دكتور محمد فخر الدين الرمادي
07 / 05 / 2022, 31 : 07 PM
بُحُوثُ السِيرَةِ النَّبوية -على صاحبها أفضل الصلاة وأتم السلام وكامل البركات-
**
« سنن الأنبياء؛ وسبل العلماء؛ وبساتين البلغاء؛ والأعجاز العلمي عند الحكماء في تأويل نصوص الوحي وآيات الذكر الحكيم المنزل من السماء »
„ أبحاث تمهيدية لمستقبل أمة زاهرة.. ذات حضارة ‟
:" الرسالة النبوية ؛ والشمائل المصطفوية ؛ والخصائل الرسولية ؛ والدلائل الإعجازية ؛ والصفات الأحمدية ؛ والأخلاق المحمدية لــــــ سيدنا محمد بن عبد الله خير البرية صلى الله عليه وآله وسلم "
*****
****
***
**
*
(١١٨) ﴿هجرةُ الأنبياء﴾:
(١١) [الْمُجَلَّدُ الْحَادِيَ عَشَرَ]
بُحوث: « „ دَارِ الْهِجْرَةِ .. وَدَارِ السُّنَّةِ ” »
﴿ ١ ﴾ « „ مُقَدِّمَات هجرة النبي محمد ” » ؛ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- !
.. مجموعة : „ المبادئ ” التي أُرسلتْ بها الأنبياء؛ وكُلفت بها المرسلين مِن قِبل خالق الإنسان للبشر أجمعين؛ وكتلة : „ القيم ” التي نادوا بها؛ وحزمة : „ المقاييس ” ؛ و : „ القناعات ” التي ساروا عليها.. تجدها واحدة عندهم -عليهم الصلاة والسلام- جميعاً؛ فعلىٰ لسانهم وحياً مِن ربهم -سبحانه- أحلَّ لهم الطيبات مِن الرزق؛ وحرم الخبائث: الخمر -مثلاً: مِن حيث المشروبات- والخنزير -مثلاً: مِن حيث المطعومات-؛ والزنا ومقدماته -مِن حيث الإشباع الجنسي؛كـ ملامسة ذكر لـ أنثىٰ؛ أو اللواط -مِن حيث استعمال ذكر لمثله؛ أو السحاق: استعمال أنثىٰ لآخرىٰ- وتغطية العورة-مِن حيث الملبوسات-؛ والاعتقاد بخالق -من حيث الإيمان باسمائه الحسنىٰ وصفاته العُلا- فهو -سبحانه- موجدُ الأشياء مِن عدم؛ رازقُ كل دابة؛ وهو -عز وجل- فردٌ ليس كمثله شئ؛ صمدٌ لا صاحبة له ولا ولد.. ومِن ثمَّ إخلاص عبادته وحده دون شريك أو مثيل أو شبيه أو معين أو وزير.. كيفما ومتىٰ أمر؛ وبالكيفية التي وردت في نصوص كتابه وبالطريقة التي جاءت عن نبيه -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- .. وبالإجمال اجتمعوا جميعاً -عليهم السلام- علىٰ مبادئ وقيم ومقاييس وقناعات واحدة واتفقوا عليها.. بيد أنه -سبحانه- جعل لكلٍ منهم شرعةً ومنهاجاً.. والتُفصيل يأتي في موضع آخر -إذا شاء الرحمن الرحيم-.. ومِن حكمته -سبحانه- أن خصَّ أنبياءَه بأقوامهم دون غيرهم؛ وأُرسل خاتم الأنبياء وآخر المرسلين ومتمم المبتعثين -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- للناس كافة.. وفي سيرتهم -عليهم الصلوات والسلامات والبركات والإجلال والإنعام- أنهم تقاربوا في أحداث منها:
« „ هجرتهم مِن موطنهم إلىٰ بقعة آمنة.. ” »
*. ] وقد قَتل الناسُ مسألةَ : « „ الهجرة النبوية ” » بحثاً وغاصوا في أعماقها، ولم يتركوا زاوية من زواياها إلا أخرجوا خباياها؛ فــ لا أريد[(١)] أن أكتب علىٰ غرار ما كتب من قبل فأعيد ما بدائه غيري وأنا مولع بمعادة المعادات.. وأكره تكرار المعلومات المعروفة؛ والذي أريد أن أكتب عنه في مقدمة هجرة النبي هو : « „ هجرة الأنبياء” » الذين غبروا قبل رسول الله محمد-صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأنه ليس بدعاً من الرسل -عليهم الصلاة والسلام[(١)]-.
وهجرة خاتم الأنبياء ومتمم المبتعثين وآخر المرسلين-صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- هي :
* . ] سُنَّةُ إخوانِه مِن الأنبياء مِن قبله، فما مِن نبي منهم إلا نَبَتْ به بلاد نشأته[لم يجد بها قرار.]، فهاجر عنها، بدءاً مِن إبراهيمَ أبي الأنبياء، وخليلِ الله، إلىٰ عيسىٰ كلمة الله وروحه ونبيه ورسوله، كلهم علىٰ عظيم درجاتهم ورفعة مقامهم أُهينوا مِن عشائرهم، فصبروا ليكونوا مثالاً لمن يأتي بعدهم من متّبعيهم في الثبات والصبر علىٰ المكاره ما دام ذلك في طاعة الله -عز وجل-[(٢)]
* . ] فحين نتتبع سيرة الأنبياء سنجد أن الهجرة كانت سُنَّة ماضية علىٰ سائر المرسلين والنبيين والمبتعثين من رب الإنس والناس أجمعين.
وهنا يبرز سؤال:
لماذا كتب الله علىٰ أنبيائه الهجرة؟
.. يقول د. عبدالمقصود باشا، أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية المتفرغ بكلية اللغة العربية بالقاهرة:
" إن كلمة الهجرة بمعناها الأعم والأشمل تكاد تكون قد كُتبت علىٰ معظم الأنبياء ".
" ولعلنا نتساءل:
لماذا هذا النوع مِن الابتعاد والغربة والبُعد عن الأوطان كُتب علىٰ خير الناس وهم الأنبياء؟[(٣)] ".
لذا فـــ
* . ] مِن أعظم الهجرات وأكرمها وأعلاها مقاماً هجرة الأنبياء وحملة الدعوة، وممن هاجر مِن الأنبياء نوح وإبراهيم ولوط وصالح وموسىٰ ومحمد -عليهم السلام- [(٤)]
فــ
* . ) أولُ الرسلِ الكرام هجرةً هو « „ نوح ” » ؛ -عليه السلام- فكانت هجرته حياةً له وهلاكاً لأعدائه[(١)].
ويستطرد د. عبدالمقصود باشا، قائلا: فإذا غصنا فى التاريخ قديما لوجدنا هجرة نبى الله نوح وتركه موطنه والبلاد التي نشأ وترعرع بها، وتكون هجرته فى سفينته إلىٰ أن تهبط علىٰ جبل الجودي[(٦)].
.. دعا نوحٌ قومه إلىٰ عبادةِ الله -تعالىٰ- وترك عبادة غيره من الأصنام والأوثان وصار يغاديهم بالنصح ويراوحهم بالعظات ألف سنة إلا خمسين، وهم لا يزدادون منه إلا بعداً ونفوراً إلىٰ أن ضاق صدره بما يلاقي منهم؛ وهو لم يجد باباً لهدايتهم إلا طرقه، ولا رأىٰ منفذاً لنصحهم إلا قصده، وفي المقابل: لم يجد قومه باباً للنكاية به إلا ولجوه، ولا ظنوا منفذاً لأغاظته إلا سلكوه. فتراهم يقولون له {.. مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِين } [هود:27] فهم يرون أن الرسالة لا تكون للبشر بل للملائكة، والهداية لا يمكن أن ينالها الفقراء وذوو الأعواز، ولكنها وقف علىٰ ذوي الوجاهة والقوة، وأن الذي يريد الله أن يصطفيه إنما يكون من أهل الثراء والغنىٰ..
.. ولقد رد عليهم نوح بقوله: إنه لا يسألهم علىٰ الهداية التي يزفها إليهم أجراً. فهو لا يجرِ بذلك لنفسه نفعاً ولا يحوز مالاً، وإنما يريد أجرَهُ من الله { فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ }.. ولم يقل لهم إن عنده خزائن الله وليس عنده شيء من علم الغيب، ولم يقل لهم إنه ملك، ولا يقول للذين تزدري أعينهم من أتباعه لن يؤتيهم الله خيراً وهو الهدىٰ والاستقامة علىٰ الجادة،{ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ.. } وأن عِلْمَ ما في أنفسهم عند الله لا عنده {..وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ..} [هود:31] إلىٰ أن ضاق بالقوم وضاقوا به..{ قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا..} فقالوا له: { فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِين } [هود:32]، ودعا نوح عليهم: { وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } [نوح:26] { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا } [نوح:27] فأنبأه الله أن العذاب سيحل بهم، وأمره ألا يخاطبه فيهم وأنهم مغرقون. وأوحىٰ إليه أن يصنع الفلك لينجو بها من العذاب النازل بهم وليهاجر بها عنهم.. إذاً فقد صنع نوح الفلك وكان قومه يسخرون منه وهو يسخر منهم لغفلتهم عن أنفسهم وتفريطهم في حياتهم وعيّرهم بعدم اتباعه إلىٰ أن جاء أمر الله وفار التنور، وتفجرت ينابيع الأرض، وحلت عزاليها السماء، وجاء الطوفان وأبادهم بعد أن نزل نوح والذين آمنوا معه في السفينة، وسلك فيها زوجين اثنين من كل ذي حياة، وانتهت هجرته من الأرض بعد سنة وعشرة أيام بعد أن استقرت السفينة علىٰ الجودي. فكانت هجرته ميمونةً عليه وعلىٰ مَن معه في السفينة وهلاكاً لأعدائه[(١)].
* . ) فعل أبو الأنبياء الأواه الحليم سيدنا الخليل إبراهيم- عليه السلام -[(٤)]
بدايةً: فقد ولد فى مدينة زأورس علىٰ شاطئ الخليج العربي، وعاش في العراق { وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ..} [العنكبوت:26] [(٨)]
..كانت هجراته -عليه السلام- متعددة، فــ هاجر إلىٰ شمال العراق وبشر بدعوته، ولكنه لم يجد أي آذانٍ مصغية، حتىٰ إنه أُلقىٰ به فى جحيم الدنيا حينما أوقدوا له نارا عظيمة[(٨)].. فكانت هجرته العظيمة من بلاد العراق الىٰ بلاد الشام
.. فـ كانت هجرة إبراهيم بعد ذلك إلىٰ أرض كنعان فى فلسطين[(٨)]، ثم كانت هجرته بعد ذلك الىٰ بلاد النيل.. مِصر[(٨)]..
ثم عاد منها وقد أُهديت إليه السيدة هاجر..
ثم هاجر إبراهيم -عليه السلام- إلىٰ وادي مكة المكرمة مصطحبا ابنه إسماعيل والسيدة هاجر[(٨)].
.. وأودعَ زوجته وولده إسماعيل في وادي مكة•وكان من نسل إسماعيل العرب المستعربة[(٤)]•
.. ثم استكمل مِن بعده المسيرة النبي المصطفىٰ الأمين-صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من مكة إلىٰ المدينة .
* . ) إذاً هجرة إبراهيم وغيره من الأنبياء كانت مكتوبة ومقدرة ومقررة ولا يمكن الفكاك منها[(٨)].
* . ) لوط عليه السلام
آمن بعمه إبراهيم واستجاب إلىٰ عبادة الله -تعالى- وهاجر مع عمه إبراهيم كما قال -تعالىٰ-: { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي.. } [العنكبوت:26] وقد جاء في الحديث أن النبي -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال عن عثمان حين هاجر إلىٰ الحبشة ومعه زوجه رقية بنت رسول الله -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: « „ إن أول مهاجر إلىٰ الله بأهله بعد لوط عثمان بن عفان ” » [(١٠)]
* . ] وسَل القرىٰ التي حلّت بها نقمة الله بكفر أهلها كــ ديار لوط وعاد وثمود تنبئك عن مُهَاجَرة الأنبياء منها قبل حلول النقمة[(٢)].
* . ] أما نوح ولوط فقد عاقب الله قوم نوح بالغرق ..
و
قوم لوط بالخسف فلم يعد لهما مَن يدعوان ويهديان[(٤)].
* . ] « „ إسرائيل ” » ؛ (يعقوب) وبنيه:
« „ يعقوب ” » ؛ عليه السلام
كان بينه وبين أخيه عيسو شيء من الخلاف، فهاجر إلىٰ بلاد ما بين النهرين عند خاله لابان، ومكث عند خاله يرعىٰ عليه غنمه، وتزوج من ابنتيه ليئة وراحيل، ومن جاريتيهما زلفىٰ ويلها، ورزق منهن أولاده جميعا، وكانت هجرته خيراً وبركة عليه، فقد صار رب أسرة عظيمة كثيرة العدد، وأموال وماشية كثيرة وعاد إلىٰ فلسطين بعد ذلك، وولد له في هجرته جميع أولاده إلا بنامين[(١)]
.. فَسَلْ مِصر وتاريخها تُنبئك عن إسرائيل (يعقوب) وبنيه أنهم هاجروا إليها حينما رأوا من بَنِيها ترحيباً بهم، وتركهم وما يعبدون إكراماً ليوسف وحكمته. ولما مضت سنون، نسي فيها المِصريون تدبير يوسف وفضله عليهم، فاضطهدوا بني إسرائيل وآذوهم، خرج بهم موسىٰ وهارون ليتمكنوا من إعطاء الله حقه في عبادته[(٢)].
* . ) هجرة نبي الله يعقوب -عليه السلام- وبنيه من فلسطين الىٰ مِصر حينما كان نبي الله يوسف -عليه السلام- وزيراً علىٰ خزائنها فسطر لنا القرءان الكريم تلك اللحظة في محكم التنزيل { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِين } [يوسف:99].
« „ يوسف ” » ؛ عليه السلام
هاجر مرغماً حين ألقاه أخوته في غيابة الجب، ثم التقطه بعض السيارة وأسروه بضاعة وباعوه في مِصر بثمن بخس، واشتراه عزيز مِصر أو رئيس الشرطة بعاصمة الديار المِصرية، وهي مدينة: „ صان ” في الشرقية، ثم امتحن بامرأة العزيز التي راودته عن نفسه فاستعصم، ثم بهتته في وجهه واتهمته بأنه راودها عن نفسها { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِين } { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِين } { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ..} العزيز لها: { إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيم } [يوسف: 26 و 27 و 28]، والتفت إلىٰ يوسف وقال له: { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا }، والتفت إلىٰ زوجه وقال: { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِين } [يوسف:29] إلىٰ أن { بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِين } [يوسف:35]، وفي السجن ظهرت آيات فضله، وفسر لساقي الملك وخبازه مناميهما، وأوصىٰ الذي ظن أنه ناج منهما أن يذكره عند ربه الملك فأنساه الشيطان ذكر ربه، فلبث في السجن بضع سنين { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِين } [يوسف:42] إلىٰ أن رأىٰ الملك سبع بقرات سمان حسان يأكلهن سبع بقرات عجاف مهزولة، وسبع سنبلات خضر غلبتهن سبع سنابل يابسات { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُون } [يوسف:43] وحار العلماء والسحرة والعرافون في تفسير ذلك المنام { قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِين } [يوسف:44] فذكر الذي نجا مِن الفتيين شأن يوسف وتفسيره للمنام؛ فاستأذن الملك { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُون } [يوسف:45] وأتىٰ إلىٰ يوسف واستفتاه فيما رآه المَلك { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُون } [يوسف:46]. ففسر له الرؤيا علىٰ وجهها..
.. وجاء الساقي وقص القصص علىٰ المَلك، { قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُون } [يوسف:47] { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُون } [يوسف:48] { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُون } [يوسف:49] وكان ما كان إلى أن اصطفاه الملك لنفسه{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِين } [يوسف:54] وجعله علىٰ خزائن الأرض { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيم } [يوسف:55]..
ودبر أمر مِصر إلىٰ أن جاء سبع سنوات مخصبة خزن فيها ما زاد علىٰ الحاجة؛ ثم جاء السنين المجدبة ففتح مخازن الادخار، وأطعم الناس، وجاء أخوته فداعبهم ودبر عليهم تدبيراً حتىٰ جاءوه بأخيه بنيامين، ثم عرفهم بنفسه وقال: { وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِين } [يوسف:59] { .. وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِين } [يوسف:93] ..
فكانت هجرته القسرية وتغربه خيراً عليه وعلىٰ أهله وعلىٰ الناس أجمعين؛ ولولا تدبير الله وتدبيره لأمر الأغذية لهلك الناس[(١)].
* . ] هجرة كليم الله « „ موسىٰ ” » ؛ -عليه السلام- من مِصر الىٰ مَدين ثم بعدها هربا مع قومه من فرعون وملأه.
لا نريد[(١)] أن نتكلم عن أولية موسىٰ -عليه السلام-. وإنما نقول إنه نشأ في بيت فرعون عزيز الجانب؛ ولما بلغ مبلغ الرجال لم يخف عليه أنه دخيل في ذلك البيت وأنه من العنصر العبراني؛ وعرف العبرانيون ذلك فاستعزوا به وانتفعوا بجاهه[(١)]
ويضيف د. عبدالمقصود باشا: فلنأخذ مثلا سيدنا موسىٰ -عليه السلام- الذى ولد ونشأ وتربىٰ فى مِصر حتىٰ صارت له مكانة فى البلاط الفرعوني هو وأخيه هارون.. ثم تحدث المشادة بين أحد أبناء قومه وأحد المِصريين[(١٥)]
..وسار في المدينة يوماً علىٰ حين غفلة من أهلها فوجد رجلين يقتتلان أحدهما عبراني من شيعة موسىٰ والثاني قبطي [قلتُ (الرَّمَادِيُ) يعني مِصري؛ وهذا يدل علىٰ أن سكان مِصر يطلق عليهم أقباط؛ وليس كما يدعي البعض أنه يخص أهل دين بعينه؛ والقصة بكاملها حدتث قبل مجئ النصرانية بأكثر مِن 1500 سنة] من عدوه، فاستغاثة العبراني علىٰ القبطي، فأغاثه موسىٰ وعمد إلىٰ القبطي فوكزه فقضىٰ عليه، وهو لم يرد قتله، وإنما أراد كف عاديته عن العبراني، ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها..
.. لم يشاهد أحد هذه الحادثة سوىٰ العبراني. وعاد موسىٰ بالأئمة علىٰ نفسه وقطع علىٰ نفسه عهداً ألا يكون ظهيراً للمجرمين..
.. ظهر أمر القبطي ولم يعلم قاتله. فلما كان اليوم الثاني خرج موسىٰ في مثل ذلك الوقت فوجد ذلك العبراني بنفسه في معركة مع قبطي آخر يريد أن يسخره وهو يأبىٰ، فاستغاثه كما استغاثه بالأمس فقال له موسىٰ أنك لغوي مبين. وأراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما ويكف عاديته عنه. فظن العبراني أنه إياه أراد. فقال له: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين، وصالح القبطي واتخذ موسىٰ خصما..
.. حينئذ ظهر قاتل القبطي وهو موسىٰ وانتهىٰ الخبر إلىٰ فرعون فاجتمع ملأ فرعون وقومه علىٰ قتل موسىٰ. فجاء إليه رجل من آل فرعون من أقصىٰ المدينة يسعىٰ وقال له إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، ونصح له بالخروج لينجو بنفسه فخرج من المدينة خائفاً يترقب قائلاً رب نجني من القوم الظالمين، ويهاجر فرارا من الفراعنة عبر أرض سيناء إلىٰ مدين، ويظل هناك عشر سنوات..
.. ولىٰ وجهه شطر مَدْين علىٰ خليج العقبة. ولعلها كانت أقرب بلاد يجد فيها مأمنه لخروجها عن قبضة الحكومة المِصرية - ولما كان خروجه علىٰ عجل لم يترو في الأمر ولم يأخذ معه زاداً ولا ما يساعده علىٰ قطع المسافة من مطية ولا رفقة له في هذا السفر الشاق ولا دليل لأنه إنما يريد أن ينجو بخيط رقبته..{ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيل } [القصص:22] فحقق الله -تعالىٰ-أمنيته وبلغ ماء مَدين بعد الجهد الشديد والجوع المضي فوجد علىٰ الماء أمة من الناس يسقون ووجد امرأتين تذودان غنمهما عن الحوض، فلم يعجبه أن يتقدم أولو القوة ويتأخر المرأتان فسألهما عن شأنهما. فقالتا لا نسقي حتىٰ يصدر الرعاء لأننا ليس بنا قوة علىٰ التقدم والمزاحمة، وأبونا شيخ كبير لا يقدر علىٰ رعي ماشيته ولا سقياها. { وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِير } [القصص:23] فنحىٰ الرعاء بما بقىٰ له من فضل قوة وسقىٰ لهما ثم تولىٰ إلىٰ الظل يشكو إلىٰ الله حاجته إلىٰ القوت وما به من مخمصة قائلاً: {.. رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير } [القصص:24]
.. أراد الله أن يكافئ موسىٰ جزاء توكله عليه وفعله الخير ابتغاء وجه ربه فلم يلبث أن جاءته إحدىٰ المرأتين تمشي علىٰ استحياء { فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء } حتىٰ وقفت عليه وقالت له في خفر: {.. إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا..} لبىٰ موسىٰ الدعوة؛ وجاء إلىٰ أبيها الشيخ؛ وقص عليه قصصه. فقال له الشيخ لا تخف نجوت من القوم الظالمين {.. فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين } [القصص:25]
.. أرادت إحدىٰ بنات الشيخ أن يقوم موسىٰ عنهما برعي الماشية لأنه أقدر علىٰ ذلك لما رأته من قوته في النزع بالدلو.. وأمانته إذ أخرها وقال لها اسعي ورائي وانعتي لي الطريق؛ فقالت لأبيها { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِين} [القصص:26]
.. نشط الشيخ لما أشارت به ابنته، وطلب إلىٰ موسىٰ أن يستأجره ثماني حجج علىٰ أن يزوجه من إحدىٰ ابنتيه { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ..} فإذا رضىٰ أن يتم الثماني.. عشراً كان ذلك علىٰ أن يكون بالخيار في قضاء أحد الأجلين {.. عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ } [القصص:27]
.. تقول التوراة إنه بقىٰ عنده إلىٰ أن كانت سنه ثمانين سنة؛ والقرآن الكريم ليس فيه تحديد قاطع في المدة التي أقامها..
.. والمهم في الأمر أنه لما قضىٰ الأجل وصار حراً صادفه أن أبعد في الرعي وضل الطريق في ليلة مظلمة باردة؛ وحاول أن يقدح ناراً فصلد زنده ولم يور ناراً؛ وبعد لأي { إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى } [طه:10]. { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُون } [القصص:29] فلما جاء إلىٰ النار نودي { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى } [طه:11] { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } [طه:12] { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } [طه:13] { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } [طه:12] { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } [طه:13] ؛ { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي } [طه:14]
.. وبعد حوار أرسله الله نذيراً إلى فرعون وملئِه لإخراج بني إسرائيل؛ فكان ما كان مما قصه القرآن من شأنه مع فرعون وشأنه مع بني إسرائيل؛ فكانت هجرته خيراً وبركة عليه وعلىٰ بني إسرائيل؛ كما أجاب فرعون بقوله { فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِين } [الشعراء:21] [(١)].
.. ثم يعود عبر جنوب سيناء مرة ثانية.. ثم يُرسل فى عودته من مهجره إلىٰ مِصر ويُكلف بالرسالة. ثم يضطر موسىٰ إلىٰ الهجرة ثانية مصطحبا قومه، وينفلق له البحر بعد أن يضربه بعصاه وفرعون وجنوده يتبعونه، ويتراءىٰ الجمعان، حتىٰ قال أصحاب موسىٰ «إنا لمدركون» { فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُون } [الشعراء:61]..
وفى التوكيد بـ «إن» -هنا- دلالة علىٰ قرب المسافة بين الفريقين، وينجي الله بنى إسرائيل، والقصة معروفة فى عدد من سور القرآن.. ويتوفىٰ موسىٰ دون أن يمكنه الله من دخول بيت المقدس[(٨)].
* . ] هجرة « „ داود ” » ؛ عليه السلام
هو داود بني يسي من سبط يهوذا. كان له اخوة يحاربون الفلسطينيين مع طالوت الذي هو شاول أول ملك من ملوك بني إسرائيل. وكان في الفلسطينيين جندي جبار اسمه جالوت قد هابته الأبطال وتحامت الشجعان لقاءه خوف الهلاك..
.. وكان لداود اخوة في الحرب؛ فأرسله أبوه بطعام لاخوته ولينظر حالهم ويعود إلىٰ أبيه بما يطمئنه عليهم. فبينا هو سائر إلىٰ اخوته نظر في البرية إلىٰ أحجار ملس راقته فوضعها في كنفه (الكنف كيس الراعي) ولما ذهب إلىٰ اخوته والحرب علىٰ قدم وساق نظر إلىٰ الفلسطيني وهو يعير بني إسرائيل إحجامهم عنه، فاستشاط الفتىٰ داود غضبا وسأل ما الذي يناله من قتل هذا الأغلف الفلسطيني. فأجيب بأن الملك يغنيه ويغدق عليه ويزوجه ابنته ويجعل بيته أكبر بيت في إسرائيل. فذهب إلىٰ الملك واستأذنه في لقاء جالوت فضن به الملك أن يقتل في غير فائدة وهو صغير السن لا يقوىٰ عليه. فقال له داود: إن عبدك (يعني نفسه) قتل أسدا تعرض لغنم أبي وقتل دبا أيضاً. فأذن له وأعطاه لأمة حربه فلم يحسن داود المشي فيها فخلعها وذهب إلىٰ جالوت بمقلاعه وأحجاره. وقد هزأ منه جالوت ونصحه أن يعود من حيث أتىٰ فلم يفعل، ووقف قبالته ووضع حجراً من تلك الأحجار في المقلاع رماه به فارتز الحجر في جبهة جالوت وخر لليدين وللفم، فأخذ داود سيف جالوت وفصل رأسه به وجاء به إلىٰ الملك وانهزم الفلسطينيون شر هزيمة..
... ولكن طالوت ضن علىٰ داود بابنته التي وعد أن يزوجها من قاتل جالوت وزوجه من ابنة له أخرىٰ وقدمه علىٰ رؤساء جنده..
.. تغير بعد ذلك طالوت لداود وعمل علىٰ إهلاكه بيد الأعداء خوفا من أن يوليه بنو إسرائيل الملك، فكان يكلفه بالقدوم إلىٰ الحرب وكان داود يظفر دائماً. فعمد إلىٰ إهلاكه بنفسه، ونجا داود منه مرات وهو يتبعه في كل مكان، وتمكن داود من قتل الملك مرات ولكنه لم يفعل ويخبره بتمكنه من قتله وأنه أبقىٰ عليه، فيندم الملك ثم يعاوده خوفه علىٰ الملك فيطارده إلىٰ أن خرج داود من ملك إسرائيل وأقام مع الفلسطينيين برضاء ملكهم إلىٰ أن قتل طالوت وابنه... فجاء إلىٰ قرية أربع -وهي مدينة الخليل- وبويع فيها بالملك. وكان لطالوت ولد بويع بالملك أيضاً إلىٰ أن قتل ابن طالوت الملك وانفرد داود بالملك واشترىٰ قلعة صهيون التي عند باب الخليل وسماها مدينة داود، ثم اشترىٰ جبل الموريا الذي عليه الحرم القدسي ومدينة أورشليم القديمة المعلومة اليوم بأسوارها وحدودها..
.. وفي أواخر أيام داود نزا علىٰ الملك ولده ابشالوم وبايعه العدد العظيم من بني إسرائيل. ورحل داود إلىٰ شرق الأردن وجلس ابشالوم علىٰ كرسي الملك وحارب أباه فقُتل أبشالوم وعاد داود إلىٰ مقر ملكه..
فــ .. هاتان هجرتان لداود وكانت العاقبة له علىٰ خصومه فيهما[(١)].
« „ المسيح عيسىٰ ابن مريم ” » ؛ وأمه ويوسف النجار :
* . ] ويتابع: د. باشا: فإذا تأخرنا عن عصر نوح وموسىٰ قليلا لوجدنا هجرة السيد المسيح الذى لم يجد علىٰ وجه الكرة الأرضية مكانا يأوى إليه ويحميه من بطش أعدائه، فكانت هجرته هو وأمه مريم العذراء ويوسف النجار إلىٰ أرض مِصر.. وهو صغير.. ويمكث فى مِصر سنوات عدة، ثم يعود إلىٰ بيت لحم وهو كبير لتدبر له المكائد ويسوقونه للصلب فيرفعه الله ويلقىٰ الله شبهه عليه[(٨)] .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تقوم حكومة دولة مِصر بتعبيد طريق رحلة العائلة المقدسة(!) لتسويق مشروع إحياء مسار العائلة المقدسة يصلح للسياحة الدينية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يلتقط الشيخ النجار خيط الأحداث فيكمل القول :
* . ] هجرة « „ المسيح ” » ؛ -عليه السلام-
أما المسيح عيسىٰ ابن مريم عليه السلام فله هجرة ليست كهجرة سائر الأنبياء الذين هاجروا من بلادهم..
.. ذلك أنه لما وُلِدَ كان هناك ملك من قبل الرومان أُخبر أن ملك اليهود ولد في بيت لحم، فجد في قَتل الأولاد الذين ولدوا في بيت لحم في تلك الأيام. فأُمرت مريم بأن تهاجر بابنها ومعها خطيبها يوسف النجار.. فذهبت إلىٰ مِصر وأقامت فيها مدة..
.. قيل إنها كانت سبع سنين.. أو أقل..
.. إلىٰ أن أُمرت بالرجوع إلىٰ فلسطين، لأن الذي كان يطلب نفس ولدها قد هلك، فعادت..
.. وهذه الهجرة نص عليها في إنجيل متي وإنجيل برنابا ولا وجود لها في سائر الأناجيل الثلاثة الأخرىٰ المعروفة؛ فهجرة المسيح كانت تابعة لهجرة أمه خوفاً عليه ولم تكن بإرادته[(١)].
.. وهرب المسيح -عليه السلام- من اليهود حينما كذَّبوه، فأرادوا الفتك به حتىٰ كان مِن ضمن تعاليمه لتلاميذه: « طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ »[(١٥)]. « طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِينَ »[(١٦)] ثم قال : « اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُمْ هكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ »[(١٧)].[(٢)]
* . ] فلا غرابة أن هاجر -عليه الصلاة والسلام- من بلاد منعه أهلها من تتميم ما أراده الله { سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [الأحزاب: 62][(٢)].
* . ] « „ محمد ” » ؛ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-
.. مِن ذلك كله نرىٰ أن محمداً لم يكن بدعاً مِن الرسل والأنبياء الذين هاجروا مِن قبل، فقد جاهد جهاد الأبطال في إذاعة دعوته بين الناس، وقد أوذي في الله -تعالى- هو وأتباعه. حتىٰ إذا لم يبقَ في قوسِ تصبرِهِم منزعٌ.. سهل الله -تعالى- إسلام أهل يثرب = المدينة المنورة؛ والتي طيَّب الله -تعالىٰ- ثراها بقدومه.. ثم من بعد حين مرقده.. فأقبلوا علىٰ الدين بمحض اختيارهم، حتىٰ إذا كثروا.. جاءوا إليه وبايعوه علىٰ النُصرة، فأذنَ لأصحابه في الهجرة.. وبقىٰ هو وأبوبكر وعلي والمستضعفون. فلما مكر به كفار مكة ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه وصحت منهم العزيمة علىٰ ما بيتوا، أمره الله -تعالى- بالهجرة (وكان أبوبكر يعد لها العدة) فامتثل الرسول أمر ربه وآذن أبابكر بذلك ففرح وحاول أن يدعوا صهيب بن سنان للسير معهما فلم يُقَدر له ذلك، وخرجا إلىٰ غار ثور فأقاما به ثلاثا. وقد جهد كفار قريش في العثور عليهما فصرفهم الله عن ذلك، وقد كانا منهم قاب قوسين أو أدنىٰ؛ ثم ذهبا إلىٰ المدينة بعد أن هدأ الطلب يدل بهما عبدالله بن اريقط وهو علىٰ شركه إلىٰ أن وردا قُباء ثم المدينة.. فبدل الله حالهم أمنا، ومكن لهم في الأرض، وأرىٰ كفار قريش منهم ما كانوا يحذرون، وأتم الله نعمته علىٰ أهل الإسلام، مكن لهم دينهم الذي ارتضىٰ لهم إلىٰ أن مضىٰ رسول الله لسبيله، وقام خلفائه من بعده يحملون عبء تبليغ الرسالة والتمكين للدين؛ وانتشر الإسلام شرقاً وغرباً؛ وكانت الهجرة علىٰ رسول الله وأمته خيرا وبركة كما كانت هجرة الأنبياء خيراً وبركةً عليهم مِن قبل؛ ولله عاقبة الأمور؛ لا مبدل لكلماته، ولا معقب لحكمه؛ وهو العزيز الحكيم[(١)]
* . ] ومحمد - عليه السلام - مكث يدعو قومه في مكة ثلاثة عشر عاماً فما استجاب لدعوته إلا القليل.. القليل ولم يكتفِ قومه برفض الهداية بل آذوه.. ومن أسلم معه..
.. وصفوه بأنه كاذب لأن دينهم الباطل، هو الحق، فمن آمن بسواه فهو كاذب في زعمهم..
.. وزعموا بأنه ساحر لأنه استطاع أن يغير دين بعض مواطنيهم فأسلموا ومن كان قادراً علىٰ تبديل إيمان الغير فهو ساحر في نظرهم..
.. وقالوا انه كاهن لأن النبي - عليه السلام - أخبرهم بأمور غيبية ماضية كأخبار الماضين من الأقوام ورسلهم وأخبرهم بما سيحصل لمن يكفر بالله يوم القيامة ومن يخبر بالغيبيات هو كاهن، والكاهن عند العرب شخص يعرف الغيب في زعمهم فإذا سأله سائل عما سيحصل له أخبره، وقالوا انه لا يستحق النبوة لأن الله لو أراد إرسال نبي لاختار فلاناً وفلاناً من أصحاب المقام الرفيع عندهم{ وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم } [الزُّخرُف:31] وقالوا: إنه طامع في الرئاسة والسلطان لذلك عرضوا عليه الملك.. وقالوا.. وقالوا مما لا يتسع المقام لذكره ورغم كل ما قالوه فإن محمداً - عليه السلام - ظل ثابتاً كالطود العظيم لا يحيد عن دعوته، وكان قومه كلما مرت السنين ازدادوا أذىٰ له ولأتباعه إلىٰ حد لا يطاق من الناس العاديين لكن المؤمنين كان إيمانهم شديداً فلم يرتدوا عن دينهم، وطلب بعضهم الهجرة إلىٰ الحبشة فأذن لهم، وكانت هذه الهجرة أولىٰ الهجرتين أما الهجرة الثانية فكانت إلىٰ (يثرب)[(٤)]
وقرر النبي بعد معاناة ثلاث عشرة سنة أن يغير مكان الدعوة فحاول دخول الطائف لكن صدّه سفهاؤها ومراهقوها ورشقوه بالحجارة حتىٰ دميت قدماه فعاد إلىٰ مكة آسفاً حزيناً علىٰ قومه لأنه يريد لهم الهداية وسعادة الآخرة ويأبون إلا الكفر والضلال[(٤)].
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بحوث السيرة النبوية الشريفة
(١١) [ الْمُجَلَّدُ الْحَادِيَ عَشَرَ ]
مُقَدَّمَاتٌ فِي الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
الزمن:1 هـ ~622 م
آخر أحداث العهد: المكي
المكان: مكة المكرمة
« يثرب » [الْمَدِينَةَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ ]
بَدْءُ الْهِجْرَةِ إلَىٰ « يثرب » الْمَدِينَةِ
(١) الْبَابُ الْأَوَّلُ : : ﴿ ١١٨ ﴾ هجرة الأنبياء
(د. مُحَمَّدٌفَخْرُالدِّينِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِنْ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ)
السبت، 06 شوال، 1443هــ ~ 07 مايو، 2022م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
.. لسببٍ فني ولم استطع معالجته.. تعذر عليَّ فتح الصفحة الأصلية.. لذا أنتقل بالبحوث إلىٰ صفحة جديدة.. مِن خلالها أكمل البحوث؛ واهــ -سبحانه وتعالىٰ- من رواء القصد وعليه التوكل ومنه العون.. وصلى اهل عليه سيدنا وقدوتنا وإمامنا نبي الهدى والرحمة خاتم الأنبياء وآخر المرسلين ومتمم المبتعثين.. والمد له ربن العالمين!
---------------------------------------
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
(د. مُحَمَّدٌفَخْرُالدِّينِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِنْ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ)
السبت، 06 شوال، 1443هــ ~ 07 مايو، 2022م
**
« سنن الأنبياء؛ وسبل العلماء؛ وبساتين البلغاء؛ والأعجاز العلمي عند الحكماء في تأويل نصوص الوحي وآيات الذكر الحكيم المنزل من السماء »
„ أبحاث تمهيدية لمستقبل أمة زاهرة.. ذات حضارة ‟
:" الرسالة النبوية ؛ والشمائل المصطفوية ؛ والخصائل الرسولية ؛ والدلائل الإعجازية ؛ والصفات الأحمدية ؛ والأخلاق المحمدية لــــــ سيدنا محمد بن عبد الله خير البرية صلى الله عليه وآله وسلم "
*****
****
***
**
*
(١١٨) ﴿هجرةُ الأنبياء﴾:
(١١) [الْمُجَلَّدُ الْحَادِيَ عَشَرَ]
بُحوث: « „ دَارِ الْهِجْرَةِ .. وَدَارِ السُّنَّةِ ” »
﴿ ١ ﴾ « „ مُقَدِّمَات هجرة النبي محمد ” » ؛ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- !
.. مجموعة : „ المبادئ ” التي أُرسلتْ بها الأنبياء؛ وكُلفت بها المرسلين مِن قِبل خالق الإنسان للبشر أجمعين؛ وكتلة : „ القيم ” التي نادوا بها؛ وحزمة : „ المقاييس ” ؛ و : „ القناعات ” التي ساروا عليها.. تجدها واحدة عندهم -عليهم الصلاة والسلام- جميعاً؛ فعلىٰ لسانهم وحياً مِن ربهم -سبحانه- أحلَّ لهم الطيبات مِن الرزق؛ وحرم الخبائث: الخمر -مثلاً: مِن حيث المشروبات- والخنزير -مثلاً: مِن حيث المطعومات-؛ والزنا ومقدماته -مِن حيث الإشباع الجنسي؛كـ ملامسة ذكر لـ أنثىٰ؛ أو اللواط -مِن حيث استعمال ذكر لمثله؛ أو السحاق: استعمال أنثىٰ لآخرىٰ- وتغطية العورة-مِن حيث الملبوسات-؛ والاعتقاد بخالق -من حيث الإيمان باسمائه الحسنىٰ وصفاته العُلا- فهو -سبحانه- موجدُ الأشياء مِن عدم؛ رازقُ كل دابة؛ وهو -عز وجل- فردٌ ليس كمثله شئ؛ صمدٌ لا صاحبة له ولا ولد.. ومِن ثمَّ إخلاص عبادته وحده دون شريك أو مثيل أو شبيه أو معين أو وزير.. كيفما ومتىٰ أمر؛ وبالكيفية التي وردت في نصوص كتابه وبالطريقة التي جاءت عن نبيه -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- .. وبالإجمال اجتمعوا جميعاً -عليهم السلام- علىٰ مبادئ وقيم ومقاييس وقناعات واحدة واتفقوا عليها.. بيد أنه -سبحانه- جعل لكلٍ منهم شرعةً ومنهاجاً.. والتُفصيل يأتي في موضع آخر -إذا شاء الرحمن الرحيم-.. ومِن حكمته -سبحانه- أن خصَّ أنبياءَه بأقوامهم دون غيرهم؛ وأُرسل خاتم الأنبياء وآخر المرسلين ومتمم المبتعثين -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- للناس كافة.. وفي سيرتهم -عليهم الصلوات والسلامات والبركات والإجلال والإنعام- أنهم تقاربوا في أحداث منها:
« „ هجرتهم مِن موطنهم إلىٰ بقعة آمنة.. ” »
*. ] وقد قَتل الناسُ مسألةَ : « „ الهجرة النبوية ” » بحثاً وغاصوا في أعماقها، ولم يتركوا زاوية من زواياها إلا أخرجوا خباياها؛ فــ لا أريد[(١)] أن أكتب علىٰ غرار ما كتب من قبل فأعيد ما بدائه غيري وأنا مولع بمعادة المعادات.. وأكره تكرار المعلومات المعروفة؛ والذي أريد أن أكتب عنه في مقدمة هجرة النبي هو : « „ هجرة الأنبياء” » الذين غبروا قبل رسول الله محمد-صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأنه ليس بدعاً من الرسل -عليهم الصلاة والسلام[(١)]-.
وهجرة خاتم الأنبياء ومتمم المبتعثين وآخر المرسلين-صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- هي :
* . ] سُنَّةُ إخوانِه مِن الأنبياء مِن قبله، فما مِن نبي منهم إلا نَبَتْ به بلاد نشأته[لم يجد بها قرار.]، فهاجر عنها، بدءاً مِن إبراهيمَ أبي الأنبياء، وخليلِ الله، إلىٰ عيسىٰ كلمة الله وروحه ونبيه ورسوله، كلهم علىٰ عظيم درجاتهم ورفعة مقامهم أُهينوا مِن عشائرهم، فصبروا ليكونوا مثالاً لمن يأتي بعدهم من متّبعيهم في الثبات والصبر علىٰ المكاره ما دام ذلك في طاعة الله -عز وجل-[(٢)]
* . ] فحين نتتبع سيرة الأنبياء سنجد أن الهجرة كانت سُنَّة ماضية علىٰ سائر المرسلين والنبيين والمبتعثين من رب الإنس والناس أجمعين.
وهنا يبرز سؤال:
لماذا كتب الله علىٰ أنبيائه الهجرة؟
.. يقول د. عبدالمقصود باشا، أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية المتفرغ بكلية اللغة العربية بالقاهرة:
" إن كلمة الهجرة بمعناها الأعم والأشمل تكاد تكون قد كُتبت علىٰ معظم الأنبياء ".
" ولعلنا نتساءل:
لماذا هذا النوع مِن الابتعاد والغربة والبُعد عن الأوطان كُتب علىٰ خير الناس وهم الأنبياء؟[(٣)] ".
لذا فـــ
* . ] مِن أعظم الهجرات وأكرمها وأعلاها مقاماً هجرة الأنبياء وحملة الدعوة، وممن هاجر مِن الأنبياء نوح وإبراهيم ولوط وصالح وموسىٰ ومحمد -عليهم السلام- [(٤)]
فــ
* . ) أولُ الرسلِ الكرام هجرةً هو « „ نوح ” » ؛ -عليه السلام- فكانت هجرته حياةً له وهلاكاً لأعدائه[(١)].
ويستطرد د. عبدالمقصود باشا، قائلا: فإذا غصنا فى التاريخ قديما لوجدنا هجرة نبى الله نوح وتركه موطنه والبلاد التي نشأ وترعرع بها، وتكون هجرته فى سفينته إلىٰ أن تهبط علىٰ جبل الجودي[(٦)].
.. دعا نوحٌ قومه إلىٰ عبادةِ الله -تعالىٰ- وترك عبادة غيره من الأصنام والأوثان وصار يغاديهم بالنصح ويراوحهم بالعظات ألف سنة إلا خمسين، وهم لا يزدادون منه إلا بعداً ونفوراً إلىٰ أن ضاق صدره بما يلاقي منهم؛ وهو لم يجد باباً لهدايتهم إلا طرقه، ولا رأىٰ منفذاً لنصحهم إلا قصده، وفي المقابل: لم يجد قومه باباً للنكاية به إلا ولجوه، ولا ظنوا منفذاً لأغاظته إلا سلكوه. فتراهم يقولون له {.. مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِين } [هود:27] فهم يرون أن الرسالة لا تكون للبشر بل للملائكة، والهداية لا يمكن أن ينالها الفقراء وذوو الأعواز، ولكنها وقف علىٰ ذوي الوجاهة والقوة، وأن الذي يريد الله أن يصطفيه إنما يكون من أهل الثراء والغنىٰ..
.. ولقد رد عليهم نوح بقوله: إنه لا يسألهم علىٰ الهداية التي يزفها إليهم أجراً. فهو لا يجرِ بذلك لنفسه نفعاً ولا يحوز مالاً، وإنما يريد أجرَهُ من الله { فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ }.. ولم يقل لهم إن عنده خزائن الله وليس عنده شيء من علم الغيب، ولم يقل لهم إنه ملك، ولا يقول للذين تزدري أعينهم من أتباعه لن يؤتيهم الله خيراً وهو الهدىٰ والاستقامة علىٰ الجادة،{ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ.. } وأن عِلْمَ ما في أنفسهم عند الله لا عنده {..وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ..} [هود:31] إلىٰ أن ضاق بالقوم وضاقوا به..{ قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا..} فقالوا له: { فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِين } [هود:32]، ودعا نوح عليهم: { وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } [نوح:26] { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا } [نوح:27] فأنبأه الله أن العذاب سيحل بهم، وأمره ألا يخاطبه فيهم وأنهم مغرقون. وأوحىٰ إليه أن يصنع الفلك لينجو بها من العذاب النازل بهم وليهاجر بها عنهم.. إذاً فقد صنع نوح الفلك وكان قومه يسخرون منه وهو يسخر منهم لغفلتهم عن أنفسهم وتفريطهم في حياتهم وعيّرهم بعدم اتباعه إلىٰ أن جاء أمر الله وفار التنور، وتفجرت ينابيع الأرض، وحلت عزاليها السماء، وجاء الطوفان وأبادهم بعد أن نزل نوح والذين آمنوا معه في السفينة، وسلك فيها زوجين اثنين من كل ذي حياة، وانتهت هجرته من الأرض بعد سنة وعشرة أيام بعد أن استقرت السفينة علىٰ الجودي. فكانت هجرته ميمونةً عليه وعلىٰ مَن معه في السفينة وهلاكاً لأعدائه[(١)].
* . ) فعل أبو الأنبياء الأواه الحليم سيدنا الخليل إبراهيم- عليه السلام -[(٤)]
بدايةً: فقد ولد فى مدينة زأورس علىٰ شاطئ الخليج العربي، وعاش في العراق { وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ..} [العنكبوت:26] [(٨)]
..كانت هجراته -عليه السلام- متعددة، فــ هاجر إلىٰ شمال العراق وبشر بدعوته، ولكنه لم يجد أي آذانٍ مصغية، حتىٰ إنه أُلقىٰ به فى جحيم الدنيا حينما أوقدوا له نارا عظيمة[(٨)].. فكانت هجرته العظيمة من بلاد العراق الىٰ بلاد الشام
.. فـ كانت هجرة إبراهيم بعد ذلك إلىٰ أرض كنعان فى فلسطين[(٨)]، ثم كانت هجرته بعد ذلك الىٰ بلاد النيل.. مِصر[(٨)]..
ثم عاد منها وقد أُهديت إليه السيدة هاجر..
ثم هاجر إبراهيم -عليه السلام- إلىٰ وادي مكة المكرمة مصطحبا ابنه إسماعيل والسيدة هاجر[(٨)].
.. وأودعَ زوجته وولده إسماعيل في وادي مكة•وكان من نسل إسماعيل العرب المستعربة[(٤)]•
.. ثم استكمل مِن بعده المسيرة النبي المصطفىٰ الأمين-صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من مكة إلىٰ المدينة .
* . ) إذاً هجرة إبراهيم وغيره من الأنبياء كانت مكتوبة ومقدرة ومقررة ولا يمكن الفكاك منها[(٨)].
* . ) لوط عليه السلام
آمن بعمه إبراهيم واستجاب إلىٰ عبادة الله -تعالى- وهاجر مع عمه إبراهيم كما قال -تعالىٰ-: { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي.. } [العنكبوت:26] وقد جاء في الحديث أن النبي -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال عن عثمان حين هاجر إلىٰ الحبشة ومعه زوجه رقية بنت رسول الله -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: « „ إن أول مهاجر إلىٰ الله بأهله بعد لوط عثمان بن عفان ” » [(١٠)]
* . ] وسَل القرىٰ التي حلّت بها نقمة الله بكفر أهلها كــ ديار لوط وعاد وثمود تنبئك عن مُهَاجَرة الأنبياء منها قبل حلول النقمة[(٢)].
* . ] أما نوح ولوط فقد عاقب الله قوم نوح بالغرق ..
و
قوم لوط بالخسف فلم يعد لهما مَن يدعوان ويهديان[(٤)].
* . ] « „ إسرائيل ” » ؛ (يعقوب) وبنيه:
« „ يعقوب ” » ؛ عليه السلام
كان بينه وبين أخيه عيسو شيء من الخلاف، فهاجر إلىٰ بلاد ما بين النهرين عند خاله لابان، ومكث عند خاله يرعىٰ عليه غنمه، وتزوج من ابنتيه ليئة وراحيل، ومن جاريتيهما زلفىٰ ويلها، ورزق منهن أولاده جميعا، وكانت هجرته خيراً وبركة عليه، فقد صار رب أسرة عظيمة كثيرة العدد، وأموال وماشية كثيرة وعاد إلىٰ فلسطين بعد ذلك، وولد له في هجرته جميع أولاده إلا بنامين[(١)]
.. فَسَلْ مِصر وتاريخها تُنبئك عن إسرائيل (يعقوب) وبنيه أنهم هاجروا إليها حينما رأوا من بَنِيها ترحيباً بهم، وتركهم وما يعبدون إكراماً ليوسف وحكمته. ولما مضت سنون، نسي فيها المِصريون تدبير يوسف وفضله عليهم، فاضطهدوا بني إسرائيل وآذوهم، خرج بهم موسىٰ وهارون ليتمكنوا من إعطاء الله حقه في عبادته[(٢)].
* . ) هجرة نبي الله يعقوب -عليه السلام- وبنيه من فلسطين الىٰ مِصر حينما كان نبي الله يوسف -عليه السلام- وزيراً علىٰ خزائنها فسطر لنا القرءان الكريم تلك اللحظة في محكم التنزيل { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِين } [يوسف:99].
« „ يوسف ” » ؛ عليه السلام
هاجر مرغماً حين ألقاه أخوته في غيابة الجب، ثم التقطه بعض السيارة وأسروه بضاعة وباعوه في مِصر بثمن بخس، واشتراه عزيز مِصر أو رئيس الشرطة بعاصمة الديار المِصرية، وهي مدينة: „ صان ” في الشرقية، ثم امتحن بامرأة العزيز التي راودته عن نفسه فاستعصم، ثم بهتته في وجهه واتهمته بأنه راودها عن نفسها { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِين } { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِين } { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ..} العزيز لها: { إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيم } [يوسف: 26 و 27 و 28]، والتفت إلىٰ يوسف وقال له: { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا }، والتفت إلىٰ زوجه وقال: { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِين } [يوسف:29] إلىٰ أن { بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِين } [يوسف:35]، وفي السجن ظهرت آيات فضله، وفسر لساقي الملك وخبازه مناميهما، وأوصىٰ الذي ظن أنه ناج منهما أن يذكره عند ربه الملك فأنساه الشيطان ذكر ربه، فلبث في السجن بضع سنين { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِين } [يوسف:42] إلىٰ أن رأىٰ الملك سبع بقرات سمان حسان يأكلهن سبع بقرات عجاف مهزولة، وسبع سنبلات خضر غلبتهن سبع سنابل يابسات { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُون } [يوسف:43] وحار العلماء والسحرة والعرافون في تفسير ذلك المنام { قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِين } [يوسف:44] فذكر الذي نجا مِن الفتيين شأن يوسف وتفسيره للمنام؛ فاستأذن الملك { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُون } [يوسف:45] وأتىٰ إلىٰ يوسف واستفتاه فيما رآه المَلك { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُون } [يوسف:46]. ففسر له الرؤيا علىٰ وجهها..
.. وجاء الساقي وقص القصص علىٰ المَلك، { قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُون } [يوسف:47] { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُون } [يوسف:48] { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُون } [يوسف:49] وكان ما كان إلى أن اصطفاه الملك لنفسه{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِين } [يوسف:54] وجعله علىٰ خزائن الأرض { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيم } [يوسف:55]..
ودبر أمر مِصر إلىٰ أن جاء سبع سنوات مخصبة خزن فيها ما زاد علىٰ الحاجة؛ ثم جاء السنين المجدبة ففتح مخازن الادخار، وأطعم الناس، وجاء أخوته فداعبهم ودبر عليهم تدبيراً حتىٰ جاءوه بأخيه بنيامين، ثم عرفهم بنفسه وقال: { وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِين } [يوسف:59] { .. وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِين } [يوسف:93] ..
فكانت هجرته القسرية وتغربه خيراً عليه وعلىٰ أهله وعلىٰ الناس أجمعين؛ ولولا تدبير الله وتدبيره لأمر الأغذية لهلك الناس[(١)].
* . ] هجرة كليم الله « „ موسىٰ ” » ؛ -عليه السلام- من مِصر الىٰ مَدين ثم بعدها هربا مع قومه من فرعون وملأه.
لا نريد[(١)] أن نتكلم عن أولية موسىٰ -عليه السلام-. وإنما نقول إنه نشأ في بيت فرعون عزيز الجانب؛ ولما بلغ مبلغ الرجال لم يخف عليه أنه دخيل في ذلك البيت وأنه من العنصر العبراني؛ وعرف العبرانيون ذلك فاستعزوا به وانتفعوا بجاهه[(١)]
ويضيف د. عبدالمقصود باشا: فلنأخذ مثلا سيدنا موسىٰ -عليه السلام- الذى ولد ونشأ وتربىٰ فى مِصر حتىٰ صارت له مكانة فى البلاط الفرعوني هو وأخيه هارون.. ثم تحدث المشادة بين أحد أبناء قومه وأحد المِصريين[(١٥)]
..وسار في المدينة يوماً علىٰ حين غفلة من أهلها فوجد رجلين يقتتلان أحدهما عبراني من شيعة موسىٰ والثاني قبطي [قلتُ (الرَّمَادِيُ) يعني مِصري؛ وهذا يدل علىٰ أن سكان مِصر يطلق عليهم أقباط؛ وليس كما يدعي البعض أنه يخص أهل دين بعينه؛ والقصة بكاملها حدتث قبل مجئ النصرانية بأكثر مِن 1500 سنة] من عدوه، فاستغاثة العبراني علىٰ القبطي، فأغاثه موسىٰ وعمد إلىٰ القبطي فوكزه فقضىٰ عليه، وهو لم يرد قتله، وإنما أراد كف عاديته عن العبراني، ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها..
.. لم يشاهد أحد هذه الحادثة سوىٰ العبراني. وعاد موسىٰ بالأئمة علىٰ نفسه وقطع علىٰ نفسه عهداً ألا يكون ظهيراً للمجرمين..
.. ظهر أمر القبطي ولم يعلم قاتله. فلما كان اليوم الثاني خرج موسىٰ في مثل ذلك الوقت فوجد ذلك العبراني بنفسه في معركة مع قبطي آخر يريد أن يسخره وهو يأبىٰ، فاستغاثه كما استغاثه بالأمس فقال له موسىٰ أنك لغوي مبين. وأراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما ويكف عاديته عنه. فظن العبراني أنه إياه أراد. فقال له: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين، وصالح القبطي واتخذ موسىٰ خصما..
.. حينئذ ظهر قاتل القبطي وهو موسىٰ وانتهىٰ الخبر إلىٰ فرعون فاجتمع ملأ فرعون وقومه علىٰ قتل موسىٰ. فجاء إليه رجل من آل فرعون من أقصىٰ المدينة يسعىٰ وقال له إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، ونصح له بالخروج لينجو بنفسه فخرج من المدينة خائفاً يترقب قائلاً رب نجني من القوم الظالمين، ويهاجر فرارا من الفراعنة عبر أرض سيناء إلىٰ مدين، ويظل هناك عشر سنوات..
.. ولىٰ وجهه شطر مَدْين علىٰ خليج العقبة. ولعلها كانت أقرب بلاد يجد فيها مأمنه لخروجها عن قبضة الحكومة المِصرية - ولما كان خروجه علىٰ عجل لم يترو في الأمر ولم يأخذ معه زاداً ولا ما يساعده علىٰ قطع المسافة من مطية ولا رفقة له في هذا السفر الشاق ولا دليل لأنه إنما يريد أن ينجو بخيط رقبته..{ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيل } [القصص:22] فحقق الله -تعالىٰ-أمنيته وبلغ ماء مَدين بعد الجهد الشديد والجوع المضي فوجد علىٰ الماء أمة من الناس يسقون ووجد امرأتين تذودان غنمهما عن الحوض، فلم يعجبه أن يتقدم أولو القوة ويتأخر المرأتان فسألهما عن شأنهما. فقالتا لا نسقي حتىٰ يصدر الرعاء لأننا ليس بنا قوة علىٰ التقدم والمزاحمة، وأبونا شيخ كبير لا يقدر علىٰ رعي ماشيته ولا سقياها. { وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِير } [القصص:23] فنحىٰ الرعاء بما بقىٰ له من فضل قوة وسقىٰ لهما ثم تولىٰ إلىٰ الظل يشكو إلىٰ الله حاجته إلىٰ القوت وما به من مخمصة قائلاً: {.. رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير } [القصص:24]
.. أراد الله أن يكافئ موسىٰ جزاء توكله عليه وفعله الخير ابتغاء وجه ربه فلم يلبث أن جاءته إحدىٰ المرأتين تمشي علىٰ استحياء { فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء } حتىٰ وقفت عليه وقالت له في خفر: {.. إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا..} لبىٰ موسىٰ الدعوة؛ وجاء إلىٰ أبيها الشيخ؛ وقص عليه قصصه. فقال له الشيخ لا تخف نجوت من القوم الظالمين {.. فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين } [القصص:25]
.. أرادت إحدىٰ بنات الشيخ أن يقوم موسىٰ عنهما برعي الماشية لأنه أقدر علىٰ ذلك لما رأته من قوته في النزع بالدلو.. وأمانته إذ أخرها وقال لها اسعي ورائي وانعتي لي الطريق؛ فقالت لأبيها { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِين} [القصص:26]
.. نشط الشيخ لما أشارت به ابنته، وطلب إلىٰ موسىٰ أن يستأجره ثماني حجج علىٰ أن يزوجه من إحدىٰ ابنتيه { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ..} فإذا رضىٰ أن يتم الثماني.. عشراً كان ذلك علىٰ أن يكون بالخيار في قضاء أحد الأجلين {.. عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ } [القصص:27]
.. تقول التوراة إنه بقىٰ عنده إلىٰ أن كانت سنه ثمانين سنة؛ والقرآن الكريم ليس فيه تحديد قاطع في المدة التي أقامها..
.. والمهم في الأمر أنه لما قضىٰ الأجل وصار حراً صادفه أن أبعد في الرعي وضل الطريق في ليلة مظلمة باردة؛ وحاول أن يقدح ناراً فصلد زنده ولم يور ناراً؛ وبعد لأي { إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى } [طه:10]. { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُون } [القصص:29] فلما جاء إلىٰ النار نودي { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى } [طه:11] { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } [طه:12] { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } [طه:13] { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } [طه:12] { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } [طه:13] ؛ { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي } [طه:14]
.. وبعد حوار أرسله الله نذيراً إلى فرعون وملئِه لإخراج بني إسرائيل؛ فكان ما كان مما قصه القرآن من شأنه مع فرعون وشأنه مع بني إسرائيل؛ فكانت هجرته خيراً وبركة عليه وعلىٰ بني إسرائيل؛ كما أجاب فرعون بقوله { فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِين } [الشعراء:21] [(١)].
.. ثم يعود عبر جنوب سيناء مرة ثانية.. ثم يُرسل فى عودته من مهجره إلىٰ مِصر ويُكلف بالرسالة. ثم يضطر موسىٰ إلىٰ الهجرة ثانية مصطحبا قومه، وينفلق له البحر بعد أن يضربه بعصاه وفرعون وجنوده يتبعونه، ويتراءىٰ الجمعان، حتىٰ قال أصحاب موسىٰ «إنا لمدركون» { فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُون } [الشعراء:61]..
وفى التوكيد بـ «إن» -هنا- دلالة علىٰ قرب المسافة بين الفريقين، وينجي الله بنى إسرائيل، والقصة معروفة فى عدد من سور القرآن.. ويتوفىٰ موسىٰ دون أن يمكنه الله من دخول بيت المقدس[(٨)].
* . ] هجرة « „ داود ” » ؛ عليه السلام
هو داود بني يسي من سبط يهوذا. كان له اخوة يحاربون الفلسطينيين مع طالوت الذي هو شاول أول ملك من ملوك بني إسرائيل. وكان في الفلسطينيين جندي جبار اسمه جالوت قد هابته الأبطال وتحامت الشجعان لقاءه خوف الهلاك..
.. وكان لداود اخوة في الحرب؛ فأرسله أبوه بطعام لاخوته ولينظر حالهم ويعود إلىٰ أبيه بما يطمئنه عليهم. فبينا هو سائر إلىٰ اخوته نظر في البرية إلىٰ أحجار ملس راقته فوضعها في كنفه (الكنف كيس الراعي) ولما ذهب إلىٰ اخوته والحرب علىٰ قدم وساق نظر إلىٰ الفلسطيني وهو يعير بني إسرائيل إحجامهم عنه، فاستشاط الفتىٰ داود غضبا وسأل ما الذي يناله من قتل هذا الأغلف الفلسطيني. فأجيب بأن الملك يغنيه ويغدق عليه ويزوجه ابنته ويجعل بيته أكبر بيت في إسرائيل. فذهب إلىٰ الملك واستأذنه في لقاء جالوت فضن به الملك أن يقتل في غير فائدة وهو صغير السن لا يقوىٰ عليه. فقال له داود: إن عبدك (يعني نفسه) قتل أسدا تعرض لغنم أبي وقتل دبا أيضاً. فأذن له وأعطاه لأمة حربه فلم يحسن داود المشي فيها فخلعها وذهب إلىٰ جالوت بمقلاعه وأحجاره. وقد هزأ منه جالوت ونصحه أن يعود من حيث أتىٰ فلم يفعل، ووقف قبالته ووضع حجراً من تلك الأحجار في المقلاع رماه به فارتز الحجر في جبهة جالوت وخر لليدين وللفم، فأخذ داود سيف جالوت وفصل رأسه به وجاء به إلىٰ الملك وانهزم الفلسطينيون شر هزيمة..
... ولكن طالوت ضن علىٰ داود بابنته التي وعد أن يزوجها من قاتل جالوت وزوجه من ابنة له أخرىٰ وقدمه علىٰ رؤساء جنده..
.. تغير بعد ذلك طالوت لداود وعمل علىٰ إهلاكه بيد الأعداء خوفا من أن يوليه بنو إسرائيل الملك، فكان يكلفه بالقدوم إلىٰ الحرب وكان داود يظفر دائماً. فعمد إلىٰ إهلاكه بنفسه، ونجا داود منه مرات وهو يتبعه في كل مكان، وتمكن داود من قتل الملك مرات ولكنه لم يفعل ويخبره بتمكنه من قتله وأنه أبقىٰ عليه، فيندم الملك ثم يعاوده خوفه علىٰ الملك فيطارده إلىٰ أن خرج داود من ملك إسرائيل وأقام مع الفلسطينيين برضاء ملكهم إلىٰ أن قتل طالوت وابنه... فجاء إلىٰ قرية أربع -وهي مدينة الخليل- وبويع فيها بالملك. وكان لطالوت ولد بويع بالملك أيضاً إلىٰ أن قتل ابن طالوت الملك وانفرد داود بالملك واشترىٰ قلعة صهيون التي عند باب الخليل وسماها مدينة داود، ثم اشترىٰ جبل الموريا الذي عليه الحرم القدسي ومدينة أورشليم القديمة المعلومة اليوم بأسوارها وحدودها..
.. وفي أواخر أيام داود نزا علىٰ الملك ولده ابشالوم وبايعه العدد العظيم من بني إسرائيل. ورحل داود إلىٰ شرق الأردن وجلس ابشالوم علىٰ كرسي الملك وحارب أباه فقُتل أبشالوم وعاد داود إلىٰ مقر ملكه..
فــ .. هاتان هجرتان لداود وكانت العاقبة له علىٰ خصومه فيهما[(١)].
« „ المسيح عيسىٰ ابن مريم ” » ؛ وأمه ويوسف النجار :
* . ] ويتابع: د. باشا: فإذا تأخرنا عن عصر نوح وموسىٰ قليلا لوجدنا هجرة السيد المسيح الذى لم يجد علىٰ وجه الكرة الأرضية مكانا يأوى إليه ويحميه من بطش أعدائه، فكانت هجرته هو وأمه مريم العذراء ويوسف النجار إلىٰ أرض مِصر.. وهو صغير.. ويمكث فى مِصر سنوات عدة، ثم يعود إلىٰ بيت لحم وهو كبير لتدبر له المكائد ويسوقونه للصلب فيرفعه الله ويلقىٰ الله شبهه عليه[(٨)] .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تقوم حكومة دولة مِصر بتعبيد طريق رحلة العائلة المقدسة(!) لتسويق مشروع إحياء مسار العائلة المقدسة يصلح للسياحة الدينية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يلتقط الشيخ النجار خيط الأحداث فيكمل القول :
* . ] هجرة « „ المسيح ” » ؛ -عليه السلام-
أما المسيح عيسىٰ ابن مريم عليه السلام فله هجرة ليست كهجرة سائر الأنبياء الذين هاجروا من بلادهم..
.. ذلك أنه لما وُلِدَ كان هناك ملك من قبل الرومان أُخبر أن ملك اليهود ولد في بيت لحم، فجد في قَتل الأولاد الذين ولدوا في بيت لحم في تلك الأيام. فأُمرت مريم بأن تهاجر بابنها ومعها خطيبها يوسف النجار.. فذهبت إلىٰ مِصر وأقامت فيها مدة..
.. قيل إنها كانت سبع سنين.. أو أقل..
.. إلىٰ أن أُمرت بالرجوع إلىٰ فلسطين، لأن الذي كان يطلب نفس ولدها قد هلك، فعادت..
.. وهذه الهجرة نص عليها في إنجيل متي وإنجيل برنابا ولا وجود لها في سائر الأناجيل الثلاثة الأخرىٰ المعروفة؛ فهجرة المسيح كانت تابعة لهجرة أمه خوفاً عليه ولم تكن بإرادته[(١)].
.. وهرب المسيح -عليه السلام- من اليهود حينما كذَّبوه، فأرادوا الفتك به حتىٰ كان مِن ضمن تعاليمه لتلاميذه: « طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ »[(١٥)]. « طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِينَ »[(١٦)] ثم قال : « اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُمْ هكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ »[(١٧)].[(٢)]
* . ] فلا غرابة أن هاجر -عليه الصلاة والسلام- من بلاد منعه أهلها من تتميم ما أراده الله { سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [الأحزاب: 62][(٢)].
* . ] « „ محمد ” » ؛ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-
.. مِن ذلك كله نرىٰ أن محمداً لم يكن بدعاً مِن الرسل والأنبياء الذين هاجروا مِن قبل، فقد جاهد جهاد الأبطال في إذاعة دعوته بين الناس، وقد أوذي في الله -تعالى- هو وأتباعه. حتىٰ إذا لم يبقَ في قوسِ تصبرِهِم منزعٌ.. سهل الله -تعالى- إسلام أهل يثرب = المدينة المنورة؛ والتي طيَّب الله -تعالىٰ- ثراها بقدومه.. ثم من بعد حين مرقده.. فأقبلوا علىٰ الدين بمحض اختيارهم، حتىٰ إذا كثروا.. جاءوا إليه وبايعوه علىٰ النُصرة، فأذنَ لأصحابه في الهجرة.. وبقىٰ هو وأبوبكر وعلي والمستضعفون. فلما مكر به كفار مكة ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه وصحت منهم العزيمة علىٰ ما بيتوا، أمره الله -تعالى- بالهجرة (وكان أبوبكر يعد لها العدة) فامتثل الرسول أمر ربه وآذن أبابكر بذلك ففرح وحاول أن يدعوا صهيب بن سنان للسير معهما فلم يُقَدر له ذلك، وخرجا إلىٰ غار ثور فأقاما به ثلاثا. وقد جهد كفار قريش في العثور عليهما فصرفهم الله عن ذلك، وقد كانا منهم قاب قوسين أو أدنىٰ؛ ثم ذهبا إلىٰ المدينة بعد أن هدأ الطلب يدل بهما عبدالله بن اريقط وهو علىٰ شركه إلىٰ أن وردا قُباء ثم المدينة.. فبدل الله حالهم أمنا، ومكن لهم في الأرض، وأرىٰ كفار قريش منهم ما كانوا يحذرون، وأتم الله نعمته علىٰ أهل الإسلام، مكن لهم دينهم الذي ارتضىٰ لهم إلىٰ أن مضىٰ رسول الله لسبيله، وقام خلفائه من بعده يحملون عبء تبليغ الرسالة والتمكين للدين؛ وانتشر الإسلام شرقاً وغرباً؛ وكانت الهجرة علىٰ رسول الله وأمته خيرا وبركة كما كانت هجرة الأنبياء خيراً وبركةً عليهم مِن قبل؛ ولله عاقبة الأمور؛ لا مبدل لكلماته، ولا معقب لحكمه؛ وهو العزيز الحكيم[(١)]
* . ] ومحمد - عليه السلام - مكث يدعو قومه في مكة ثلاثة عشر عاماً فما استجاب لدعوته إلا القليل.. القليل ولم يكتفِ قومه برفض الهداية بل آذوه.. ومن أسلم معه..
.. وصفوه بأنه كاذب لأن دينهم الباطل، هو الحق، فمن آمن بسواه فهو كاذب في زعمهم..
.. وزعموا بأنه ساحر لأنه استطاع أن يغير دين بعض مواطنيهم فأسلموا ومن كان قادراً علىٰ تبديل إيمان الغير فهو ساحر في نظرهم..
.. وقالوا انه كاهن لأن النبي - عليه السلام - أخبرهم بأمور غيبية ماضية كأخبار الماضين من الأقوام ورسلهم وأخبرهم بما سيحصل لمن يكفر بالله يوم القيامة ومن يخبر بالغيبيات هو كاهن، والكاهن عند العرب شخص يعرف الغيب في زعمهم فإذا سأله سائل عما سيحصل له أخبره، وقالوا انه لا يستحق النبوة لأن الله لو أراد إرسال نبي لاختار فلاناً وفلاناً من أصحاب المقام الرفيع عندهم{ وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم } [الزُّخرُف:31] وقالوا: إنه طامع في الرئاسة والسلطان لذلك عرضوا عليه الملك.. وقالوا.. وقالوا مما لا يتسع المقام لذكره ورغم كل ما قالوه فإن محمداً - عليه السلام - ظل ثابتاً كالطود العظيم لا يحيد عن دعوته، وكان قومه كلما مرت السنين ازدادوا أذىٰ له ولأتباعه إلىٰ حد لا يطاق من الناس العاديين لكن المؤمنين كان إيمانهم شديداً فلم يرتدوا عن دينهم، وطلب بعضهم الهجرة إلىٰ الحبشة فأذن لهم، وكانت هذه الهجرة أولىٰ الهجرتين أما الهجرة الثانية فكانت إلىٰ (يثرب)[(٤)]
وقرر النبي بعد معاناة ثلاث عشرة سنة أن يغير مكان الدعوة فحاول دخول الطائف لكن صدّه سفهاؤها ومراهقوها ورشقوه بالحجارة حتىٰ دميت قدماه فعاد إلىٰ مكة آسفاً حزيناً علىٰ قومه لأنه يريد لهم الهداية وسعادة الآخرة ويأبون إلا الكفر والضلال[(٤)].
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بحوث السيرة النبوية الشريفة
(١١) [ الْمُجَلَّدُ الْحَادِيَ عَشَرَ ]
مُقَدَّمَاتٌ فِي الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
الزمن:1 هـ ~622 م
آخر أحداث العهد: المكي
المكان: مكة المكرمة
« يثرب » [الْمَدِينَةَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ ]
بَدْءُ الْهِجْرَةِ إلَىٰ « يثرب » الْمَدِينَةِ
(١) الْبَابُ الْأَوَّلُ : : ﴿ ١١٨ ﴾ هجرة الأنبياء
(د. مُحَمَّدٌفَخْرُالدِّينِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِنْ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ)
السبت، 06 شوال، 1443هــ ~ 07 مايو، 2022م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
.. لسببٍ فني ولم استطع معالجته.. تعذر عليَّ فتح الصفحة الأصلية.. لذا أنتقل بالبحوث إلىٰ صفحة جديدة.. مِن خلالها أكمل البحوث؛ واهــ -سبحانه وتعالىٰ- من رواء القصد وعليه التوكل ومنه العون.. وصلى اهل عليه سيدنا وقدوتنا وإمامنا نبي الهدى والرحمة خاتم الأنبياء وآخر المرسلين ومتمم المبتعثين.. والمد له ربن العالمين!
---------------------------------------
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
(د. مُحَمَّدٌفَخْرُالدِّينِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِنْ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ)
السبت، 06 شوال، 1443هــ ~ 07 مايو، 2022م