفيه خلق آدم وأدخل الجنة – عيدا يجتمعون فيه على صلاة الجمعة ، وشرع لهم الخطبة تذكيرا بنعم الله عليهم وحثا لهم على شكرها ، وجعل شهود الجمعة بأدائها كفارة لذنوب الجمعة كلها وزيادة ثلاثة أيام . وقد روي أن يوم الجمعة أفضل من يوم الفطر ويوم النحر . خرجه الإمام أحمد في " مسنده " ( ) ، وقال مجاهد وغيره . وروي أنه حج المساكين ( ) ، وروي عن علي أنه يوم نسك المسلمين . وقال ابن المسيب : الجمعة أحب إلي من حج التطوع . وجعل الله التبكير إلى الجمعة كالهدي ؛ فالمبكر في أول ساعة كالمهدي بدنة ، ثم كالمهدي بقرة ، ثم كالمهدي كبشا ، ثم كالمهدي دجاجة . ثم كالمهدي بيضة . ويوم الجمعة يوم المزيد في الجنة الذي يزور أهل الجنة فيه ربهم ويتجلى لهم في قدر صلاة الجمعة . وكذلك روي في يوم العيدين أن أهل الجنة يزورون ربهم فيهما وأنه يتجلى فيهم لأهل الجنة عموما يشارك الرجال فيها النساء . فهذه الأيام أعياد للمؤمنين في الدنيا والآخرة عموما .
وأما خواص المؤمنين : فكل يوم لهم عيد كما قال بعض العارفين . وروي عن الحرم ( ) : كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد . ولهذا روي أن خواص أهل الجنة يزورون ربهم وينظرون إليه كل يوم مرتين بكرة وعشيا . وقد خرجه الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعا وموقوفا ( ) .
ولهذا المعنى – والله أعلم – لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرؤية في حديث جرير ابن عبد الله البجلي ( ) أمر عقب ذلك بالمحافظة على الصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ؛ فإن هذين الوقتين وقت رؤية خواص أهل الجنة ربهم ، فمن حافظ على هاتين الصلاتين على مواقيتها وأدائهما وخشوعهما وحضور القلب فيهما رجي له أن يكون ممن ينظر إلى الله في الجنة في وقتهما .
فتبين بهذا : أن الأعياد تتعلق بإكمال أركان الإسلام ؛ فالأعياد الثلاثة المجتمع عليها تتعلق بإكمال الصلاة والصيام والحج ؛ فأما الزكاة : فليس لها زمان معين تكمل فيه ، وأما الشهادتان : فإكمالهما هو الاجتهاد في الصدق فيهما ، وتحقيقهما والقيام بحقوقهما . وخواص المؤمنين يجتهدون على ذلك كل يوم ووقت ؛ فلهذا كانت أيامهم كلها أعياد ، ولذلك كانت أعيادهم في الجنة مستمرة ، والله أعلم .
30 – فصل ( )
خرج البخاري ومسلم ( ) من حديث :
40- أبي إسحاق ، عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نـزل على أجداده – أو قال : أخواله – من الأنصار وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا - أو سبعة عشر شهرا وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وأنه ( ) أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال : أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت وكانت اليهود ( ) أعجبهم إذ كان يصلي ( 205 – ب / ف ) قبل بيت المقدس وأهل الكتاب ، فلما ولى وجهته قبل البيت أنكروا ذلك . قال زهير : ثنا أبو إسحاق ، عن البراء في حديثه هذا أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم ، فأنـزل الله تعالى  وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم  [ البقرة : 143] ْ قال البخاري : يعني صلاتكم ( ) .
وبوب على هذا الحديث : باب " الصلاة من الإيمان " ( ) . والأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم فيهم نسب ؛ فإنهم أجداده وأخواله من جهة جد أبيه هاشم بن عبد مناف ؛ فإنه تزوج بالمدينة امرأة من بني عدي بن النجار يقال لها سلمى ، فولدت له ابنه عبد المطلب وفي رأسه شيبة فسمي شيبة ، وذكر ابن قتيبة أن اسمه عامر .
والصحيح أن اسمه شيبة ؛ وإنما قيل له عبد المطلب لأن عمه المطلب بن عبد مناف قدم به من المدينة على مكة فقالت قريش : هذا عبد المطلب . فقال : ويحكم ؛ إنما هو ابن أخي شيبة بن عمرو ، وهاشم اسمه عمرو . ففي حديث البراء هذا : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة نـزل على أجداده – أو قال : أخواله – من الأنصار ، وظاهره يدل على أنه نـزل على بني النجار ؛ لأنهم هم أخواله وأجداده ؛ وإنما أراد البراء جنس الأنصار دون خصوص بني النجار . وقد خرج البخاري في كتاب "الصلاة " ( ) و" أبواب الهجرة " ( ) من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة نـزل في علو المدينة في حي يقال لهم : بنو عمرو بن عوف ، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة ، ثم أرسل إلى ملإ بني النجار فجاءوا متقلدين سيوفهم ، قال : وكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب ، وذكر الحديث .
وخرج – أيضا – معنى ذلك من حديث الزهري ، عن عروة بن الزبير . وأما ما ذكر البراء في حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة قبل بيت المقدس ست عشر أو سبعة عشر شهرا ( ) : فهذا شك منه في مقدار المدة . وروي عن ابن عباس أن مدة صلاته بالمدينة غلي بيت المقدس كانت ستة عشر شهرا . خرجه أبو داود ( ) . وخرج – أيضا – من حديث معاذ أن مدة ذلك كان ثلاثة عشر شهرا ( ) .
وروي كثير بن عبد الله المزني – وهو ضعيف - ، عن أبيه ، عن جده عمرو بن عوف قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس سبعة شهرا ( ) . وقال سعيد بن المسيب : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس تسعة عشر شهرا ، ثم حولت القبلة بعد ذلك قبل المسجد الحرام قبل بدر بشهرين . ورواه بعضهم عن سعيد ، عن سعد بن أبي وقاص . والحفاظ يرون أنه لا يصح ذكر سعد بن أبي وقاص فيه ( ) . وقيل عن سعيد بن المسيب في هذا الحديث : ستة عشر شهرا ( ) . وكذا قال محمد بن كعب القرظي وقتادة ابن زيد وغيرهم أن مدة صلاته إلى بيت المقدس كانت ستة عشر شهرا. وقال الواقدي : الثبت عندنا أن القبلة حولت إلى الكعبة يوم الاثنين للنصف من رجب على رأس سبعة عشرة شهرا ( ) . وعن السدي : أن ذلك كان على رأس ثمانية عشر شهرا ( ) . و قيل : كان بعد خمسة عشر شهرا ونصف . ولا خلاف أن ذلك كان في السنة الثانية من الهجرة ؛ لكن اختلفوا ( 206 – أ / ف ) في أي شهر كان ؟ فقيل : في رجب – كما تقدم . وحكي ذلك عن الجمهور ( ) ، منهم ابن إسحاق ( ) . وقيل في يوم الثلاثاء نصف شعبان . وحكي عن قتادة ، واختاره محمد بن حبيب الهاشمي وغيره وقيل : بل كان في جمادي الأول ( ) . وحكي عن إبراهيم الحربي ، ورواه الزهري ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك . وقوله " وكان يعجبه " يعني : النبي صلى الله عليه وسلم – " أن تكون قبلته قبل البيت " – يعني الكعبة – هذا يشهد له قول الله تعالى  قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ  [ البقرة : 144] .
و روى معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة – وكان أكثر أهلها اليهود – أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم ، فكان يدعو وينظر إلى السماء فأنـزل الله  قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء  الآية( ) [ البقرة : 144 ]
قال مجاهد : إنما كان يجب أن يحول إلى الكعبة ؛ لأن يهود قالوا : يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا ( ) ؟ ! . وقال ابن زيد : لما نـزلت  فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ  [ البقرة : 115 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هؤلاء قوم يهود يستقبلون بيتا من بيوت الله – لبيت المقدس – لو أنا استقبلناه " فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا ، فبلغه أن اليهود تقول : والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ورفع وجهه إلى السماء ، فنـزلت هذه الآية  قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء  ( ) . ويشهد لهذا : ما في حديث البراء : " وكانت اليهود قد أعجبتهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب – يعني من غير اليهود، وهم النصارى – فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك " .
وقد اختلف الناس هل كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل هجرته يصلي إلى بيت المقدس أو إلى الكعبة ؟ . فروى عن ابن عباس : إنه كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه . خرجه الإمام أحمد ( ) . وقال ابن جريج : صلى أول ما صلى إلى الكعبة ، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة ، فصلت الأنصار قبل قدومه صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ثلاث حجج وصلى بعد قدومه ستة عشر شهرا ، ثم وجهه الله إلى البيت الحرام . وقال قتادة : صلت الأنصار قبل قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة نحو بيت المقدس حولين . واستدل من قال : إنما صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا فدل على أنه لم يصل إليه غير هذه المدة ( ) . لكن يقال : إنه إنما أراد بعد الهجرة . ويدل عليه – أيضا - : أن جبريل صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم أول ما فرضت الصلاة عند باب البيت ، والمصلي عند باب البيت لا يستقبل بيت المقدس إلا أن ينحرف عن الكعبة بالكلية ويجعلها عن شماله . ولم ينقل هذا أحد [ ..... ]( ) . وهؤلاء منهم من قال : ذلك كان باجتهاد منه لا بوحي – كما تقدم عن ابن زيد . وكذا قال أبو العالية : إنه صلى إلى بيت المقدس يتألف أهل الكتاب . وفي " صحيح الحاكم " ( ) عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس :  وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [ البقرة : 115 ] فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ( 206 – ب /ف ) فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق فقال الله تعالى  سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا  [ البقرة : 142 ] يعنون : بيت المقدس ، فنسخها الله وصرفه إلى البيت العتيق .
وقال : صحيح على شرطهما . وليس كما قال ؛ فإن عطاء هذا هو الخراساني ، ولم يلق ابن عباس ؛ كذا وقع مصرحا بنسبته في كتاب " الناسخ والمنسوخ " لأبي عبيد ، ولابن أبي داود وغيرهما . وقول البراء " وكان أول صلاة صلاها العصر " يعني إلي الكعبة بعد الهجرة . وقد روي عن عمارة بن أوس – وكان قد صلى القبلتين – قال : كنا في إحدى صلاتي العشي ونحن نصلي على بيت المقدس وقد قضينا بعض الصلاة إذ نادى مناد بالباب : إن القبلة قد حولت ، فأشهد على إمامنا أنه تحرف . خرجه الأثرم وغيره ( ) .
وخرج الأثرم وابن أبي حاتم من حديث تويلة بنت أسلم قالت : صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثه فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين ثم جاءنا من يخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء ، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلو البيت الحرام( ) .
وقد روي أن هذه الصلاة كانت صلاة الفجر ؛ ففي " الصحيحين " عن ابن عمر قال : بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنـزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم على الشام فاستداروا إلى الكعبة ( ) .
وخرج مسلم معناه من حديث أنس – أيضا ( ) . وقد قيل في الجمع بين هذه الأحاديث : إن التحويل كان في صلاة العصر ولم يبلغ أهل قباء إلا في صلاة الصبح . وفيه نظر . وقيل : إن تلك الصلاة كانت الظهر . وقد خرجه النسائي في " تفسيره " من حديث أبي سعيد بن المعلى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ( ) . وروي عن مجاهد . وحديث البراء يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة العصر كلها إلى الكعبة وأن الذين صلوا إلى بيت المقدس ثم استداروا إلى الكعبة هم قوم كانوا في مسجد لهم وراء إمام لهم .
وفي حديث ابن عمر : أنهم أهل مسجد قباء ، وفي حديث تويلة : مسجد بني حارثة . وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ومن صلى معه هم الذين استداروا في صلاتهم وأن الكعبة حولت في أثناء صلاتهم . وقد روي نحوه عن مجاهد وغيره . وقد ذكر ابن سعد في كتابه قال : يقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين ، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام واستدار إليه ودار معه المسلمون ( ) . ويقال : بل زار رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة فصنعت لهم طعاما وكانت الظهر فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ركعتين ، ثم أمر أن يوجه إلى الكعبة فاستدار إلى الكعبة واستقبل الميزاب ، فسمي المسجد القبلتين ( ) .
وحكي عن الواقدي أنه قال : هذا الثبت عندنا . وروى أبو مالك النخعي عبد الملك بن حسين ، عن زياد بن علاقة ، عن عمارة بن رويبة قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشي حين صرفت القبلة فدار النبي صلى الله عليه وسلم ودرنا معه في ركعتين . خرجه ابن أبي داود . وأبو مالك : ضعيف جدا . والصواب : رواية قيس بن الربيع ، عن زياد بن ( 207 – أ / ف ) علاقة عن عمارة بن أوس ، وقد سبق لفظه ( ).
وروى عثمان بن سعد قال : ثنا أنس بن مالك قال : انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس وهو يصلي الظهر وانصرف بوجهه إلى القبلة . خرجه البزار( ) . وغيره . وعثمان هذا متكلم فيه ( ) . وخرج الطبراني من رواية عمارة بن زاذان ، عن ثابت ، عن أنس . قال : صرف النبي صلى الله عليه وسلم عن القبلة وهم في الصلاة فانحرفوا في ركوعهم ( ) .
وعمارة ليس بالقوي ( ) . وخالف حماد بن سلمة ؛ فروى عن ثابت ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس فنـزلت  قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء  الآية [ البقرة : 144 ] فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر فنادى : ألا إن القبلة قد حولت ، فمالوا – كما هم – نحو القبلة . خرجه مسلم ( ) وهذا هو الصحيح .
فإن كان التحويل قد وقع في أثناء الصلاة وقد بنى النبي صلى الله عليه وسلم على ما مضى من صلاته إلى بيت المقدس استدل بذلك على أن الحكم إذا تحول المصلي( ) في أثناء صلاته انتقل ما تحول إليه وبنى على ما مضى من صلاته . فيدخل في ذلك الأمة إذا عتقت في صلاتها وهي مكشوفة الرأس والسترة قريبة ، والمتيمم إذا وجد الماء في صلاته قريبا وقدر على الطهارة به ،والمرض إذا صلى بعض صلاته قاعدا ثم قدر على القيام .
وإن كان التحويل وقع قبل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ؛ ولكن لم يبلغ غيرهم إلا في أثناء صلاتهم فبنوا ، استدل به على أن من دخل في صلاته باجتهاد سائغ إلى جهة ثم تبين له الخطأ في أثناء الصلاة أنه ينتقل ويبني . ويستدل به على أن حكم الخطاب لا يتعلق بالمكلف قبل بلوغه إياه ، ويستدل به – على التقديرين – على قبول خبر الواحد الثقة في أمور الديانات مع إمكان السماع من الرسول صلى الله عليه وسلم بغير واسطة ، فمع تعذر ذلك أولى وأحرى . وما يقال من أن هذا يلزم منه نسخ المتواتر – وهو الصلاة إلى بيت المقدس – بخبر الواحد ، فالتحقيق في جوابه : أن خبر الواحد يفيد العلم إذا احتفت به القرائن ؛ فنداء صحابي في الطرق والأسواق بحيث يسمعه المسلمون كلهم بالمدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها موجود لا يتداخل من سمعه شك فيه أنه صادق فيما يقوله وينادي به ، والله أعلم .
وقول البراء : أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم يدر ما يقول فيهم فأنـزل لله  وما كان الله ليضيع إيمانكم  [ البقرة : 143] : فهذا خرجه مسلم من طريق إسرائيل ( ) ، عن أبي إسحاق ، عن البراء – أيضا.
ورواه شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء موقوفا في قوله تعالى  وما كان الله ليضيع إيمانكم  قال : صلاتكم إلى بيت المقدس ( ) .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصححه من حديث سماك عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما وجه النبي صلى الله عليه وسلم على الكعبة قالوا : يا رسول الله ! كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون على بيت المقدس ؟ فأنـزل الله عز وجل  وما كان الله ليضيع إيمانكم  الآية ( ) . قال عبيد الله بن موسى : هذا الحديث يخبرك أن الصلاة من الإيمان . وهذا هو الذي بوب عليه البخاري في هذا الموضع ؛ ولأجله ساق حديث البراء فيه . وكذلك استدل ابن عيينه وغيره من العلماء على أن الصلاة من الإيمان ( ) . وممن روي عنه أنه فسر هذه الآية بالصلاة إلى بيت المقدس : ابن عباس – من رواية العوفي - ، عنه ، وسعيد بن المسيب ، وابن زيد ، والسدي ، وغيرهم ( ) .
وقال قتادة ، والربيع بن أنس : نـزلت هذه الآية لما ( 207 – ب / ف ) قال قوم من المسلمين : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى ؟( ) . وهذا يدل على أن المراد بها الصلاة – أيضا _ ؛ لأنها هي التي تختص بالقبلة من بين الأعمال . ولم يذكر أكثر المفسرين في هذا خلافا وأن المراد بالإيمان هاهنا الصلاة ؛ فإنها علم الإيمان وأعظم خصاله البدنية . وروى ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة – أو سعيد بن جبير - ؛ عن ابن عباس  وما كان الله ليضيع إيمانكم  قال : أي القبلة الأولى ، وتصديقكم نبيكم واتباعه إلى الآخرة أي : ليعطينكم أجرهما جميعا ، إن الله بالناس لرءوف رحيم ( ) .
وعن الحسن في هذه الآية قال : ما كان الله ليضيع محمدا صلى الله عليه وسلم وانصرافكم معه حيث انصرف ؛ إن الله بالناس لرءوف رحيم . وهذا القول يدل على أن المراد بالإيمان التصديق مع الانقياد والاتباع المتعلق بالقبلتين معا فيدخل في ذلك الصلاة – أيضا .

فصل ( )
قال البخاري :
36- باب ( )
خوف المؤمن ( ) أن يحبط عمله وهو لا يشعر . وقال إبراهيم التميمي : ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا . وقال ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ، ما منهم أحد يقول : إنه على إيمان جبريل وميكائيل . ويذكر عن الحسن : ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق . وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى  وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون  [ آل عمران : 135 ] .
مراد البخاري بهذا الباب : الرد عل المرجئة بأن المؤمن يقطع لنفسه بكمال الإيمان وأن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل وأنه لا يخاف على نفسه النفاق العملي مادام مؤمنا . فذكر عن إبراهيم التيمي أنه قال : ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا . وهذا معروف عنه ، وخرجه جعفر الفريابي بإسناد صحيح عنه ولفظه : " ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون كذابا " ( ) .
ومعناه : أن المؤمن يصف الإيمان بقوله ، وعمله نقص عن وصفه ، فيخشى على نفسه أن يكون عمله مكذبا لقوله ، كما روي عن حذيفة أنه قال : المنافق : الذي يصف الإسلام ولا يعمل به . وعن عمر قال : إن أخوف ما أخاف عليكم المنافق العليم ، قالوا : وكيف يكون المنافق عليما ؟ قال : يتكلم بالحكمة ويعمل بالجور أو قال بالمنكر( ) . وقال الجعد أبو عثمان : قلت لأبي رجاء العطاردي : هل أدركت من أدركت من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخشون النفاق قال : نعم ، إني أدركت بحمد الله منهم صدرا حسنا ، نعم شديدا نعم شديدا ( ) . وكان قد أدرك عمر .
وممن كان يتعوذ من النفاق من الصحابة : حذيفة ، وأبو الدرداء ، وأبو أيوب الأنصاري ( ) . وأما التابعون : فكثير ، قال ابن سيرين : ما علي شيء أخوف من هذه الآية  وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ  [ البقرة 8 ] . وقال أيوب : كل آية في القرآن فيها ذكر النفاق أخافها على نفسي . وقال معاوية بن قرة: كان عمر يخشاه وآمنه أنا ( ) ؟ . وكلام الحسن في هذا المعنى كثير جدا . وكذلك كلام أئمة الإسلام بعدهم . قال زيد بن الزرقاء ، عن سفيان الثوري : خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاث :
نقول الإيمان قول وعمل ، وهو يقولون : الإيمان قول ولا عمل
ونقول : الإيمان يزيد وينقص ، وهم يقولون : لا يزيد ولا ينقص .
ونحن نقول : النفاق ، وهم يقولون : لا نفاق ( ) .
وقال أبو إسحاق الفزاري ، عن الأوزاعي : قد خاف عمر على نفسه النفاق ( 208 – أ / ف ) قال ( ) : فقلت للأوزاعي : إنهم يقولون : إن عمر لم يخف أن يكون يومئذ منافقا حين سأل حذيفة ؛ لكن خاف أن يبتلى بذلك قبل أن يموت ، قال : هذا قول أهل البدع .
وقال الإمام أحمد – في رواية هانيء وسئل : ما يقول فيمن لا يخاف النفاق على نفسه ؟ ، - فقال : ومن يأمن على نفسه النفاق ؟ ( ) .
وأصل هذا يرجع إلى ما سبق ذكره أن النفاق أصغر وأكبر ؛ فالنفاق الأصغر : هو نفاق العمل وهو الذي خافه هؤلاء على أنفسهم ؛ وهو باب النفاق الأكبر ، فيخشى على من غلب عليه خصال النفاق الأصغر : في حياته أن يخرجه ذلك إلى النفاق الأكبر حتى ينسلخ من الإيمان بالكلية ، كما قال تعالى  فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ  [ الصف : 5 ] وقال  وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّة [ الأنعام : 110 ] .
والأثر الذي ذكره البخاري عن ابن أبي مليكة : هو معروف عنه من رواية الصلت بن دينار عنه ( ) . وفي الصلت ضعف . وفي بعض الروايات : عنه ، عن ابن أبي مليكة قال : أدركت زيادة على خمسمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات أحد منهم إلا وهو يخاف النفاق على نفسه . وأما الأثر الذي ذكره عن الحسن : فقال : ويذكر عن الحسن قال : ما خاف إلا مؤمن ، ولا أمنه إلا منافق ، فهذا مشهور عن الحسن ، صحيح عنه . والعجب من قوله في هذا : ويذكر ، وفي قوله في الذي قبله : وقال ابن أبي مليكة – جزما ( ) .
قال الإمام أحمد في كتاب " الإيمان " له : حدثنا مؤمل قال : سمعت حماد بن زيد قال : ثنا أيوب قال : سمعت الحسن يقول : والله ما أصبح على وجه الأرض مؤمن ولا أمسى على وجهها مؤمن إلا وهو يخاف النفاق على نفسه، وما أمن النفاق إلا منافق .
حدثنا روح بن عبادة قال : ثنا هشام قال : سمعت الحسن يقول : والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا يخاف النفاق ولا أمنه إلا منافق . وروى جعفر الفريابي في كتاب " صفة المنافق " من حديث جعفر بن سليمان ، عن معلى بن زياد قال : سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق ، ولا مضى منافق ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن . قال : وكان يقول : من لم يخف النفاق فهو منافق ( ) .
وعن حبيب بن الشهيد ، عن الحسن قال : إن القوم لما رأوا هذا النفاق يغول الإيمان لم يكن لهم هم غير النفاق( ) .
والروايات في هذا المعنى عن الحسن كثيرة . وقول البخاري بعد ذلك : " وما يحذر من الإصرار عل النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى {وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون  [ آل عمران : 135 ] : فمراده أن الإصرار على المعاصي وشعب النفاق من غير توبة يخشى منها أن يعاقب صاحبها بسلب الإيمان بالكلية وبالوصول إلى النفاق الخالص وإلى سوء الخاتمة ، نعوذ بالله من ذلك ، كما يقال : إن المعاصي بريد الكفر .
وفي " مسند الإمام أحمد " ( ) من حديث عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ك " ويل لأقماع القول ويل للذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون " .
وأقماع القول : الذين آذانهم كالقمع يدخل فيه سماع الحق من جانب ويخرج من جانب آخر لا يستقر فيه .
وقد وصف الله أهل النار بالإصرار على الكبائر فقال وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [ الواقعة : 46 ] والمراد بالحنث : الذنب الموقع في الحنث وهو الإثم . وتبويب البخاري لهذا الباب يناسب ( 208 – ب / ف ) أن يذكر فيه حبوط الأعمال الصالحة ببعض الذنوب كما قال تعالى  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ  [ الحجرات : 2 ] قال الإمام أحمد حدثنا الحسن بن موسى قال : ثنا حماد بن سلمة عن حبيب بن الشهيد ، عن الحسن قال : ما يرى هؤلاء أن أعمالا تحبط أعمالا ، والله عز وجل يقول  لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ  إلى قوله  أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ  . ومما يدل على هذا – أيضا – قول الله عز وجل  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى  الآية [ البقرة : 264 ]، وقال  أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَاب  الآية [ البقرة : 266] . وفي صحيح البخاري " أن عمر سأل الناس عنها فقالوا : الله أعلم فقال ابن عباس : ضربت مثلا لعمل ، قال عمر : لأي عمل ؟ قال ابن عباس : لعمل ، قال عمر : لرجل غني ( ) يعمل بطاعة الله ثم يبعث الله إليه الشيطان فيعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله .
وقال عطاء الخراساني : هو الرجل يختم له بشرك أو عمل كبيرة فيحبط عمله كله . وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من ترك صلاة العصر حبط عمله " ( ) . وفي " الصحيح " – أيضا – أن رجلا قال : والله لا يغفر الله لفلان فقال الله : " من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان ، قد غفرت لفلان وأحبطت عملك " ( ) . وقالت عائشة : أبلغي زيدا أنه أحبط جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب .
وهذا يدل على أن بعض السيئات تحبط بعض الحسنات ، ثم تعود بالتوبة منها .
وخرج ابن أبي حاتم في " تفسيره " من رواية أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع الإخلاص ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل صالح ، فأنـزل الله عز وجل  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم  [ محمد : 33 ] فخافوا الكبائر بعد أن تحبط الأعمال ْ ( ) .
وبإسناده ، عن الحسن في قوله  وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم  قال : بالمعاصي . وعن معمر ، عن الزهري في قوله تعالى وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم  قال الكبائر . وبإسناده ، عن قتادة في هذه الآية قال : من استطاع منكم أن لا يبطل عملا صالحا بعمل سيء فليفعل ولا قوة إلا بالله ؛ فإن الخير ينسخ الشر ، وإن الشر ينسخ الخير ، وإن ملاك الأعمال: خواتيمها ( ) .
وعن السدي قال في هذه الآية يقول : لا تعصوا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمركم به من القتال فتبطل حسناتكم . وعن مقاتل بن حيان قال : بلغنا أنها نـزلت فشقت على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يؤمئذ يرون أنه ليس شيء من حسناتهم إلا هي مقبولة ، فلمت نـزلت هذه الآية قال أبو بكر : ما هذا الذي يبطل أعمالنا . فبلغني – والله أعلم – أنهم ذكروا الكبائر التي وجبت لأهلها النار حتى جاءت الآية الأخرى  إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه شيءِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء  [ النساء : 48 ] ، فقال ابن عمر : لما كانت هذه الآية كففنا عن القول في ذلك ورددنا إلى الله عز وجل ، وكنا نخاف على من ركب الكبائر والفواحش أنها تهلكه ( ) .
والآثار عن السلف في حبوط الأعمال بالكبيرة كثيرة جدا يطول استقصاؤها . حتى قال حذيفة قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة . وخرجه البزار عنه مرفوعا ( ) . ( 209- أ / ف ) . وعن عطاء قال : إن الرجل ليتكلم في غضبه بكلمة يهدم بها عمل ستين سنة أو سبعين سنة . وقال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد ، عنه : ما يؤمن أحدكم أن ينظر النظرة فيحبط عمله . وأما من زعم أن القول بإحباط الحسنات بالسيئات قول الخوارج والمعتزلة خاصة ، فقد أبطل فيما قال ولم يقف عل أقوال السلف الصالح في ذلك . نعم المعتزلة والخوارج أبطلوا بالكبيرة الإيمان وخلدوا بها في النار . وهذا هو القول الباطل الذي تفردوا به في ذلك .ثم خرج البخاري في هذا الباب حديثين:
أحدهما : حديث :
48- شعبة ، عن زبيد قال : سألت أبا وائل عن المرجئة فقال : حدثني عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر " .
فهذا الحديث رد به أبو وائل على المرجئة الذين لا يدخون الأعمال في الإيمان ؛ فإن الحديث يدل على أن بعض الأعمال يسمى كفرا وهو قتال المسلمين ، فدل على أن بعض الأعمال يسمى كفرا وبعضها يسمى إيمانا . وقد اتهم بعض فقهاء المرجئة أبا وائل في رواية هذا الحديث . وأما أبو وائل فليس بمتهم ؛ بل هو الثقة العدل المأمون ، وقد رواه معه عن ابن مسعود – أيضا - : أبو عمر الشيباني ، وأبو الأحوص ( ) وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ( )؛ لكن فيهم من وقفه . ورواه – أيضا – عن النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص ( ) ، وغيره . ومثل هذا الحديث : قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " ( ) .وقد سبق القول في تسمية بعض الأعمال كفرا وإيمانا مستوفى في مواضع .
قال أبو الفرج زين الدين بن رجب . وقد ظهر لي في القرآن شاهد لتسمية القتال كفرا ، وهو قوله تعالى مخاطبا لأهل الكتاب  وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفدُوهُم ْ( ) وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض  [ البقرة : 83-85] .
والمعنى : أن الله حرم على أهل الكتاب أن يقتل بعضهم بعضا أو يخرج بعضهم بعضا من داره ، كان اليهود حلفاء الأوس والخزرج بالمدينة ، فكان إذا وقع بين الأوس أوالخزرج وبين اليهود قتال ساعد كل فريق من اليهود بحلافه من الأوس والخزرج على أعدائهم فقتلوهم معهم وأخرجوهم معهم من ديارهم بعد أن حرم عليهم ذلك في كتابهم وأقروا به وشهدوا به ، ثم بعد أن يوسر أولئك اليهود يفدوهم هؤلاء الذين قاتلوهم امتثالا لما أمروا به في كتابهم من افتداء الأسرى منهم ، فسمى الله عز وجل فعلهم للافتداء لإخوانهم إيمانا بالكتاب وسمى قتلهم وإخراجهم من ديارهم كفرا بالكتاب ؛ فدلت هذه الآية عل أن القتال و الإخراج من الديار إذا كان محرما يسمى كفرا ، وعل أن فعل بعض الطاعات يسمى إيمانا ؛ لأنه سمى افتداءهم للأسارى إيمانا ؛ وهذا حسن جدا ، ولم أر أحدا من المفسرين تعرض له ، ولله الحمد والمنة .
الحديث الثاني :
49- عبادة بن الصامت أن النبي ( ) صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين ، فقال : " إني خرجت لأخبركم بليلة القدر ، وإنه تلاحى فلان وفلان ( 209 – ب /ف ) فرفعت فعسى( ) أن يكون خيرا لكم ، التمسوها في السبع والتسع والخمس " .
50- إنما خرج البخاري هذا الحديث في هذا الباب لذكر التلاحي .
والتلاحي : قد فسر بالسباب ، وفسر بالاختصام والمماراة من دون سباب . ويؤيد هذا : أنه جاء في رواية في " صحيح مسلم " : " فجاء رجلان يحتقان "( ) – أي : يطلب كل واحد منهما حقه من الآخر ويخاصمه في ذلك . فمن فسره بالسباب احتمل عنده إدخال البخاري للحديث في هذا الباب أن السباب تعجل عقوبته حتى يحرم المسلمون بسببه معرفة بعض ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم .وإنما رجا النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك خيرا ؛ لأن إبهام ليلة القدر أدعى إلى قيام العشر كله ، أو أوتاره في طلبها ، فيكون سببا لشدة الاجتهاد وكثرته . ولكن بيان الليلة ومعرفتهم إياها بعينها له مزية على إبهامها ، فرفع ذلك بسبب التلاحي ؛ فدل هذا الحديث على أن الذنوب قد تكون سببا لخفاء بعض معرفة ما يحتاج إليه في الدين .
وقال ابن سيرين : ما اختلف في الأهل ( ) حتى قتل عثمان . فكلما أحدث الناس ذنوبا أوجب ذلك خفاء بعض أمور دينهم عليهم ، وقد يكون في خفائه رخصة لمن ارتكبه وهو غير عالم بالنهي عنه ، إذ لو علمه ثم ارتكبه لاستحق العقوبة .
ومن فسر التلاحي بالاختصام قال : مراد البخاري بإدخاله هذا الحديث في هذا الباب : أن التلاحي من غير سباب ليس بفسوق ولا يترتب عليه حكم الفسوق ؛ لأنه كان سببا لما هو خير للمسلمين . وهذا هو الذي أشار إليه الإسماعيلي ؛ وفيه نظر ، والله أعلم . ويحتمل أن يكون مراد البخاري : أن السباب ليس بمخرج عن الإسلام من كونه فسوقا ؛ ولهذا قال في الحديث : " فتلاحى رجلان من المسلمين " ، فسماههما مسلمين مع تلاحيهما .
وفي " مسند البزار " من حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن أول شيء نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان : شرب الخمر ، وملاحاة الرجال " ( ) . وفي إسناده عمروبن واقد الشامي وهو ضعيف جدا . وإنما حرمت الخمر بعد الهجرة بمدة . ولكن رواه الأوزاعي ، عن عروة بن رويم مرسلا . خرجه أبو داود في " مراسيله"( ).

فصل ( )
قال البخاري :
37- باب
سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة وبيان النبي صلى الله عليه وسلم له ثم قال : " جاء جبريل ( ) يعلمكم دينكم " ، فجعل ذلك كله دينا ، وما بين النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس من الإيمان . وقول الله تعالى  وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْه  ُ.
تبويب البخاري هاهنا واستدلاله وتقريره يدل عل أنه يرى أن مسمى الإيمان والإسلام واحد ؛ فإنه قرر النبي صلى الله عليه وسلم أجاب جبريل عن سؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان وعلم الساعة ، ثم قال : " هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم " فجعله كله دينا ، والدين هو الإسلام لقوله تعالى  وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْه  [ آل عمران : 85 ] وكذلك قوله  إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ  [ آل عمران : 19 ]وأكد ذلك بأن في حديث وفد عبد القيس أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فأجابهم بما أجاب به جبريل عن سؤاله عن الإسلام( ) ؛ فدل على أن الإسلام والإيمان واحد . وهذا قول محمد بن نصر المروزي ( ) ( 210- أ / ف ) وابن عبد البر وغيرهما .
وأما من فرق بين الإسلام والإيمان – وهم أكثر العلماء من السلف ومن بعدهم – حتى قيل : إنه لا يعلم عن السلف في ذلك خلاف فأظهر الأجوبة عما ذكره البخاري : أن الإسلام والإيمان تختلف دلالته بالإفراد والاقتران ؛ فإن أفرد أحدهما دخل فيه الآخر و فلذلك فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان المسئول عنه مفردا في حديث وفد عبد القيس بما فسر به الإسلام في حديث جبريل الذي قرن فيه الإسلام بالإيمان . وإن اقترنا كان هذا له معنى وهذا له معنى . وبكل حال : فالأعمال داخلة في مسمى الإيمان ، لا يختلفون في ذلك . وممن ذكر هذا التفصيل : الخطابي( ) ، وأبو بكر الإسماعيلي ، وحكاه الإسماعيلي عن كثير من أهل السنة والجماعة ، وحكى أبو بكر ابن السمعاني عن أهل السنة والجماعة التفريق بين الإسلام والإيمان وممن روي عنه التفريق بينهما من السلف : الحسن ، وابن سيرين ، وقتادة ، وداود بن أبي هند ، وأبو جعفر محمد بن علي ، والزهري ، وحماد بن زيد ، وشريك ، وابن أبي ذئب ، وابن مهدي ، وأحمد ، وأبو خيثمة ، ويحيى بن معين ، وغيرهم – على اختلاف بينهم في صفة التفريق . وروي التسوية بينهما عن الثوري من وجه فيه نظر . وقد تقدم الكلام على هذه المسألة مستوفى بما فيه كفاية ، والله أعلم .
ثم خرج البخاري حديث ( ) :
50- أبي زرعة ‘ عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كان يوما بارزا ( ) للناس فأتاه رجل فقال : ما الإيمان ؟ قال : الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث " قال : ما الإسلام ؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به ، وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان " قال : ما الإحسان؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك " قال : متى الساعة ؟ قال : " ما المسئول عنها ( ) بأعلم من السائل ، وسأخبرك عن أشراطها : إذا ولدت الأمة ربها ، وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان في خمس لا يعلمهن إلا الله " ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم  إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزّـِلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَام  ِ ( ) الآية [ لقمان : 34] ثم أدبر فقال " ردوه " فلم يروا شيئا فقال ": " هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم .
" قال البخاري ( ) : جعل ذلك كله من الإيمان . فمراده بهذا الكلام : أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى جميع ما ذكره في هذا السؤال دينا ، والدين هو الإسلام ، كما أخبر الله بذلك . وقد أجاب وفد عبد القيس عن سؤالهم عن الإيمان بما أجاب به جبريل عن سؤال عن الإسلام ؛ فدل علي أن الإيمان هو الإسلام وأنه يدخل في مسماه ما يدخل في مسمى الإسلام . هذا تقرير ما ذكره البخاري هاهنا .
وأما المفرقون بين الإسلام والإيمان : فقد تقدم أن المختار عندهم في ذلك : أن الإسلام والإيمان إذا قرن بينهما كان لكل منهما معنى فإذا أفرد أحدهما دخل فيه ما يدخل في الآخر . والتحقيق في التفريق بينهما عند اقترانهما : ما دل عليه هذا الحديث المذكور هاهنا ؛ وهو أن الإيمان هو الاعتقادات القائمة بالقلوب ، وأصله : الإيمان بالأصول الخمسة التي ذكرها الله في قوله تعالى  آمَنَ الرَّسُول ُ( 210 – ب / ف ) بِمَا أُنزـِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير [ البقرة : 285] ، فذكر الله في هذه الآية الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والمصير إليه – وهو اليوم الآخر – وهو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام في سؤاله عن الإيمان المقرون بالإسلام وفي بعض ألفاظه زيادة ونقص . وفي رواية البخاري هذه ذكر الإيمان بلقاء الله والإيمان بالبعث .
فأما الإيمان بالبعث : فهو الإيمان بأن الله يبعث من في القبور . والإيمان بلقاء الله معناه : الإيمان بوقوف العباد بين يدي الله عز وجل للمحاسبة بأعمالهم والجزاء بها . وخرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب ولفظه : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره "( ) . وخرجه ابن حبان ، وزاد فيه : " وتؤمن بالجنة والنار والميزان " ( ) . وأما الإسلام المقرون بالإيمان : ففسره بالأعمال الظاهرة من الأقوال والأعمال وهي : الشهادتان ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام رمضان . وزاد مسلم في رواية من حديث عمر : " وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " . وزاد ابن حبان : " وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة وتتم الوضوء ". وفي رواية البخاري هذه : " أن تعبد الله ولا تشرك به " . والمراد : الإقرار بتوحيده باللسان . وقد يراد به مع ذلك : فعل جميع أنواع العبادات بالجوارح . وأما الإحسان : ففسره بنفوذ ( ) . البصائر في الملكوت حتى يصير الخبر للبصيرة كالعيان ، فهذه أعلى درجات الإيمان ومراتبه . ويتفاوت المؤمنون والمحسنون في تحقيق هذا المقام تفاوتا كثيرا بحسب تفاوتهم في قوة الإيمان والإحسان ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك هاهنا بقوله : " أن تعبد الله كأنك تراه ؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك " . قيل : المراد : أن نهاية مقام الإحسان : أن يعبد المؤمن ربه كأنه يراه بقلبه فيكون مستحضرا ببصيرته وفكرته لهذا المقام فإن عجز عنه وشق عليه انتقل إلى مقام آخر وهو أن يعبد الله على أن الله يراه ويطلع على سره وعلانيته ولا يخفى عليه شيء من أمره .
وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه أن يعبدوا الله كأنهم يرونه ، منهم : ابن عمر ، وأبو ذر، ووصى معاذا أن يستحيي من الله كما يستحيي من رجل ذي هيبة من أهله ( ) . قال بعض السلف : من عمل لله على المشاهدة فهو عارف ، ومن عمل على مشاهدة الله إياه فهو مخلص . فهذان مقامان : أحدهما : مقام المراقبة ، وهو أن يستحضر العبد قرب الله منه واطلاعه عليه فيتخايل أنه لا يزال بين يدي الله فيراقبه في حركاته وسكناته وسره وعلانيته ، فهذا مقام المراقبين المخلصين ، وهو أدنى مقام الإحسان .
والثاني : أن يشهد العبد بقلبه ذلك شهادة فيصير كأنه يرى الله ويشاهده ، وهذا نهاية مقام الإحسان ، وهو مقام العارفين . وحديث حارثه هو من هذا المعنى ؛ فإنه قال : كأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وإلى أهل النار يتعاوون فيها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " عرفت فالزم : عبد نور الله الإيمان في قلبه " . وهو حديث مرسل ، وقد روي مسندا ( 211- أ / ف ) بإسناد ضعيف ( ) . وكذلك قول ابن عمر لعروة لما خطب إليه ابنته في الطواف فلم يرد عليه ثم لقيه فاعتذر إليه وقال : كنا في الطواف تتخايل الله بين أعيننا . ومنه الأثر الذي ذكره الفضيل بن عياض : يقول الله : ما أنا مطلع على أحبائي إذا جهنم الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم ، ومثلت نفسي بين أعينهم فخاطبوني على المشاهدة وكلموني على حضوري .
وبهذا فسر المثل الأعلى المذكور في قوله تعالى  وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض  [ الروم : 27 ] ومثله قوله تعالى  الله نور السموات والأرض مثل نوره كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ توقَدُ ( ) مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم  [ النور : 35] ، قال ابن كعب وغيره من السلف : مثل نوره في قلب المؤمن . ٌفمن وصل إلى هذا المقام فقد وصل إلى نهاية الإحسان وصار الإيمان لقلبه بمنـزلة العيان فعرف ربه وأنس به في خلوته وتنعم بذكره ومناجاته ودعائه حتى ربما استوحش من خلقه ، كما قال بعضهم : عجبت للخليقة كيف أنست بسواك ؟! بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك . وقيل لآخر : أما تستوحش ؟! قال : كيف استوحش وهو يقول : أنا جليس من ذكرني ( ) ؟ وقيل لآخر : أما تستوحش وحدك ؟ قال : ويستوحش مع الله أحد ؟ ! وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته ويقول : من لم تقر عينه بك فلا قرت عينه ، ومن لم يأنس بك فلا أنس . وقال الفضيل : طوبى لمن استوحش من الناس وكان الله جليسه ( ) .
وقال معروف لرجل : توكل على الله حتى يكون جليسك وأنيسك وموضع شكواك ( ) . وقال ذو النون : علامة المحبين لله : أن لا يأنسوا بسواه ولا يستوحشوا معه ، ثم قال : إذا سكن القلب حب الله أنس بالله ؛ لأن الله أجل في صدور العارفين أن يحبوا غيره . وقوله صلى الله عليه وسلم " اعبد الله كأنك تراه " إشارة إلى أن العابد يتخيل ذلك في عبادته ، لا أنه يراه حقيقة لا ببصره ولا بقلبه . وأما من زعم أن القلوب تصل في الدنيا إلى رؤية الله عيانا كما تراه الأبصار في الآخرة – كما يزعم ذلك من يزعمه من الصوفية – فهو زعم باطل ؛ فإن هذا المقام هو الذي قال من قال من الصحابة كأبي ذر وابن عباس وغيرهما ، وروي عن عائشة – أيضا – أنه حصل للنبي صلى الله عليه وسلم مرتين . وروي في ذلك أحاديث مرفوعة – أيضا .
وكذا قال جماعة من التابعين : إنه يراه بقلبه ، منهم الحسن ، وأبو العالية ، ومجاهد و وعبد الله بن الحارث بن نوفل ، وإبراهيم التيمي وغيرهم . فلو كان هؤلاء لا يعتقدون أن رؤية القلب مشتركة بين الأنبياء وغيرهم لم يكن في تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مزية له لا سيما وإنما قالوا : إنها حصلت له مرتين ؛ فإن هؤلاء الصوفية يزعمون أن رؤية القلب تصير حالا ومقاما دائما أو غالبا لهم ، ومن هنا ينشأ تفضيل الأولياء على الأنبياء ، ويتفرع على ذلك أنواع من الضلالات والمحالات والجهالات ، والله يهدي من يشاء إلى سراط مستقيم .
فهذه المقامات الثلاث " الإسلام والإيمان والإحسان يشملها اسم الدين ، فمن استقام على الإسلام إلى موته عصمه الإسلام من الخلود في النار وإن دخلها بذنوبه ، ومن استقام ( 211 – ب / ف ) على الإحسان إلى الموت وصل على الله عز وجل ، وقال تعالى  لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وزيادة  [ يونس : 26 ] وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة بالنظر إلى وجه الله . خرجه مسلم من حديث صهيب ( ) .
وأما قول جبريل : " أخبرني عن الساعة " فقال : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " فمعناه : إن الناس كلهم في وقت الساعة سواء ، وكلهم غير عالمين به على الحقيقة ؛ ولهذا قال : " في خمس لا يعلمهن إلا الله " ثم تلا  إن الله عنده علم الساعة  [ لقمان : 34 ] وهذه مفاتيح الغيب الذي لا يعلمها إلا الله . وقد جاء عن ابن مسعود أن نبينا أوتي علم كل شيء سوى هذه الخمس ( ) .
وروي ذلك مرفوعا من حديث ابن عمر ( ) . وكلاهما في " مسند الإمام أحمد " . وذكر عند عمرو بن العاص العلم بوقت الكسوف قبل ظهوره فأنكره بعض من حضره فقال عمرو : : إنما الغيب خمس ، ثم تلا هذه الآية قال : وما سوى ذلك يعلمه قوم ويجهله قوم . خرجه حميد بن زنجوية .
وقد زعم بعضهم – كالقرطبي ( ) – أن هذه الخمس لا سبيل لمخلوق على علم بها قاطع ، وأما الظن بشيء منها بأمارة قد يخطيء ويصيب فليس ذلك بممتنع ولا نفيه مراد من هذه النصوص . وقوله : " وسأخبرك عن أشراطها " لما كان العلم بوقت الساعة المسئول عنه غير ممكن انتقل منه إلى ذكر أشراطها وهي علامتها الدالة على اقترانها ، وهذا كما سأله الأعرابي : متى الساعة ؟ فقال : " ما أعددت لها ؟ " فأعرض عن الجواب عن الساعة إلى ذكر الاستعداد لها ؛ لأنه هو المأمور به وهو الذي يعني السائل وغيره وينبغي الاهتمام به . وأما جبريل : فالظاهر – والله أعلم – أنه أراد بسؤاله عن الساعة إظهار انفراد الله بعلمها دون خلقه حتى ينقطع السؤال عنها ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا يسأل عنها حتى نـزلت  يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا  [ النازعات : 42-44 ] ونـزلت يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ [ الأعراف : 187 ] .
وفي رواية عمر بن الخطاب لهذا الحديث : إن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم " أخبرني عن أمارتها " ، وقد ذكر لها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث علامتين :
إحداهما : أن تلد الأمة ربها ، والمقصود بالرب : السيد . واختلف في معنى ذلك ، فقيل : المراد أن يكثر فتوح البلاد الكفر والسبي فيكثر السراري فتلد الإماء الأولاد من سادتهن ، وولد السيد بمنـزلة السيد فتصير الأمة ولدت ربها بهذا الاعتبار . ومن هؤلاء من قال : أريد أن الملوك يتخذون السراري فتلد الإماء الملوك وهم كالأرباب للناس . ومنهم من قال : إن العجم تلد العرب ، والعرب كالأرباب للعجم قاله وكيع بن الجراح . وعلى هذا القول قد استدل بالحديث من يرى بيع أمهات الأولاد ومن يمنعه .
أما من يرى بيعهن : فاستدل بقوله : " تلد الأمة ربها " على أن ولد أم الولد رب لها فيدل على أن أمه رقيقة تنتقل إلى ملكه بوفاة أبيه فيرثها فتعتق عليه فيكون حينئذ ربها حقيقة وتكون قبل انتقالها إلى ولدها رقيقة حكمها كأحكام الفيء ( ) من البيع وغيره ، ولولا ذلك لم تورث . ومن منع بيعهن : قال : قد جعل ولد الأمة ربها، وهذا يدل على أنه ربها ( 212- أ / ف ) بكل حال سواء مات الأب أو كان حيا ، فيدل على أن عتقها مضاف إلى الولد فكان الولد هو الذي أعتق أمه حيث كان هو سبب عتقها ، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مارية لما ولدت إبراهيم " أعتقها ولدها " ( ) وممن استدل بهذا على منع بيعهن : الإمام أحمد . وقيل : المراد بقوله " تلد الأمة ربها " كثرة الفتوح في بلاد الكفار ، و*** الرقيق حتى ت*** المرأة من بلد الكفر صغيرة فتعتق في بلد الإسلام ، ثم ت*** أمها بعدها فتشتريها البنت وتستخدمها جاهلة بكونها أمها ، وقد وقع ذلك في الإسلام . وهذا القول مثل الذي قبله في أن أشراط الساعة كثرة الفتوح و*** الرقيق من بلاد الكفر .
وقيل : المراد بقوله" أن تلد الأمة ربها " أن يكثر العقوق من الأولاد حتى يعامل الولد أمه معاملة أمته بالسب والإهانة ، ويشهد لهذا : أنه جاء في رواية " أن تلد المرأة ربها " فلم يخص بالأمة .
وقيل : المراد بقوله " أن تلد الأمة ربها " أن يكثر الجهل ويقل العلم حتى تباع أمهات الأولاد ولهن أولاد فربما تداولها أيدي الملاك وتطاولت المدد حتى يشتريها بعض أولادها ويستخدمها جاهلا بأنها أمه ، وفي هذا القول نظر وبعد . وعلى هذا القول والذي قبله : فالذي من أشراط الساعة هو كثرة الجهل وقلة العلم وفساد الأعمال بظهور العقوق والاستهانة بببيع ما لا يجوز بيعه .
وقيل : بل أراد بولادة الأمة ربها أنه يكثر عدول الناس عند النكاح إلى التسري فقط ، والله أعلم .
والعلامة الثانية : أن يتطاول رعاة الإبل البهم في البنيان . والبهم هما بضم الباء ، وهو جمع بهيم ، ثم قيل : إن المراد به المجهول الذي لا يعرف . قاله الخطابي ( ) . فعلى هذا تكون الرواية " البهم " – بضم الميم – صفة الرعاة .
وقيل : بل المراد به : الذي لاشيء لهم ، كما قال : " يحشر الناس يوم القيامة حفاة بهما " . وقيل : إن " البهم " – بكسر الميم – صفة للإبل ، وأن الإبل هي السود وتطاولهم في البنيان : هو بمصيرهم مملوكا ذا ثروة وأموال . وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عنهم فقال : " هم العريب " ( ) . وهذا وقع في زمن بني أمية حيث كانوا يستعملون الأعراب الحفاة على الناس ويستعينون بهم على أعمالهم ، ثم لما انتقل الملك عن العرب إلى غيرهم انتقل إلى من كان ببلاده كذلك . وفي هذا إشاره إلى أن من أشراط الساعة فساد ولاة الأمور بجهلهم وجفائهم ، ويشهد لهذا: الحديث الآخر : " إذا وكل الأمر على غير أهله فانتظر الساعة " ( ) . والتطاول في البنيان من أشراط الساعة – أيضا.
وقد خرج البخاري ( ) . و مسلم من رواية أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان " ، وقد كان بناء النبي صلى الله عليه وسلم للمساجد والبيوت قصيرا .
وقد روي عن الحسن قال : لما بنى النبي صلى الله عليه وسلم المسجد قال : " ابنوه عريشا كعريش موسى " قيل للحسين : وما عريش موسى ؟ قال : إذا رفع يده بلغ العريش – يعني السقف ( ) . و عن الحسن قال : كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان فأتناول سقفها بيدي . وروي عن ( 212 – ب / ف ) عن عمر أنه كتب إلى أهل البصرة ينهاهم أن لا يرفع أحد بناءه فوق سبع أذرع ( ) .
قال عمار بن أبي عمار : إذا رفع الرجل بناءه فوق سبع أذرع ناداه مناد : يا أفسق الفاسقين ! إلى أين ؟ ! وخرج الطبراني من حديث أنس مرفوعا : " كل بناء – وأشار بيده هكذا على رأسه – أكثر من هذا فهو وبال ( ) . وفي " سنن أبي داود " عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قبة مشرفة فقال : " ما هذه ؟ " فقالوا " لفلان ، فجاء صاحبها فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه فعل ذلك مرارا حتى هدمها الرجل ( ) .
وفي " سنن ابن ماجه " عن ابن عباس مرفوعا : " أراكم ستشرفون مساجدكم بعدي كما شرفت اليهود كنائسها والنصارى بيعها ( ) . فهذا الحديث قد اشتمل على أصول الدين ومهماته وقواعده ويدخل فيه الإعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة ، فجميع علوم الشريعة ترجع إليه من أصول الإيمان والإعتقادات ومن شرائع الإسلام العملية بالقلوب والجوارح ومن علوم الإحسان ونفوذ البصائر في الملكوت . وقد قيل : إنه يصلح أن يسمى " أم السنة " لرجوعها كلها إليه كما تسمى الفاتحة " أم الكتاب " و " أم القرآن " لمرجعه إليها ( ) .
ثم خرج البخاري بعد هذا : حديث ( ) :
51- ابن عباس : أخبرني أبو سفيان أن هرقل قال له : سألتك هل يزيدون أم ينقصون ؟ فزعمت أنهم يزيدون وكذلك الإيمان حتى يتم ، وسألتك : هل يرتد أحد منهم لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ فزعمت أن لا وكذلك الإيمان حيت تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد .
ومقصود بإيراد هذه الجملة من حديث هرقل : أن الإيمان يزيد حتى يتم ، وأن الدين هو الإيمان ؛ فإنه سأله : هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه ؟ ثم أجاب بأن الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد .
والبشاشة : الفرح والاستبشار ، ومنه حديث : " لا يوطن أحد المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله به كما يتبشش أهل الغائب بغائبهم " ( ) . فدل على أن الإسلام والدين واحد ؛ ولك لم يرد بزيادة الإيمان هنا إلا زيادة أهله ، وبتمامه قوة أهله وتمكنهم من إظهاره والدعوة إليه .
وكلام هرقل – وإن كان لا يحتج به في مثل هذه المسائل العظيمة من أصول الديانات التي وقع الاضطراب فيها – فإن ابن عباس روى هذا الكلام مقررا له مستحسنا وتلقاه عنه التابعون ، وعن التابعين أتباعهم كالزهري . فالاستدلال إنما بتداول الصحابة ومن بعدهم لهذا الكلام وروايته واستحسانه ، والله سبحانه وتعالى أعلم .


39- فصل ( )
خرج البخاري ومسلم ( ) من حديث :
51- النعمان بن بشير قال ( ) : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ( ) كالراعي ( ) يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ( ) ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله ( ) محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب "
هذا الحديث حديث عظيم ؛ وهو أحد الأحاديث التي مدار الدين عليها وقد قيل : إنه ثلث العلم أو ربعه . وهو حديث ( 213 – أ / ف ) صحيح متفق على صحته من رواية الشعبي عن النعمان بن بشير ، وفي ألفاظه بعض الزيادة والنقص والمعنى واحد أو متقارب .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر ، وعمار بن ياسر ، وجابر ، وابن مسعود، وابن عباس ( ) ؛ وحديث النعمان أصح أحاديث الباب .
ومعنى الحديث : أن الله أنـزل كتابه وبين فيه حلاله وحرامه وبين النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ما خفي من دلالة الكتاب على التحليل و التحريم ، فصرح بتحريم أشياء غير مصرح بها في الكتاب وإن كانت عامتها مستنبطة من الكتاب وراجعة إليه فصار الحلال والحرام على قسمين :
أحدهما : ما هو واضح لا خفاء به على عموم الأمة ؛ لاستفاضته بينهم وانتشاره فيهم ولا يكاد إلا على من نشأ ببادية بعيدة عن دار الإسلام ؛ فهذا هو الحلال البين والحرام البين . ومنه : ما تحليله وتحريمه لعينه كالطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والخبائث من ذلك كله ومنه : ما تحليله وتحريمه من جهة كسبه كالبيع والنكاح والهبة والهدية وكالربا والقمار والزنا والسرقة والغصب والخيانة وغير ذلك .
القسم الثاني : ما لم ينتشر تحريمه وتحليله في عموم الأمة ؛ لخفاء دلالة النص عليه ووقوع تنازع العلماء فيه ونحو ذلك ، فيشتبه على كثير من الناس هل هو من الحلال أو من الحرام ؟ وأما خواص أهل العلم الراسخون فيه فلا يشتبه عليهم ؛ بل عندهم من العلم الذي اختصوا به عن أكثر الناس ما يستدلون به على حل ذلك أو حرمته ، فهؤلاء لا يكون ذلك مشتبها عليهم لوضوح حكمه عندهم
أما من لم يصل إلى ما وصلوا إليه فهو مشتبه عليه ؛ فهذا الذي اشتبه عليه إن اتقى ما اشتبه عليه حله وحرمه واجتنبه فقد استبرأ لدينه وعرضه ، بمعنى أنه طلب لهما البراءة مما يشينهما ، وهذا معنى الحديث الآخر : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ( ) . وهذا هو الورع ، وبه يحصل كمال التقوى ، كما في الحديث الذي خرجه الترمذي وابن ماجه : " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس ( ) . وأنواع الشبه تختلف بقوة قربها م الحرام وبعدها عنه . وقد يقع الاشتباه في الشيء من جهة اشتباه وجود أسباب حله وحرمته ، كما يشك الإنسان فيه هل هو ملكه أم لا ؟ وما يشك في زوال ملكه عنه . وهذا قد يرجع فيه إلى الأصل فيبني عليه ، وقد يرجع في كثير منه إلى الظاهر إذا قوي على الأصل ويقع التردد عند تساوي الأمرين . وقد يقع الاشتباه لاختلاط الحلال بالحرام في الأطعمة والأشربة من المائعات ( ) . وغيرها من المكيلات ، والموزونات والنقود .
فكل هذه الأنواع من كان عنده فيها علم يدله على حكم الله ورسوله فيها فتبعه فهو المصيب ، ومن اشتبهت عليه فإن اتقاها واجتنبها فقد فعل الأولى واستبرأ لدينه وعرضه فسلم من تبعتها في الدنيا والآخرة ، ومن اشتبهت عليه فلم يتقها ؛ بل وقع فيها فمثله كمثل راع يرعى حول الحمى فإنه يوشك أن يواقعه . وفي رواية : " ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه " .
ومعنى هذا : أن من وقع في الشبهات كان جديرا بأن يقع في الحرام بالتدريج ؛ فإنه يسامح نفسه في الوقوع في الأمور المشتبهة ( 213 – ب / ف ) فتدعوه نفسه إلى مواقعة الحرام بعده ؛ ولهذا جاء في رواية : " ومن خالط الريبة يوشك أن يجسر " ( ) يعني : يجسر على الوقوع في الحرام الذي لا ريب فيه .
ومن هنا كان السلف يحبون أن يجعلوا بينهم وبين الحرام حاجزا من الحلال يكون وقاية بينهم وبين الحرام ، فإن اضطروا واقعوا ذلك الحلال ولم يتعدوه ، وأما من وقع في المشتبه فإنه لا يبقى له إلا الوقوع في الحرام المحض فيوشك أن يتجرأ عليه ويجسر . وقوله : " ألا وإن لكل ملك حمى ، وإن حمى الله في الأرض محارمه " ، وفي رواية : " ألا وإن حمى الله محارمه " ( ) : ضرب مثل لمحارم الله بالحمى الذي يحميه الملك من الأرض ويمنع الناس من الدخول إليه ، فمن تباعد عنه فقد توقى سخط الملك وعقوبته ، ومن رعى بقرب الحمى فقد تعرض لمساخط الملك وعقوبته ؛ لأنه ربما دعته نفسه إلى الولوج في أطراف الحمى ؛ وفي هذا دليل على سد الذرائع والوسائل إلى المحرمات كما يحرم الخلوة بالأجنبية وكما يحرم شرب قليل ما يسكر كثيره وكما ينهى عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر خشية الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها ، وكما يمنع من تحرك القبلة شهوته في صيامه من القبلة ، وكما يؤمر من يباشر امرأته في حال حيضها أن يباشرها من فوق إزار ما بين سرتها وركبتها ، وكما يضمن من سيب دابته نهارا بقرب زرع غيره فتفسده ، أو أرسل كلبه للصيد في الحل بقرب الحرم فصاد فيه فإنه يضمن في الصورتين على الأصح .
وفي الحديث دليل على صحة القياس وتمثيل الأحكام وتشبيهها . وفيه دليل على أن المصيب من المجتهدين في مسائل الاشتباه واحد ؛ لأنه جعل المشتبهات لا يعلمها كثير من الناس مع كون بعضهم في طلب حكمها مجتهدين فدل على أن من يعلمها هو المصيب العالم بها دون غيره ممن هي مشتبهة عليه وإن كان قد يجتهد في طلب حكمها ويصير إلى ما أداه إليه اجتهادة وطلبه .
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كلمة جامعة لصلاح حركات ابن آدم وفسادها وأن ذلك كله بحسب صلاح القلب وفساده ، فإذا صلح القلب صلحت إرادته وصلحت جميع الجوارح فلم تنبعث إلى طاعة الله واجتناب سخطه فقنعت بالحلال عن الحرام . وإذا فسد القلب فسدت إرادته ، ففسدت الجوارح كلها وانبعث في معاصي الله عز وجل وما فيه سخطه ولم تقنع بالحلال ؛ بل أسرعت في الحرام بحسب هوى القلب وميله عن الحق ، فالقلب الصالح هو القلب السليم الذي لا ينفع يوم القيامة عند الله غيره ، وهو أن يكون سليما عن جميع ما يكرهه الله من إرادة ما يكرهه الله ويسخطه ولا يكون فيه سوى محبة الله وإرادته ومحبته ما يحبه الله وإرادة ذلك وكراهة ما يكرهه الله والنفور عنه .
والقلب الفاسد : هو القلب الذي فيه الميل على الأهواء المضلة والشهوات المحرمة ، وليس فيه من خشية الله ما يكف الجوارح عن اتباع هوى النفس ؛ فالقلب ملك الجوارح وسلطانها ، والجوارح جنوده ورعيته المطيعة له المنقادة لأمره ، فإذا صلح الملك صلحت رعاياه وجنوده المطيعة له المنقادة لأوامره ، وإذا فسد الملك فسدت جنوده ورعاياه المطيعة له المنقادة لأوامره و نواهيه .
وقد بوب البخاري على هذا ( 214 – أ / ف ) الحديث : باب " فضل من استبرأ لدينه " . والمقصود من إدخاله هذا الحديث في هذا الباب : أن من اتقى الأمور المشتبهة عليه التي لا تتبين له أحلال هي أو حرام ؟ فإنه مستبرىء لدينه بمعنى : أنه طالب له البراء والنـزاهة مما يدنسه ويشينه ؛ ويلزم من ذلك أن من لم يتق الشبهات فهو معرض دينه للدنس والشين والقدح ، فصار بهذا الاعتبار الدين تارة يكون نقيا نـزها بريا ، وتارة يكون دنسا متلوثا . والدين يوصف تارة بالقوة والصلابة ، وتارة بالرقة والضعف ، كما يوصف بالنقص تارة وبالكمال تارة أخرى ، ويوصف الإسلام تارة بأنه حسن وتارة بأنه غير حسن ، والإيمان يوصف بالقوة تارة وبالضعف أخرى .
هذا كله إذا أخذ الدين والإسلام والإيمان بالنسبة إلى شخص شخص ، فأما إذا نظر إليه بالنسبة إلى نفسه من حيث هو هو ( ) فإنه يوصف بالنـزاهة . قال أبو هريرة : الإيمان نـزه ، فإن زنا فارقه الإيمان ، فإن لام نفسه وراجع راجعه الإيمان . خرجه الإمام أحمد في كتاب " الإيمان "
ومن كلام يحيى بن معاذ : الإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك ( )
( ) كتب في " ف " فوق " هو " الثانية علامة " صح " ، حتى يدفع إيهام التكرار .
( ) إلى هن انتهى ما بأيدينا من كتاب الإيمان ، وراجع شرح المصنف على هذا الحديث في كتابه " جامع العلوم والحكم" الحديث السادس ، فقد تكلم في شرحه بما لا يدع لمتعقب كلاما ، فجزاه الله خير الجزاء . انتهي كتاب الايمان :والله المستعان

;jhf hghdlhk : lk tjp hgfhvd :ggpht/ Lhfk v[f hgpkfgd










عرض البوم صور ابو عبدالله عبدالرحيم   رد مع اقتباس
قديم 08 / 07 / 2015, 28 : 03 PM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:
طويلب علم مبتدئ
اللقب:
عضو ملتقى ماسي


البيانات
التسجيل: 21 / 01 / 2008
العضوية: 19
المشاركات: 30,241 [+]
بمعدل : 5.12 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 0
نقاط التقييم: 295
طويلب علم مبتدئ is a jewel in the roughطويلب علم مبتدئ is a jewel in the roughطويلب علم مبتدئ is a jewel in the rough

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
طويلب علم مبتدئ غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو عبدالله عبدالرحيم المنتدى : ملتقى الأحاديث النبويه الشريفه وعلومه
بارك الله فيك اخي ******









عرض البوم صور طويلب علم مبتدئ   رد مع اقتباس
قديم 08 / 07 / 2015, 36 : 07 PM   المشاركة رقم: 3
المعلومات
الكاتب:
شريف حمدان
اللقب:
مدير عام الملتقى والمشرف العام
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية شريف حمدان

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
شريف حمدان متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو عبدالله عبدالرحيم المنتدى : ملتقى الأحاديث النبويه الشريفه وعلومه
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة









عرض البوم صور شريف حمدان   رد مع اقتباس
قديم 08 / 07 / 2015, 28 : 08 PM   المشاركة رقم: 4
المعلومات
الكاتب:
ابو عبدالله عبدالرحيم
اللقب:
عضو ملتقى ذهبي


البيانات
التسجيل: 07 / 05 / 2015
العضوية: 54171
العمر: 39
المشاركات: 1,090 [+]
بمعدل : 0.34 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 0
نقاط التقييم: 12
ابو عبدالله عبدالرحيم is on a distinguished road

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو عبدالله عبدالرحيم غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو عبدالله عبدالرحيم المنتدى : ملتقى الأحاديث النبويه الشريفه وعلومه
جزاكم الله خير حبيبنا اخي طويلب علم اشكر الله ثم اشكرمروركم الطيب
بارك الله فيك ونفع الله بك حبيبنا الحاج علدالجواد شريف









عرض البوم صور ابو عبدالله عبدالرحيم   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

جديد ملتقى الأحاديث النبويه الشريفه وعلومه


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

Loading...

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education
الحقوق محفوظة لشبكة ملتقى أهل العلم الاسلامي
اختصار الروابط

For best browsing ever, use Firefox.
Supported By: ISeveNiT Co.™ Company For Web Services
بدعم من شركة .:: اي سفن ::. لخدمات الويب المتكاملة
جميع الحقوق محفوظة © 2015 - 2018