ابو الوليد البتار
15 / 06 / 2009, 34 : 12 PM
**أُسُسِ منهـج طلب العلمِ عنـد السلف **أولا / العلم النية :
قال تعالى ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )(البينة 5)
وقال عز وجل ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ )(الشورى20)
وقال سبحانه وتعالى ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا )(الإسراء18)
وروى الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت258هـ) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى فمن كانت هجرته لله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )(1)
وروى الإمام مسلم بن الحجاج (ت261هـ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( إن أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة , فذكرهم وذكر منهم رجلاً تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن , فأُتي به فعرَّفه نعمه فعَرَفها , قال فما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلمَ وعلمته وقرأت فيك القرآن , قال : كذبت , ولكنك تعلمت العلم ليقال : عالم , وقرأت القرآن ليقال : هو قارئ . فقد قيل . ثم أُمر به فيسحب على وجهه حتى أُلقي في النار …)(2)
وروى الحافظ أبوعبدالله بن ماجه في مقدمة سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( من تعلم العلم مما يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب عـُرُضاً من الدنيا , لم يجد عُرف الجـنة يوم القـيامة )(3) يعني ريحها
وأخرج بإسناده عن جاب بن عبدالله رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ( لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء , ولا لتماروا به السفهاء , ولا تخيروا به المجالس , فمن فعل ذلك فالنار النار )(4)
وقال الحافظ أبوبكر أحمد بن علي البغدادي (ت463هـ) ( يجب على طالب الحديث أن يخلص نيته في طلبه , ويكون قصده بذلك وجه الله سبحانه وتعالى )
وقال أيضاً ( وليحذر أن يجعله سبيلاً إلى نيل الأعراض وطريقاً إلى أخذ الأعواض , فقد جاء الوعيد لمن ابتغى ذلك بعلمه .. ) ثم قال ( وليتق المفاخرة والمباهاة به , وأن يكون قصده نيل الرئاسة واتخاذ الأتباع وعقد المجالس , فإن الآفة الداخلة على العلماء أكثرها من هذا الوجه ) .
وقال أيضاً ( وليجعل حفظه حفظ رعاية لا حفظ رواية , فإن رواة العلوم كثير , ورعاتها قليل , ورب حاضر كالغائب وعالم كالجاهل وحامل للحديث ليس معه منه شيء … )
ثم ذكر الحسن البصري (ت110هـ) قوله ( همة العلماء الرعاية وهمة السفهاء الرواية )(5)
قال بدر الدين بن جماعة (ت733هـ ) ( يجب أن يقصد المعلم بتعليم طلبته وتهذيبهم وجه الله تعالى , نشر العلم وإحياء الشرع ودوام ظهور الحـق وخـمول الباطل , واغتنام ثوابهم وثواب من ينتهي إليه علمه , وبركة دعائهم له وترحمهم عليه , ودخوله في سلسلة العلم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم , وعداده في جملة مبلغي وحي الله وأحكامه , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله تعالى وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جُحرها يصلون على معلم الناس الخير )(6)
وقال رحمه الله ( كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون شبك الجتهاد لصيد طالب ينتفع النسا في حياتهم ومن بعدهم , ولو لم يكن للعالم إلا طالب واحد ينفع الناس بعلمه وعمله وهديه وإرشاده لكفاه ذلك الطالب عند الله تعالى , فإنه لا يتصل شيء من علمه إلى أحد فينتفع به إلا كان نصيب من الأجر , كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم " إذا مات العبد انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة : صدقة جارية , أو علم ينتفع به , أو ولد صالح يدعوله " وإذا نظرت وجدت معاني الثلاثة موجودة في معلم العلم . ملخصاً (7) .
وقال أبوعمر عثمان بن عبدالرحمن الشهرزوري المعروف بابن الصلاح (ت643هـ) ( علم الحديث علم شريف يناسب مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم , و ينافر مساوئ الأخلاق ومشاني الشيم , وهو من علوم الآخرة لا من علوم الدنيا , فمن أراد التصدي لإسماع الحديث أو لإفادة شيء من علومه , فليقدم تصحيح النية وإخلاصها , وليطهر قلبه من الأغراض الدنيوية وأدناسها وليحذر بلية حب الرئاسة ورعونتها )(8)
وقال الشيخ عبدالحميد بن باديس ( غاية العالم المسلم أن يهتدي في نفسه وأن يهدي غيره , أما كثر الطلاب فمنهم من تكون غايته الوظيفة , فهم غفلة من أنفسهم وعن غيرهم , ومنهم من تكون غايته أن ينال الشهادة بالعلم , فهو مثل الأول , فأنا الغاية الحقيقة التي ذكرنا فما أقل أهلها لأنها لا ذكر لها في برامج التعليم , ولا اهتمام بها من المعلمين . وحق على كل طالب أن تكون هي غايته , وهو مع ذلك نائل العلم , ونائل ما يؤهله للوظيفة إن أبى إلا أن تكون من قصده , ولكنه بالقصد إلى تلك الغاية يكون عاملاً في أثناء تعلمه على تهذيب نفسه , ويكون مصدر هداية الناس في المستقبل , كن هذا إنما يتم للطالب إذا كان شيوخه يهتمون بهذه الغاية و ويعملون لها , ويوجهون تلامذتهم لها . وما أعز هذا الصنف من الشيوخ )(9)
*************
ثانياً / منازل العلم(*) :
أخرج أبوعمر عبدالبر النمري القرطبي (ت463هـ) بسنده إلى علي بن الحسن بن شقيق قال : سمعت عبدالله بن المبارك (ت181هـ) يقول ( أول العلم النية , ثم الاستماع , ثم الفهم , ثم الحفظ , ثم العمل , ثم النشر )(10)
وبسنده إلى عبدالرحمن بن مهدي عن محمد بن النضر الحارثي قال ( أول العلم الاستماع , قيل ثم ماذا ؟ قال : الحفظ , قيل ثم ماذا ؟ قال : العمل , قيل ثم ماذا , قال : النشر )(11)
وبسنده أيضا إلى سفيان بن سعيد الثوري (ت161هـ) قال ( كلن يُقال : أول العلم الصمت , ثم الاستماع له , ثم حفظه , ثم العمل به , ثم نشره وتعليمه )(12)
وعن عبدالملك بن قريب الأصمعي (ت216هـ أو بعدها) قال ( أول العلم الصمت , والثاني : حسن الاستماع , والثالث : جودة الحفظ , والرابع : احتواء العلم , والخامس : إذاعته ونشره )(13)
وعن الضحاك بن مزاحم (ت106هـ) قال ( أول باب العلم : الصمت . والثاني استماعه , والثالث : العمل به . والرابع : نشره وتعليمه )(14)
وقال الشيخ محمد بن عبدالوهاب (ت1206هـ) رحمه الله في مطلع رسالة الأصول الثلاث ( اعلم – رحمك الله- أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل : الأولى : العلم , وهو معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة . الثانية : العمل به . الثالثة : الدعوة إليه , الرابعة : الصبر على الأذى فيه
والدليل قول تعالى " وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ " )(15) .
قال ابن القيم رحمه الله (ت751هـ) ( والعلم ست مراتب : أولها : حسن السؤال ,
الثانية : حسن الإنصات الاستماع ,
الثالثة : حسن الفهم ,
الرابعة : الحفظ ,
الخامسة : التعليم ,
السادسة : وهي ثمرته وهي العمل به , ومراعاة حدوده .
فمن الناس من يحرمه لعدم سؤاله , إما لأنه يسأل عن فضوله التي لا يضر جهله بها , ويدع ما لا غنى له عن معرفته , وهذا حال كثير من الجهال المتعلمين .
ومن الناس من يحرمه بسوء إنصاته , فيكون الكلام والمماراة آثر عنده وأحب إليه من الإنصات , وهذه آفة كامنة في أكثر النفوس الطلبة للعلم , وهي تمنعه علماً كثيراً , ولو كان حَسَنَ الفهم .
ذكر ابن عبدالبر عن بعض السلف أنه قال : من كان حَسَنَ الفهم , رديئ الاستماع لم يقم خيره بشره .
وذكر عبدالله بن أحمد في كتاب العلل له قال : كان عروة بن الزبير يحب مـماراة ابن عباس , فكان يخزن علمه عنده , وكان عبيدالله بن عبدالله بن عتبة يلطف له في السؤال فيعزه بالعلم عزاً )(16)
****************
ثالثاً / الأدب قبل الطلب :
اشتهر عند السلف إرسال الصبيان عند بلوغهم سن التمييز إلى مؤدب , يُحفظهم القرآن ويُعلمهم مبادئ القراءة والكتابة ويشرف على تأديبهم وتربيتهم وتعليمهم السمت والهدي والخلق الحسن , فإذا بلغوا سن التكليف أحضرهم مجالس العلماء ليقتدوا بهم في السمت والهدي والعبادة والعمل , ثم بعد ذلك يخرجهم إلى حلقات العلم .وقد أُطلق لقب مؤدب على جماعة ممن تفرغوا لتأديب الصبيان , وعُرفوا بذلك .
قال أبوعبدالله سفيان بن سعيد الثوري (ت161هـ) ( كانوا لا يخرجون أبناءهم لطلب العلم حتى يتأدبوا ويتعبدوا عشرين سنة )(17)
وقال عبدالله بن المبارك (ت181هـ) ( طلبت الأدب ثلاثين سنة , وطلبت العلم عشرين سنة , وكانوا يطلبون الأدب قبل العلم )(18)
وقال أيضاً ( كاد الأدب يكون ثلثي العلم )(19)
وأخرج الخطيب في الجامع بسنده إلى مالك بن أنس قال : قال محـمد بن سيرين (ت110هـ) ( كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم )(20)
وبسنده إلى إبراهيم بن حبيب الشهيد (ت203هـ) قال : قال لي أبي ( يا بُني إيت الفقهاء والعلماء , وتعلم منهم وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم , فإن ذاك احب إلي لك من كثير من الحديث )(21)
وبسنده أيضا إلى عبد الله بن المبارك قال : قال لي مخلد بن الحسين (ت 191هـ) ( نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث )(22)
وعن أبي زكريا يحيى بن محمد العنبري ( ت 344 هـ) قال ( علم بلا أدب كنار بلا حطب، و أدب بلا علم كجسم بلا روح )(23)
وعن عيسى بن حمادة زغبة ( ت 248هـ ) قال : سمعت الليث بن سعد ( ت175 هـ ) يقول ( وقد أشرف على أصحاب الحديث فرأى منهم شيئا فقال : ما هذا ؟ أنتم إلى يسير من الأدب أحوج منكم إلى كثير من العلم )(24)
وقال سفيان بن عيينة ( ت 198هـ) نظر عبيد الله بن عمر (ت 147هـ ) : إلى أصحاب الحديث و زحامهم فقال ( شنتم العلم وذهبتم بنوره، لو أدركنا وإياكم عمر بن الحطاب لأوجعنا ضربا)(25)
وعن محمد بن عيسى الزجاج قال ( سمعت أبا عاصم يقول: من طلب هذا الحديث فقد طلب أعلى أمور الدنيا، فيجب أن يكون خير الناس )(26)
قال الخطيب البغدادي ( وقد رأيت خلقا من أهل هذا الزمان ينتسبون إلى الحديث، ويعدون أنفسهم من أهله المختصين بسماعه ونقله، وهم أبعد الناس مما يدعون، واقلهم معرفة بما إليه ينتسبون. يرى الواحد منهم إذا كتب عددا قليلا من الأجزاء، واشتغل بالسماع برهة يسيرة من الدهر، انه صاحب حديث على الإطلاق، ولما يجهد نفسه ويتعبها في طلابه، ولا لحقْتهُ مشقه الحفظ لصنوفه وأبوابه )
وقال ( وهم مع قلة كَتبِهم له وعدم معرفتهم به ، أعظم الناس كبراً وأشد الخلق تيها وعجبا ، لا يراعون لشيخ حرمة ، ولا يوجبون لطالب ذمة ، يخرقون – يجهلون – بالراوين ويعنفون على المتعلمين خلاف ما يقتضيه العلم الذي سمعوه ، وضد الواجب مما يلزمهم أن يفعلوه .....) ا هـ .مخلصا(27) .
هذا كلام الخطيب البغدادي الذي عاش ما بين عامي 392هـ و 463 هـ في بعض محدثي أهل زمانه فماذا سيقول لو أدرك زماننا اليوم مطلع القرن الخامس عشر الهجري، كم من منتسب للعلم اليوم وليس من أهله ومتصدر للتدريس والفتوى وهو ليس من أهل ذلك الشأن ، وكم من سال لسانه وقلمه ولما يحط علمه ببعض مسائل العلم فضلا عن كثير منها ، فادعى علم ما لم يعلم و إحسان ما لم يحسن ، ورمى غيره بما هو أولى به منه ، فإلى الله المشتكى وعند الله تجتمع الخصوم .
********************
يُتبـع بإذن الله ...
قال تعالى ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )(البينة 5)
وقال عز وجل ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ )(الشورى20)
وقال سبحانه وتعالى ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا )(الإسراء18)
وروى الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت258هـ) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى فمن كانت هجرته لله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )(1)
وروى الإمام مسلم بن الحجاج (ت261هـ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( إن أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة , فذكرهم وذكر منهم رجلاً تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن , فأُتي به فعرَّفه نعمه فعَرَفها , قال فما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلمَ وعلمته وقرأت فيك القرآن , قال : كذبت , ولكنك تعلمت العلم ليقال : عالم , وقرأت القرآن ليقال : هو قارئ . فقد قيل . ثم أُمر به فيسحب على وجهه حتى أُلقي في النار …)(2)
وروى الحافظ أبوعبدالله بن ماجه في مقدمة سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( من تعلم العلم مما يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب عـُرُضاً من الدنيا , لم يجد عُرف الجـنة يوم القـيامة )(3) يعني ريحها
وأخرج بإسناده عن جاب بن عبدالله رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ( لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء , ولا لتماروا به السفهاء , ولا تخيروا به المجالس , فمن فعل ذلك فالنار النار )(4)
وقال الحافظ أبوبكر أحمد بن علي البغدادي (ت463هـ) ( يجب على طالب الحديث أن يخلص نيته في طلبه , ويكون قصده بذلك وجه الله سبحانه وتعالى )
وقال أيضاً ( وليحذر أن يجعله سبيلاً إلى نيل الأعراض وطريقاً إلى أخذ الأعواض , فقد جاء الوعيد لمن ابتغى ذلك بعلمه .. ) ثم قال ( وليتق المفاخرة والمباهاة به , وأن يكون قصده نيل الرئاسة واتخاذ الأتباع وعقد المجالس , فإن الآفة الداخلة على العلماء أكثرها من هذا الوجه ) .
وقال أيضاً ( وليجعل حفظه حفظ رعاية لا حفظ رواية , فإن رواة العلوم كثير , ورعاتها قليل , ورب حاضر كالغائب وعالم كالجاهل وحامل للحديث ليس معه منه شيء … )
ثم ذكر الحسن البصري (ت110هـ) قوله ( همة العلماء الرعاية وهمة السفهاء الرواية )(5)
قال بدر الدين بن جماعة (ت733هـ ) ( يجب أن يقصد المعلم بتعليم طلبته وتهذيبهم وجه الله تعالى , نشر العلم وإحياء الشرع ودوام ظهور الحـق وخـمول الباطل , واغتنام ثوابهم وثواب من ينتهي إليه علمه , وبركة دعائهم له وترحمهم عليه , ودخوله في سلسلة العلم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم , وعداده في جملة مبلغي وحي الله وأحكامه , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله تعالى وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جُحرها يصلون على معلم الناس الخير )(6)
وقال رحمه الله ( كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون شبك الجتهاد لصيد طالب ينتفع النسا في حياتهم ومن بعدهم , ولو لم يكن للعالم إلا طالب واحد ينفع الناس بعلمه وعمله وهديه وإرشاده لكفاه ذلك الطالب عند الله تعالى , فإنه لا يتصل شيء من علمه إلى أحد فينتفع به إلا كان نصيب من الأجر , كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم " إذا مات العبد انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة : صدقة جارية , أو علم ينتفع به , أو ولد صالح يدعوله " وإذا نظرت وجدت معاني الثلاثة موجودة في معلم العلم . ملخصاً (7) .
وقال أبوعمر عثمان بن عبدالرحمن الشهرزوري المعروف بابن الصلاح (ت643هـ) ( علم الحديث علم شريف يناسب مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم , و ينافر مساوئ الأخلاق ومشاني الشيم , وهو من علوم الآخرة لا من علوم الدنيا , فمن أراد التصدي لإسماع الحديث أو لإفادة شيء من علومه , فليقدم تصحيح النية وإخلاصها , وليطهر قلبه من الأغراض الدنيوية وأدناسها وليحذر بلية حب الرئاسة ورعونتها )(8)
وقال الشيخ عبدالحميد بن باديس ( غاية العالم المسلم أن يهتدي في نفسه وأن يهدي غيره , أما كثر الطلاب فمنهم من تكون غايته الوظيفة , فهم غفلة من أنفسهم وعن غيرهم , ومنهم من تكون غايته أن ينال الشهادة بالعلم , فهو مثل الأول , فأنا الغاية الحقيقة التي ذكرنا فما أقل أهلها لأنها لا ذكر لها في برامج التعليم , ولا اهتمام بها من المعلمين . وحق على كل طالب أن تكون هي غايته , وهو مع ذلك نائل العلم , ونائل ما يؤهله للوظيفة إن أبى إلا أن تكون من قصده , ولكنه بالقصد إلى تلك الغاية يكون عاملاً في أثناء تعلمه على تهذيب نفسه , ويكون مصدر هداية الناس في المستقبل , كن هذا إنما يتم للطالب إذا كان شيوخه يهتمون بهذه الغاية و ويعملون لها , ويوجهون تلامذتهم لها . وما أعز هذا الصنف من الشيوخ )(9)
*************
ثانياً / منازل العلم(*) :
أخرج أبوعمر عبدالبر النمري القرطبي (ت463هـ) بسنده إلى علي بن الحسن بن شقيق قال : سمعت عبدالله بن المبارك (ت181هـ) يقول ( أول العلم النية , ثم الاستماع , ثم الفهم , ثم الحفظ , ثم العمل , ثم النشر )(10)
وبسنده إلى عبدالرحمن بن مهدي عن محمد بن النضر الحارثي قال ( أول العلم الاستماع , قيل ثم ماذا ؟ قال : الحفظ , قيل ثم ماذا ؟ قال : العمل , قيل ثم ماذا , قال : النشر )(11)
وبسنده أيضا إلى سفيان بن سعيد الثوري (ت161هـ) قال ( كلن يُقال : أول العلم الصمت , ثم الاستماع له , ثم حفظه , ثم العمل به , ثم نشره وتعليمه )(12)
وعن عبدالملك بن قريب الأصمعي (ت216هـ أو بعدها) قال ( أول العلم الصمت , والثاني : حسن الاستماع , والثالث : جودة الحفظ , والرابع : احتواء العلم , والخامس : إذاعته ونشره )(13)
وعن الضحاك بن مزاحم (ت106هـ) قال ( أول باب العلم : الصمت . والثاني استماعه , والثالث : العمل به . والرابع : نشره وتعليمه )(14)
وقال الشيخ محمد بن عبدالوهاب (ت1206هـ) رحمه الله في مطلع رسالة الأصول الثلاث ( اعلم – رحمك الله- أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل : الأولى : العلم , وهو معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة . الثانية : العمل به . الثالثة : الدعوة إليه , الرابعة : الصبر على الأذى فيه
والدليل قول تعالى " وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ " )(15) .
قال ابن القيم رحمه الله (ت751هـ) ( والعلم ست مراتب : أولها : حسن السؤال ,
الثانية : حسن الإنصات الاستماع ,
الثالثة : حسن الفهم ,
الرابعة : الحفظ ,
الخامسة : التعليم ,
السادسة : وهي ثمرته وهي العمل به , ومراعاة حدوده .
فمن الناس من يحرمه لعدم سؤاله , إما لأنه يسأل عن فضوله التي لا يضر جهله بها , ويدع ما لا غنى له عن معرفته , وهذا حال كثير من الجهال المتعلمين .
ومن الناس من يحرمه بسوء إنصاته , فيكون الكلام والمماراة آثر عنده وأحب إليه من الإنصات , وهذه آفة كامنة في أكثر النفوس الطلبة للعلم , وهي تمنعه علماً كثيراً , ولو كان حَسَنَ الفهم .
ذكر ابن عبدالبر عن بعض السلف أنه قال : من كان حَسَنَ الفهم , رديئ الاستماع لم يقم خيره بشره .
وذكر عبدالله بن أحمد في كتاب العلل له قال : كان عروة بن الزبير يحب مـماراة ابن عباس , فكان يخزن علمه عنده , وكان عبيدالله بن عبدالله بن عتبة يلطف له في السؤال فيعزه بالعلم عزاً )(16)
****************
ثالثاً / الأدب قبل الطلب :
اشتهر عند السلف إرسال الصبيان عند بلوغهم سن التمييز إلى مؤدب , يُحفظهم القرآن ويُعلمهم مبادئ القراءة والكتابة ويشرف على تأديبهم وتربيتهم وتعليمهم السمت والهدي والخلق الحسن , فإذا بلغوا سن التكليف أحضرهم مجالس العلماء ليقتدوا بهم في السمت والهدي والعبادة والعمل , ثم بعد ذلك يخرجهم إلى حلقات العلم .وقد أُطلق لقب مؤدب على جماعة ممن تفرغوا لتأديب الصبيان , وعُرفوا بذلك .
قال أبوعبدالله سفيان بن سعيد الثوري (ت161هـ) ( كانوا لا يخرجون أبناءهم لطلب العلم حتى يتأدبوا ويتعبدوا عشرين سنة )(17)
وقال عبدالله بن المبارك (ت181هـ) ( طلبت الأدب ثلاثين سنة , وطلبت العلم عشرين سنة , وكانوا يطلبون الأدب قبل العلم )(18)
وقال أيضاً ( كاد الأدب يكون ثلثي العلم )(19)
وأخرج الخطيب في الجامع بسنده إلى مالك بن أنس قال : قال محـمد بن سيرين (ت110هـ) ( كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم )(20)
وبسنده إلى إبراهيم بن حبيب الشهيد (ت203هـ) قال : قال لي أبي ( يا بُني إيت الفقهاء والعلماء , وتعلم منهم وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم , فإن ذاك احب إلي لك من كثير من الحديث )(21)
وبسنده أيضا إلى عبد الله بن المبارك قال : قال لي مخلد بن الحسين (ت 191هـ) ( نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث )(22)
وعن أبي زكريا يحيى بن محمد العنبري ( ت 344 هـ) قال ( علم بلا أدب كنار بلا حطب، و أدب بلا علم كجسم بلا روح )(23)
وعن عيسى بن حمادة زغبة ( ت 248هـ ) قال : سمعت الليث بن سعد ( ت175 هـ ) يقول ( وقد أشرف على أصحاب الحديث فرأى منهم شيئا فقال : ما هذا ؟ أنتم إلى يسير من الأدب أحوج منكم إلى كثير من العلم )(24)
وقال سفيان بن عيينة ( ت 198هـ) نظر عبيد الله بن عمر (ت 147هـ ) : إلى أصحاب الحديث و زحامهم فقال ( شنتم العلم وذهبتم بنوره، لو أدركنا وإياكم عمر بن الحطاب لأوجعنا ضربا)(25)
وعن محمد بن عيسى الزجاج قال ( سمعت أبا عاصم يقول: من طلب هذا الحديث فقد طلب أعلى أمور الدنيا، فيجب أن يكون خير الناس )(26)
قال الخطيب البغدادي ( وقد رأيت خلقا من أهل هذا الزمان ينتسبون إلى الحديث، ويعدون أنفسهم من أهله المختصين بسماعه ونقله، وهم أبعد الناس مما يدعون، واقلهم معرفة بما إليه ينتسبون. يرى الواحد منهم إذا كتب عددا قليلا من الأجزاء، واشتغل بالسماع برهة يسيرة من الدهر، انه صاحب حديث على الإطلاق، ولما يجهد نفسه ويتعبها في طلابه، ولا لحقْتهُ مشقه الحفظ لصنوفه وأبوابه )
وقال ( وهم مع قلة كَتبِهم له وعدم معرفتهم به ، أعظم الناس كبراً وأشد الخلق تيها وعجبا ، لا يراعون لشيخ حرمة ، ولا يوجبون لطالب ذمة ، يخرقون – يجهلون – بالراوين ويعنفون على المتعلمين خلاف ما يقتضيه العلم الذي سمعوه ، وضد الواجب مما يلزمهم أن يفعلوه .....) ا هـ .مخلصا(27) .
هذا كلام الخطيب البغدادي الذي عاش ما بين عامي 392هـ و 463 هـ في بعض محدثي أهل زمانه فماذا سيقول لو أدرك زماننا اليوم مطلع القرن الخامس عشر الهجري، كم من منتسب للعلم اليوم وليس من أهله ومتصدر للتدريس والفتوى وهو ليس من أهل ذلك الشأن ، وكم من سال لسانه وقلمه ولما يحط علمه ببعض مسائل العلم فضلا عن كثير منها ، فادعى علم ما لم يعلم و إحسان ما لم يحسن ، ورمى غيره بما هو أولى به منه ، فإلى الله المشتكى وعند الله تجتمع الخصوم .
********************
يُتبـع بإذن الله ...