تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ألا تحبون أن يغفر الله لكم


طويلب علم مبتدئ
04 / 08 / 2016, 10 : 10 AM
ألا تحبون أن يغفر الله لكم
بقلم
د. عبدالله بن محمد العسكر




الحمد لله رب العالمين ولا عـدوان إلا على الظالمين ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى أصحابه ومن استن بسنته وسار على نهجه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين أما بعد – أيها الإخوة والأخوات – :
فإن من المقرر عند كل مسلم ومسلمة أن الله تبارك وتعالى لم يخلقه خلقه عبثاً ، تعالى الله عن ذلك ؛ إنما هي غاية واحدة ومقصد أوحد من أجله خلق العباد ، ألا وهو تحقيق العبودية لله – جل جلاله – . فهو السيد المولى ، فمن حقه أن يطاع فلا يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر .

ومنذ أن خلق الله – تبارك وتعالى – أبانا آدم وهو قد أخذ عليه العهد قبل أن يخلقنا بأن نعبده ونوحده ولا نشرك به شيئًا كما قال – جل جلاله – : {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا… } (الأعراف 172)

ومع هذا الميثاق إلا أنه من كرمه – جل جلاله – ومن عظم فضله وامتنانه أن أرسل الرسل مبشرين ومنذرين زيادة في الحجة ، وبلاغاً على العباد ، وبشارة لمن أراد موعود الله والدار الآخرة .

وإن المتأمل في واقع أكثر الخلق وعامة الناس يلحظ وبجلاء أن الطائعين لله نزر يسير وعدد قليل مقابل الكمّ الهائل من البشر الذين أغوتهم نفوسهم فأزاغتهم وأضلتهم عن سواء الصراط !!

أيها الإخوة والأخوات: إنه لِمّما يدمي القلب ويدمع العين ما نراه من الاجتراء على حرمات الله من كثير من المسلمين ومع الأسف الشديد .

أجل !! لقد تساهل الكثيرون في المعصية ، وهانت على نفوسهم الذنوب ، فأصبح أولئك يعاقرون ما يسخط الله ويغضبه وكأن شيئاً لم يكن !! فإلى الله المشتكى وهو المستعان .

ومع تقدم إنسان هذا العصر مادياً وحضارياً تنوعت وسائل الإغواء والانحراف ، واجتالت الشياطين أكثر الناس فأغرقتهم في أوحال المعصية ، وأردتهم في حفر الخطيئة ، وزاد البعد عن الله الواحد الأحد الذي لم تنقطع نعمه ، ولم تنتهِ فضائله ؛ بل هي متتابعة تترى على عباده . فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟!!

فيا من أطلق لنفسه العنان ، ولم يرعَ لله – تبارك وتعالى – حقاً : إلى متى وأنت تقتات المعصية وتألفها ؟!!

ألم يحن بعدُ وقت الرجوع إلى الله تبارك وتعالى ؟!

أما آن لك أنْ تنطرح بين يدي مولاك ؟!

أما آن لك أن تفيق من سكرة الذنب ؟!

أيها السائر في طريق الهوى واللذة العابرة : رويداً رويداً . أتعرف الذي تعصيه ؟!!

أتعرف من تبارز بذنبك ؟!

إنه الله الجبار الذي بيده ملكوت السماوات والأرض !!

أيها المسرف على نفسه : كفاك كفاك …

آن لك أن تضع عصا الترحال , وأن تذرف الدموع الغزار ، دموع الندم على ما فات وسلف من الأزمان الماضية … على ما سلف من ذنوبك وخطاياك …

نعم ، آن لك أن تعترف بذنبك لربك وتقول بلسان النادم الأوّاب :

دعـنـي أنـوح عـلى نـفسي وأندبها وأقـطع الـدهر بالتـذكـار والحـزنِ

دعني أسـحُّ دمـوعاً لا انقـطاع لهـا فـهـل عسى عـبرةٌ مـنها تخـلصني

دع عنك عذلي يا من كنتَ تعــذِلني لـو كنت تعلم ما بـي كنت تعذرنـي

أنـا الـذي أغلق الأبــواب مجتهداً على المـعاصي وعـــين الله تنـظرني

يـا زلـةً كُتِـبـت في غفـلة ذهبت يـا حسرة بقيت في القلب تحــرقـني

تمـرُّ سـاعـات أيـامـي بلا نـدم ولا بكـاء ولا خــــوف ولا حـزن

ما أحلـم الله عـني حـين أمـهـلني وقـد تمـاديتُ فـي ذنـب ويـسترنـي

إي والله يا عباد الله ، ما أحلم الله عنا !!

كم عصيناه ويسترنا ؟!! كم خالفنا أمره فما عاجلنا بعذابه ؟!!

أظهر للناس الجميل ، وأخفى عنهم القبيح من سرائرنا . فاللهم رحمة من عندك تكفر بها ما سلف من ذنوبنا وخطايانا.

أيها الإخوة والأخوات :

إن هذه الكلمات دعوة لنا جميعاً بلا استثناء ، إلى الباب المفتوح ، إلى النهر العذب ، إلى الروضة الغناء التي لا يذبل زهرها، ولا تذوي رياحينها وورودها، إلى التوبة النصوح ، إلى التوبة من التقصير في الطاعة ، ومن الوقوع في المعصية ، إلى التوبة إلى الله الكريم الجواد الرؤوف الرحيم …

إن شأن التوبة – يا عباد الله – شأن عظيم . إنها علامة صدق الإيمان ، وقرب العبد من الواحد الديان .

وليست التوبة – كما يظن البعض – خاصة بأهل المعاصي ممن ظهر فجورهم وبان فسقهم !!

ليست التوبة خاصة بهؤلاء فحسب ؛ بل هي عامة لنا جميعاً ، كما قال الله – جل جلاله – في كتابه الكريم : {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } (النور31)

وجاء في صحيح مسلم من حديث الأغر المزني – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:” أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة ” !!

هذا نبي الله – عليه الصلاة والسلام – يتوب في اليوم ويستغفر مائة مرة !! فكيف بنا نحن المقصرين المذنبين ‍‍‍‍؟!!

سأقف وإياكم – أيها الأحبة في الله – بعض الوقفات حول هذا الموضوع المهم الذي كلنا بحاجة إليه لعلنا أن نحيي بهذه الوقفات القلوب ، ونقربها من الله علاّم الغيوب .

وعسى أن يكون لهذه الوقفات أثرٌ في حياتنا وسلوكنا ، وإصلاح بواطننا وظواهرنا .

ومن يدري : فربما أن كلمة من هذه الكلمات تقع في قلب مؤمن أو مؤمنة فتحدث فيه هزة ويقظة تكون بها سعادته في الدنيا ، وفوزه الفوز الكبير في جنات النعيم ، والله المستعان وعليه التُّكلان .

الوقفة الأولى

ثــمـار التــوبــة

إن حصر الثمار التوبة أمرٌ شاقٌّ يحتاج إلى وقت طويل ولاشك . ولكن حسبنا أن نذكر بعضها ، وكفى بما سنذكره دافعاً ومعيناً لمن أراد الخير والفلاح .

أول هذه الثمار :

تكفير جميع السيئات ، بل وقلبها إلى حسنات :

أرأيت – أخي المسلم – أكرم من ربك – عز وجل- ؟!!

إنه إن أتيته تائباً منيباً فإنه يكفر ما سلف من سيئاتك ، وأعظم من ذلك أنه جل جلاله يقلب تلك السيئات إلى حسنات !!

يقول جل شأنه :{والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما *يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيما } (الفرقان68-70)

فيا أيها المذنبون – وكلُّنا كذلك – : ألا تحبون أن يغفر الله لكم ؟!!

ألا تحبون أن تغسلوا عنكم أدران الذنوب بماء التوبة الطهور ؟!!

جاء في صحيح مسلم من حديث أبي ذر الغفاري – رضي الله عنه – أن نبي الله- صلى الله عليه وسلم – قال: ” إني لأعلم أهل الجنة دخولا الجنة ، وآخر أهل النار خروجاً منها :رجل يؤتى به يوم القيامة ، فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه ، وارفعوا عنه كبارها . فتعرض عليه صغار ذنوبه . فيقال : عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا ، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا ، فيقول : نعم لا يستطيع أن ينكر” يذكَّر بذنوبه فهل يستطيع أن ينكر منها شيئا في ذلك المقام ؟! كلا إنه ليس بين يدي بشر من البشر، بل هو بين يدي رب البشر الذي لا تخفى عليه خافيه في الأرض ولا في السماء ” فيقول العبد : نعم ، لا يستطيع أن ينكر ، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه ” إذاً الذي عُرض عليه ما هو إلا صغار الذنوب وأما الكبائر فقد أُخفيت عنه !! ” فيقال له : فإن لك مكان كل سيئة حسنة !! ” عند ذلك يطمع العبد – وهذه طبيعة الإنسان – فيتذكر ذنوبه الكبار ” فيقول :رب قد عملت أشياء لا أراها ههنا ” !! قال أبو ذر : ” فلقد رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ضحك حتى بدت نواجذه ” .

وأورد المنذري في الترغيب والترهيب والطبراني في المعجم بإسناد حسن عن أبي طويل – رضي الله عنه – أنه أتى إلى الرسول – عليه الصلاة والسلام – فقال: يا رسول الله ، أرأيت من عمل الذنوب كلها ، ولم يترك حاجة ولا داجة إلا أتاها ( يعني لا صغيرة ولا كبيرة إلا أتاها ) ، فهل لذلك من توبة ؟ فقال – عليه الصلاة والسلام – بشارة لكل تائب وتائبة ، قال : ” تفعل الخيرات وتترك السيئات فيجعلهن الله خيرات كلَّهن ” !! فقال هذا الصحابي: يا رسول الله وغدراتي وفجراتي ؟ قال :” نعم ” فقال: الله أكبر ، الله أكبر، الله أكبر، فما زال يكبر حنى توارى عن القوم !![1]

وإن شئتم -إخوتي وأخواتي – أن تروا كرم الله وفيض عطائه على التائبين فدعونا نقف جميعاً مع قصةٍ لصحابي وصحابية وقعا في معصية ثم بادرا بالتوبة منها .وهم بشر كغيرهم يخطئون ويصيبون ؛ لكن الفرق بينهم وبين كثير من غيرهم أن أولئك القوم سرعان ما يبادرون إلى التوبة ، سرعان ما يعودون إلى الله جل جلاله .

وذاك دأب الصالحين . يقول الله تبارك وتعالى :{إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} (الأعراف 201)

إنها قصة الصحابي الجليل ماعز الأسلمي ، والصحابية الجليلة الغامدية – رضي الله تعالى عنها وأرضاهما …

إنها بحق قصة عجيبة !!

فيها من العِبر ما يهز الوجدان ، ويرفع منسوب الإيمان في قلب كل مؤمن .

جاء في صحيح مسلم عن سليمان بن بريده عن أبيه قال :جاء ماعز بن مالك – رضي الله عنه – إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال : يا رسول الله ، طهرني . قال :” ويحك ، ارجع فاستغفر الله وتب إليه ” فرجع غير بعيد ، ثم عاد مرة أخرى ، فقال : يا رسول الله ، طهرني !! فقال – عليه الصلاة والسلام – : ” ويحك ، ارجع فاستغفر الله وتب إليه” حتى إذا كانت الرابعة قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” فيم أطهرك ؟! ” قال : من الزنى يا رسول الله !! فسأل النبي – صلى الله عليه وسلم – بعض من حوله : ” أبِـه جنون ؟! ” فقال بعض قومه : “والله يا رسول الله ما علمنا به جنوناً ، فقال : ” أشرب الخمر ؟! ” فقام أحد الناس إلى هذا الصحابي – رضي الله عنه-فأستَنْكَهَه ( يعني شمَّه )

فلم يجد منه ريح الخمر!!

لقد كان بإمكان هذا الصحابي عندما قال له النبي – صلى الله عليه وسلم – : ” ارجع ” في أول مرّة أن يذهب ويقول : قد أخبرت رسول الله وبرئت ذمتي . ولكنه – رضي الله عنه – كان في قلبه الإيمان والخوف من سطوة الله وعذابه !!

ثم ماذا ؟ لقد جاء يطلب التطهير من ذنبه وهو يعلم أنه القتل ، وأي قتل ؟!!

إنه رمي بالحجارة حتى الموت وأمام أعين الناس !! فالأمر صعب وشاق ، ومع هذا كان – رضي الله عنه – يلحُّ في طلب ذلك !! لِم كل هذا ؟ لأجل أن ينجو من عذاب الله !!

إنه يعلم أن العقوبة في الدنيا وإن كانت قاسية وأليمة ، لكن ليست بأقسى ولا أخزى من غمسة واحدة في نار جهنم !! فكان من شأنه أن يتحمل عذاب الدنيا لأجل أن ينجو من عذاب الله غداً !!

فلما جاء هذا الصحابي في المرة الرابعة وكرر الطلب ما كان للنبي – صلى الله عليه وسلم – بد من أن يأمر به فيرجم – رضي الله عنه وأرضاه .

نعم لقد رُجم هذا الصحابي ، فكان الناس فيه فرقتين :

قائل يقول : لقد هلك ، لقد أحاطت به خطيئته . وقائل يقول : ما توبة أفضل من توبة ماعز.

فلبثوا يومين أو ثلاثة ، ثم جاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم – وهم جلوس فسلم عليهم ، ثم جلس وقال : ” استغفروا لأخيكم ماعز بن مالك ” قالوا : غفر الله لماعز بن مالك ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – : ” لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم ” !!

وجاء في رواية لأبي داود : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – حينما أمر برجم ماعز – رضي الله عنه – سمع رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه : انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رُجِم رجْمَ الكلب !!

فسكت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسار هو ومن معه من الصحابة ، ومعهم هذا الرجلان حتى مرَّا بجيفة حمار شائل برجله ، فقال – عليه الصلاة والسلام- حين وقف : ” أين فلان وفلان ” فقالا: نحن ذانِ يا رسول الله . فقال : ” انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار”!! فقالا : غفر الله لك يا رسول الله ، ومن يأكل من هذا الحمار ؟!! فقال – عليه الصلاة والسلام – : “ما نلتما من عرض أخيكما آنفاً أشد من أكلًّ منه !! والذي نفسي بيده إني لأراه الآن ينغمس في أنهار الجنة ” !!

الله أكبر ، إنها كرامة الله ، إنه فضل الله … وهل وجدتم أعظم من جاد بنفسه في سبيل الله ؟!!

أما صاحبته الغامدية فقصتها أعجب وأعجب !!

لقد علمت بالطريقة التي مات بها ماعز – رضي الله عنه – فلم تستخف عن الناس ، لم تهرب منهم ؛ بل لقد كان شأنها عجباً من العجب !!

جاء في صحيح مسلم في قصة هذه المرأة : أنها جاءت إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالت : يا رسول الله إني زنيت فطهرني !! فردها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأشاح عنها يميناً ، فجاءته من عن يمينه ، فقالت له ذلك !! فأشاح عنها شمالاً ، فجاءته من ناحية الشمال !! فقال لها ذلك ، يصرف النبي – صلى الله عليه وسلم – بصره عن هذه المرأة لعلها أن تذهب ، لعلها أن تستر نفسها !! لكنها – رضي الله عنها- قالت له -صلى الله عليه وسلم – : لعلك تردني كما رددت ماعزاً ، فوالله إني لحبلى من الزنى !!

فقال – عليه الصلاة والسلام – : ” إمَّا لا ، فأذهبي حتى تلدي ” !!

فذهبت ، وجلست تسعة أشهر حتى ولدت رضيعها .فعادت بعد تسعة أشهر ، وجاءت بالصبي في خرقة !!

هي التي جاءت بنفسها ولم يطلبها النبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يأخذ عليها عهداً . فقالت : ها قد ولدته يا رسول الله فطهرني !!

فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – : ” اذهبي حتى ترضعيه ، ثم تفطميه ” !!

فذهبت لترضعه . أهو يوم أم يومان ؟! أم شهر أم شهران ؟! كلا ، إنها سنتان كاملتان !!

ذهبت وجلست سنتين وقبلها تسعة أشهر ونار المعصية تشوي فؤادها وتقض مضجعها . فكم أهرقت لها من دمعة ؟! وكم أسبلت لها من عبرة ؟! تبيت الليالي ذوات العدد في حالك الظلمات تناجي ربها ، وتشكو بثها وحزنها إلى الذي يراها ، ويبصر ضعفها وهي تعفر جبينها ساجدة لربها، مقرَّة بخطيئتها، نادمة على فِعلها !!

فلله درُّها ما أعظم خشيتها !! ولله درها ما أجلَّ إعظامها لمولاها !!

لقد قضت تلك الصحابية الجليلة أيامها التي حدّدها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى تفطم ولدها ، وكلها شوق إلى ذلك اليوم ، وذلك الميعاد. وأي ميعاد ؟! أهو لقاء حبيب ؟! أهي ليلة عرس ؟! أهو فوز بشهادة أو منصب ؟!

كلا واللهِ بل هو موعد مع الموت…

أجل إنه الموت ، وأي موت ؟! إنه الرجم بالحجارة على مشهد من الناس !!

ألا تعجبون إخوتي وأخواتي من هذا الإيمان الذي يزلزل الجبال الراسيات ؟!

أتت إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد أن فطمت صبيها ، فجاءت به ، وفي يده كسرة من خبز .تقول : يا نبي الله ها قد فطمته ، وقد أكل الطعام ، واستغنى عني !!

فدفع النبي – صلى الله عليه وسلم – بالصبي إلى رجل من المسلمين ، ثم أمر بها فحُفِر إلى صدرها، ثم أمر الناس فرجموها حتى زهقت روحها الطاهرة … وارتفعت إلى مولاها راضية مرضية …

هانت عليها نفسها في ذات الله ، واستعذبت العذاب رجاءً في مغفرة رب الأرباب !!

صعدت روحها إلى الله حيث النعيم المقيم ، ورحمة الكريم الرحيم .

لقيت ربها نقية من الذنوب، سالمة من الآثام، فرحة برضى خالقها.

وكان من بين من رجم تلك المرأة من الصحابة خالد بن الوليد – رضي الله عنه – فرجمها بحصاة في رأسها فتنضح الدم على وجهه ، فغضب وسبها – غفر الله له – ، فسمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما قاله خالد ، فقال : ” مهلا يا خالد ، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبةً لو تابها صاحب مَكْسٍ [2] لغفر الله له ” !!

ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت – رضي الله عنها وأرضاها – وألحقنا بها في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر .

فأبشروا – معاشر التائبين والتائبات – أبشروا برحمة الله وتكفيره لخطاياكم وذنوبكم ولو بلغت ذنوبكم عنان السماء .



الثمرة الثانية من ثمار التوبة :

تغير الحياة من جحيم إلى نعيم

إن أسعد الناس هم التائبون والتائبات ؛ لإنهم قوم رقَّت قلوبهم ، وخشعت لمولاهم ، فأورثهم الله حلاوة وجدوها في نفوسهم .

وهذه اللذة لا تكون إلا لمن أظهروا فقرهم لله وانطرحوا بين يديه خاشعين باكين وأنابوا إليه . لقد ذاقوا بذلك حلاوة رزَقَهم الله إياها لا تحصل لأي أحد إلا لمن كان على مثل حالهم .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- : ” القلب لا يصلح ولا يفلح ولا يتلذذ ولا يسر ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه ” .

وما ذكره رحمه الله هو مصداق قول الرسول – عليه الصلاة والسلام – كما جاء في صحيح مسلم من حديث العباس بن عبدالمطلب : ” ذاق حلاوة الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد – صلى الله عليه وسلم – رسولاً “.

وانظروا – عباد الله – إلى كلام ابن القيم وهو يتحدث عن شيخه ابن تيمية الذي سبق ذكر قوله آنفاً .

شيخ الإسلام ابن تيمية أُبتلي كثيراً !! تعرض لكثير من المشقة وكثير من العناء في حياته ، هُدِّد .. سُجن … طُرد من بلاده … كثُر حاسدوه وشانئوه …ومع ذلك كله : هل كان تعيساً ؟هل كان شقياً ؟هل كان كثير الأحزان ؟

اسمعوا إلى كلام ابن القيم عنه يقول : ” كان شيخ الإسلام يقول في سجوده وهو محبوس : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك . وقال لي مرة : المحبوس من حُبس قلبه عن ذكر ربه !! والمأسور من أسره هواه !! ”

ولما دخل السجن سجن القلعة وصار داخل سورها نظر إلى السور وقرأ قول الله تعالى : }فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب { . ثم يقول ابن القيم : “وعلِم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش ، وخلاف الرفاهية والنعيم . ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق !! وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً ، وأشرحِهم وأقواهم وأسرهم نفساً !! تلوح نضرة النعيم على وجهه !! وكنا إذا اشتد بنا الخوف ، وساءت بنا الظنون ، وضاقت بنا الأرض ، أتيناه ، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً !! فسبحان من أشهدَ عباده جنته قبل لقائه ” [3].

الثمرة الثالثة من ثمار التوبة :

فرحة الله بتوبة عبده وأَمَتِه

أوَيفرح الله ؟! نعم ، إن ذلك من صفاته ، بل إن من صفاته أنه يضحك – جل شأنه – وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – في الحديث الطويل في خبر آخر من يدخل الجنة حيث يدعو ربّه ويلح عليه في الدعاء ، قال – صلى الله عليه وسلم – فيقول : ” أي رب لا أكونن أشقى خلقك ، فلا يزال يدعو حتى يضحك الله منه ، فإذا ضحك منه قال له : ادخل الجنة ، فإذا دخلها قال الله له : تمنَّـه ، فسأل ربه وتمنَّى حتى إن الله ليذكره يقول : كذا وكذا ، حتى انقطعت به الأماني ، قال الله : ذلك لك ومثله معه !! “

أيها الإخوة في الله : إن الله – جل جلاله – ليفرح بتوبة عباده وهو الغني عنهم وهم الفقراء إليه !! يقول جل شأنه {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد *إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز} (فاطر 15-17)

أيّ فرحة هذه ؟ وما مقدارها ؟ اسمع إلى قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في حديث مشهور معروف يبين كيف تكون فرحة الله بتوبة عبده إذا تاب إليه .

جاء في صحيح البخاري ومسلم من حديث أنس – رضي الله عنه – يقول النبي – صلى الله عليه وسلم – : ” لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه ” فلتت منه ناقته وندت عنه فذهب يبحث عنها، صعد الجبال نزل الوديان ، يبحث يميناً وشمالاً فلم ير لها أثرا ، وعلى هذه الدابة طعامه وشرابه وكساؤه !! أين هو ؟! في صحراء مابها أحد ينقذه ولا بشر يساعده !! ” فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينا هو كذلك ” ينتظر ماذا ؟ إنه ينتظر الموت !! إذ به يرفع رأسه ” إذا هو بها قائمة عنده ” وعليها طعامه وشرابه وكساؤه !! تخيلوا معي – إخوتي وأخواتي – : أيّ فرحة ستتملّك قلب ذلك العبد حينا يكون حاله كهذه الحال ؟!! إنها فرحة عظيمة … إنها حياة جديدة …” فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك !! أخطأ من شدة الفرح !! ”

إن الفرح قد تملك قلبه ، وأطاش لبَّه حتى نسي وغلط فقلب ، وقال : أنت عبدي وأنا ربك !!

إن هذه الفرحة الكبرى في قلب ذلك العبد الناجي من الهلاك لا تساوي شيئاً أما فرحة الله جل في علاه بتوبة عبده إذا جاءه تائباً نادماً !!

الله أكبر !! إنه كرم الله وجوده ، وعطفه وامتنانه . فلا عذر – بعد ذلك – لأحد أن يبتعد أو أن يتردد عن القرب من الكريم الجواد جلّ في علاه .

كيف والله يقول كما جاء في الحديث القدسي الثابت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – يقول الله الكريم الغني عن عباده : ” من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة !! ” القائل هو الله !! أتخيّلت ذلك ؟!! وعند البخاري ” وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبّه !! فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنّه . وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته !! ”

فاللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقرب إلى حبك ، واجعلنا من أحبابك وصفوة أوليائك .

الثمرة الرابعة من ثمار التوبة :

الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة والتنعم بالجنة والنجاة من النار

أيها الإخوة والأخوات : إن أمامنا يوماً لا مفر منه ، ولا محيص عنه . وإن أمامنا موقفاً لابد منه . إنه يوم تبدل فيه الأرض غير الأرض والسماوات، إنه اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين . يومٌ أهواله شديدة ، وساعاته عصيبة ، فليت شعري ما حالنا في ذلك اليوم ؟!! أنحن من المكرمين المنعمين ، أم نحن من المهانين المبعدين ؟ فاللهم لطفك ورحمتك يا أرحم الراحمين .

ما أحوجنا – أحبتي الكرام – إلى وقفة تذكير بذلك اليوم العصيب . فالورود عليه حتم لازم لا مناص عنه .

إنه يوم القيامة {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود}. فهل نحن ممن يذكر نفسه بذلك اليوم ؛ ليكون ذلك دافعاً له لفعل الصالحات وهجر المحرمات والموبقات ؟

دخل أمير المؤمنين المهدي إلى مجلسه فوقف الناس تبجيلاً وأحتراماً إلا عالما من العلماء الربانيين وهو ابن أبي ذئب ، فما وقف . فاستشاط الخليفة غضباً وقال : “ما منعك ألا تقوم حيث رأيت الناس يقومون ” قال :” إني لما رأيت قيامهم تذكرت يوم يقوم الناس لرب العالمين ، فتركت القيام لأجل ذلك اليوم !! فقال الخليفة : والله لقد أطرت شعر رأسي بكلامك ” .

دعوني معاشر الإخوة الكرام أقف وإياكم وقفة تنقلنا بخيالنا إلى ذلك العالم الأخروي الذي شابت له رؤوس الصالحين ، وأقض مضاجعهم ، فأَدْأبوا أنفسهم ، ووقفوا في ظلمات الليل باكين متضرعين إلى الله يرجون النجاة من هول ذلك اليوم !!

صورة واحدة فقط من صور ذلك اليوم العصيب ، ذكرها ابن المبارك في كتاب الزهد [4]والطبري في التفسير[5] وحسن إسناده ابن حجر عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : ” إذا كان يوم القيامة مدت الأرض حتى تكون كالأديم وزيد في سعتها كذا وكذا وجمع الخلائق في صعيد واحد ، جنِّهم وأنسهم قال : ثم تنشق السماء الأولى عن أهلها ” من أهلها؟ إنهم الملائكة ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!! وهل فيها ملائكة ؟ نعم ، إن الملائكة قد امتلأت بهم السماوات السبع كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن من حديث أبي ذر يقول – صلى الله عليه وسلم – :” أطت السماء- أي ثقلت – وحق لها أن تئط !! ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله ” يقول أبن عباس : ” ثم تنشق السماء الأولى عن أهلها فيتناثرون على أهل الأرض فيفزعون منهم فيقولون أفيكم ربنا ؟ قال فيقولون : تعالى الله وإنه لآت !! ” أجل ، هذا اليوم الذي يأتي فيه الله {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} قال ابن عباس : ” والذي نفسي بيده إن أهل السماء الأولى لكمثل أهل الأرض من أنسهم وجنهم بالضعف !! ” هل تخيلت المشهد ؟!! قال :” ثم تنشق السماء الثانية عن أهلها ، فيتناثرون على أهل الأرض من الأنس والجن والملائكة فيفزعون منهم ويقولون : أفيكم ربنا ؟ فيقولون : تعالى الله وإنه لآت . ووالذي نفسي بيده إن أهل السماء الثانية لكمثل أهل الأرض من أنسهم وجنهم وكمثل أهل السماء الأولى بالضعف !! والسماء الثالثة كذلك والرابعة والخامسة إلى السابعة !! قال : ويجيء الله تبارك وتعالى والأمم جثيٌّ صفوفٌّ ، فينادي منادٍ : اليوم يوم الكرم !! ليقم الحامدون لله على كل حال . قال : فيقومون ويسرحون إلى الجنة !! ثم يقال : أين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون ؟ قال : فيقومون ثم يسرّحون إلى الجنة !! ثم يقال : أين الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ؟ قال : فيقومون ثم يسرحون إلى الجنة . قال ثم يخرج بعد ذلك عنق من النار يشرف على الناس !! له عينان تبصران ولسان فصيح ، فيقول : إني وكِّلت بثلاثة : إني وكِلت بكل جبار عنيد ، قال فيلتقطهم من بين الناس كما يلتقط الطير حب السمسم ، ثم يلقي بهم في غمرات جهنم . قال ثم يخرج ثانية فيقول : إني وكِّلت بمن آذى الله ورسوله ، فيلتقطهم من بين الناس كما يلتقط الطير حب السمسم ، ثم يهوي بهم في غمرات جهنم . ثم يخرج ثالثة فيقول : إني وكّلت بأصحاب التصاوير ، فيلتقطهم من بين الناس كما يلتقط الطير حب السمسم . فإذا أُخذ هؤلاء وهؤلاء نشرت الصحف ووضعت الموازيين ودعي الخلائق للحساب !! ”

أيها الأحبة : إنه مشهد عظيم تشيب فيه رؤوس الولدان ، وتضع فيه كل ذات حملٍ حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد .

فمن ينجو عندئذٍ؟!! من يسلم من كربات الموقف وهول المطلع ؟!!

إنهم أهل الإيمان ، أولياء الله المسارعون إلى مرضاة ربهم ، إنهم التوابون والتوابات، المنيبون والمنيبات، الذين أعدوا لهذا اليوم عدته وأخذوا له أهبته فهنيئاً لهم ، هنيئا لهم الأمن يوم يفزع الناس ، والطمأنينة يوم يخاف الناس ، والشِبَع يوم يجوع الناس ، والرِّي يوم يعطش الناس …

إنهم في ذلك اليوم العصيب الذي يبلغ فيه الجهد من العباد مبلغاً عظيما ، وتنـزل الشمس فيه على رؤوس الخلائق ، ترى هؤلاء الثلة من عباد الله من التائبين والتائبات يأتون ويردون إلى حوضه – صلى الله عليه وسلم – ليشربوا من يده الشريفة شربة هنيئة لا يظمئون بعدها أبداً!!

أجل ، لقد انتهى وقت الشدة والعناء … ذهبت الهموم والغموم والأحزان … ذهب ذلك كله ليبدأ نعيم سرمدي ، وحياة جديدة …يسقي محمد – صلى الله عليه وسلم – بيده الشريفة أولئك الصالحين …

وكم وارد إليه في ذلك الموقف يطلب شربة ماء فلا يمكَّن من ذلك والعياذ بالله !! يقول – عليه الصلاة والسلام – : ” إني فرطكم على الحوض . من مرَّ عليَّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبدا . ليردن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم !! فأقول : إنهم منّي . فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك !! فأقول : سحقا سحقا لمن غير بعدي ”

أيها التائبون : أبشروا بموعود الله وجنته ، أبشروا بدار زينها الله بيده ، وختم عليها، فلا عين رأت ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر !! أبشروا بالأنهار المطردة ، أبشروا بالقصور الفارهة ، والنعيم المقيم …

أبشروا بلقيا الأنبياء والمرسلين ، وبلقيا محمد – صلى الله عليه وسلم – ؛ بل أبشروا بما هو أعظم وأجل وهو رؤية الله – تبارك وتعالى – في جنات النعيم … فاللهم لا تحرمنا من واسع فضلك .

الوقفة الثانية

عوامل تعين على ولوج باب التوبة

إن هناك عدداً من العوامل التي تعين العبد وتساعده على أن ينهض إلى ركب التائبين فيكون منهم ومن ذلك :

أولاً: استشعار مراقبة الله لعبده :

إن من خير ما يعين العبد على الرجوع إلى ربه أن يعلم علم اليقين أن الله مطلع عليه ، عالم بسرائره ، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، كما قال الله – عز وجل- : {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} (يونس 61)

إنه العالم بالسرائر ، كما أنه العالم بالعلانية ، الذي لا تخفى عليه خافية ، ولا يمنع بصرَه أن يكون الإنسان في قعر داره ، أو أن يتدثر بلحافه ، أو أن يكون في جوف البحار أو فوق قمم الجبال … كل ذلك لا يمنع من رؤية الله له ، فسبحانه من إله عظيم ، وربٍّ لطيف خبير …

فمن علِم ذلك فليخجل من ربه وليستح منه !! كيف يجترئ على معصيته وهو يعلم أن الله يراه {ألم يعلم بأن الله يرى} ؟!! (العلق 14)

يحكى أن رجلاً راود امرأة على الفاحشة ، وكانت امرأة صالحة فأبت عليه ذلك . ومع مرور الأيام – وقد كانت هذه المرأة فقيره وهذا الرجل غنياً – جاءت إليه تطلب المال فقال: لا، حتى تمكنيني من نفسك !! حتى أفعل الحرام !! فقالت : له حسناً ؛ لكنني أشترط عليك شرطاً، فقال : وما هو ؟ قالت: أن تغلّق الأبواب قلا يرانا أحد !! فقام فرحاً جذلاً وغلق الأبواب ثم عاد ، فقال : ها قد غلقت الأبواب ، قالت : أكُلَّ الأبواب ؟ قال : نعم . قالت : بقي باب واحد لم تغلقه . قال: أين هو ؟! قالت: الباب الذي بينك وبين الله !! هل تستطيع أن تغلقه {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول} فقام هذا الرجل مرتعشاً خائفاً نادماً تائباً إلى الله تعالى .

رقيب على كل الوجود مهيمنٌ على الفلك الدّوّار نجماً وكوكبا

رقيب على كل النفوس وإن تلُذْ بصمتٍ ولم تجـهر بسرٍّ تغيّبا

رقيب تعالى مالك الملك مبصـرٌ به كل شيء ظاهراً أو محجّبا

وفي هذا الوقت ، في العصر الحاضر، يذكر أن أحد الشبان سافر إلى إحدى البلاد المشورة بالانحلال والبغاء ، فبينما هو في شقته مع معشوقته وقد همَّ بمعاقرة الفاحشة معها نظرت هذه البغي – وكانت بوذيّة – فوجدت على الطاولة تمثالاً صغيراً لإلهها ( بوذا ) فقامت وأخذت لحافاً صغيراً وغظت إلهها !! تعجب هذا الشاب وسألها : لماذا فعلتِ ذلك ؟ فقالت : إنني أخجل وأستحي أن أفعل هذه الفعلة أمام إلهي !!

هنا تحرك الإيمان في قلبه …وارتعدت فرائصه وتذكر ربه ، فقال : الله أكبر … أتخجلين أن تفعلي ذلك مع إله صنعتموه بأيديكم من حجر أصم لا يملك لكم نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشورا ؟!! وأنا لا أخاف ولا أستحي من الله الذي يراني من فوق سبع سماوات ؟!!

وإذا خلوت بريبة في ظلمــة والنفس داعية إلى الطغيان

فاستحي مـن نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني

إن الله جل جلاله عالم بالسرائر والخفيّات ، فإذا علم العبد ذلك يقيناً كان ذلك مما يعينه على أن يهجر المعصية ويقبل على الله تبارك وتعالى ويكون من التائبين .

ثانياً: مما يعين على ولوج باب التوبة :تذكر عظمة الله وسطوته وانتقامه

أيها المسرف على نفسه بالذنوب : أتدري من عصيت ؟! أتعلم عظمة ربك ومولاك ؟‍‍! تأمل معي وانظر إلى آيات ربك في السماء والأرض لتنظر ولتعلم عظمة الخالق الذي اجترأت على معصيته .

قف معي – أخي في الله – قليلاً مع آيات من كتاب الله ، واسرح بخيالك في ملكوت الله ، في سمائه ، وفي أرضه ، وانظر ، وتأمل إلى بديع صنعه في خلقه ؛ لتوقن وتستدل بذلك على عظمته سبحانه …

يقول الله تعالى :{أمّن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءًا فأنبتا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون * أمن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون* أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكسف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون * أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عمّا يشركون* أمن يبدؤاْ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} (النمل 60-64)

إن العاصي والمذنب حينما يعصي فإنه إنما يعصي رب السماوات العُلى !!!

ليس ملكاً من ملوك الأرض ، أوسيداً من ساداتها بل هو سيد الملوك وملك الملوك ، ذو الطول شديد العقاب .

تأمل معي إلى هذه السموات التي فوقك … كم بيننا وبين السماء الأولى منهن ؟!! إنها مسافة مهولة شاسعة !! وفوقها ست سماوات لا يعلم كم بينهن ولا ضخامة خلقهن إلا الواحد الأحد .

ولك أن تجري مقارنة بين هذه السماوات العظام وكرسي الرحمن – جل في علاه – !! إنه شيء لا يمكن للعقل البشري إدراكه !! {وسع كرسيه السماوات والأرض}

جاء عند البيهقي عن أبي ذر – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة بأرض فلاة !! وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة !! “[6]

هذا العرش العظيم تحمله ثمانية من الملائكة !! نعم ثمانية ، ولكن اسمع إلى صفة واحد من هؤلاء الملائكة الثمانية :

جاء عند الطبراني بسند صحيح يقول النبي – صلى الله عليه وسلم- : ” أُذن لي أن أحدث في صفة ملك من ملائكة عرش الرحمن ، رجلاه في الأرض السفلى ، وفوق قرنه عرش الرحمن ، وما بين شحمة أُذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام !! ” [7]

لا إله إلا الله !! أي مخلوق هذا ؟!! وأي عقل سيتصور ضخامة هذا الجسد العظيم ؟!!{وما يعلم جنود ربك إلا هو }.

أيها الأحبة الكرام : إذا كان هذا هو وصف ملك واحد فكيف بثمانية مجتمعين ؟!! وكيف سيكون عرش الله الذي تحمله هذه المخلوقات الضخمة ؟!! بل كيف سيكون من استوى على العرش ؟!! جلّ شأنه ، لا إله إلا هو {ليس كمثله شي وهو السميع البصير}{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير } .

أفيجرؤ ذلك العاصي على مخالفة أمر الله ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة ؟!

فاللهم عفوك وسترك ورحمتك { لئن لم يغفر لنا ربنا ويرحمنا لنكونن من القوم الخاسرين }.

إن الله – جل وعلا – ليملي للظالم ويعطيه فرصة بعد أخرى ؛ لكنه إن لم يرجع فإنه سبحانه توعده بالعذاب إنْ في الدنيا وإنْ في الآخرة { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم إن كيدي متين }.

جاء في المسند من حديث عقبة بن عامر – رضي الله عنه – يقول النبي – صلى الله عليه وسلم-0: ” إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج !! ” ثم تلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قوله تعالى :{وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} .

كم من عاصٍ استهزأ بأوامر الله وتجرأ على حرماته فكان له مع الله موعد !! وكانت له ساعة انتقم الله – جل جلاله – منه فيها ، وأراه الله قوته وبطشه …

ومن أعظم المواطن التي ينتقم فيها الله ويتخلى عن عبده وهو بأمس الحاجة إليه عند الموت …

عندما يكون العبد محتاجاً إلى ربه ؛ فيتخلى الله عنه في هذه الساعة ، وربما يعاقبه الله بعقوبة يراها الناس في الدنيا {ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} …

أيها الأخوة والأخوات : أقرأ عليكم رسالة وصلتني من إحدى الأخوات تذكر فيها حادثة شهدتها ووقفت عليها بنفسها ، فيها –واللهِ – عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .

أسوق لكم هذه القصة ، وأقرأ عليكم بعضاً من هذه الرسالة :

تقول الأخت :” كانت لي إحدى قريباتي مسرفة على نفسها في المعاصي : إهمال في الصلاة ، تهاون في لبس الحجاب، هجران لكتاب الله ، متعلقة بسماع الغناء … وبالجملة فقد كانت مفرطة على نفسها ، بعيدة عن ربها…

أصيبت فجأة بصداع شديد في رأسها فارقت بعده الحياة وهي تسب أمها وتلعنها !! وتصرخ وتستغيث !! ولكن هيهات هيهات … ” وأقول صدق الله العظيم إذ يقول :{ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مره وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون } (الأنعام 94) …

ثم ماذا حدث ؟ لقد حدث أمر مروع !! تقول الفتاة : ” فلما ماتت هذه المرأة انقلبت بشرة جسدها إلى اللون الأسود !! وجهها ويداها وسائر جسدها بشكل مخيف مروع ، وانتفخت أعضاؤها ، وأخذ الدم يسيل من فمها وأنفها وكأنه صنبور ماء متدفق !!

حاولوا إيقاف هذا الدم حين تغسيلها ولكنه لم يتوقف ؛ بل زاد – والعياذ بالله- فكفنوها ودماؤها تسيل حتى صار كفنها الأبيض أحمر من كثرة الدماء !!

مع أن المرأة لم تُصب بحادث ولا بجروح ؛ ولكن هكذا أراد الله – تبارك وتعالى …

ثم تسأل هذه الفتاة عن هذه الحالة البئيسه ، ماذا تعني : أهي دليل على سوء الخاتمة ؟ وتريد جواباً ليهدأ قلقها ويرقأ دمعها …وتذكر من حالتها النفسية بسبب هذا الحدث الشيء الكثير …

أقول : إننا لا نجزم لأحد بجنة ولا نار ، إلا من شهد الله له بذلك أو رسوله – صلى الله عليه وسلم – ؛ ولكن – واللهِ – إن مثل هذه الحالة لأمر مروع مخيف لا يتمناه أحد . وشتان بين من يموت ساجداً لله أو قارئاً للقرآن وبين من يموت على مثل هذه الحالة . والناس شهود الله في أرضه كما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فنسأل الله حسن الخاتمة وحسن العاقبة .

ثالثاً: مما يعين على التوبة : التأمل في نتائج المعصية وعقوبتها

إن العاصي حين يرتكب فاحشة أو يقترف خطيئة فإن عاقبة فعله حسرة وهموم في الدنيا ، وخزي وندامة يوم القيامة …

ولو حصل لذلك العاصي لذة في أثناء معاقرته للذنب إلا أنها لذة ممزوجة بكدر !! ثم إنها لذةٌ سرعان ما تنقضي وتنتهي وتبقى الآثام مسجلة مكتوبة عليه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .

تفنى اللذائذ ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعارُ

تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار ُ

إن صرعى الشهوات وعبّاد الهوى هم أبأس الناس حالاً ولو زعموا غير ذلك ، وهم والله في بحر الحزن والنكد غارقون ، ولو أظهروا للناس عكس ما يبطنون …

يقول الحسن البصري – رحمه الله – واصفاً أهل المعاصي الذين وإن ظهر عليهم شيء من الترف والنعيم وظهر للناس أنهم سعداء يقول فيهم : ” إنهم وإن هملجتْ بهم البراذين ، وطقطقت بهم البغال إلا أن ذل المعصية في قلوبهم ووجوههم !! أبى الله إلا أن يذل من عصاه !!”[8]

فعلام يردي المرء نفسه في وحل المعصية وهذه عاقبتها في الدنيا ؟!! وأما في الآخرة فالأمر فوق ما يخطر على البال !!

إنها النار وبئس القرار {إنها لظى * نزاعةً للشوى * تدعو من أدبر وتولى * وجمع فأوعى} {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور * وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير}.{لهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أُعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق (لِم ؟ ) ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد}..

وشتان بين حياتين : حياة التائبين وحياة العاصين المذنبين {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} .

رابعاً ( مما يعين على التوبة ) : الجلوس إلى التائبين وقراءة سيرهم وقصصهم :

إن الجلوس إلى التائبين والتأمل في مشوار توبتهم ورجوعهم إلى الله لهو مما يعين على سلوك مسلكهم ؛ ذلك أنهم قوم منكسرة قلوبهم ، قريبون من ربهم ، يتذكرون حياة اللهو والمعصية فَيوجَلون ويخافون ، وتقشعر أجسادهم خوفاً من عواقبها ، ثم يتأملون في توبتهم فيخافون ألا تقبل منهم !! فقلوبهم كقلوب الطير في خوف ووجل وانكسار ورقّة لله – تبارك وتعالى…

إنها قلوب التائبين المنيبين للرحيم الكريم ، فكان لزاماً على كل من أراد التوبة أن يجلس إلى هؤلاء التائبين ليستفيد منهم ويأخذ العبرة والعظة ، وإن لم يكن كذلك فلا أقل من أن يقرأ سيرهم وقصصهم .

يقول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- : ” أكثروا الجلوس إلى التائبين فإنهم أرق أفئدة ” .

وسأقف وإياكم في هذه العجالة مع قصتين ، لشاب تائب وفتاة تائبة ممن ركبوا قافلة التائبين وأنابوا لله رب العالمين …

ولعل في هاتين القصتين ما يكون دافعاً إلى التوبة إلى الله – جل جلاله – والرجوع إليه …

أما قصة الشاب فقد حكاها ابن قدامه في كتاب التوابين يقول – رحمه الله – : ” عن رجاء بن ميسور المجاشعي قال : كنا في مجلس صالح المريّ وهو يتكلم ، فقال لفتى بين يديه وعنده الناس : اقرأ يا فتى ، فقرأ الفتى قول الله {وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع } ، قال صالح المريّ يفسر هذه الآية : كيف يكون للظالمين حميم أو شفيع والمطالب له رب العالمين ؟!! إنك والله لو رأيت الظالمين وأهل المعاصي يساقون في السلاسل والأنكال إلى الجحيم حفاةً عراة ً ، مسودة وجوههم ، مزرقَّة عيونهم ، ذائبة أجسادهم ، ينادون : ياويلنا ، ياثبورنا ماذا حل بنا ؟! أين يُذهب بنا ؟! ماذا يُراد منا ؟! والملائكة تسوقهم بمقامع النيران ، فمرة يجرون على وجوههم ويسحبون عليها منكبين ، ومرة يقادون إليها مقرنين من بين باكٍ دماً بعد انقطاع الدموع ، ومن بين صارخ طائر القلب مبهوت !! إنك – واللهِ – لو رأيتهم على ذلك لرأيت منظراً لا يقوم له بصرك ، ولا يثبت له قلبك ، ولا تستقر لفظاعة هوله على قرار قدمُك . قال : ثم نحب صالح ٌ وبكى قائلاً : يا سوء منظراه ، يا سوء منقلباه . وبكى وبكى الناس معه …

وكان من بين الحاضرين فتى مسرف على نفسه معروف بغفلته ، قال هذا الفتى بعد أن سمِع ماسمِع : أكُلّ هذا في يوم القيامة يا أبا بِشر؟ قال : نعم – والله – يا ابن أخي وما هو أكثر ، قد بلغني أنهم يصرخون في النار حتى تنقطع أصواتهم فما يبقى منهم إلا كهيئة الأنين من المدنف !! فصاح هذا الفتى الذي كان غافلاً وقال : إنا لله ، واغفلتاه عن نفسي أيام الحياة ، واأسفاه على تفريطي في طاعتك يا سيداه ، واأسفاه على تضيعي لعُمري في أيام الدنيا . ثم بكى واستقبل القبلة وقال : اللهم إني أستقبلك في يومي هذا بتوبة لا يخالطها رياء لغيرك . اللهم فاقبلني على ما كان فيّ ، واعفُ عما تقدم من فعلي ، وأقِلْني في عثرتي ، وارحمني ومن حضر ، وتفضل علينا بجودك وكرمك ، يا أرحم الراحمين : لك ألقيتُ معاقد الآثام من عنقي ، وإليك أنَبْتُ بجميع جوارحي صادقاً لذلك قلبي ، فالويل لي إن لم تقبلني !!

ثم غُلِبَ فسقط مغشياً عليه !! فحُمل من بين القوم صريعاً !! فمكث صالح المريّ وإخوته يعودونه أياماً ، ثم مات – رحمه الله !! فحضر جنازته خلقٌ كثير يبكون عليه ويدعون له …

وكان صالح المريّ كثيراً ما يذكره في مجلسه فيقول: بأبي قتيل القرآن !! بأبى قيتل المواعظ والأحزان !!

قال : فرآه رجل في منامه بعد موته فقال : ما صنعت ؟. قال : عمَّتني بركة مجلس صالح المريّ ، فدخلت في سعة رحمة الله التي وسعت كل شيء !! [9]

نعم أيها الأخوة والأخوات : كيف لا تكون رحمة الله لمن أقبل إلى إليه وأناب واستغفر من ذنبه وتاب؟!!

فحيّهلاً أيها ****** ، بادر قبل زمن الفوات ، واطرق باب الكريم الجواد الرؤوف الرحيم …

أما النموذج الثاني لمن أحياه الله بعد موت ، وأنقذه بعد غرق في بحار المعصية والخطيئة فهي قصة لفتاة في هذا العصر . تاب الله عليها بسبب معلمتها ، تروي قصتها بنفسها مع شيء من التصرف اليسير فتقول : ” لا أدري بأي كلمات سوف أكتب ؟ أم بأي عبارات الذكرى الماضية التي أتمنى أنها لم تكن ؟

لقد كان إقبالي على سماع الأغاني كبيراً ، حتى إنني لا أنام ولا أستيقظ إلا على أصوات الغناء!!

أما المسلسلات والأفلام فلا تسل عنها في أيام العطل لا أفرغ من مشاهدتها إلا عند الفجر!! في وقت ينـزل فيا رب السماء فيقول : هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من سائل فأعطيه سؤله ؟ وأنا ساهرة على أفلام الضياع !!

وأما زينتي وهيئتي : فكهيئة الغافلات أمثالي في هذا السن !! قَصَة غربية ، ملابس ضيقة وقصيرة ، أظافر طويلة ، تهاون بالحجاب إلى غير ذلك من ألوان المعصية والتقصير.

تقول : في الصف الثاني الثانوي دَخَلت علينا إحدى المعلمات ، وكانت معلمة فاضلة شدني إليها حُسن خلقها ، وإكثارها من ذكر الفوائد ، وربطها المادة بالدين .

حملتني أقدامي إليها مرة ، لا أدري ما الذي ساقني إليها ؟! لكنها كانت البداية …

جلست إليها مرة أو مرتين ، فلما رأت مني تقبلاً واستجابة نصحتني بالابتعاد عن سماع الغناء ومشاهدة المسلسلات قلت لها: لا أستطيع . قالت: من أجلي ، قلت : حسناً من أجلك ، ثم صَمتّ قليلاً وقلت بعد ذلك : لا ليس من أجلك بل لله – إن شاء الله … وكانت قد علمت منّي حبَّ التحدي فقالت : ليكن تحدٍ بينك وبين الشيطان ، فلننظر لمن تكون الغلبة ، فكانت آخر حلقة في ذلك اليوم .فلا تسل عن حالي بعد ذلك ( تقصد ما واجهها من صراع ومجاهدة )،لا تسل عن حالي وأنا أسمع من بعيد أصوات الممثلين في المسلسلات:أأتقدم وأشاهد المسلسل؟ إذاً سيغلبني الشيطان …

ومن تلك اللحظة تركت سماع الغناء ومشاهدة المسلسلات ، لكن بعد شهر تقريباً عدت إلى سماع الغناء خاصة واستطاع الشيطان رغم ضعف كيده أن يغلبني لضعف إيماني بالله !!

تقول:وفي السنة الثالثة دخلت علينا معلمة أخرى كنت لا أطيق حصَتها،ولا أطيق رؤية هذه المعلمة بسبب درجة متدنية حصلت عليها عندها، ولم أكن قد اعتدت الحصول على مثل هذه الدرجة ، لكن عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم .

وبعد أن ساقت حواراً بينها وبين هذه المعلمة التي كانت صالحة وتقية ، تقول بعد ذلك صافحتني المعلمة ووضعت في يدي مصحفاً صغيراً ، وقبضت على يدي وقالت : لا أقول إنه هدية ؛ بل هي أمانة فإن استطعتِ حملها وإلا فأعيدِها إليّ !! فوقع في نفسي حديثها !! لكن لم أستشعر ثقل الأمانة إلا بعد أن قابلت إحدى الأخوات الصالحات فأخبرتها بما حدث وبما قالت لي المعلمة قالت : فتغير وجه تلك الأخت الصالحة وقالت لي : أتعلمين ماهي الأمانة ؟! أتعلمين ماهي مسئولية هذا الكتاب ؟! أتعلمين كلام من هذا ؟! أوامر من هذه ؟!

عندها استشعرت ثقل الأمانة التي حُملتها ، فكان القرآن العظيم أكبر هدية أهديت لي ، فانهمكت في قراءته وهجرت وبكل قوة وإصرار الغناء والمسلسلات … إلا أن هناك نقصاً فيّ ؛ حيث إن هيئتي لم تتغير كثيراً ، قَصة غربية وملابس ضيقة ونحو ذلك مما يعد نقصاً في سمات الفتاة الملتزمة . ومع طول المجاهدة وكثرة النصائح تحسنت حالي والحمد لله ، إلا أن الحدث الذي غير مجرى حياتي ، وكان له أبلغ الأثر في نفسي هو ما حدث في يوم من الأيام … حيث ذهبت مع إحدى الأخوات إلى مغسلة الأموات … فإذا بالمُغسِّلة تُغسل شابه تقارب الثالثة والعشرين من عمرها ، وكانت في المستوى الثالث من الجامعة ، تقول : ولا أستطيع وصف ما رأيت !! تُقَلَّب يميناً وشمالاً لتُغسل وتُكفن وهي باردة كالثلج !! وأمها حولها وأختها وأقاربها .

أتراها تقوم وتنظر إليهم آخر نظرة وتعانقهم وتودعهم ؟! أم تراها توصيهم آخر وصية ؟! كلا ، لا حِراك !!

وإذا بأمها تقبّلها على خدها وجبينها وهي تبكي بصمت وتقول : اللهم ارحمها ، اللهم وسع مدخلها ، اللهم اجعل قبرها روضة من رياض الجنة ، ثم تردف الأم كلامها وتقول : قد سامحتك يا ابنتي ، قد سامحتك يا ابنتي !!

ثم يسدل الستار على وجهها بالكفن …

تقول هذه التائبة : ما أصعبه من منظر … وما أبلغها من موعظة … لحظات وتوضع في اللحد ، ويهال عليها التراب وتسأل عن كل ثانية من حياتها… فوالله مهما كتبتُ من عبارات ما استطعت أن أحيط بذلك المشهد !! لقد غير ذلك المشهد أموراً كثيرة بداخلي ، وزهدني في هذه الدنيا …

وإني لأتوجه إلى كل معلمة بل إلى كل داعية أياً كان مركزها : ألا تتهاون في إسداء النصح وتقديم الكلمة الطيبة ، حتى وإن أقفلت في وجهها جميع الأبواب حسبها أن باب الله مفتوح …

كما أتوجه إلى كل أخت غافلة عن ذكر الله ، منغمسة في ملذات الدنيا وشهواتها أن عُودي أُخيَّه فواللهِ إن السعادة كل السعادة في طاعة الله …

وإلى كل من رأت في قلبها قسوة ، أو ما استطاعت ترك ذنب ما ، أن تذهب إلى مغسلة الموتى وتراهم وهم يغسلون ويكفنون !!

والله إنها من أعظم العظات ، وكفى بالموت واعظاً ، أسأل الله لي ولكُنّ حسن الخاتمة… ”

الوقفة الثالثة

أيها المذنب لِم الشكوى وبين يديك العلاج ؟!!

يشتكي كثير من العصاة من هموم ألزمتهم ، وأحزان لم تبرحهم ، ومصائب لم تفارقهم … يندبون حظهم وتعاسة حالهم … والحقيقة أنهم هم سبب ذلك !!

وإن تعجب فعجب حالهم !! بين أيديهم العلاج الناجع لأدوائهم ومع ذلك فقد أعرضوا !! فلم الشكوى إذن ؟!!

لِم التشكي والتسخّط وحبل النجاة ممدود تجاهكم ؟!!

تـأملوا إخوتي وأخواتي هذه الكلمات الجميلة للإمام ابن القيم – رحمه الله – وهو يخاطب ذلك المذنب الذي يكثر الشكوى والتألم وبين يديه باب النجاة ، يقول – رحمه الله – : ” ويستغيث مع ذلك ( يعني المذنب ) : العطشَ العطشَ !! وقد وقف في طريق الماء ، ومنع وصوله إليه !! فهو حجاب قلبه عن سرِّ غيبه ، وهو الغيم المانع لإشراق شمس الهدى على القلب . فتبّاً له من ظالم في صورة مظلوم ، شاكياً والجناية منه !! قد جد في الإعراض وهو ينادي : طردوني ، أبعدوني !! يأخذ الشفيق – صلى الله عليه وسلم – بحجزته عن النار ، وهو يجاذبه ثوبه ويغلبه ويقتحمها !! ويستغيث : ما حيلتي وقد قدموني إلى الحُفيرة وقذفوني فيها !! واللهِ كم صاح به الصائح : الحذرَ الحذرَ !! إياك إياك !! وكم أراه مصارع المقتحمين ، وهو يأبى إلا الاقتحام !! ياويله ظَهِيراً للشيطان على ربه ، خصماً لله مع نفسه ، جبري المعاصي قدري الطاعات ، عاجز الرأي ، مضياعاً لفرصته ، قاعداً عن مصالحه ، معاتباً لأقدار ربه . يحتج على ربه بما لا يقبله هو من ولده وامرأته !! هذا مع تواتر إحسان الله إليك ( أيها المذنب ) على مدى الأنفاس : أزاح عِلَلَك ، ومكّنك من التزود إلى جنته ، وبعث إليك الدليل ، وأعطاك السمع والبصر والفؤاد ، وعرفك الخير والشر والنافع والضار ، وأرسل إليك رسوله وأنزل إليك كتابه . أمرك بسؤاله ليعطيك فلم تسأله !! بل أعطاك أجلّ العطايا بلا سؤال فلم تقبل !! تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك ؟!! وتتظلم ممن لا يظلمك إلى من يظلمك وتدعو من يعاديك ويظلمك ؟!! وإنْ أنعم عليك بالصحة والعافية والمال والجاه استعنت بنعمه على معصيته ؟!! دعاك إلى بابه فما وقفت عليه ولا طرقته !! ثم فتحه لك فما ولجته !! ومع هذا لم يؤيِِّسك من رحمته بل قال : متى جئتني قبلتك ، إن أتيتني ليلاً قبلتك ، وإن أتيتني نهاراً قبلتك ، وإن تقربت مني شبراً تقربت منك ذراعاً ، وإن تقربت مني ذرعاً تقربت منك باعاً ، وإن مشيت إلي هرولت إليك .ولو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة !! ولو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك !! فمن أعظم مني جوداً وكرماً ؟!! عبادي يبارزونني بالعظائم وأنا أكلؤهم على فرشهم !! إني والجن والأنس في نبأ عظيم : أخلق ويعبد غيري ؟! وأرزق ويشكر سواي ؟! خيري إلى العباد نازل وشرهم إلي صاعد !! أتحبب إليهم بنعمي وأنا غني عنهم ويبتغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي !! من أقبل إلي تلقيته من بعيد ، ومن أعرض عني ناديته من قريب ، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد ، ومن أراد رضاي أردت له ما يريد ، ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد . أهل ذكري أهل مجالستي ، وأهل شكري أهل زيادتي ، وأهل طاعتي أهل كرامتي ، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي . إن تابوا إلي فأنا حبيبهم فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين ، وإن لم يتوبوا إلي فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب . من آثرني على سواي آثرته على سواه . الحسنة عندي بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، والسيئة عندي بواحدة ، فإن ندم عليها واستغفرني غفرتها له ، أشكر القليل من العمل ، وأغفر الكثير من الزلل ، رحمتي سبقت غضبي ، وحلمي سبق مؤاخذتي ، وعفوي سبق عقوبتي ، أنا أرحم بعبادي من الوالدة بولدها ” .[10]

أرأيتم – عباد الله- إلى الفضل الزاخر من أرحم الراحمين ؟!! سبحانه وبحمده ، ما أعظم كرمه وجوده ، وما أوسع فضله وعطاءه . فلا حجة – والله- بعد ذلك لمذنب ولا لمشتكّي .

الوقفة الرابعة

مزالق ومحاذير في باب التوبة

إن هناك – أيها الأخوة والأخوات – جملة من المحاذير والمزالق حول موضوع التوبة يحسن بنا أن نقف عندها لنحذر منها وننفر من سلوكها، فكم زلت بها من قدم ، وكم هوى بها من إنسان . ومن تلك المزالق والمحاذير:



أولا ً: التسويف وتأجيل التوبة :

لا يزال كثير من المذنبين يؤخر رجلاً ويقدم أخرى في شأن التوبة ، فمنهم من يؤخرها إلى ما بعد الزواج !! ومنهم من يضع في باله سِناً افتراضياً إذا وصل إليه فإنه سيتوب !! ومنهم من يقول إذا وصلت إلى مرحلة الشيخوخة والهرم تُبت إلى الله !! لكنَّ كثيراً من أولئك لم يمهلهم هادم اللذات وقاصم الجبابرة والسادات . فقد هجم عليهم وخابت آمالهم ، وعاجلهم فخسروا الدنيا والآخرة {ألا ذلك هو الخسران المبين }.

إنه – يا عباد الله – ليس للمرء إلا روح واحدة ، ليس له إلا فرصة واحدة ، فإن ضاعت هذه الفرصة فإنه لا فرصة بعدها !!

إن التوبة واجبة على الفور يحرم التسويف فيها والتأجيل . يقول ابن القيم – رحمه الله – : ” المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور ، ولا يجوز تأخيرها . فمتى أخَّرها عصى الله بتأخيرها !! فإذا تاب من الذنب بقيت عليه توبة أخرى وهي توبته من تأخير التوبة ” .[11]

وقال ابن الجوزي في كتابه ( بحر الدموع ) : ” يا بطال ‍‍! إلى كم تؤخر التوبة وما أنت في التأخير معذور ؟!! إلى متى يقال عنك مفتون مغرور ؟! يا مسكين : قد انقضت أشهر الخير وأنت تعد الشهور !! أترى مقبول أنت أم مطرود ؟! أترى مواصل أنت أم مهجور ؟! أترى تركب النُّجُبَ غداً أم أنت على وجهك مجرور ؟! أترى من أهل الجحيم أنت أم من أرباب القصور ؟! ” [12].

أيها المسوِّف في التوبة : البِدارَ البدارَ قبل أن يختم لك بخاتمة سوء !!

لا تؤخر التوبة حتى يأتي الأجل وتحين ساعة الصفر !! فعندها هيهات هيهات أن تقبل منك التوبة كما قال – جل جلاله – :{إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً * وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابً أليماً}

ثانياً: ترك التوبة اتكالا على سعة رحمة الله

كثير من أهل الذنوب والتقصير إذا حُدِّثَ بحتميّة الاستعجال في التوبة والإقلاع عن التفريط في جنب الله بادرك بأحاديث وآيات الرجاء !! فقال : ( الله غفور رحيم ) ( رحمته وسعت كل شيء ) (رحمته سبقت غضبه ) ( الله غني عنا وعن طاعتنا ) ونحو ذلك من عبارات هي بلا شك حق ؛ لكنه قد استند عليها من أجل أن يسوغ لنفسه فعل المعصية وترك الطاعة !! .

إن المرء العاقل الذي يحسن الظن بالله ويرجو رحمته ينبغي عليه أن يحسن العمل . وإلا فحُسن الظن مع اتباع الهوى عجز ، ومن اعتمد على العفو مع الإصرار على الذنب فهو كالمعاند .

قال الحسن البصري – رحمه الله- : ” إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا بلا توبة يقول أحدهم : لأني أحسن الظن بربي !! وكذب ، لو أحسن الظن لأحسن العمل ” [13].

ويقول ابن القيم – رحمه الله – : ” كثيرٌ من الجُهَّال اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه ، فضيعوا أمره ونهيه ونسوا أنه شديد العقاب ، وأنه لايُرد بأسه عن القوم المجرمين . قال معروف : رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق . وقيل للحسن البصري – رحمه الله – : نراك طويل البكاء ؟! قال (وهو الزاهد العابد التقي ) : أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي !! وسأله رجل : يا أبا سعيد ، كيف نصنع بمجالسة أقوام يخوفوننا حتى تكاد تطير قوبنا ؟! قال : والله لأن تصحب أقواماً يخوِّفونك حتى تدرك أمناً خير لك من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى تلحق بالمخاوف ” .

أيها الأخوة والأخوات: يجب علينا ألا نتساهل بالمعصية أبداً ؛ فإن الحساب دقيق ؛ وإن الديَّان – جل جلاله –لا يموت . وإذا استصغرت المعصية فتذكرت عظمة من عصيته !!

روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي رافع قال: ” مرَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – بالبقيع فقال :” أفٍّ لك ” فظننته يريدني ، فقال : ” لا ، ولكن هذا قبر فلان بعثته ساعياً إلى آل فلان فغلّ نمره – يعني سرق كساءاً- فدرِّع الآن مثلها من النار !! ” . وهذا الحديث جاء في قصة شبيهة في صحيح البخاري من حديث عبدالله بن عمر – رضي الله عنه.

وجاء أيضاً في صحيح مسلم عن أبي أمامة – رضي الله عنه – قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : ” من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ” فقال له رجل : وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله ؟ قال : ” وإن قضيبا من أراك !! ” أي وإن كان عودا من سواك .

فالحذر الحذر من الاتكال على سعة رحمة الله وترك التوبة والرتوع في المعصية ، فإن الحساب حاصل لا محالة ، والمرجع حتما إلى الله رب السماوات والأرضين .

ثالثاً: ترك التوبة خشية الرجوع في الذنب

من الناس من يرغب في التوبة وتأكل فؤادَه نيرانُ المعصية ، لكنَّ الذي يمنعه من التوبة هو خشية الرجوع إلى المعصية مرة أخرى . وربما أنه سبق له أن تاب من ذنب لكنه عاد إليه ، فجاء إلى الشيطان ونفث في روعه وقال : أنت كاذب في توبتك ، هذه ليست توبة ، كيف تتوب ثم تعود؟! هذا استخفاف بالله !! ثم تراه بعد ذلك يستسلم لتلك النـزغات الخبيثة وذلك المكر الكُبَّار !!

والجواب على مثل هذه الشبهة أن يقال : بل تبْ واصدق في توبتك ، واندم على زلتك ، واعزم على عدم الرجوع إليها . فإن عدتَ فعُدْ إلى التوبة ثانية وثالثة ورابعة … وإن رأى الله منك الصدق والمجاهدة فإنه سيعينك ويوفقك .

جاء رجل إلى أحد السلف فقال له : الرجل يعمل الذنب ماذا يصنع ؟ قال: يتوب . قال ثم يعمله أخرى فماذا يصنع ؟ قال يتوب. قال ثم يعمله ثالثة ماذا يصنع ؟ قال يتوب . قال إلى متى ؟ قال : إلى أن يكون الشيطان هو المدحور !!.

إن مَن حقق شرائط التوبة وأقلع عن المعصية ثم عاد إليها بعد ذلك فإن توبته الأولى مقبولة صحيحة ؛ لأنه كان عازماً على ألا يعود . وقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال – صلى الله عليه وسلم – :” أذنب عبد ذنبا فقال : اللهم اغفر لي ذنبي . فقال – تبارك وتعالى- : أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ؟! ثم عاد فأذنب ، فقال : أي رب اغفر لي ذنبي . فقال – تبارك وتعالى – : عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ؟! ثم عاد فأذنب فقال : أي رب اغفر لي ذنبي . فقال – تبارك وتعالى – : أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ؟ اعمل ما شئت فقد غفرت لك !! ”

قال النووي في شرحه لصحيح مسلم في قوله – عز وجل – للذي تكرر ذنبه ( اعمل ما شئت فقد غفرت لك ) : ” معناه مادمت تذنب ثم تتوب فقد غفرت لك ” .

رابعاً: تعاظم الذنب واليأس من رحمة الله :كم أقعد اليأس من مذنب عن أن يطرق باب الكريم !! تعاظم ذنبَه ونسي أن رحمة الله أعظم وأجلّ . فكلما همّ بالتوبة تذكر ذنوبه وموبقاته فقال : أنّى لي بمغفرة الله وقد فعلتُ وفعلت ؟!! وما يدريكم عن حالي وذنوبي التي اقترفتها وعن سيئاتي التي اجترحتها ؟!

فأقول : صدقت نحن لا ندري عنها ، لكن حسبُنا أن الله يدري بها ومع ذلك لم يعاجلك بالعقوبة !! ينتظر منك أن تطرق باب جوده ، يمهلك شفقة عليك ورحمة بك …

روى ابن ماجه في كتاب ( الزهد ) وصححه الألباني من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال :” لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء ثم تبتم لتاب الله عليكم !! ” .

وجاء في المسند من حديث صفوان – رضي الله عنه –قال : ” إن بالمغرب باباً مفتوحاً للتوبة ، مسيرته سبعون سنة لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه “.

وبالجملة : فإن الله لا يتعاظمه ذنب أياً كان هذا الذنب ، وهو القائل – جل شأنه – :{قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم } .

فيا من ألَمَّ بذنب وخشي ألا يغفر الله له : اقرأ قوله – تعالى – :{ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيما}.

أورد ابن القيم رحمه الله في ( مدارج السالكين ) قصة عن بعض الصالحين : أنه رأى في بعض الطرق باباً قد انفتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي ، وأمّه من خلفه تطرده حتى أغلقت الباب دونه !! فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكراً … فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أُخرج منه ، ولا من يأويه غير والدته !! فرجع مكسور القلب حزينا فوجد الباب مرتجاً ( أي مقفلاً ) فتوسّده ووضع خده على عتبة الباب ونام !! فخرجت أمه فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت بنفسها عليه والتزمَته تقبّله وتبكي وتقول : يا ولدي أين تذهب عني ؟! ومن يأويك سواي ؟! ألم أقل لك : لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك وإرادة الخير لك ؟! ثم أخذَته ودخلت … علّق ابن القيم على هذه القصة بكلام جميل فقال : ” تأمل قولها ( لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبلت عليه من الرحمة والشفقة ) وتأمل قول النبي – صلى الله عليه وسلم – :” لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها ” وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء ؟!! ” [14]

الله أكبر يا عباد الله !! ما أعظم رحمة الله !! ما أعظم ما ادخره سبحانه من الرحمات للتائبين والتائبات !!

جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – يقول النبي – صلى الله عليه وسلم – : ” جعل الله الرحمة مائة جزء ، فأمسك عنده تسعة وتسعين ، وأنزل إلى الأرض جزءاً واحداً . فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه !! ” [15].

وجاء في بعض الآثار: أن إبليس يوم القيامة يرفع رأسه يريد أن تدركه رحمة الله ؛ لِما يرى من تَنزّل الرحمات على عباد الله !!.

فيا أيها المذنب – وكلّنا كذلك – : هذا هو الباب مفتوح بين يديك فعجل بالولوج ، وانطرح بين ربك …

انطرح عند عتبة باب مولاك …

مرِّغ جبهتك تذللاً لسيدك …

فرَّ منه إليه ، فما من عاصم من الله إلا إليه … وقل بلسان العبد المعترف الأوّاب :

أيا من ليس لي منه مجيرُ بعفوك من عذابك أستجيرُ

أنا العـبد المُقِرّ بكل ذنب وأنت السيد المولى الغفورُ

فإن عذبتني فبسوء فعلي وإن تغـفر فأنت به جدير

أفِرُّ إليك منـك وأين إلاّ يفـر إليك منك المستجيرُ

لم يبق – والله يا عباد الله – من حلاوة العيش – كما قال بعض السلف – إلا أن نمرِّغ وجوهنا في التراب ساجدين له سبحانه …

وإن ضاقت علينا الأرض بما رحبت واستَوحشتَ من ذنوبك ، وغُلِّقت دونك الأبواب فاعلم أن باب الله مفتوح لا يغلق . وارفع شكواك إليه لا إلى سواه ، وقم في ظلمات الليل ، وبث همومك وأحزانك إلى ربك ؛ فإنه العليم بالسرائر وما تكنه الضمائر …

طرقت باب الرجا والناس قد رقدوا وبِتُّ أشكو إلى مـولاي مـا أجـدُ

فقلت يا أملي في كلّ نائلــــة ومَنْ عليه لِكشـفِ الضـرِّ أعتمدُ

أشكــو إليك أمـوراً أنت تعلمها ما لي على حمـلها صـبرٌ ولا جـلدُ

وقد مددتُ يدي بالذلّ معـتـرفـاً إليك يا خيـر من مُدَّت إليـه يــدُ

اللهم يا سامع الدعوات ، ويا مقيل العثرات ، ويا غافر الزلات : اجعلنا من عبادك التائبين ، واغفر لنا ذنوبنا أجمعين …

اللهم إنّا نشكو إليك ضعف إيماننا ، وقلة صبرنا ، وجرأتنا على معصيتك !! فاللهم إنا نضرع إليك ، ونبتهل إليك أن تلطف بنا ، وأن لا تعاجلنا بعذابك …

اللهم لا تفضحنا يوم العرض الأكبر عليك . وكما سترت ذنوبنا عن الناس فاغفرها لنا يوم لقياك …

اللهم أحسن لنا الختام ، واغفر لنا جميع الآثام ، واجمعنا في دار النعيم والإكرام ، ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا والمسلمين } مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما {.وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ،،،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،،

[1] المعجم الكبير حديث رقم ( 7235)

[2]

[3] الوابل الصيب 1/70

[4] الزهد لابن المبارك ص507

[5] تفسير الطبري 30/185

[6] وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم ( 109 )

[7] المعجم الأوسط حديث رقم ( 6503) وانظر السلسلة الصحيحة حديث رقم ( 151 )

[8] فتاوى ابن تيمية 21/258

[9] كتاب التوابين ص261

[10] تهذيب مدارج السالكين 1/195

[11] تهذيب مدارج السالكين 1/247

[12] بحر الدموع لابن الجوزي ص57

[13] فيض القدير 5/67

[14] تهذيب مدارج السالكين 1/212

[15] شرح مسلم للنووي 17/75

ابراهيم عبدالله
05 / 08 / 2016, 07 : 01 AM
اخى ******
بارك الله فيك ولك واثابك
الفردوس وغفر لك ولوالديك
لاحرمنا الله منكم