طويلب علم مبتدئ
12 / 08 / 2009, 13 : 01 PM
تَهْذِيبُ النُّفُوسِ بَيْنَ يَدَي رَمَضَانَ (1) (أَسْبَابُ شَرْحِ الصّدُورِ)
قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ((أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ))
قَالَ ابنُ كثيـرٍ رَحِمَـهُ اللَّهُ : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } يعني: أَمَا شَرَحْنَا لكَ صَدْرَكَ، أي: نَورنَاهُ وجَعْلنَاهُ فَسيحًا رَحيبًا وَاسِعًا كَقَولِهِ:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ} [الأنعام: 125]، وَكَمَا شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ كَذَلِكَ جَعَلَ شَرْعَهُ فَسيحاً واسعًا سَمْحًا سَهْلاً لا حَرَجَ فيهِ ولا إِصْرَ ولا ضِيقَ.
وقال ابنُ جريرٍ الطبري رَحِمَهُ اللَّهُ : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مذكِّره آلاءه عنده، وإحسانه إليه، حاضا له بذلك على شكره، على ما أنعم عليه، ليستوجب بذلك المزيد منهأَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ ) يا محمد، للهدى والإيمان بالله ومعرفة الحقّ(صَدْركَ ) فنلِّين لك قلبك، ونجعلـه وعـاء للحكمة .
وقال ابن الجوزي رَحِمَهُ اللَّهُ في ((زاد المسير)) : {ألم نشرح لك صَدْرك} الشرح : الفتح بإذهاب ما يصد عن الإدراك . والله تعالى فتح صدر نبيه للهدى والمعرفة بإذهاب الشواغل التي تصدر عن إدراك الحق .
قُلْتُ : ولشهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الألوسي رَحِمَهُ اللَّهُ كلام رائق حول تفسير هذه الآية فليراجع في (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ).
والسؤال الآن ما هو السبيل إلى شرح الصدور وتوسيعها على أكمل وجه ؛ ليشعـر الإنسـان بحلاوة الْإِيمَان ، التي من نتائجها أن يستغرق العبد في طرائق العبادة شاعراً بلذتها ، مقبلاً عليها بكليته ، باذلاً كل ما يملك لكي يشعر بلذة القرب والمناجاة والإنس بربه جلّ وعلا ، وسأترك المجال لابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ فهو أبو عُذرة هذه النفائس ومالك أزمتها .
فقد ذَكَرَ ابنُ القيم رَحِمَهُ اللَّهُ في كتابهِ ((زاد المعاد)) فصلاً في هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي صَدَقَةِ التّطَوّعِ ومما قَالَ فيه : "وَكَانَ هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَدْعُو إلَى الْإِحْسَانِ وَالصّدَقَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَلِذَلِكَ كَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَشْرَحَ الْخَلْقِ صَدْرًا وَأَطْيَبَهُمْ نَفْسًا وَأَنْعَمَهُمْ قَلْبًا فَإِنّ لِلصّدَقَـةِ وَفِعْلِ الْمَعْرُوفِ تَأْثِيرًا عَجِيبًا فِي شَرْحِ الصّدْرِ وَانْضَافَ ذَلِكَ إلَى مَا خَصّهُ اللّهُ بِهِ مِنْ شَرْحِ صَـدْرِهِ بِالنّبُوّةِ وَالرّسَالَةِ وَخَصَائِصِهَا وَتَوَابِعِهَا وَشَرْحِ صَدْرِهِ حِسّا وَإِخْرَاجِ حَظّ الشّيْطَانِ مِنْهُ " . ((زاد المعاد)) (2/5)
ثم قَالَ : " فَصْلٌ فِي أَسْبَابِ شَرْحِ الصّدُورِ وَحُصُولِهَا عَلَى الْكَمَالِ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
فَأَعْظَمُ أَسْبَابِ شَرْحِ الصّدْرِ : التّوْحِيدُ وَعَلَى حَسَبِ كَمَالِهِ وَقُوّتِهِ وَزِيَادَتِهِ يَكُونُ انْشِرَاحُ صَدْرِ صَاحِبِهِ . قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { أَفَمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبّهِ } [ الزّمَرُ 22 ] . وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقًا حَرَجًا كَأَنّمَا يَصّعّدُ فِي السّمَاءِ } [ الْأَنْعَامُ 125 ] [ ص 23 ] فَالْهُدَى وَالتّوْحِيدُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ شَرْحِ الصّدْرِ وَالشّرْكُ وَالضّلَالُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضِيقِ الصّدْرِ وَانْحِرَاجِهِ .
وَمِنْهَا : النّورُ الّذِي يَقْذِفُهُ اللّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ وَهُوَ نُورُ الْإِيمَانِ فَإِنّهُ يَشْرَحُ الصّدْرَ وَيُوَسّعُهُ وَيُفْرِحُ الْقَلْبَ .
فَإِذَا فُقِدَ هَذَا النّورُ مِنْ قَلْبِ الْعَبْدِ ضَاقَ وَحَرَجَ وَصَارَ فِي أَضْيَقِ سِجْنٍ وَأَصْعَبِهِ .
وَقَدْ رَوَى التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ (( إذَا دَخَلَ النّورُ الْقَلْبَ انْفَسَحَ وَانْشَرَحَ . قَالُوا : وَمَا عَلاَمَةُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ:الْإِنَابَةُ إلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالتّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ ))(1)
فَيُصِيبُ الْعَبْدَ مِنْ انْشِرَاحِ صَدْرِهِ بِحَسْبِ نَصِيبِهِ مِنْ هَذَا النّورِ وَكَذَلِكَ النّورُ الْحِسّيّ وَالظّلْمَةُ الْحِسّيّةُ هَذِهِ تَشْرَحُ الصّدْرَ وَهَذِهِ تُضَيّقُهُ .
وَمِنْهَا : الْعِلْمُ فَإِنّهُ يَشْرَحُ الصّدْرَ وَيُوَسّعُهُ حَتّى يَكُونَ أَوْسَعَ مِنْ الدّنْيَا وَالْجَهْلُ يُورِثُهُ الضّيقُ وَالْحَصْرُ وَالْحَبْسُ فَكُلّمَا اتّسَعَ عِلْمُ الْعَبْدِ انْشَرَحَ صَدْرُهُ وَاتّسَعَ وَلَيْسَ هَذَا لِكُلّ عِلْمٍ بَلْ لِلْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ الْعِلْمُ النّافِعُ فَأَهْلُهُ أَشْرَحُ النّاسِ صَدْرًا وَأَوْسَعُهُمْ قُلُوبًا وَأَحْسَنُهُمْ أَخْلَاقًا وَأَطْيَبُهُمْ عَيْشًا .
وَمِنْهَا : الْإِنَابَةُ إلَى اللّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَحَبّتُهُ بِكُلّ الْقَلْبِ وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ وَالتّنَعّمُ بِعِبَادَتِهِ فَلَا شَيْءَ أَشْرَحُ لِصَدْرِ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ . حَتّى إنّهُ لَيَقُولُ أَحْيَانًا : إنْ كُنْتُ فِي الْجَنّةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنّي إذًا فِي عَيْشٍ طَيّبٍ وَلِلْمَحَبّةِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي انْشِرَاحِ الصّدْرِ وَطِيبِ النّفْسِ وَنَعِيمُ الْقَلْبِ لَا يَعْرِفُهُ إلّا مَنْ لَهُ حِسّ بِهِ وَكُلّمَا كَانَتْ الْمَحَبّةُ أَقْوَى وَأَشَدّ كَانَ الصّدْرُ أَفْسَحَ وَأَشْرَحَ وَلَا يَضِيقُ إلّا عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَطّالِينَ الْفَارِغِينَ مِنْ هَذَا الشّأْنِ فَرُؤْيَتُهُمْ قَذَى عَيْنِهِ وَمُخَالَطَتُهُمْ حُمّى رُوحِهِ .
وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضِيقِ الصّدْرِ الْإِعْرَاضُ عَنْ اللّهِ تَعَالَى وَتَعَلّقُ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ وَالْغَفْلَةُ عَنْ ذِكْرِهِ وَمَحَبّةُ سِوَاهُ فَإِنّ مَنْ أَحَبّ شَيْئًا غَيْرَ اللّهِ عُذّبَ بِهِ وَسُجِنَ قَلْبُهُ فِي مَحَبّةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ فَمَا فِي الْأَرْضِ أَشْقَى مِنْهُ وَلَا أَكْسَفَ بَالًا وَلَا أَنْكَدُ عَيْشًا وَلَا أَتْعَبُ قَلْبًا فَهُمَا مَحَبّتَانِ مَحَبّةٌ هِيَ جَنّةُ الدّنْيَا وَسُرُورُ النّفْسِ وَلَذّةُ الْقَلْبِ وَنَعِيمُ الرّوحِ وَغِذَاؤُهَا وَدَوَاؤُهَا بَلْ حَيَاتُهَا وَقُرّةُ عَيْنِهَا وَهِيَ مَحَبّةُ اللّهِ وَحْدَهُ بِكُلّ الْقَلْبِ وَانْجِذَابُ قُوَى الْمَيْلِ وَالْإِرَادَةُ وَالْمَحَبّةُ كُلّهَا إلَيْهِ . وَمَحَبّةٌ هِيَ عَذَابُ الرّوحِ وَغَمّ النّفْسِ وَسِجْنُ الْقَلْبِ وَضِيقُ الصّدْرِ وَهِيَ سَبَبُ الْأَلَمِ وَالنّكَدِ وَالْعَنَاءِ وَهِيَ مَحَبّةُ مَا سِوَاهُ سُبْحَانَهُ .
وَمِنْ أَسْبَابِ شَرْحِ الصّدْرِ دَوَامُ ذِكْرِهِ عَلَى كُلّ حَالٍ وَفِي كُلّ مَوْطِنٍ فَلِلذّكْرِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي انْشِرَاحِ الصّدْرِ وَنَعِيمِ الْقَلْبِ وَلِلْغَفْلَةِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي ضِيقِهِ وَحَبْسِهِ وَعَذَابِهِ . وَمِنْهَا : الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ وَنَفْعُهُمْ بِمَا يُمْكِنُهُ مِنْ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالنّفْعِ بِالْبَدَنِ وَأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ فَإِنّ الْكَرِيمَ الْمُحْسِنَ أَشْرَحُ النّاسِ صَدْرًا وَأَطْيَبُهُمْ نَفْسًا وَأَنْعَمُهُمْ قَلْبًا وَالْبَخِيلُ الّذِي لَيْسَ فِيهِ إحْسَانٌ أَضْيَقُ النّاسِ صَدْرًا وَأَنْكَدُهُمْ عَيْشًا وَأَعْظَمُهُمْ همّا وَغَمّا . وَقَدْ ضَرَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الصّحِيحِ ((مَثَلًا لِلْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيُنِ عَلَيْهِمَا جُنّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ كُلّمَا هَمّ الْمُتَصَدّقُ بِصَدَقَةِ اتّسَعَتْ عَلَيْهِ وَانْبَسَطَتْ حَتّى يَجُرّ ثِيَابَهُ وَيُعْفِيَ أَثَرَهُ وَكُلّمَا هَمّ الْبَخِيلُ بِالصّدَقَةِ لَزِمَتْ كُلّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا وَلَمْ تَتّسِعْ عَلَيْهِ))
فَهَذَا مَثَلُ انْشِرَاحِ صَدْرِ الْمُؤْمِنِ الْمُتَصَدّقِ وَانْفِسَاحِ قَلْبِهِ وَمَثَلُ ضِيقِ صَدْرِ الْبَخِيلِ وَانْحِصَارِ قَلْبِهِ .
وَمِنْهَا الشّجَاعَةُ فَإِنّ الشّجَاعَ مُنْشَرِحُ الصّدْرِ وَاسِعُ الْبِطَان مُتّسِعُ الْقَلْبِ وَالْجَبَانُ أَضْيَقُ النّاسِ صَدْرًا وَأَحْصَرُهُمْ قَلْبًا لَا فَرْحَةٌ لَهُ وَلَا سُرُورٌ وَلَا لَذّةٌ لَهُ وَلَا نَعِيمٌ إلّا مِنْ جِنْسِ مَا لِلْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيّ وَأَمّا سُرُورُ الرّوحِ وَلَذّتُهَا وَنَعِيمُهَا وَابْتِهَاجُهَا فَمُحَرّمٌ عَلَى كُلّ جَبَانٍ كَمَا هُوَ مُحَرّمٌ عَلَى كُلّ بَخِيلٍ وَعَلَى كُلّ مُعْرِضٍ عَنْ اللّهِ سُبْحَانَهُ غَافِلٍ عَنْ ذِكْرِهِ جَاهِلٍ بِهِ وَبِأَسْمَائِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَدِينِهِ مُتَعَلّقِ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ .
وَإِنّ هَذَا النّعِيمَ وَالسّرُورَ يَصِيرُ فِي الْقَبْرِ رِيَاضًا وَجَنّةً وَذَلِكَ الضّيقُ وَالْحَصْرُ يَنْقَلِبُ فِي الْقَبْرِ عَذَابًا وَسِجْنًا . فَحَالُ الْعَبْدِ فِي الْقَبْرِ كَحَالِ الْقَلْبِ فِي الصّدْرِ نَعِيمًا وَعَذَابًا وَسِجْنًا وَانْطِلَاقًا وَلَا عِبْرَةَ بِانْشِرَاحِ صَدْرِ هَذَا لِعَارِضِ وَلَا بِضِيقِ صَدْرِ هَذَا لِعَارِضِ فَإِنّ الْعَوَارِضَ تَزُولُ بِزَوَالِ أَسْبَابِهَا وَإِنّمَا الْمُعَوّلُ عَلَى الصّفَةِ الّتِي قَامَتْ بِالْقَلْبِ تُوجِبُ انْشِرَاحَهُ وَحَبْسَهُ فَهِيَ الْمِيزَانُ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ
وَمِنْهَا بَلْ مِنْ أَعْظَمِهَا : إخْرَاجُ دَغَلِ القْلبِ مِنْ الصّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ الّتِي يَكُونَ لَهُ مَادّتَانِ تَعْتَوِرَانِ عَلَى قَلْبِهِ وَهُوَ لِلْمَادّةِ الْغَالِبَةِ عَلَيْهِ مِنْهُمَا .
وَمِنْهَا : تَرْكُ فُضُولِ النّظَرِ وَالْكَلَامِ وَالِاسْتِمَاعِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالْأَكْلِ وَالنّوُمِ فَإِنّ هَذِهِ الْفُضُولَ تَسْتَحِيلُ آلَامًا وَغُمُومًا وَهُمُومًا فِي الْقَلْبِ تَحْصُرُهُ وَتَحْبِسُهُ وَتُضَيّقُهُ وَيَتَعَذّبُ بِهَا بَلْ غَالِبُ عَذَابِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْهَا فَلَا إلَهَ إلّا اللّهُ مَا أَضْيَقَ صَدْرَ مَنْ ضَرَبَ فِي كُلّ آفَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ بِسَهْمِ وَمَا أَنْكَدَ عَيْشَهُ وَمَا أَسْوَأَ حَالِهِ وَمَا أَشَدّ حَصْرِ قَلْبِهِ وَلَا إلَهَ إلّا اللّهُ مَا أَنْعَمَ عَيْشِ مَنْ ضَرَبَ فِي كُلّ خَصْلَةٍ مِنْ تِلْكَ الْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ بِسَهْمِ وَكَانَتْ هِمّتُهُ دَائِرَةً عَلَيْهَا حَائِمَةً حَوْلَهَا فَلِهَذَا نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : {إِنّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } [الِانْفِطَارُ 13] وَلِذَلِكَ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : {وَإِنّ الْفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الِانْفِطَارُ 14] وَبَيْنَهُمَا مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ لَا يُحْصِيهَا إلّا اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
وَالْمَقْصُودُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ أَكْمَلَ الْخَلْقِ فِي كُلّ صِفَةٍ يَحْصُلُ بِهَا انْشِرَاحُ الصّدْرِ وَاتّسَاعُ الْقَلْبِ وَقُرّةُ الْعَيْنِ وَحَيَاةُ الرّوحِ فَهُوَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ فِي هَذَا الشّرْحِ وَالْحَيَاةِ وَقُرّةِ الْعَيْنِ مَعَ مَا خُصّ بِهِ مِنْ الشّرْحِ الْحِسّيّ وَأَكْمَلُ الْخَلْقِ مُتَابَعَةً لَهُ أَكْمَلُهُمْ انْشِرَاحًا وَلَذّةً وَقُرّةَ عَيْنٍ وَعَلَى حَسَبِ مُتَابَعَتِهِ يَنَالُ الْعَبْدُ مِنْ انْشِرَاحِ صَدْرِهِ وَقُرّةِ عَيْنِهِ وَلَذّةِ رُوحِهِ مَا يَنَالُ فَهُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذُرْوَةِ الْكَمَالِ مِنْ شَرْحِ الصّدْرِ وَرَفْعِ الذّكْرِ وَوَضْعِ الْوِزْرِ وَلِأَتْبَاعِهِ مِنْ ذَلِكَ بِحَسْبِ نَصِيبِهِمْ مِنْ اتّبَاعِهِ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ . وَهَكَذَا لِأَتْبَاعِهِ نَصِيبٌ مِنْ حِفْظِ اللّهِ لَهُمْ وَعِصْمَتِهِ إيّاهُمْ وَدِفَاعِهِ عَنْهُمْ وَإِعْزَازِهِ لَهُمْ وَنَصْرِهِ لَهُمْ بِحَسْبِ نَصِيبِهِمْ مِنْ الْمُتَابَعَةِ فَمُسْتَقِلّ وَمُسْتَكْثِرٌ . فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللّهَ . وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ .
((زاد المعاد)) (2/5-8) طبعة دار الآثار
ـــــــــــــــــــــ
(1) ضعفه الألباني رَحِمَهُ اللَّهُ في ((السلسلة الضعيفة )) .
قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ((أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ))
قَالَ ابنُ كثيـرٍ رَحِمَـهُ اللَّهُ : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } يعني: أَمَا شَرَحْنَا لكَ صَدْرَكَ، أي: نَورنَاهُ وجَعْلنَاهُ فَسيحًا رَحيبًا وَاسِعًا كَقَولِهِ:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ} [الأنعام: 125]، وَكَمَا شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ كَذَلِكَ جَعَلَ شَرْعَهُ فَسيحاً واسعًا سَمْحًا سَهْلاً لا حَرَجَ فيهِ ولا إِصْرَ ولا ضِيقَ.
وقال ابنُ جريرٍ الطبري رَحِمَهُ اللَّهُ : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مذكِّره آلاءه عنده، وإحسانه إليه، حاضا له بذلك على شكره، على ما أنعم عليه، ليستوجب بذلك المزيد منهأَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ ) يا محمد، للهدى والإيمان بالله ومعرفة الحقّ(صَدْركَ ) فنلِّين لك قلبك، ونجعلـه وعـاء للحكمة .
وقال ابن الجوزي رَحِمَهُ اللَّهُ في ((زاد المسير)) : {ألم نشرح لك صَدْرك} الشرح : الفتح بإذهاب ما يصد عن الإدراك . والله تعالى فتح صدر نبيه للهدى والمعرفة بإذهاب الشواغل التي تصدر عن إدراك الحق .
قُلْتُ : ولشهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الألوسي رَحِمَهُ اللَّهُ كلام رائق حول تفسير هذه الآية فليراجع في (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ).
والسؤال الآن ما هو السبيل إلى شرح الصدور وتوسيعها على أكمل وجه ؛ ليشعـر الإنسـان بحلاوة الْإِيمَان ، التي من نتائجها أن يستغرق العبد في طرائق العبادة شاعراً بلذتها ، مقبلاً عليها بكليته ، باذلاً كل ما يملك لكي يشعر بلذة القرب والمناجاة والإنس بربه جلّ وعلا ، وسأترك المجال لابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ فهو أبو عُذرة هذه النفائس ومالك أزمتها .
فقد ذَكَرَ ابنُ القيم رَحِمَهُ اللَّهُ في كتابهِ ((زاد المعاد)) فصلاً في هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي صَدَقَةِ التّطَوّعِ ومما قَالَ فيه : "وَكَانَ هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَدْعُو إلَى الْإِحْسَانِ وَالصّدَقَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَلِذَلِكَ كَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَشْرَحَ الْخَلْقِ صَدْرًا وَأَطْيَبَهُمْ نَفْسًا وَأَنْعَمَهُمْ قَلْبًا فَإِنّ لِلصّدَقَـةِ وَفِعْلِ الْمَعْرُوفِ تَأْثِيرًا عَجِيبًا فِي شَرْحِ الصّدْرِ وَانْضَافَ ذَلِكَ إلَى مَا خَصّهُ اللّهُ بِهِ مِنْ شَرْحِ صَـدْرِهِ بِالنّبُوّةِ وَالرّسَالَةِ وَخَصَائِصِهَا وَتَوَابِعِهَا وَشَرْحِ صَدْرِهِ حِسّا وَإِخْرَاجِ حَظّ الشّيْطَانِ مِنْهُ " . ((زاد المعاد)) (2/5)
ثم قَالَ : " فَصْلٌ فِي أَسْبَابِ شَرْحِ الصّدُورِ وَحُصُولِهَا عَلَى الْكَمَالِ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
فَأَعْظَمُ أَسْبَابِ شَرْحِ الصّدْرِ : التّوْحِيدُ وَعَلَى حَسَبِ كَمَالِهِ وَقُوّتِهِ وَزِيَادَتِهِ يَكُونُ انْشِرَاحُ صَدْرِ صَاحِبِهِ . قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { أَفَمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبّهِ } [ الزّمَرُ 22 ] . وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقًا حَرَجًا كَأَنّمَا يَصّعّدُ فِي السّمَاءِ } [ الْأَنْعَامُ 125 ] [ ص 23 ] فَالْهُدَى وَالتّوْحِيدُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ شَرْحِ الصّدْرِ وَالشّرْكُ وَالضّلَالُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضِيقِ الصّدْرِ وَانْحِرَاجِهِ .
وَمِنْهَا : النّورُ الّذِي يَقْذِفُهُ اللّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ وَهُوَ نُورُ الْإِيمَانِ فَإِنّهُ يَشْرَحُ الصّدْرَ وَيُوَسّعُهُ وَيُفْرِحُ الْقَلْبَ .
فَإِذَا فُقِدَ هَذَا النّورُ مِنْ قَلْبِ الْعَبْدِ ضَاقَ وَحَرَجَ وَصَارَ فِي أَضْيَقِ سِجْنٍ وَأَصْعَبِهِ .
وَقَدْ رَوَى التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ (( إذَا دَخَلَ النّورُ الْقَلْبَ انْفَسَحَ وَانْشَرَحَ . قَالُوا : وَمَا عَلاَمَةُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ:الْإِنَابَةُ إلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالتّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ ))(1)
فَيُصِيبُ الْعَبْدَ مِنْ انْشِرَاحِ صَدْرِهِ بِحَسْبِ نَصِيبِهِ مِنْ هَذَا النّورِ وَكَذَلِكَ النّورُ الْحِسّيّ وَالظّلْمَةُ الْحِسّيّةُ هَذِهِ تَشْرَحُ الصّدْرَ وَهَذِهِ تُضَيّقُهُ .
وَمِنْهَا : الْعِلْمُ فَإِنّهُ يَشْرَحُ الصّدْرَ وَيُوَسّعُهُ حَتّى يَكُونَ أَوْسَعَ مِنْ الدّنْيَا وَالْجَهْلُ يُورِثُهُ الضّيقُ وَالْحَصْرُ وَالْحَبْسُ فَكُلّمَا اتّسَعَ عِلْمُ الْعَبْدِ انْشَرَحَ صَدْرُهُ وَاتّسَعَ وَلَيْسَ هَذَا لِكُلّ عِلْمٍ بَلْ لِلْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ الْعِلْمُ النّافِعُ فَأَهْلُهُ أَشْرَحُ النّاسِ صَدْرًا وَأَوْسَعُهُمْ قُلُوبًا وَأَحْسَنُهُمْ أَخْلَاقًا وَأَطْيَبُهُمْ عَيْشًا .
وَمِنْهَا : الْإِنَابَةُ إلَى اللّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَحَبّتُهُ بِكُلّ الْقَلْبِ وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ وَالتّنَعّمُ بِعِبَادَتِهِ فَلَا شَيْءَ أَشْرَحُ لِصَدْرِ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ . حَتّى إنّهُ لَيَقُولُ أَحْيَانًا : إنْ كُنْتُ فِي الْجَنّةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنّي إذًا فِي عَيْشٍ طَيّبٍ وَلِلْمَحَبّةِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي انْشِرَاحِ الصّدْرِ وَطِيبِ النّفْسِ وَنَعِيمُ الْقَلْبِ لَا يَعْرِفُهُ إلّا مَنْ لَهُ حِسّ بِهِ وَكُلّمَا كَانَتْ الْمَحَبّةُ أَقْوَى وَأَشَدّ كَانَ الصّدْرُ أَفْسَحَ وَأَشْرَحَ وَلَا يَضِيقُ إلّا عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَطّالِينَ الْفَارِغِينَ مِنْ هَذَا الشّأْنِ فَرُؤْيَتُهُمْ قَذَى عَيْنِهِ وَمُخَالَطَتُهُمْ حُمّى رُوحِهِ .
وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضِيقِ الصّدْرِ الْإِعْرَاضُ عَنْ اللّهِ تَعَالَى وَتَعَلّقُ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ وَالْغَفْلَةُ عَنْ ذِكْرِهِ وَمَحَبّةُ سِوَاهُ فَإِنّ مَنْ أَحَبّ شَيْئًا غَيْرَ اللّهِ عُذّبَ بِهِ وَسُجِنَ قَلْبُهُ فِي مَحَبّةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ فَمَا فِي الْأَرْضِ أَشْقَى مِنْهُ وَلَا أَكْسَفَ بَالًا وَلَا أَنْكَدُ عَيْشًا وَلَا أَتْعَبُ قَلْبًا فَهُمَا مَحَبّتَانِ مَحَبّةٌ هِيَ جَنّةُ الدّنْيَا وَسُرُورُ النّفْسِ وَلَذّةُ الْقَلْبِ وَنَعِيمُ الرّوحِ وَغِذَاؤُهَا وَدَوَاؤُهَا بَلْ حَيَاتُهَا وَقُرّةُ عَيْنِهَا وَهِيَ مَحَبّةُ اللّهِ وَحْدَهُ بِكُلّ الْقَلْبِ وَانْجِذَابُ قُوَى الْمَيْلِ وَالْإِرَادَةُ وَالْمَحَبّةُ كُلّهَا إلَيْهِ . وَمَحَبّةٌ هِيَ عَذَابُ الرّوحِ وَغَمّ النّفْسِ وَسِجْنُ الْقَلْبِ وَضِيقُ الصّدْرِ وَهِيَ سَبَبُ الْأَلَمِ وَالنّكَدِ وَالْعَنَاءِ وَهِيَ مَحَبّةُ مَا سِوَاهُ سُبْحَانَهُ .
وَمِنْ أَسْبَابِ شَرْحِ الصّدْرِ دَوَامُ ذِكْرِهِ عَلَى كُلّ حَالٍ وَفِي كُلّ مَوْطِنٍ فَلِلذّكْرِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي انْشِرَاحِ الصّدْرِ وَنَعِيمِ الْقَلْبِ وَلِلْغَفْلَةِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي ضِيقِهِ وَحَبْسِهِ وَعَذَابِهِ . وَمِنْهَا : الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ وَنَفْعُهُمْ بِمَا يُمْكِنُهُ مِنْ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالنّفْعِ بِالْبَدَنِ وَأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ فَإِنّ الْكَرِيمَ الْمُحْسِنَ أَشْرَحُ النّاسِ صَدْرًا وَأَطْيَبُهُمْ نَفْسًا وَأَنْعَمُهُمْ قَلْبًا وَالْبَخِيلُ الّذِي لَيْسَ فِيهِ إحْسَانٌ أَضْيَقُ النّاسِ صَدْرًا وَأَنْكَدُهُمْ عَيْشًا وَأَعْظَمُهُمْ همّا وَغَمّا . وَقَدْ ضَرَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الصّحِيحِ ((مَثَلًا لِلْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيُنِ عَلَيْهِمَا جُنّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ كُلّمَا هَمّ الْمُتَصَدّقُ بِصَدَقَةِ اتّسَعَتْ عَلَيْهِ وَانْبَسَطَتْ حَتّى يَجُرّ ثِيَابَهُ وَيُعْفِيَ أَثَرَهُ وَكُلّمَا هَمّ الْبَخِيلُ بِالصّدَقَةِ لَزِمَتْ كُلّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا وَلَمْ تَتّسِعْ عَلَيْهِ))
فَهَذَا مَثَلُ انْشِرَاحِ صَدْرِ الْمُؤْمِنِ الْمُتَصَدّقِ وَانْفِسَاحِ قَلْبِهِ وَمَثَلُ ضِيقِ صَدْرِ الْبَخِيلِ وَانْحِصَارِ قَلْبِهِ .
وَمِنْهَا الشّجَاعَةُ فَإِنّ الشّجَاعَ مُنْشَرِحُ الصّدْرِ وَاسِعُ الْبِطَان مُتّسِعُ الْقَلْبِ وَالْجَبَانُ أَضْيَقُ النّاسِ صَدْرًا وَأَحْصَرُهُمْ قَلْبًا لَا فَرْحَةٌ لَهُ وَلَا سُرُورٌ وَلَا لَذّةٌ لَهُ وَلَا نَعِيمٌ إلّا مِنْ جِنْسِ مَا لِلْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيّ وَأَمّا سُرُورُ الرّوحِ وَلَذّتُهَا وَنَعِيمُهَا وَابْتِهَاجُهَا فَمُحَرّمٌ عَلَى كُلّ جَبَانٍ كَمَا هُوَ مُحَرّمٌ عَلَى كُلّ بَخِيلٍ وَعَلَى كُلّ مُعْرِضٍ عَنْ اللّهِ سُبْحَانَهُ غَافِلٍ عَنْ ذِكْرِهِ جَاهِلٍ بِهِ وَبِأَسْمَائِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَدِينِهِ مُتَعَلّقِ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ .
وَإِنّ هَذَا النّعِيمَ وَالسّرُورَ يَصِيرُ فِي الْقَبْرِ رِيَاضًا وَجَنّةً وَذَلِكَ الضّيقُ وَالْحَصْرُ يَنْقَلِبُ فِي الْقَبْرِ عَذَابًا وَسِجْنًا . فَحَالُ الْعَبْدِ فِي الْقَبْرِ كَحَالِ الْقَلْبِ فِي الصّدْرِ نَعِيمًا وَعَذَابًا وَسِجْنًا وَانْطِلَاقًا وَلَا عِبْرَةَ بِانْشِرَاحِ صَدْرِ هَذَا لِعَارِضِ وَلَا بِضِيقِ صَدْرِ هَذَا لِعَارِضِ فَإِنّ الْعَوَارِضَ تَزُولُ بِزَوَالِ أَسْبَابِهَا وَإِنّمَا الْمُعَوّلُ عَلَى الصّفَةِ الّتِي قَامَتْ بِالْقَلْبِ تُوجِبُ انْشِرَاحَهُ وَحَبْسَهُ فَهِيَ الْمِيزَانُ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ
وَمِنْهَا بَلْ مِنْ أَعْظَمِهَا : إخْرَاجُ دَغَلِ القْلبِ مِنْ الصّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ الّتِي يَكُونَ لَهُ مَادّتَانِ تَعْتَوِرَانِ عَلَى قَلْبِهِ وَهُوَ لِلْمَادّةِ الْغَالِبَةِ عَلَيْهِ مِنْهُمَا .
وَمِنْهَا : تَرْكُ فُضُولِ النّظَرِ وَالْكَلَامِ وَالِاسْتِمَاعِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالْأَكْلِ وَالنّوُمِ فَإِنّ هَذِهِ الْفُضُولَ تَسْتَحِيلُ آلَامًا وَغُمُومًا وَهُمُومًا فِي الْقَلْبِ تَحْصُرُهُ وَتَحْبِسُهُ وَتُضَيّقُهُ وَيَتَعَذّبُ بِهَا بَلْ غَالِبُ عَذَابِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْهَا فَلَا إلَهَ إلّا اللّهُ مَا أَضْيَقَ صَدْرَ مَنْ ضَرَبَ فِي كُلّ آفَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ بِسَهْمِ وَمَا أَنْكَدَ عَيْشَهُ وَمَا أَسْوَأَ حَالِهِ وَمَا أَشَدّ حَصْرِ قَلْبِهِ وَلَا إلَهَ إلّا اللّهُ مَا أَنْعَمَ عَيْشِ مَنْ ضَرَبَ فِي كُلّ خَصْلَةٍ مِنْ تِلْكَ الْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ بِسَهْمِ وَكَانَتْ هِمّتُهُ دَائِرَةً عَلَيْهَا حَائِمَةً حَوْلَهَا فَلِهَذَا نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : {إِنّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } [الِانْفِطَارُ 13] وَلِذَلِكَ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : {وَإِنّ الْفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الِانْفِطَارُ 14] وَبَيْنَهُمَا مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ لَا يُحْصِيهَا إلّا اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
وَالْمَقْصُودُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ أَكْمَلَ الْخَلْقِ فِي كُلّ صِفَةٍ يَحْصُلُ بِهَا انْشِرَاحُ الصّدْرِ وَاتّسَاعُ الْقَلْبِ وَقُرّةُ الْعَيْنِ وَحَيَاةُ الرّوحِ فَهُوَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ فِي هَذَا الشّرْحِ وَالْحَيَاةِ وَقُرّةِ الْعَيْنِ مَعَ مَا خُصّ بِهِ مِنْ الشّرْحِ الْحِسّيّ وَأَكْمَلُ الْخَلْقِ مُتَابَعَةً لَهُ أَكْمَلُهُمْ انْشِرَاحًا وَلَذّةً وَقُرّةَ عَيْنٍ وَعَلَى حَسَبِ مُتَابَعَتِهِ يَنَالُ الْعَبْدُ مِنْ انْشِرَاحِ صَدْرِهِ وَقُرّةِ عَيْنِهِ وَلَذّةِ رُوحِهِ مَا يَنَالُ فَهُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذُرْوَةِ الْكَمَالِ مِنْ شَرْحِ الصّدْرِ وَرَفْعِ الذّكْرِ وَوَضْعِ الْوِزْرِ وَلِأَتْبَاعِهِ مِنْ ذَلِكَ بِحَسْبِ نَصِيبِهِمْ مِنْ اتّبَاعِهِ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ . وَهَكَذَا لِأَتْبَاعِهِ نَصِيبٌ مِنْ حِفْظِ اللّهِ لَهُمْ وَعِصْمَتِهِ إيّاهُمْ وَدِفَاعِهِ عَنْهُمْ وَإِعْزَازِهِ لَهُمْ وَنَصْرِهِ لَهُمْ بِحَسْبِ نَصِيبِهِمْ مِنْ الْمُتَابَعَةِ فَمُسْتَقِلّ وَمُسْتَكْثِرٌ . فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللّهَ . وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ .
((زاد المعاد)) (2/5-8) طبعة دار الآثار
ـــــــــــــــــــــ
(1) ضعفه الألباني رَحِمَهُ اللَّهُ في ((السلسلة الضعيفة )) .