طويلب علم مبتدئ
25 / 02 / 2010, 01 : 10 AM
حجية قول الصحابي عند السلف
د. ترحيب بن ربيعان بن هادي الدوسري
أستاذ مساعد في قسم أصول الفقه كلية الشريعة
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
ملخص البحث
فكرة البحث ونتائجه :
ذكرت فيه : أن علم أصول الفقه علم عظيم الشأن جليل القدر كبير الفائدة فهو علم يجمع في أدلته بين صحيح المنقول وصريح المعقول .
عرفت الصحابي لغة واصطلاحاً ، وذكرت بعضاً من فضائل الصحابة من الكتاب والسنة .
بينت أن قول الصحابي حجة عند السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين والأئمة الأربعة وغيرهم ممن سار على طريقتهم ، وقد حكى بعض العلماء الإجماع في ذلك .
وإنما نشأ الخلاف في الاحتجاج بقول الصحابي فيما بعد ، كالخلاف الذي حصل في الاحتجاج بالقياس بعد أن لم يكن فيه خلاف بين أهل العلم من الصحابة والتابعين وتابع التابعين والأئمة الأربعة حتى تبنى ذلك الظاهرية ومن سلك سبيلهم .
وقد توصلت إلى نتائج هامة جداً أهمها :
1-أن الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة كانوا يرون حجية قول الصحابي ، حتى أن بعض أهل العلم حينما رأى كثرة ما نقل عنهم في ذلك حكى الإجماع فيها .
2-أن من نسب إلى الأئمة الأربعة أو أحدهم عدم القول بحجية قول الصحابي لم يحرر أقوالهم تحريراً صحيحاً .
3-أن الصحابي إذا قال قولاً ولم يعلم له مخالف فإن ذلك القول هو فهم الصحابة . وأنه الحق .
4-أكمل البحوث فيها بحث الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم إعلام الموقعين (4/118-153) ، و العلائي الشافعي في كتابه إجمال الإصابة في أقوال الصحابة ، إلا أن بحث ابن القيم أشمل منه وأكمل.
المقدمة :
أهمية الموضوع :-
الحمد لله ، خلق الإنسان ، علمه البيان ، والصلاة والسلام على النبي المختار محمد بن عبدالله ، وعلى آله الطيبين الأطهار ، وصحابته المصطفين الأخيار ، وبعد :-
فإن علم أصول الفقه علم عظيم الشأن خطيره ، وعظمته تكمن في أنه القواعد الكلية التي يتوصل بها المجتهد إلى ضبط فقهه الشرعي .
وأما خطورته فتكمن فيما أُدخل فيه من المباحث الكلامية العقائدية المنحرفة ، والفلسفية السفسطية التي حرفته عن طريق من سلف من أئمة الهدى والحق.
وقد جمع فضيلة الدكتور محمد العروسي عبدالقادر –حفظه الله ووفقه –في كتابه النافع الماتع الفريد في بابه والذي عنونه بـ(المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين)([1]) كثيراً مما أُدخل في علم الأصول وليس منه ، فقال :-
( والمقصود من هذا الكتاب ليس تجريد المسائل التي ليست من أصول الفقه فحسب بل وأيضاً لأزيل الغطاء – إن شاء الله – عن أقوال ومفاهيم قررها المتكلمون والمصنفون في مسائل هذا العلم –أصول الفقه - ، أو ذكروها عرضاً ضمن تلك المسائل ، وهي أقوال مخالفة لما استقر عليه الأمر الأول ويحسبها قراء هذا العلم أنها من الحقائق المسلمة المفروغ منها ، وكثير من المسائل الكلامية التي ذكرت في أصول الفقه لم تقرر على وجهها الصحيح ، أو ذكرت على الوجه الصحيح لكنها بنيت على أصل مخالف للأصل الذي دل عليه القرآن والذي مضى عليه الصحابة وأئمة السلف ....
ومن أمثلة هذه الاستدلالات والتقريرات المحيرة في كتب الأصول ، الاستدلال على أن العبد مجبور على فعله بوقوع التكليف بما لا يطاق ، واستدلوا بتكليف أبي لهب وغيره بالإيمان مع أن القرآن أخبر أنه لا يؤمن ، فكان من ذلك أن بعض المصنفات في الأصول انتحلت مذهب نفي الأفعال الاختيارية للإنسان ، وخلطوا ببعض أقوال المرجئة كالوقف في ألفاظ العموم في آيات الوعيد والتوقف في دلالات الأمر التي فيها دخول النار للعصاة كما يقرر الباقلاني وغيره .
وسبقهم في ذلك الوعيدية من المعتزلة فأدخلوا في الأصول تأثيم المجتهد المخطئ وضموا إلى ذلك اعتقاداً محرماً من تكفير وتفسيق وتخليد في النار .
وهذه المسائل الكلامية الواردة في كتب أصول الفقه لا يدرك ما تؤدي إليه من التزامات باطلة إلا قليل من طلبة العلم …) انتهى كلامه باختصار .
طرق التأليف في علم أصول الفقه :-
لقد ظهرت ثلاث مدارس أصولية وطرائق للتأليف في علم أصول الفقه ، هي :-
أولاً :- طريقة الشافعية أو المتكلمين([2]) :- وهذه الطريقة اعتنت بتحرير القواعد والمسائل الأصولية وتحقيقها تحقيقاً منطقياً نظرياً دون تعصب لمذهب بعينه . وهي تميل ميلاً شديداً إلى الاستدلال العقلي والجدلي ؛ فيثبت أصحابها ما أثبته الدليل – في نظرهم - وينفون ما نفاه بغية الوصول إلى أقوى القواعد وأضبطها .
وهذه الطريقة لم تقصر بحثها على ما سبق بل أدخلت فيه كثيراً من المسائل الكلامية العقائدية المنحرفة والمباحث المنطقية والفلسفية ؛ذلكم أن جلّ من كتب في هذه الطريقة هم من علماء الكلام من أشاعرة ومعتزلة ، وهؤلاء لهم مؤلفات كثيرة في العقائد ، فقاموا بنقل تلك المباحث العقدية إلى المسائل الأصولية ؛ لأن أغلى ما يملكه الشخص عقيدته ، كما أن جزءاً من علم أصول الفقه إنما هو مستمد من العقيدة كما هو مقرر في كتب أصول الفقه .
وممن كتب على هذه الطريقة في أصول الفقه وله مؤلفات عقدية ما يأتي :-
1-عبدالجبار بن أحمد الهمذاني المعتزلي ( ت415هـ) ألف في الأصول كتابه العمد ، وفي العقيدة المغني في أبواب التوحيد والعدل ([3]) .
2-محمدبن الطيب بن محمد بن جعفر المعروف بالباقلاني الأشعري المالكي (ت403هـ) ألف في أصول الفقه التمهيد وفي العقيدة المقدمات في أصول الديانات وحقائق الكلام([4]) .
3-محمد بن علي الطيب أبو الحسين المعتزلي الشافعي (ت 436هـ) ألف في الأصول كتابه المعتمد وألف في العقيدة كتابه شرح الأصول الخمسة([5]) .
4-عبدالملك بن عبدالله بن يوسف الجويني الأشعري الشافعي (ت478هـ) ألف في أصول الفقه كتابه البرهان وألف في العقيدة كتباً منها الإرشاد في أصول الدين ، والشامل ، والرسالة النظامية([6]) .
5-محمد بن محمد بن محمد الغزالي الأشعري الشافعي (ت505هـ)ألف في أصول الفقه المستصفى وفي العقيدة كتباً منها الاقتصاد في الاعتقاد ، وإحياء علوم الدين ، والأربعين في أصول الدين([7]) .
6-محمد بن عمر بن الحسين الرازي الأشعري الشافعي (ت606) ألف في أصول الفقه كتابه المحصول وفي العقيدة أساس التقديس واللوامع البينات في شرح أسماء الله تعالى والصفات وكتاب التوحيد([8]) .
7-علي بن أبي على سيف الدين الآمدي الأشعري الشافعي (ت631) ألف في أصول الفقه الإحكام وفي العقيدة كتابه أبكار الأفكار([9]) .
8-أحمد بن إدريس بن عبدالرحمن الصنهاجي القرافي المالكي الأشعري ( ت684) ألف في أصول الفقه التنقيح ، وفي العقيدة شرح الأربعين للرازي في أصول الدين ، وكتاب الانتقاد في الاعتقاد([10]) .
9-عبدالله بن عمر بن محمد البيضاوي الأشعري الشافعي (ت685) ألف في أصول الفقه منهاج الوصول إلى علم الأصول وفي العقيدة طوالع الأنوار،والإيضاح في أصول الدين([11]) .
10-محمد بن عبدالرحيم بن محمد صفي الدين الهندي الأشعري الشافعي ( ت715) ألف في أصول الفقه كتابه نهاية الوصول إلى علم الأصول وفي العقيدة الفائق في التوحيد([12]) .
ثانياً :- طريقة الفقهاء أو الحنفية([13]) :- وهذه الطريقة تولى تأسيسها علماء الحنفية حيث وجهوا عنايتهم إلى تقرير القواعد الأصولية وتحقيقها على ضوء ما ورثوه عن أئمتهم من مسائل فقهية حيث قاموا باستخلاص قواعدهم الأصولية منها ؛ فقواعدهم الأصولية تبع لمسائلهم الفقهية وهي تتطور وتتحور تبعاً لها .
وقد نشأ عن ذلكم التأصيل اصطدام في كثير من الأحيان بين ما قعدوه وبين ما نقل من الأحاديث النبوية مما جعلهم يختلفون في طريقة تخريجها على تلك القواعد الأصولية .
وقد مثَّل ابن القيم -رحمه الله – لمخالفتهم للسنة النبوية بسبب قاعدتهم الأصولية التي تقول : (الزيادة على النص نسخ ) فقال([14]) :- ( ولو كان كل ما أوجبته السنة ولم يوجبه القرآن نسخاً له لبطلت أكثر سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودفع في صدورها وأعجازها ، وقال القائل : هذه زيادة على ما في كتاب الله فلا تقبل ولا يُعمل بها....
ولا يمكن أحد طرد ذلك ولا الذين أصلوا هذا الأصل بل قد نقضوه في أكثر من ثلاثمائة موضع ، منها ما هو مجمع عليه ،ومنها ما هو مختلف فيه ) انتهى باختصار .
وقد ناقش ابن القيم – في كتابه آنف الذكر- هذه القاعدة وغيرها من القواعد الموهومة مناقشة علمية لا مثيل لها ، فمن أراد الدر المكنون فليرجع إليه .
أقول : إن جلَّ المنتسبين إلى هذه الطريقة هم - أيضاً – ماتريدية أو أشاعرة أو معتزلة ، وقد جمعوا في التأليف بين التأليف في علم أصول الفقه وعلم الكلام ( العقيدة ) فكانت النتيجة كالنتيجة التي حصلت في المدرسة الأولى .
وممن جمع من علماء هذه الطريقة بين الكتابة في العلمين ما يأتي :-
1-محمد بن محمد بن محمود أبومنصور الماتريدي الحنفي ( ت 333هـ) ألف في الأصول كتابه مآخذ الشريعة وكتاب الجدل ، وفي العقيدة كتاب التوحيد([15]) .
2-عبدالله بن عمر بن عيسى أبو زيد الدبوسي الماتريدي الحنفي (ت430هـ) ألف في أصول الفقه كتابه تقويم الأدلة وفي العقيدة الأمد الأقصى([16]) .
3-عبدالله بن أحمد بن محمود النسفي الماتريدي الحنفي (ت710هـ) ألف في أصول الفقه منار الأنوار وشرحه كشف الأسرار وفي العقيدة ألف كتابه عمدة عقيدة أهل السنة والجماعة ، وشرح العقائد النسفية([17]) .
4-عمر بن اسحاق الغزنوي سراج الدين أبوحفص الماتريدي الحنفي (ت773هـ) ألف في الأصول شرح البديع وشرح المغني للخبازي وفي العقيدة شرح تائية ابن الفارض([18]) .
5-محمد بن محمد بن محمود البابرتي الماتريدي الحنفي ( ت786هـ) ألف في أصول الفقه شرح أصول البزدوي وفي العقيدة كتابه المسمى بـ ( العقيدة في التوحيد ) وشرح تجريد النصير الطوسي ([19]) .
ثالثاً :- طريقة المتأخرين([20]) :- وهذه الطريقة جمعت بين الطريقتين السابقتين ، فاهتمت بتنقيح القواعد الأصولية وتحقيقها وإقامة البراهين على صحتها ، كما أنها اهتمت بتطبيق هذه القواعد على المسائل الفقهية وربطها بها .
والذين كتبوا في هذه الطريقة هم –أيضاً-مزيج من العلماء السابقين وغيرهم.
وممن كتب فيها جامعاً معها الكتابة في العقائد –أيضاً - ما يأتي :-
1-محمد بن عبدالواحد المشهور بابن الهمام الماتريدي الحنفي ( ت861هـ)ألف في أصول الفقه التحرير وفي العقيدة كتابه المسايرة([21]) .
2-محمد أمين بن محمود البخاري المعروف بأمير باد شاه الماتريدي الحنفي ( ت987هـ ) ألف في أصول الفقه كتابه تيسير التحرير وفي العقيدة شرح تائية ابن الفارض([22]) .
3-محب الله بن عبدالشكور الماتريدي الحنفي (ت1119هـ) ألف في الأصول كتابه مسلم الثبوت .
وما ذكرته من مؤلفين ومؤلفات في إحدى طرق التأليف السابقة إنما هو على سبيل المثال لا الحصر .
أول من صنف في علم أصول الفقه([23]) :-
إن أول من صنف في علم أصول الفقه الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت204هـ) – عليه رحمة الله – حيث ألف رسالتين ؛ الأولى في بغداد تلبية لطلب إمام الحديث فيها في وقته عبدالرحمن بن مهدي – رحمه الله - ، والثانية بعد استقراره في مصر .
والتي تناقلها العلماء جيلاً بعد جيلٍ حتى وصلت إلينا هي الرسالة الأخيرة والتي اشتهرت باسم ( الرسالة ) ، وهي رسالة أصولية سنية سلفية جديرة بالاهتمام والعناية قراءة وتدريساً وشرحاً يُبَيِّنٌ غامضها .
و لم يقتصر الشافعي – رحمه الله – على الرسالة بل ألف كتباً أخرى في مسائل من أصول الفقه منها :-
أ-كتاب جماع العلم .
ب-اختلاف الحديث .
ج-صفة نهي النبي صلى الله عليه وسلم .
د-إبطال الاستحسان .
فجعل من نفسه –رحمه الله- قدوةً حسنةً لمن جاء من بعده من أئمة السلف لا سيما ممن كتب منهم في علم أصول الفقه . فساروا سيرته وسلكوا طريقته ، فكتب بعضهم كتباً مفردة في أصول الفقه شملت كل مسائل العلم أو جلها ،
و البعض الآخر كتب في بعضها سواء أفردها بمؤلف أو ضمنها بعض مؤلفاته الأخرى . فكانوا بمجموعهم يمثلون طريقة أو مدرسة الشافعي بحق.
وممن كتب من العلماء الأعلام على هذه السيرة وهذه الطريقة ، أعني الطريقة الشافعية السنية السلفية كل من :-
تابع
د. ترحيب بن ربيعان بن هادي الدوسري
أستاذ مساعد في قسم أصول الفقه كلية الشريعة
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
ملخص البحث
فكرة البحث ونتائجه :
ذكرت فيه : أن علم أصول الفقه علم عظيم الشأن جليل القدر كبير الفائدة فهو علم يجمع في أدلته بين صحيح المنقول وصريح المعقول .
عرفت الصحابي لغة واصطلاحاً ، وذكرت بعضاً من فضائل الصحابة من الكتاب والسنة .
بينت أن قول الصحابي حجة عند السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين والأئمة الأربعة وغيرهم ممن سار على طريقتهم ، وقد حكى بعض العلماء الإجماع في ذلك .
وإنما نشأ الخلاف في الاحتجاج بقول الصحابي فيما بعد ، كالخلاف الذي حصل في الاحتجاج بالقياس بعد أن لم يكن فيه خلاف بين أهل العلم من الصحابة والتابعين وتابع التابعين والأئمة الأربعة حتى تبنى ذلك الظاهرية ومن سلك سبيلهم .
وقد توصلت إلى نتائج هامة جداً أهمها :
1-أن الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة كانوا يرون حجية قول الصحابي ، حتى أن بعض أهل العلم حينما رأى كثرة ما نقل عنهم في ذلك حكى الإجماع فيها .
2-أن من نسب إلى الأئمة الأربعة أو أحدهم عدم القول بحجية قول الصحابي لم يحرر أقوالهم تحريراً صحيحاً .
3-أن الصحابي إذا قال قولاً ولم يعلم له مخالف فإن ذلك القول هو فهم الصحابة . وأنه الحق .
4-أكمل البحوث فيها بحث الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم إعلام الموقعين (4/118-153) ، و العلائي الشافعي في كتابه إجمال الإصابة في أقوال الصحابة ، إلا أن بحث ابن القيم أشمل منه وأكمل.
المقدمة :
أهمية الموضوع :-
الحمد لله ، خلق الإنسان ، علمه البيان ، والصلاة والسلام على النبي المختار محمد بن عبدالله ، وعلى آله الطيبين الأطهار ، وصحابته المصطفين الأخيار ، وبعد :-
فإن علم أصول الفقه علم عظيم الشأن خطيره ، وعظمته تكمن في أنه القواعد الكلية التي يتوصل بها المجتهد إلى ضبط فقهه الشرعي .
وأما خطورته فتكمن فيما أُدخل فيه من المباحث الكلامية العقائدية المنحرفة ، والفلسفية السفسطية التي حرفته عن طريق من سلف من أئمة الهدى والحق.
وقد جمع فضيلة الدكتور محمد العروسي عبدالقادر –حفظه الله ووفقه –في كتابه النافع الماتع الفريد في بابه والذي عنونه بـ(المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين)([1]) كثيراً مما أُدخل في علم الأصول وليس منه ، فقال :-
( والمقصود من هذا الكتاب ليس تجريد المسائل التي ليست من أصول الفقه فحسب بل وأيضاً لأزيل الغطاء – إن شاء الله – عن أقوال ومفاهيم قررها المتكلمون والمصنفون في مسائل هذا العلم –أصول الفقه - ، أو ذكروها عرضاً ضمن تلك المسائل ، وهي أقوال مخالفة لما استقر عليه الأمر الأول ويحسبها قراء هذا العلم أنها من الحقائق المسلمة المفروغ منها ، وكثير من المسائل الكلامية التي ذكرت في أصول الفقه لم تقرر على وجهها الصحيح ، أو ذكرت على الوجه الصحيح لكنها بنيت على أصل مخالف للأصل الذي دل عليه القرآن والذي مضى عليه الصحابة وأئمة السلف ....
ومن أمثلة هذه الاستدلالات والتقريرات المحيرة في كتب الأصول ، الاستدلال على أن العبد مجبور على فعله بوقوع التكليف بما لا يطاق ، واستدلوا بتكليف أبي لهب وغيره بالإيمان مع أن القرآن أخبر أنه لا يؤمن ، فكان من ذلك أن بعض المصنفات في الأصول انتحلت مذهب نفي الأفعال الاختيارية للإنسان ، وخلطوا ببعض أقوال المرجئة كالوقف في ألفاظ العموم في آيات الوعيد والتوقف في دلالات الأمر التي فيها دخول النار للعصاة كما يقرر الباقلاني وغيره .
وسبقهم في ذلك الوعيدية من المعتزلة فأدخلوا في الأصول تأثيم المجتهد المخطئ وضموا إلى ذلك اعتقاداً محرماً من تكفير وتفسيق وتخليد في النار .
وهذه المسائل الكلامية الواردة في كتب أصول الفقه لا يدرك ما تؤدي إليه من التزامات باطلة إلا قليل من طلبة العلم …) انتهى كلامه باختصار .
طرق التأليف في علم أصول الفقه :-
لقد ظهرت ثلاث مدارس أصولية وطرائق للتأليف في علم أصول الفقه ، هي :-
أولاً :- طريقة الشافعية أو المتكلمين([2]) :- وهذه الطريقة اعتنت بتحرير القواعد والمسائل الأصولية وتحقيقها تحقيقاً منطقياً نظرياً دون تعصب لمذهب بعينه . وهي تميل ميلاً شديداً إلى الاستدلال العقلي والجدلي ؛ فيثبت أصحابها ما أثبته الدليل – في نظرهم - وينفون ما نفاه بغية الوصول إلى أقوى القواعد وأضبطها .
وهذه الطريقة لم تقصر بحثها على ما سبق بل أدخلت فيه كثيراً من المسائل الكلامية العقائدية المنحرفة والمباحث المنطقية والفلسفية ؛ذلكم أن جلّ من كتب في هذه الطريقة هم من علماء الكلام من أشاعرة ومعتزلة ، وهؤلاء لهم مؤلفات كثيرة في العقائد ، فقاموا بنقل تلك المباحث العقدية إلى المسائل الأصولية ؛ لأن أغلى ما يملكه الشخص عقيدته ، كما أن جزءاً من علم أصول الفقه إنما هو مستمد من العقيدة كما هو مقرر في كتب أصول الفقه .
وممن كتب على هذه الطريقة في أصول الفقه وله مؤلفات عقدية ما يأتي :-
1-عبدالجبار بن أحمد الهمذاني المعتزلي ( ت415هـ) ألف في الأصول كتابه العمد ، وفي العقيدة المغني في أبواب التوحيد والعدل ([3]) .
2-محمدبن الطيب بن محمد بن جعفر المعروف بالباقلاني الأشعري المالكي (ت403هـ) ألف في أصول الفقه التمهيد وفي العقيدة المقدمات في أصول الديانات وحقائق الكلام([4]) .
3-محمد بن علي الطيب أبو الحسين المعتزلي الشافعي (ت 436هـ) ألف في الأصول كتابه المعتمد وألف في العقيدة كتابه شرح الأصول الخمسة([5]) .
4-عبدالملك بن عبدالله بن يوسف الجويني الأشعري الشافعي (ت478هـ) ألف في أصول الفقه كتابه البرهان وألف في العقيدة كتباً منها الإرشاد في أصول الدين ، والشامل ، والرسالة النظامية([6]) .
5-محمد بن محمد بن محمد الغزالي الأشعري الشافعي (ت505هـ)ألف في أصول الفقه المستصفى وفي العقيدة كتباً منها الاقتصاد في الاعتقاد ، وإحياء علوم الدين ، والأربعين في أصول الدين([7]) .
6-محمد بن عمر بن الحسين الرازي الأشعري الشافعي (ت606) ألف في أصول الفقه كتابه المحصول وفي العقيدة أساس التقديس واللوامع البينات في شرح أسماء الله تعالى والصفات وكتاب التوحيد([8]) .
7-علي بن أبي على سيف الدين الآمدي الأشعري الشافعي (ت631) ألف في أصول الفقه الإحكام وفي العقيدة كتابه أبكار الأفكار([9]) .
8-أحمد بن إدريس بن عبدالرحمن الصنهاجي القرافي المالكي الأشعري ( ت684) ألف في أصول الفقه التنقيح ، وفي العقيدة شرح الأربعين للرازي في أصول الدين ، وكتاب الانتقاد في الاعتقاد([10]) .
9-عبدالله بن عمر بن محمد البيضاوي الأشعري الشافعي (ت685) ألف في أصول الفقه منهاج الوصول إلى علم الأصول وفي العقيدة طوالع الأنوار،والإيضاح في أصول الدين([11]) .
10-محمد بن عبدالرحيم بن محمد صفي الدين الهندي الأشعري الشافعي ( ت715) ألف في أصول الفقه كتابه نهاية الوصول إلى علم الأصول وفي العقيدة الفائق في التوحيد([12]) .
ثانياً :- طريقة الفقهاء أو الحنفية([13]) :- وهذه الطريقة تولى تأسيسها علماء الحنفية حيث وجهوا عنايتهم إلى تقرير القواعد الأصولية وتحقيقها على ضوء ما ورثوه عن أئمتهم من مسائل فقهية حيث قاموا باستخلاص قواعدهم الأصولية منها ؛ فقواعدهم الأصولية تبع لمسائلهم الفقهية وهي تتطور وتتحور تبعاً لها .
وقد نشأ عن ذلكم التأصيل اصطدام في كثير من الأحيان بين ما قعدوه وبين ما نقل من الأحاديث النبوية مما جعلهم يختلفون في طريقة تخريجها على تلك القواعد الأصولية .
وقد مثَّل ابن القيم -رحمه الله – لمخالفتهم للسنة النبوية بسبب قاعدتهم الأصولية التي تقول : (الزيادة على النص نسخ ) فقال([14]) :- ( ولو كان كل ما أوجبته السنة ولم يوجبه القرآن نسخاً له لبطلت أكثر سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودفع في صدورها وأعجازها ، وقال القائل : هذه زيادة على ما في كتاب الله فلا تقبل ولا يُعمل بها....
ولا يمكن أحد طرد ذلك ولا الذين أصلوا هذا الأصل بل قد نقضوه في أكثر من ثلاثمائة موضع ، منها ما هو مجمع عليه ،ومنها ما هو مختلف فيه ) انتهى باختصار .
وقد ناقش ابن القيم – في كتابه آنف الذكر- هذه القاعدة وغيرها من القواعد الموهومة مناقشة علمية لا مثيل لها ، فمن أراد الدر المكنون فليرجع إليه .
أقول : إن جلَّ المنتسبين إلى هذه الطريقة هم - أيضاً – ماتريدية أو أشاعرة أو معتزلة ، وقد جمعوا في التأليف بين التأليف في علم أصول الفقه وعلم الكلام ( العقيدة ) فكانت النتيجة كالنتيجة التي حصلت في المدرسة الأولى .
وممن جمع من علماء هذه الطريقة بين الكتابة في العلمين ما يأتي :-
1-محمد بن محمد بن محمود أبومنصور الماتريدي الحنفي ( ت 333هـ) ألف في الأصول كتابه مآخذ الشريعة وكتاب الجدل ، وفي العقيدة كتاب التوحيد([15]) .
2-عبدالله بن عمر بن عيسى أبو زيد الدبوسي الماتريدي الحنفي (ت430هـ) ألف في أصول الفقه كتابه تقويم الأدلة وفي العقيدة الأمد الأقصى([16]) .
3-عبدالله بن أحمد بن محمود النسفي الماتريدي الحنفي (ت710هـ) ألف في أصول الفقه منار الأنوار وشرحه كشف الأسرار وفي العقيدة ألف كتابه عمدة عقيدة أهل السنة والجماعة ، وشرح العقائد النسفية([17]) .
4-عمر بن اسحاق الغزنوي سراج الدين أبوحفص الماتريدي الحنفي (ت773هـ) ألف في الأصول شرح البديع وشرح المغني للخبازي وفي العقيدة شرح تائية ابن الفارض([18]) .
5-محمد بن محمد بن محمود البابرتي الماتريدي الحنفي ( ت786هـ) ألف في أصول الفقه شرح أصول البزدوي وفي العقيدة كتابه المسمى بـ ( العقيدة في التوحيد ) وشرح تجريد النصير الطوسي ([19]) .
ثالثاً :- طريقة المتأخرين([20]) :- وهذه الطريقة جمعت بين الطريقتين السابقتين ، فاهتمت بتنقيح القواعد الأصولية وتحقيقها وإقامة البراهين على صحتها ، كما أنها اهتمت بتطبيق هذه القواعد على المسائل الفقهية وربطها بها .
والذين كتبوا في هذه الطريقة هم –أيضاً-مزيج من العلماء السابقين وغيرهم.
وممن كتب فيها جامعاً معها الكتابة في العقائد –أيضاً - ما يأتي :-
1-محمد بن عبدالواحد المشهور بابن الهمام الماتريدي الحنفي ( ت861هـ)ألف في أصول الفقه التحرير وفي العقيدة كتابه المسايرة([21]) .
2-محمد أمين بن محمود البخاري المعروف بأمير باد شاه الماتريدي الحنفي ( ت987هـ ) ألف في أصول الفقه كتابه تيسير التحرير وفي العقيدة شرح تائية ابن الفارض([22]) .
3-محب الله بن عبدالشكور الماتريدي الحنفي (ت1119هـ) ألف في الأصول كتابه مسلم الثبوت .
وما ذكرته من مؤلفين ومؤلفات في إحدى طرق التأليف السابقة إنما هو على سبيل المثال لا الحصر .
أول من صنف في علم أصول الفقه([23]) :-
إن أول من صنف في علم أصول الفقه الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت204هـ) – عليه رحمة الله – حيث ألف رسالتين ؛ الأولى في بغداد تلبية لطلب إمام الحديث فيها في وقته عبدالرحمن بن مهدي – رحمه الله - ، والثانية بعد استقراره في مصر .
والتي تناقلها العلماء جيلاً بعد جيلٍ حتى وصلت إلينا هي الرسالة الأخيرة والتي اشتهرت باسم ( الرسالة ) ، وهي رسالة أصولية سنية سلفية جديرة بالاهتمام والعناية قراءة وتدريساً وشرحاً يُبَيِّنٌ غامضها .
و لم يقتصر الشافعي – رحمه الله – على الرسالة بل ألف كتباً أخرى في مسائل من أصول الفقه منها :-
أ-كتاب جماع العلم .
ب-اختلاف الحديث .
ج-صفة نهي النبي صلى الله عليه وسلم .
د-إبطال الاستحسان .
فجعل من نفسه –رحمه الله- قدوةً حسنةً لمن جاء من بعده من أئمة السلف لا سيما ممن كتب منهم في علم أصول الفقه . فساروا سيرته وسلكوا طريقته ، فكتب بعضهم كتباً مفردة في أصول الفقه شملت كل مسائل العلم أو جلها ،
و البعض الآخر كتب في بعضها سواء أفردها بمؤلف أو ضمنها بعض مؤلفاته الأخرى . فكانوا بمجموعهم يمثلون طريقة أو مدرسة الشافعي بحق.
وممن كتب من العلماء الأعلام على هذه السيرة وهذه الطريقة ، أعني الطريقة الشافعية السنية السلفية كل من :-
تابع