ابو الوليد البتار
05 / 04 / 2009, 10 : 06 PM
الدعوة أبقى من الداعية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ([1])
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ([2])
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ([3])
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار. ([4])
أما بعد:
أحبتى فى الله:
ها هاى الأيام تمر .. والأشهر تجرى ورائها .. تسحب معها السنين .. وتجر خلفها الأعمار .. وتطوى حياة جيل بعد جيل.
فالحمد لله الذى يجمعنا فى الدنيا على محبته وطاعته ونسأله سبحانه وتعالى أن يجمعنا وإياكم مع حبيبنا المصطفى فى جنته ودار كرامته.
أما بعد .. فحى الله هذه الوجوه التى طال شوقنا إليها.
وزكى الله هذه الأنفس التى انصهرنا معها فى بوتقة الحب فى الله.
وشرح الله هذه الصدور التى جمعنا وإياها كتاب الله.
وبارك الله فيكم جميعاً وجزاكم الله عنا خير الجزاء.
أحبتى فى الله :
أود أن أحدثكم اليوم حديثاً طويلاً حديث المحب إلى أحبابه وإخوانه .. ولكن إشفاقاً بكم سأركز الحديث فى عدة عناصر أراها من وجهة نظرى فى غاية الأهمية وهى:
أولاً: الدعوة أبقى من الداعية.
ثانياً: إن الله ناصر دينه بنا أو بغيرنا.
ثالثاً: منهج عمل نعاهد الله عليه.
فأعيرونى القلوب والأسماع
أحبتى فى الله:
أولاً: الدعوة أبقى من الداعية
نعم .. إن البشر جميعاً إلى فناء .. والعقيدة والدعوة إلى بقاء .. ومنهج الله للحياة مستقل فى ذاته عن الذين يحملون وبؤدونه إلى الناس، من الرسل والدعاة على مدى التاريخ كله.
فالدعوة أكبر من الداعية .. وأبقى من الداعية .. ودعاتها يجيئون ويذهبون، وتبقى هى على مر الأجيال والقرون، ويبقى اتباعها موصولين بمصدرها الأول وهو الحى الباقى الذى لا يموت.
ولو ماتت دعوة وإنتهت بموت دعاتها .. لماتت وإنتهت دعوة الإسلام بموت سيد الدعاة وأعظم رسول وداعية عرفته الدنيا محمد . ولذلك أراد الله أن يعلمهم هذا الدرس فى حياته ووجوده .
فلما هتف الهاتف فى غزوة أحد قائلاً:
إن محمداً قد قتل .. إن محمداً قد مات.
وما أن وصلت هذه الكلمات إلى آذان المسلمين فى أرض المعركة إلا وانقلب الكثير منهم عائدين إلى المدينة يائسين .. وقد أحسوا أنه لا جدوى إذن من قتال المشركين .. وبموت محمد قد إنتهى أمر هذا الدين وإنتهى أمر الجهاد للمشركين.
فأراد اله جل وعلا أن يربيهم بهذه الحادثة وأن يعدهم لحمل أمانة هذا الدين بعد موت رسول الله فنزل قول الله سبحانه وتعالى:
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ([5])
إن محمداً رسول من عند الله جاء ليبلغ دعوة الله إلى أن يلقى الله والله باق لا يموت .. ودعوته باقية لا تموت .. وما ينبغى أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات أو قتل النبى الذى جاء ليبلغهم دعوة الله عز وجل.
وكأنما أراد الله سبحانه وتعالى بهذه الحادثة أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة حتى لا يتخلو عن هذه المسئولية وهذا العهد بموت رسول الله فهم إنما بايعوا الله وعاهدوه وهم أمام الله مسئولون.
وكأنما أراد الله سبحانه وتعالى أن يأخذ بأيديهم فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى التى لم يعقدها محمد بل جاء ليعقد بها ايدى البشر ثم يجعهم عليها ويمضى إلى ربه وهم بها مستمسكون.
ووعى أصحاب النبى هذا الدر جيداً، فرفعوا الراية خفاقة عالية وحملوا هذا الدين الذى خالط دمائهم ونفوسهم وأرواحهم.
* فهذا أنس بن النضر رضى الله عنه يمر بقوم من المسلمين قد ألقوا ما بأيديهم فى غزوة أحد فيقول لهم: ما تنتظرون فقالوا : قتل رسول الله .
فقال أنس رضى الله عنه فما تصنعون فى الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله.
ثم استقبل الناس ولقى سعد بن معاذ فقال يا سعد إنى لأجد ريح الجنة من دون أحد. فقاتل رضى الله عنه حتى قتل فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم. ([6])
* وهذا أبو دجانه رضى الله عنه يترس على رسول الله بظهره والنيل يسقط على ظهره ويقع فيه كالأمطار وهو لا يتحرك حتى لايصاب رسول الله بمكروه وسوء.
* وهذا سعد بن الربيع الأنصارى رضى الله عنه: يقول زيد بن ثابت رضى الله عنه: بعثنى رسول الله يوم أحد أطلب سعد بن الربيع فقال لى رسول الله : "إن رأيته فأقرئه منى السلام وقل له: يقول لك رسول الله: كيف تجدك؟ قال زيد فجعلت أطوف بين القتلى فأتيته وهو بآخر رمق وفيه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم فقلت يا سعد إن رسول الله يقرأ عليك السلام ويقول لك أخبرنى كيف تجدك؟ فقا سعد: وعلى رسول الله السلام قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل له إن سعداً يقول لك جزاك الله عنا خيراً يا رسول الله، وأبلغ القوم عنى السلام وقل لهم يقول لكم سعد: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته رضى الله عنه".([7])
* وهذا بطل وعملاق آخر يعلمنا درساً فى الفداء للإسلام ولرسول الله *** درساً ليس له نظير، إنه "خبيب بن عدى" رضى الله عنه الذى صلبه المشركون فى مكة بمكان يقال له التنعيبم واحتشد المشركون حوله فى شماته ظاهرة ووقف الرماة يشحذون رماحهم لتمزيق هذا الجسد الطاهر فى جنون ووحشيه.
ويستأذن خبيب فى أن يصلى الله لله ركعتين، فأذنوا فصلى ركعتين فى خشوع وإخبات، فلما سلم التفت إليهم وقال: والله لولا أن تروا أن مابى جزع لزدت (أى من الصلاة) ثم توجه إلى الله جل وعلا قائلاً: "اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بددا([8]) ولا تبق منهم أحداً".([9])
ثم أنشد قائلاً:
لقد أجمع الأحزاب حولى وألبوا
وقد قربوا أبناءهم ونساءهم
إلى الله أشكوا غربتى بعد كربتى
وقد خيرونى الكفر والموت دونه
ومابى حذار الموت إنى لميت
ولست أبالى حين أقتل مسلماً
وذلك فى ذات الله وإن يشأ
فلست بمبد للعدو تخشعاً
قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وقربت من جذع طويل ممنع
وما أرصد الأحزاب لى عند مصرعى
فقد ذرفت عيناى من غير مجزع
وإن إلى ربى إيابى ومرجعى
على أى جنب كان فى الله مصرعى
يبارك فى أوصال شلو ممزع
ولا جزعاً أنى إلى الله مرجعى
فقا له أبو سفيان: أيسرك أن محمداً عندنا تضرب عنقه وإنك فى أهلك فقال: لا والله ما يسرنى أنى فى أهلى وأن رسول الله فى مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه.
(أخرجه البخارى فى كتاب المغازى فى باب غزوة الرجيع وأخرجه أحمد فى المسند وابن سعد وابن هشام وابن كثير والطبرى).
وهكذا وعى أصحاب النبى الدرس جيداً.
فيجب علينا أيها الأحباب أن نعى هذا الدرس جيداً فنجعل ولائنا لله جل وعلا وحده وأن نخلص عبادتنا وأعمالنا لله جل وعلا وحده.
فيا من جعلتم ولاءكم لأشخاص الدعاة اجعلوا ولاءكم لله. فكم توقفت دعوات بسبب ارتباط أفرادها ارتباطاً مباشراً بشخص الداعية لا بدعوته، فإذا مات هذا الداعية أو ترك مجال دعوته لسبب أو لأخر، أصيبت الدعوة بالتوقف أو بالإعياء على أقل حال.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولكن اعلموا جميعاً أحبتى فى الله أننا لن نضر إلا أنفسنا.
إن الله جل وعلا غنى عن العالمين لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية.
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ([10])
ثانياً: إن الله جل وعلا سينصر دينه بنا أو بغيرنا، وإن المستقبل لهذا الدين رغم كيد الكائدين.
ولقد توالت البشائر من القرآن والسنة بنصرة هذا الدين. لأنه دين الله عز وجل.
وانتبهوا معى إلى هذا العنصر الخطير لأننى أرى موجة عاتية عارمة من القنوط واليأس تجتاح قلوب كثير من المسلمين لما وصلت إليه الأمة المسلمة من ذلة وضعف وهوان!!.
ولكن الذى يفصل فى الأمر ليس هو ضخامة الباطل وإنما الذى يفصل فى الأمر هو قوة الحق. ولاشك على الإطلاق أن معنا الحق الذى لأجله قامت السموات والأرض وإليكم بعض هذه البشائر.
أولاً: بشائر القرآن
البشارة الولى: وعد الله جل وعلا بظهور دينه وغلبته.
يقول الحق جل وعلا : {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ([11])
إن نور الله لا يمكن أن تطفئه جميع الأفواه ولو اجتمعت.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ([1])
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ([2])
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ([3])
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار. ([4])
أما بعد:
أحبتى فى الله:
ها هاى الأيام تمر .. والأشهر تجرى ورائها .. تسحب معها السنين .. وتجر خلفها الأعمار .. وتطوى حياة جيل بعد جيل.
فالحمد لله الذى يجمعنا فى الدنيا على محبته وطاعته ونسأله سبحانه وتعالى أن يجمعنا وإياكم مع حبيبنا المصطفى فى جنته ودار كرامته.
أما بعد .. فحى الله هذه الوجوه التى طال شوقنا إليها.
وزكى الله هذه الأنفس التى انصهرنا معها فى بوتقة الحب فى الله.
وشرح الله هذه الصدور التى جمعنا وإياها كتاب الله.
وبارك الله فيكم جميعاً وجزاكم الله عنا خير الجزاء.
أحبتى فى الله :
أود أن أحدثكم اليوم حديثاً طويلاً حديث المحب إلى أحبابه وإخوانه .. ولكن إشفاقاً بكم سأركز الحديث فى عدة عناصر أراها من وجهة نظرى فى غاية الأهمية وهى:
أولاً: الدعوة أبقى من الداعية.
ثانياً: إن الله ناصر دينه بنا أو بغيرنا.
ثالثاً: منهج عمل نعاهد الله عليه.
فأعيرونى القلوب والأسماع
أحبتى فى الله:
أولاً: الدعوة أبقى من الداعية
نعم .. إن البشر جميعاً إلى فناء .. والعقيدة والدعوة إلى بقاء .. ومنهج الله للحياة مستقل فى ذاته عن الذين يحملون وبؤدونه إلى الناس، من الرسل والدعاة على مدى التاريخ كله.
فالدعوة أكبر من الداعية .. وأبقى من الداعية .. ودعاتها يجيئون ويذهبون، وتبقى هى على مر الأجيال والقرون، ويبقى اتباعها موصولين بمصدرها الأول وهو الحى الباقى الذى لا يموت.
ولو ماتت دعوة وإنتهت بموت دعاتها .. لماتت وإنتهت دعوة الإسلام بموت سيد الدعاة وأعظم رسول وداعية عرفته الدنيا محمد . ولذلك أراد الله أن يعلمهم هذا الدرس فى حياته ووجوده .
فلما هتف الهاتف فى غزوة أحد قائلاً:
إن محمداً قد قتل .. إن محمداً قد مات.
وما أن وصلت هذه الكلمات إلى آذان المسلمين فى أرض المعركة إلا وانقلب الكثير منهم عائدين إلى المدينة يائسين .. وقد أحسوا أنه لا جدوى إذن من قتال المشركين .. وبموت محمد قد إنتهى أمر هذا الدين وإنتهى أمر الجهاد للمشركين.
فأراد اله جل وعلا أن يربيهم بهذه الحادثة وأن يعدهم لحمل أمانة هذا الدين بعد موت رسول الله فنزل قول الله سبحانه وتعالى:
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ([5])
إن محمداً رسول من عند الله جاء ليبلغ دعوة الله إلى أن يلقى الله والله باق لا يموت .. ودعوته باقية لا تموت .. وما ينبغى أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات أو قتل النبى الذى جاء ليبلغهم دعوة الله عز وجل.
وكأنما أراد الله سبحانه وتعالى بهذه الحادثة أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة حتى لا يتخلو عن هذه المسئولية وهذا العهد بموت رسول الله فهم إنما بايعوا الله وعاهدوه وهم أمام الله مسئولون.
وكأنما أراد الله سبحانه وتعالى أن يأخذ بأيديهم فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى التى لم يعقدها محمد بل جاء ليعقد بها ايدى البشر ثم يجعهم عليها ويمضى إلى ربه وهم بها مستمسكون.
ووعى أصحاب النبى هذا الدر جيداً، فرفعوا الراية خفاقة عالية وحملوا هذا الدين الذى خالط دمائهم ونفوسهم وأرواحهم.
* فهذا أنس بن النضر رضى الله عنه يمر بقوم من المسلمين قد ألقوا ما بأيديهم فى غزوة أحد فيقول لهم: ما تنتظرون فقالوا : قتل رسول الله .
فقال أنس رضى الله عنه فما تصنعون فى الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله.
ثم استقبل الناس ولقى سعد بن معاذ فقال يا سعد إنى لأجد ريح الجنة من دون أحد. فقاتل رضى الله عنه حتى قتل فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم. ([6])
* وهذا أبو دجانه رضى الله عنه يترس على رسول الله بظهره والنيل يسقط على ظهره ويقع فيه كالأمطار وهو لا يتحرك حتى لايصاب رسول الله بمكروه وسوء.
* وهذا سعد بن الربيع الأنصارى رضى الله عنه: يقول زيد بن ثابت رضى الله عنه: بعثنى رسول الله يوم أحد أطلب سعد بن الربيع فقال لى رسول الله : "إن رأيته فأقرئه منى السلام وقل له: يقول لك رسول الله: كيف تجدك؟ قال زيد فجعلت أطوف بين القتلى فأتيته وهو بآخر رمق وفيه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم فقلت يا سعد إن رسول الله يقرأ عليك السلام ويقول لك أخبرنى كيف تجدك؟ فقا سعد: وعلى رسول الله السلام قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل له إن سعداً يقول لك جزاك الله عنا خيراً يا رسول الله، وأبلغ القوم عنى السلام وقل لهم يقول لكم سعد: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته رضى الله عنه".([7])
* وهذا بطل وعملاق آخر يعلمنا درساً فى الفداء للإسلام ولرسول الله *** درساً ليس له نظير، إنه "خبيب بن عدى" رضى الله عنه الذى صلبه المشركون فى مكة بمكان يقال له التنعيبم واحتشد المشركون حوله فى شماته ظاهرة ووقف الرماة يشحذون رماحهم لتمزيق هذا الجسد الطاهر فى جنون ووحشيه.
ويستأذن خبيب فى أن يصلى الله لله ركعتين، فأذنوا فصلى ركعتين فى خشوع وإخبات، فلما سلم التفت إليهم وقال: والله لولا أن تروا أن مابى جزع لزدت (أى من الصلاة) ثم توجه إلى الله جل وعلا قائلاً: "اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بددا([8]) ولا تبق منهم أحداً".([9])
ثم أنشد قائلاً:
لقد أجمع الأحزاب حولى وألبوا
وقد قربوا أبناءهم ونساءهم
إلى الله أشكوا غربتى بعد كربتى
وقد خيرونى الكفر والموت دونه
ومابى حذار الموت إنى لميت
ولست أبالى حين أقتل مسلماً
وذلك فى ذات الله وإن يشأ
فلست بمبد للعدو تخشعاً
قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وقربت من جذع طويل ممنع
وما أرصد الأحزاب لى عند مصرعى
فقد ذرفت عيناى من غير مجزع
وإن إلى ربى إيابى ومرجعى
على أى جنب كان فى الله مصرعى
يبارك فى أوصال شلو ممزع
ولا جزعاً أنى إلى الله مرجعى
فقا له أبو سفيان: أيسرك أن محمداً عندنا تضرب عنقه وإنك فى أهلك فقال: لا والله ما يسرنى أنى فى أهلى وأن رسول الله فى مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه.
(أخرجه البخارى فى كتاب المغازى فى باب غزوة الرجيع وأخرجه أحمد فى المسند وابن سعد وابن هشام وابن كثير والطبرى).
وهكذا وعى أصحاب النبى الدرس جيداً.
فيجب علينا أيها الأحباب أن نعى هذا الدرس جيداً فنجعل ولائنا لله جل وعلا وحده وأن نخلص عبادتنا وأعمالنا لله جل وعلا وحده.
فيا من جعلتم ولاءكم لأشخاص الدعاة اجعلوا ولاءكم لله. فكم توقفت دعوات بسبب ارتباط أفرادها ارتباطاً مباشراً بشخص الداعية لا بدعوته، فإذا مات هذا الداعية أو ترك مجال دعوته لسبب أو لأخر، أصيبت الدعوة بالتوقف أو بالإعياء على أقل حال.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولكن اعلموا جميعاً أحبتى فى الله أننا لن نضر إلا أنفسنا.
إن الله جل وعلا غنى عن العالمين لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية.
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ([10])
ثانياً: إن الله جل وعلا سينصر دينه بنا أو بغيرنا، وإن المستقبل لهذا الدين رغم كيد الكائدين.
ولقد توالت البشائر من القرآن والسنة بنصرة هذا الدين. لأنه دين الله عز وجل.
وانتبهوا معى إلى هذا العنصر الخطير لأننى أرى موجة عاتية عارمة من القنوط واليأس تجتاح قلوب كثير من المسلمين لما وصلت إليه الأمة المسلمة من ذلة وضعف وهوان!!.
ولكن الذى يفصل فى الأمر ليس هو ضخامة الباطل وإنما الذى يفصل فى الأمر هو قوة الحق. ولاشك على الإطلاق أن معنا الحق الذى لأجله قامت السموات والأرض وإليكم بعض هذه البشائر.
أولاً: بشائر القرآن
البشارة الولى: وعد الله جل وعلا بظهور دينه وغلبته.
يقول الحق جل وعلا : {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ([11])
إن نور الله لا يمكن أن تطفئه جميع الأفواه ولو اجتمعت.