طويلب علم مبتدئ
29 / 04 / 2008, 52 : 10 PM
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن هذه المحاضرة أو هذا الدرس ليس لي فيه خيار، ولو استشرت فيه لما قبلت، نعم أنا موافق على إلقاء درس في الوقت نفسه، لكن لو عُرض عليَّ مثل هذا العنوان لما قبلت، ولا أقول في مقدمة هذا الدرس إلا ما قلته في مقدمة الهمة في طلب العلم، يعني كمن يضرب مثل بشجاعة أجبن الناس، أو بكرم أبخل الناس، يعني يؤتى بمثلي ليلقي درساً عن عبادات العلماء والتقصير معروفٌ لدى الخاص والعام؟! نسأل الله -جل وعلا- أن يمن علينا وعليكم بالعمل بالعلم، وأن يتفق الظاهر مع الباطن، هذا الموضوع يحتاج إلى شخصٍ يتحدث عن نفسه، وطالما تحدثت عن نفسي في محاضرات كثيرة في الآفات التي تعتري طالب العلم، وأضرب الأمثلة من نفسي، وإن لم يعلم السامع، أقول: هذا الموضوع يحتاج إلى شخصٍ يتحدث عن نفسه.
ويمكن أن أبرر القبول -بعد الإعلان- بصنيع ابن القيم -رحمه الله تعالى- في طريق الهجرتين ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى-: المنهج الذي يسير عليه المقربون من استيقاظهم إلى نومهم، ذكر خطة عمل يسيرون عليها، ماذا يصنعون إذا انتبهوا من النوم قبل الصبح؟ ثم بعد ذلك ما صنيعهم إذا دخلوا المسجد لأداء صلاة الصبح، ثم بعد ذلك جلوسهم حتى ترتفع الشمس، ثم بعد ذلك انصرافهم إلى أعمالٍ أخرى من أعمال الآخرة، وليس من أعمال الدنيا، ثم يأتون لصلاة الظهر، والصلاة شغلهم الشاغل، فمنهم من يقضي ما بين الصلاتين بالعبادة من ذكر وتلاوة وصلاة، ومنهم من يقضيه في العلم والتعليم، ثم بعد صلاة العصر لهم برنامج ذكره ابن القيم في كتابه، فليرجع إليه، ثم بعد المغرب كذلك، ثم بعد صلاة العشاء، يأتي وقت الوظيفة، وإذا أووا إلى فرشهم كما قال ابن القيم: ذكروا أذكار النوم، وهي كما قال: تقرب من الأربعين، ومن منا يستحضر أربعة فضلاً عن أربعين، ابن القيم لما ذكر هذا البرنامج الذي يسير عليه المقربون، أقسم بالله لئلا يُظن أنه يتحدث عن نفسه، والمظنون به أنه يتحدث عن نفسه، هذا الذي يغلب على الظن، ومع ذلك يقسم ابن القيم -رحمه الله تعالى- أنه ما شمَّ لهم رائحة، هذا ابن القيم هو يرسم هذا المنهج للمقربين، فضلاً عن غيرهم من الأبرار، وأصحاب اليمين.
ابن القيم -رحمه الله تعالى- وهذه زيادة في الإيضاح والفائدة- ذكر أنهم إذا جلسوا بعد صلاة الصبح يذكرون الله تعالى حتى ترتفع الشمس، يقول: منهم من يصلي، ومنهم من ينصرف دون صلاة، لكن لما ذكر حال الأبرار، قال: إنهم لا ينصرفون إلا بعد الصلاة، يعني صلاة الضحى؛ لأن المقربين ينصرفون من عبادة إلى عبادة، ولن ينسوا صلاة الضحى؛ لأن وقتها الفاضل لم يأتِ بعد، المذكور في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال)).
وأما بالنسبة للأبرار فإنهم لا ينصرفون إلا بصلاة؛ لأنهم ينصرفون بعد ذلك إلى أعمالهم في أمور الدنيا، ويخشى أن ينسوا صلاة الضحى.
والظاهر من كلام ابن القيم أنه لا يصحح الحديث الوارد في ذلك، أن من جلس ينتظر طلوع الشمس وصلى الصبح بجماعة، وجلس بمصلاه حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، انقلب بأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة.
كأنه لا يصحح هذا الخبر، وإلا لو صح عنده لما انصرف أحد لا من المقربين ولا من الأبرار إلا بعد هذه الصلاة، والحديث بطرقه يقوي القول بتحسينه، وإن صححه بعضهم، لكن الكلام لأهل العلم فيه ظاهر، يقوى القول بتحسينه، إذا عرفنا هذا ابن القيم رسم الخطة، ويغلب على الظن لما عرف عنه من عبادات متنوعة، بعضها إذا سمعه القارئ يظنه ضربٌ من الخيال، أو أساطير، مع هذه العبادات المتنوعة يقسم بالله أنه ما شمَّ لهم رائحة.
فماذا نقول إذا كان هذا ابن القيم يقسم بالله أنه ما شم لهم رائحة؟ ونحن نذكر في هذه المحاضرة شيء من عبادات العلماء، وهم من المقربين، فماذا نقول؟
وأعتذر عما قاله الأخ الذي قدم، وذكر ما ذكر مما يخالف الواقع، وليس من عادتي أن أقاطع أحد في كلامه، وإلا لا شك أنه جاوز في الوصف، فأسأل الله -جل وعلا- أن يعفو عني وعنه وعنكم.
إذا عرفنا هذا فعنوان المحاضرة: "إشراقات" هذا لمن عرف حقيقة الأمر، وإلا فكثيرٌ من الناس يظن أن العبادة والإكثار منها، يعني في عرف عامة الناس ومن في أحكامهم ظلمات، لماذا؟ لأنه يحبس نفسه في مكانٍ ضيق ينزوي به عن الناس، فهو في ضيق، وهذا لم يجرب ما جرب القوم، ولو جرب عرف حقيقة الأمر، وأنها هي السعادة وهي النعيم، وهي جنة الدنيا، التي تحدث عنها شيخ الإسلام وابن القيم، وكثيرٌ من أهل العلم.
عبادات العلماء:
بعد هذه المقدمة أقول: عبادات العلماء:
العلماء الذين يستحقون أن يوصفوا بهذا الوصف هم أهل العلم والعمل، ولا يستحق الوصف بالعالم إلا من عمل، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} ثم قال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[(9) سورة الزمر] فدل على أن أهل العلم المستحقين لهذا الوصف هم أهل العمل، فالذين لا يعملون بالعلم ليسوا من أهل العلم.
وفي الحديث المختلف في تصحيحه عند أهل العلم وممن صححه الإمام أحمد -رحمه الله-: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)) فأهل العلم هم العدول، ومفهومه أن الذين لا يتصفون بهذا الوصف من أهل الفسق والتفريط الذين لا يستحقون الوصف بالعدالة ليسوا من أهل العلم ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)) فالذين لا يعملون بالعلم ليسوا بعدول، إذاً الذي يحملونه ليس بعلم.
ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- له رأي مشهور، ووافقه عليه جمعٌ من أهل العلم: أن كل من عرف بحمل العلم فهو ثقة عدل مرضي؛ لهذا الحديث، كل من حمل العلم فهو عدل لهذا الحديث.
يقول الحافظ العراقي:
ولابن عبد البر كل من عني
فإنه عدلٌ لقول المصطفى
بحمله العلم ولم يوهنِ
يحمل هذا العلم لكن خولفَا
خولفَا ابن عبد البر يعني على فهمه العكسي، الذي فهمناه من الحديث أن الذي ليس بعدل لا يسمى ما يحمله علم، وفهم أن كل من يحمل العلم وله عناية به أنه عدل، لكن الواقع يرد هذا القول؛ لأننا نرى من يحمل هذا العلم ممن هو متصفٌ بالفسق، فكيف يعدل مثل هذا؟ ولذا يقول الحافظ العراقي: "لكن خولفَا" خولف ابن عبد البر في فهمه؛ لأننا نرى ورأينا ورأيتم ممن يُعد من بحور العلم بحسب الظاهر، ومع ذلك علامات وآثار الفسق ظاهرة، هذا في الحقيقة ليس بعلم.
ومن أقوى الأدلة على هذا الفهم قول الله -جل وعلا-: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ}[(17) سورة النساء] هل التوبة خاصة بالجهال الذين لا يعرفون الأحكام، أو أنه لو كان عارفاً بالحكم، يعرف أن الزنا حرام ويزني، يعرف الحكم بدليله، يعرف أن شرب الخمر حرام ويشرب، يعرف الحكم بدليله، ويعرف أن السرقة حرام ويسرق، ويعرف أن الربا حرب لله ورسوله ويرابي، ثم بعد ذلك يتوب؟ نقول: هل هذا مقبول التوبة أو غير مقبول؟ إذا أخذنا الجهالة على عدم العلم بالحكم، قلنا: هذا ليست له توبة، ولم يقل بهذا أحدٌ من العلم {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ}[(275) سورة البقرة] التوبة تهدم ما كان قبلها، المقصود أن هذا الجاهل المنصوص عليه هو الذي يقدم على المعصية ولو كان عارفاً بالحكم بدليله، فالذي يعصي هذا جاهل ولو عرف الحكم، وهذا لا يشكل معنى الحديث مع وجود من يحمل العلم من غير العدول، فالعلم يقتضي العمل، والعلم ثمرته العمل.
للخطيب البغدادي كتاب مختصر أسماه (اقتضاء العلم العمل) يقول في مقدمته:
"ثم إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية بطلبه، وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرة والعمل ثمرة، وليس يُعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً، فلا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشاً من العلم، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصراً في العمل، ولكن اجمع بينهما، وإن قل نصيبك منهما".
لأنه قد تحصل المزاحمة، العلم يحتاج إلى وقتٍ طويل، نقول: اعمل بما علمت، ولن يعوقك هذا عن تحصيل العلم؛ لأنه يكثر السؤال من كثيرٍ من الطلبة يقول: أن العمل قد يعوقنا عن تحصيل العلم، ولا سيما العمل الميداني الذي يتطلب وقتاً، كإنكار المنكرات في الأسواق وغيرها، نقول: سدد وقارب، إذا بلغك عن الله وعن رسوله أمر أو نهي فاعمل به، بادر بالعمل به؛ لأن هذا هو الثمرة.
يقول: "وما شيء أضعف من عالم ترك الناس علمه لفساد طريقته، وجاهل أخذ الناس بجهله لنظرهم إلى عبادته".
لا شك أن عامة الناس يُحسنون الظن بأهل العبادة، وما حصلت الفجوة التي نعيشها بين العلماء والعامة؛ وما حصل من وقوع الناس في أعراض أهل العلم إلا بسبب تقصيرهم في العمل، عامي يحضر إلى المسجد مع الأذان فإذا التفت بعد الصلاة إذا شخص من أهل العلم يقضي بعض الصلاة، هذا نفسه لا توافقه على سؤاله، وإن كان بعضهم يقول: خذ من علمه، ولا تأخذ من عمله، هذا الكلام ليس بصحيح.
وفي صحيح مسلم: جاء شخص من العراق إلى ابن عمر، يريد أن يسأله عما مسألة في المناسك، فقال: عليك بابن عباس، ابن عباس علم وعمل، لكن في مجال العمل لا شك ابن عمر معدود من العباد، وسيأتي شيء من طريقته وعمله، قال: عليك بابن عباس، شهادة حق وإنصاف، فقال: ذلك رجل مالت به الدنيا ومال بها، يعني أنه ليس في زهده مثل ابن عمر، ولا يظن به أنه يزاول المنكرات، أو يأكل مشتبهات، أبداً، حَبر الأمة وترجمان القرآن، لكن عامة الناس ثقتهم بالعامل، فإذا رأوا من أهل العلم من يظهر عمله عليه على جوارحه وفي سرته وعلانيته يقتدون به.
قال -رحمه الله- بعد ذلك: "وهل أدرك من السلف الماضين الدرجات العلى إلا بإخلاص المعتقد، والعمل الصالح، والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا".
يعني كل شيء له ضريبة، توسعت في أمر الدنيا يكون على حساب الآخرة؛ لأنها ضرة، ومع ذلك {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}[(77) سورة القصص] لكن كم ممن يقال له هذا الكلام في وقتنا هذا؟ الناس بحاجة حتى من أهل العلم مع الأسف ومن طلابه أن يقال له: لا تنس نصيبك من الآخرة؛ لأنه وجد بعد انفتاح الدنيا، شاهدنا وسمعنا أشياء حتى من بعض من ينتسب إلى العلم شيء لا يخطر على البال، من الانصراف، وإن لم يكن من ذلك إلا انصراف القلب.
يعني إذا حدث، قصة حصلت هذه الأيام أن مجموعة صلوا صلاة الظهر وجهر الإمام وأمنوا، هؤلاء ماذا بقي للآخرة في قلوبهم؟! وسمع من يقول -وهو ساجد-: آمين، لا شك أن هذا سببه الانصراف عن الآخرة، والإقبال على الدنيا؛ لأن القلب ما يحتمل كل هذه الأمور إلا ممن وفقه الله -جل وعلا-.
فشخص من أهل الدنيا ويملك مليارات، يقول: دعانا في يوم من الأيام فإذا بمجلسه غاص بالناس، هل هم الأعيان؟ هل هم الوجهاء؟ هل هم الملأ من القوم؟ لا، كلهم فقراء، وبعد ذلك يجلس وبدون مبالغة، جلس نصفه خارج المجلس ونصفه داخل، متكئ على الباب، وهؤلاء الفقراء في صدر المجلس، ومع ذلك لما وضع الوليمة رفض أن يجلس معي، جلس معهم، وكان من عادته وديدنه أن يدخل المسجد يصلي العصر ولا يخرج إلا بعد صلاة العشاء، يعني هل الآخرة تعوقهم من تحصيل الدنيا؟ في سلف هذه الأمة أثرياء، ومع ذلك هم النجوم في العلم والعمل، وهذا لا يعوق، والدنيا لا تضر إلا لمن رأى أنه استغنى {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}[(6-7) سورة العلق] فإذا رأى في نفسه أنه استغنى الآن وقعت الهلكة، أما إذا كانت الدنيا تحت تصرفه، وفي يده لا في قلبه، فإن هذا نِعَم على نِعَم.
يقول -رحمه الله- في مقدمة كتابه آنف الذكر:
"وهل وصل الحكماء إلى السعادة العظمى إلا بالتشمير في السعي والرضا بالميسور، وبذل ما فضل عن الحاجة للسائل والمحروم".
ثم عاد بدأ بنا، قال: "وهل جامع كتب العلم إلا كجامع الفضة والذهب، وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما، وهل المغرم بحبها إلا ككانزهما".
ثم ذكر حديث أبي برزة إلى آخر كلامه -رحمه الله-.
جامع الكتب الذي يجمع من الكتب يملأ الدور بالكتب، لكنه لا يفيد منها، ولا يبذل منها، هذا لا شك أنه ككانز الذهب والفضة. وابن خلدون يقول: "أن كثرة التصانيف من عوائق التحصيل".
وهذا شيء مجرب، جربانه وجربه غيرنا، يعني يحتار الإنسان إذا أراد أن يختار تفسير آية من بين خمسين تفسير، أو ينظر شرح حديث من بين عشرات الشروح، يحتار قبل أن يبدأ، فإذا بدأ قال: لعل فلان تكلم أكثر، ولعل علان تكلم أكثر، ثم يضيع الوقت بمثل هذا، وحدث ولا حرج عما يضيع من الأوقات في ترتيبها، ترتيب هذه الكتب، وتنظيفها، ونقلها من مكان إلى مكان، هذا لا شك أنه شيء عائق عن التحصيل.
وأدركنا شيوخنا ممن ليس لديهم من الكتب إلا الأصول المهمة في ثلاثة دواليب لا تزيد عن ثلاثمائة مجلد، أربعمائة مجلد، ومع ذلكم إذا فُتح أي مجلد وجد عليه أثر، أثر قراءة، وأثر في العلم وأثر في العمل، فليس جمع الكتب مما يمدح به الشخص إذا لم يكن ممن يستفيد من هذه الكتب، ويعمل بما علم، ولذا قال: "هل جامع الكتب إلا كجامع الذهب والفضة".
أثر هذه الكتب إذا دخلت في القلب، ولم يفد منها الفائدة المرضية، كأثر الذهب والفضة، يعني شخص من الأشخاص منهوم بالكتب، ومع ذلك قد تضيع عليه صلاة الجماعة بسبب الكتب، يعني عنده موعد مع شخص عنده كتب....... يبيع، ثم بعد ذلك يمتطي السيارة مع الأذان ليصلي عنده، فإذا وصل إليه فإذا الجماعة قد صلوا، وهذا كثير، لماذا؟ لأن الوسائل حلت محل الغايات عندنا، وقاصر النظر عن إدراك المطلوب، ولا أريد أن أطيل في مثل هذا؛ لأنها حقيقة مرة نعاني منها، ويعاني غيرنا منها، فالقصد القصد، ولا يعني هذا أن طالب العلم لا يشتري كتب، يشتري ما يحتاجه من الكتب، والكتب متوفرة وميسورة -ولله الحمد-، لكن إما أن يجمع كل كتاب وكل طبعة من كل كتاب! هذا لا شك أنه يعوق عن التحصيل.
ثم ذكر -رحمه الله- حديث أبي برزة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟)) وهذا هو الشاهد ((وعن علمه ماذا عمل به؟)) فهو سوف يسأل عن هذا العلم الذي نام عنه، وكتمه عن الناس، وسئل فلم يجب، ولم يبذله، وقد جاء في الخبر: ((ابن آدم علم مجاناً كما علمت مجاناً)) وكثيرٌ من أهل العلم يتورع عن بذله، وليس هذا بورع، نعم قد يكون بالنسبة لبعض الناس الذي لا يملك نفسه عن قول: لا أعلم، قد يكون عليه خطر، قد يسأل عما لا يحسن ولا يتقن، ثم بعد ذلك تصاب المقاتل، على الإنسان أن يبذل، ولكن لا يبذل إلا ما يعلم، ولا يتشبع بما لم يعطَ.
قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل".
ولا شك أن العمل هو الذي يثبت العلم، ولذا لو سألت شخصاً يبلغ من العمر خمسين سنة مثلاً، وسألته عن المناسك وقد حج في أول عمره، ما تجده يدرك من أحكام المناسك إلا الشيء اليسير، لكنه يدرك أحكام الصلاة، لا سيما إذا كان لديه أهلية، ومن أهل العلم من أخطأ في كثير من أحكام المناسك؛ لأنه لم يحج، ومنهم من حج بعد تأليفه في المناسك فأحرق ما ألفه؛ لأنه لم يعمل بهذا العلم، ثم لما عمل استنار له الطريق، واتضح له الحق.
وعن الحسن -رضي الله عنه- قال: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني"، يعني الإنسان يدعي ويتشبع ويتصنع لكن هذا لا يكفي "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال".
وعن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مثل العالم الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج، يضيء للناس ويحرق نفسه)) والحديث لا بأس به جيد.
((مثل العالم الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج، يضيء للناس ويحرق نفسه)) والنصوص في هذا كثيرة جداً.
ولو لم يكن إلا حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، وفيهم العالم الذي يعلم الناس، أفنى عمره في العلم والتعليم، ثم بعد ذلك في النهاية يكون من أول من تسعر بهم النار، وإنما يعلم ليقال: عالم، نسأل الله السلامة والعافية.
فالإخلاص لله -جل وعلا- في العلم أمرٌ لا بد منه، بل هو من أول شروطه، فالعلم من أمور الآخرة المحضة، التي لا تقبل التشريك، وإذا قلنا العلم فالمراد به العلم بالكتاب والسنة، وما يعين على فهم الكتاب والسنة.
مسألة الإكثار من العبادة:
المسألة التي يشار إليها قبل الدخول في الموضوع، مسألة الإكثار من التعبد، من أهل من قال: أنه بدعة، فمثلاً الصلاة لو تتبعنا مما نُص عليه من فعله -عليه الصلاة والسلام- غير الأدلة الإجمالية، وجدناه يصلي الفرائض سبع عشرة ركعة، والرواتب والوتر، فيكون المجموع أربعين، منهم من قال: من زاد على ذلك دخل في حيز الابتداع، لكن هذا الكلام ليس بصحيح؛ لأن النصوص العامة والخاصة من فعله -عليه الصلاة والسلام- تدل على خلاف ذلك، نعم من تعبد لله -جل وعلا- بما لم يشرعه مما لم يسبق له شرعية من كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- لا شك أنه مبتدع؛ لأن البدعة العمل الذي يتعبد به مما لم يسبق له شرعية من الكتاب والسنة، والبدع كلها ضلالة، وإذا اشتغل أحدٌ ببدعة، لا شك أنه على حساب سنة. فليحرص الإنسان على تحرير المقام، فلا يفرط بسنة، ولا يرتكب بدعة؛ لأن بعض الناس قد يقصر في هذا الباب علمه وفهمه، ويزيد حرصه، ثم بعد ذلك يدخل في حيز البدع وهو لا يشعر، ومر بنا ومر بغيرنا أننا قد نتذكر ما حفظناه من بعض الأذكار الصحيحة، فلا نذكر، وقد نذكر بعضها ونترك بعضها، فإذا تأملنا أننا زدنا في أذكار عن الحد المشروع مثلاً من الأذكار المحددة، قد يكون زدنا فيها، ثم بعد ذلك لم نوفق للأذكار الثابتة.
فعلى الإنسان أن يحرص أن لا يعمل عملاً إلا وعنده فيه أصل من الكتاب والسنة، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قبل ذلك ما ثبت أصله في الكتاب والسنة كالصلاة والذكر والتلاوة والصيام والحج والإنفاق في سبيل الله، والجهاد والدعوة وغير ذلك، هذا كلها أصولها ثبتت في الكتاب والسنة، فالإكثار منها على الهيئة المشروعة في الأوقات التي جاءت من قبل الشارع، جاء عدم المنع منها ليس ببدعة، للأدلة العامة والخاصة التي تذكر، بل الممنوع من ذلك كما تقدم في حد البدعة ما لم يسبق له شرعية من كتاب أو سنة.
الاجتهاد في التعبد حسب الطاقة ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، فقد قام -عليه الصلاة والسلام- في الليل حتى تفطرت قدماه، وصلى بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران بركعة واحدة، فماذا عن بقية الصلاة؟ ماذا عن الركوع والسجود؟ فإطالة الصلاة مطلوبة؛ لأنها ثابتة عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وكثرة الركعات أيضاً مطلوبة؛ لأنه ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- الإطلاق ((صلاة الليل مثنى مثنى)) وثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه أجاب من سأله مرافقته في الجنة فقال: ((أعني على نفسك بكثرة السجود)) وهذا يتطلب إكثار من الركعات، فالتطويل ثبت بفعله -عليه الصلاة والسلام-، والإكثار ثبت بقوله وحثه -صلى الله عليه وسلم-.
ثم يأتي من يأتي ويقول: أن الإكثار من التعبد بدعة، ما عرف عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قام ليلة كاملة، وهذا عن عائشة -رضي الله تعالى عنها-، مع أنه -عليه الصلاة والسلام- إذا دخلت العشر شد المئزر وأحيا الليل، فهذا وارد على هذا الحديث، فإذا دخل التخصيص بمثل هذا النص، عموم خبر عائشة أضعفه، هذا مقرر عند أهل العلم, وما دام ثبت أنه أحيا الليالي العشر، عشر رمضان، يدل على أن إحياء الليل ليس ببدعة، وقد عرف عن سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين فمن دونهم ممن يأتي ذكره في الأمثلة -إن شاء الله تعالى- هذا بالنسبة للصلاة.
الصيام ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه يصوم حتى يقال: لا يفطر، وثبت عنه أنه كان يفطر حتى يقال: أنه لا يصوم، وكان يصوم من الأشهر الحرم، يصوم في المحرم، ويصوم من شعبان أكثره، فلا يقال: أن مثل هذا العلم بدعة، مع قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((أفضل الصلاة صلاة داود، وأفضل الصيام صيام داود، ينام نصف الليل، ثم يقوم ثلثه، ثم ينام سدسه)) بالنسبة للصيام يصوم يوماً ويفطر يوماً، ثم يأتي من يقول النبي -عليه الصلاة والسلام- نجزم أنه ما صلى يوم وأفطر يوم؛ لأنه ثبت أنه كان يصوم حتى يقال: لا يفطر، ويفطر حتى يقال: لا يصوم.
من كان وضعه في احتياج الناس إليه مثل حال الرسول -عليه الصلاة والسلام- يفاضل بين هذه العبادات، وأهل العلم يقررون أن العبادات المتعدية النفع مقدمة على العبادات الخاصة.
في مسلم عن عائشة أن النبي -عليه الصلاة والسلام- ما كان يصوم العشر، وثبت من حديث بعض أزواجه أنه كان يصوم العشر، فعائشة تذكر من حاله الغالب أنه كان لا يصوم العشر؛ لأنه مشغول بحاجات الناس. وأيضاً ثبت في الحديث الصحيح: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن خيرٌ وأحب إلى الله من هذه الأيام العشر)) ثم بعد ذلك ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)) فإذا ضممنا هذا الحديث إلى هذا الحديث، قلنا بمشروعية صيام العشر، وكونه -عليه الصلاة والسلام- لا يصوم العشر أحياناً مثل ما قال: ((عمرةٌ في رمضان تعدل حجة)) ومع ذلك ما ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه اعتمر في رمضان، هل نقول: أن العمرة في رمضان ليست مشروعة؟ يكفينا قوله -عليه الصلاة والسلام-.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد يترك العمل رأفة بأمته، خشية أن يفرض عليهم، لو تظافر قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((عمرة في رمضان تعدل حجة)) مع فعله، ماذا يكون الواقع؟ الآن الناس يموتون، يعتمر في رمضان أكثر من ملونين شخص، يجتمعون في ليلة واحدة، لو تظافر فعله مع قوله كيف يكون العمل؟ لكن من الناس من يقول: النبي -عليه الصلاة والسلام- ما اعتمر في رمضان، والحمد لله لنا أعمال بدائل، نقول: يكفينا ما ثبت من قوله -عليه الصلاة والسلام-.
لكن إذا عمل عملاً وندم عليه ولم يحثنا عليه، اقتدينا به في مثله، فلا نكلف أنفسنا في مثل هذا العمل، كدخول الكعبة مثلاً، ما ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- حثنا على دخولها، لكنه دخلها، ومع ذلك ندم على ذلك؛ لئلا يشق على أمته.
فانظروا لما لم يتظافر القول مع العمل صار الأمر أقل، ولو تظافر القول مع العمل في عمرة رمضان لوجدنا الزحمة التي لا تطاق، فبعض الناس يتشبث بكونه -عليه الصلاة والسلام- لم يعتمر في رمضان، ويتسلى بذلك.
تقول عائشة -رضي الله عنها-: "وأيكم يطيق ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطيق؟!" بذله وتضحيته في الصلاة والصيام والدعوة والجهاد شيء لا يطاق، لكن تجد مثلاً بعض الناس يذكر عنه في التلاوة أشياء، يذكر عنه ما يتعجب منه في التلاوة، لماذا؟ لأنه صارت على حساب أعمال أخرى، وبعضهم يذكر عنه على ما سيأتي من ذكر الأمثلة من الصلاة ما لا يخطر على البال، وصار هذا على حساب عبادات أخرى، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يفاضل، ويوازن بين هذه العبادات، ووقته مشغول ومعمور بالطاعة، والتبليغ ودعوة الناس إلى الخير. تقول عائشة: "وأيكم يطيق ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطيق؟!" ومحل ذلك كما قال ابن حجر: "ما لم يفضِ إلى الملل" لما جاء في الحديث الصحيح: ((أكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا)) وأخرج البخاري من حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً: ((عليكم ما تطيقون من الأعمال، فإن الله لا يمل حتى تملوا)) وجاء في الحديث الصحيح: ((أفضل الأعمال ما داوم عليها صاحبه)).
بعده -عليه الصلاة والسلام- وجد الاجتهاد في العبادة من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم من غير نكير، فلا يمكن أن يوصف مثل هذا بالابتداع؛ لأنه عمل سلف هذه الأمة، وخير هذه الأمة، اقتداءً بنبيها -عليه الصلاة والسلام-، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: ((الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر)) فجاء الحث على الذكر والتلاوة في الكتاب والسنة، قال الله -جل وعلا-: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[(35) سورة الأحزاب] وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((سبق المفردون... الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)) وجاء الترغيب بتلاوة القرآن، ففي كل حرفٍ من القرآن عشر حسنات، عبادات أجورها لا يمكن أن يحاط به، ممن لا تنفذ خزائنه، ومع ذلك لا تكلف شيئاً، والمحروم لا تنفعه مثل هذه النصوص، إلا أن الله -جل وعلا- قال: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}[(45) سورة ق] {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}[(17) سورة القمر] ما هو كل الناس، ولذلك تجد بعض الناس يصعب عليه أن يفتح المصحف، وتجده حافظ ومع ذلك لا يقرأ، ولا شك أن هذا حرمان، وبكل حرف عشر حسنات، والختمة الواحدة بأكثر من ثلاثة ملايين حسنة، يعني الجزء الواحد الذي يقرأ بربع ساعة مائة ألف حسنة.
وهذا أمرٌ في غاية اليسر، مصداقاً لقول الله -جل وعلا-: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}[(17) سورة القمر] يعني: الإنسان إذا جلس بعد صلاة الصبح ينتظر الشمس إلى أن ترتفع بإمكانه أن يقرأ القرآن في سبع، وهو مرتاح، وهذا لا يعوقه عن شيء من أعماله، لكن هذا الأمر يحتاج إلى شيء من المجاهدة، ثم بعد ذلك التلذذ كغيره من العبادات، وإلا فالأصل أن هذه العبادات تكاليف، ومما حفت به الجنة، والجنة حفت بالمكاره، يعني خلاف ما تشتهيه النفوس، فإذا جاهد نفسه، وعلم الله -جل وعلا- منه صدق الرغبة والنية أعانه، حتى تلذذ بذلك، وأثر عن السلف أنهم كابدوا قيام الليل، وما أشق قيام الليل على من لم يعتاده، تجده مستعد يجلس في القيل والقال إلى قرب الفجر، ثم بعد ذلك صراع مع نفسه، هل يوتر بركعة أو يقول الوتر سنة؟ ولئلا يشبه بالفرائض نتركه أحياناً، هذا شيء مجرب، وما كُره السهر والحديث بعد صلاة العشاء إلا لهذا الأمر؛ لأنه يعوق عن ذكر الله وعن الصلاة؛ لأنه على حساب الذكر، فإذا صلى العشاء ونام نام على خير، والصلاة كفرت ذنوبه ((الصلوات الخمس إلى الصلوات الخمس كفارات لما بينهما ما لم تغش كبيرة)) نام على ذنوب مكفرة، ولذا كان ابن عمر إذا تحدث بعد صلاة العشاء صلى قبل أن ينام، لينام عن صلاة.
هذا الحديث القيل والقال لا شك أنه يعوق صاحبه عن الذكر والتلاوة، ولذا نرى مع قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) بعض الناس يقول: الحج أربعة أيام، بالإمكان أن تضبط النفس ولا يتكلم بكلمة، لكن إذا كان قد عود نفسه على القيل والقال يستطيع أن يملك نفسه ثلاثة أيام؟ وبعض الناس يجاور في العشر الأواخر، ويجلس من صلاة العصر إلى صلاة المغرب في المسجد الحرام، فالمتوقع أنه ترك أهله وترك أمواله وجاور في هذه البقعة طلباً للثواب، والإكثار من العبادات، تجده يفتح المصحف إذا صلى العصر، ثم إذا قرأ صفحة أخذ يلتفت يميناً وشمالاً؛ لأنه ما تعرف على الله في الرخاء يعرفه في الشدة، ثم بعد ذلك إن رأى أحداً ممن يعرفه وإلا أطبق المصحف ثم يؤنبه ضميره لماذا أنا جئت؟ يفتح المصحف مرة ثانية، ثم يقوم من مكانه يبحث عمن يبادله الحديث، وتجد بعض الناس نظره في الساعة خشية أن يؤذن المغرب قبل أن يتم حزبه، هذا تعود في حال الرخاء، والله -جل وعلا- يقول: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}[(4) سورة الليل].
الذكر:
الذكر من أفضل العبادات، وذكر له ابن القيم فوائد عظيمة جداً في مقدمة الوابل الصيب، وهو لا يكلف شيئاً، سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر، يعني هذه تقال بدقيقة ونصف، ومن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كمن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، والمائة عشرة من ولد إسماعيل، مع ما فيها من حفظ ورفع درجات، وحط سيئات، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له إلى آخره مائة مرة بعشر دقائق.
والاستغفار شأنه عظيم، وجاء التنصيص عليه بالكتاب، وصحيح السنة، والإنسان تجده إما بالقيل والقال، أو بالسكوت، عرفنا أن هذا الشيء لا يكلف شيئاً، لكن على الإنسان أن يري الله -جل وعلا- من نفسه خيراً، ويعزم، ويترك أو يسد منافذ الشيطان إلى قلبه ليوفق لمثل هذه الأعمال.
النبي -عليه الصلاة والسلام- كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ((أرحنا يا بلال بالصلاة)) كثير من المصلين الآن يصلي خلف إمامٍ لا تزيد صلاته على خمس دقائق، ومع ذلك ينظر في الساعة في كل ركن من أركان الصلاة، ويراوح بين رجليه، وثبت من خلال التجربة -من أهل العلم والعلم- أن الذي يتعامل مع الله -جل وعلا- هو القلب، فشخصٌ يناهز المائة، يصلي خلف شخصٍ قراءته عادية، يقرأ في كل تسليمة بجزء من القرآن، ويلوم الإمام لما استعجل في التسليمة الأخيرة، وشباب في العشرين والخمسة والعشرين والثلاثين ممن يطلب العلم، ويحرص على طلب العلم، تجده إذا صلى الإمام التسليمة من التراويح بعشر دقائق ضاق به ذرعاً، وبحث عن مسجدٍ آخر، والمساجد تمتلئ من طلاب العلم إذا كان الإمام لا يطيل القراءة، والله المستعان.
وقال ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه-: "صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى هممت بأمرِ سوء، قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه" وهذا الحديث في الصحيحين.
ومرض -عليه الصلاة والسلام- ليلةً فلما أصبح قيل: يا رسول الله: "إن أثر الوجع عليك لبين، فقال: ((إني علا ما ترون -بحمد لله- قد قرأت السبع الطوال)) نحن إذا زكم الإنسان وأصيب برشح، أول ما يتبادر إلى ذهنه حديث أن الإنسان إذا مرض أو سافر يكتب له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً، من أجل أيش؟ ألا يصلي، ولا يقرأ، يمكن ولا يذكر الله -جل وعلا-.
وكان مع ذلك -عليه الصلاة والسلام- يخشع في صلاته ويبكي، فعن عبد الله بن الشخير -رضي الله تعالى عنه- قال: "أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء" وربما قام ليلة بآية واحدة، فعند ابن خزيمة وابن ماجه بسند لا بأس به أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قام بآية حتى أصبح يرددها" قوله -جل وعلا-: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[(118) سورة المائدة].
الله -جل وعلا- أمر نبيه -عليه الصلاة والسلام- إذا فرغ أن ينصب {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[(7-8) سورة الشرح] قال ابن عباس: "فإذا فرغت من صلاتك فانصب" أي بالغ في الدعاء وسله حاجتك، وقال ابن مسعود: "إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل" وقال الحسن وقتادة: "إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب لعبادة ربك" فهو مأمور بهذا، والنصب هو التعب، ولا يمكن النصب والتعب بأداء أربعين ركعة في اليوم والليلة، بل لا بد من المزيد على ذلك في الكم والكيف؛ ليتحقق النصب المأمور به. يتبع الموضوع ان شاء الله
فإن هذه المحاضرة أو هذا الدرس ليس لي فيه خيار، ولو استشرت فيه لما قبلت، نعم أنا موافق على إلقاء درس في الوقت نفسه، لكن لو عُرض عليَّ مثل هذا العنوان لما قبلت، ولا أقول في مقدمة هذا الدرس إلا ما قلته في مقدمة الهمة في طلب العلم، يعني كمن يضرب مثل بشجاعة أجبن الناس، أو بكرم أبخل الناس، يعني يؤتى بمثلي ليلقي درساً عن عبادات العلماء والتقصير معروفٌ لدى الخاص والعام؟! نسأل الله -جل وعلا- أن يمن علينا وعليكم بالعمل بالعلم، وأن يتفق الظاهر مع الباطن، هذا الموضوع يحتاج إلى شخصٍ يتحدث عن نفسه، وطالما تحدثت عن نفسي في محاضرات كثيرة في الآفات التي تعتري طالب العلم، وأضرب الأمثلة من نفسي، وإن لم يعلم السامع، أقول: هذا الموضوع يحتاج إلى شخصٍ يتحدث عن نفسه.
ويمكن أن أبرر القبول -بعد الإعلان- بصنيع ابن القيم -رحمه الله تعالى- في طريق الهجرتين ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى-: المنهج الذي يسير عليه المقربون من استيقاظهم إلى نومهم، ذكر خطة عمل يسيرون عليها، ماذا يصنعون إذا انتبهوا من النوم قبل الصبح؟ ثم بعد ذلك ما صنيعهم إذا دخلوا المسجد لأداء صلاة الصبح، ثم بعد ذلك جلوسهم حتى ترتفع الشمس، ثم بعد ذلك انصرافهم إلى أعمالٍ أخرى من أعمال الآخرة، وليس من أعمال الدنيا، ثم يأتون لصلاة الظهر، والصلاة شغلهم الشاغل، فمنهم من يقضي ما بين الصلاتين بالعبادة من ذكر وتلاوة وصلاة، ومنهم من يقضيه في العلم والتعليم، ثم بعد صلاة العصر لهم برنامج ذكره ابن القيم في كتابه، فليرجع إليه، ثم بعد المغرب كذلك، ثم بعد صلاة العشاء، يأتي وقت الوظيفة، وإذا أووا إلى فرشهم كما قال ابن القيم: ذكروا أذكار النوم، وهي كما قال: تقرب من الأربعين، ومن منا يستحضر أربعة فضلاً عن أربعين، ابن القيم لما ذكر هذا البرنامج الذي يسير عليه المقربون، أقسم بالله لئلا يُظن أنه يتحدث عن نفسه، والمظنون به أنه يتحدث عن نفسه، هذا الذي يغلب على الظن، ومع ذلك يقسم ابن القيم -رحمه الله تعالى- أنه ما شمَّ لهم رائحة، هذا ابن القيم هو يرسم هذا المنهج للمقربين، فضلاً عن غيرهم من الأبرار، وأصحاب اليمين.
ابن القيم -رحمه الله تعالى- وهذه زيادة في الإيضاح والفائدة- ذكر أنهم إذا جلسوا بعد صلاة الصبح يذكرون الله تعالى حتى ترتفع الشمس، يقول: منهم من يصلي، ومنهم من ينصرف دون صلاة، لكن لما ذكر حال الأبرار، قال: إنهم لا ينصرفون إلا بعد الصلاة، يعني صلاة الضحى؛ لأن المقربين ينصرفون من عبادة إلى عبادة، ولن ينسوا صلاة الضحى؛ لأن وقتها الفاضل لم يأتِ بعد، المذكور في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال)).
وأما بالنسبة للأبرار فإنهم لا ينصرفون إلا بصلاة؛ لأنهم ينصرفون بعد ذلك إلى أعمالهم في أمور الدنيا، ويخشى أن ينسوا صلاة الضحى.
والظاهر من كلام ابن القيم أنه لا يصحح الحديث الوارد في ذلك، أن من جلس ينتظر طلوع الشمس وصلى الصبح بجماعة، وجلس بمصلاه حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، انقلب بأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة.
كأنه لا يصحح هذا الخبر، وإلا لو صح عنده لما انصرف أحد لا من المقربين ولا من الأبرار إلا بعد هذه الصلاة، والحديث بطرقه يقوي القول بتحسينه، وإن صححه بعضهم، لكن الكلام لأهل العلم فيه ظاهر، يقوى القول بتحسينه، إذا عرفنا هذا ابن القيم رسم الخطة، ويغلب على الظن لما عرف عنه من عبادات متنوعة، بعضها إذا سمعه القارئ يظنه ضربٌ من الخيال، أو أساطير، مع هذه العبادات المتنوعة يقسم بالله أنه ما شمَّ لهم رائحة.
فماذا نقول إذا كان هذا ابن القيم يقسم بالله أنه ما شم لهم رائحة؟ ونحن نذكر في هذه المحاضرة شيء من عبادات العلماء، وهم من المقربين، فماذا نقول؟
وأعتذر عما قاله الأخ الذي قدم، وذكر ما ذكر مما يخالف الواقع، وليس من عادتي أن أقاطع أحد في كلامه، وإلا لا شك أنه جاوز في الوصف، فأسأل الله -جل وعلا- أن يعفو عني وعنه وعنكم.
إذا عرفنا هذا فعنوان المحاضرة: "إشراقات" هذا لمن عرف حقيقة الأمر، وإلا فكثيرٌ من الناس يظن أن العبادة والإكثار منها، يعني في عرف عامة الناس ومن في أحكامهم ظلمات، لماذا؟ لأنه يحبس نفسه في مكانٍ ضيق ينزوي به عن الناس، فهو في ضيق، وهذا لم يجرب ما جرب القوم، ولو جرب عرف حقيقة الأمر، وأنها هي السعادة وهي النعيم، وهي جنة الدنيا، التي تحدث عنها شيخ الإسلام وابن القيم، وكثيرٌ من أهل العلم.
عبادات العلماء:
بعد هذه المقدمة أقول: عبادات العلماء:
العلماء الذين يستحقون أن يوصفوا بهذا الوصف هم أهل العلم والعمل، ولا يستحق الوصف بالعالم إلا من عمل، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} ثم قال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[(9) سورة الزمر] فدل على أن أهل العلم المستحقين لهذا الوصف هم أهل العمل، فالذين لا يعملون بالعلم ليسوا من أهل العلم.
وفي الحديث المختلف في تصحيحه عند أهل العلم وممن صححه الإمام أحمد -رحمه الله-: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)) فأهل العلم هم العدول، ومفهومه أن الذين لا يتصفون بهذا الوصف من أهل الفسق والتفريط الذين لا يستحقون الوصف بالعدالة ليسوا من أهل العلم ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)) فالذين لا يعملون بالعلم ليسوا بعدول، إذاً الذي يحملونه ليس بعلم.
ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- له رأي مشهور، ووافقه عليه جمعٌ من أهل العلم: أن كل من عرف بحمل العلم فهو ثقة عدل مرضي؛ لهذا الحديث، كل من حمل العلم فهو عدل لهذا الحديث.
يقول الحافظ العراقي:
ولابن عبد البر كل من عني
فإنه عدلٌ لقول المصطفى
بحمله العلم ولم يوهنِ
يحمل هذا العلم لكن خولفَا
خولفَا ابن عبد البر يعني على فهمه العكسي، الذي فهمناه من الحديث أن الذي ليس بعدل لا يسمى ما يحمله علم، وفهم أن كل من يحمل العلم وله عناية به أنه عدل، لكن الواقع يرد هذا القول؛ لأننا نرى من يحمل هذا العلم ممن هو متصفٌ بالفسق، فكيف يعدل مثل هذا؟ ولذا يقول الحافظ العراقي: "لكن خولفَا" خولف ابن عبد البر في فهمه؛ لأننا نرى ورأينا ورأيتم ممن يُعد من بحور العلم بحسب الظاهر، ومع ذلك علامات وآثار الفسق ظاهرة، هذا في الحقيقة ليس بعلم.
ومن أقوى الأدلة على هذا الفهم قول الله -جل وعلا-: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ}[(17) سورة النساء] هل التوبة خاصة بالجهال الذين لا يعرفون الأحكام، أو أنه لو كان عارفاً بالحكم، يعرف أن الزنا حرام ويزني، يعرف الحكم بدليله، يعرف أن شرب الخمر حرام ويشرب، يعرف الحكم بدليله، ويعرف أن السرقة حرام ويسرق، ويعرف أن الربا حرب لله ورسوله ويرابي، ثم بعد ذلك يتوب؟ نقول: هل هذا مقبول التوبة أو غير مقبول؟ إذا أخذنا الجهالة على عدم العلم بالحكم، قلنا: هذا ليست له توبة، ولم يقل بهذا أحدٌ من العلم {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ}[(275) سورة البقرة] التوبة تهدم ما كان قبلها، المقصود أن هذا الجاهل المنصوص عليه هو الذي يقدم على المعصية ولو كان عارفاً بالحكم بدليله، فالذي يعصي هذا جاهل ولو عرف الحكم، وهذا لا يشكل معنى الحديث مع وجود من يحمل العلم من غير العدول، فالعلم يقتضي العمل، والعلم ثمرته العمل.
للخطيب البغدادي كتاب مختصر أسماه (اقتضاء العلم العمل) يقول في مقدمته:
"ثم إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية بطلبه، وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرة والعمل ثمرة، وليس يُعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً، فلا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشاً من العلم، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصراً في العمل، ولكن اجمع بينهما، وإن قل نصيبك منهما".
لأنه قد تحصل المزاحمة، العلم يحتاج إلى وقتٍ طويل، نقول: اعمل بما علمت، ولن يعوقك هذا عن تحصيل العلم؛ لأنه يكثر السؤال من كثيرٍ من الطلبة يقول: أن العمل قد يعوقنا عن تحصيل العلم، ولا سيما العمل الميداني الذي يتطلب وقتاً، كإنكار المنكرات في الأسواق وغيرها، نقول: سدد وقارب، إذا بلغك عن الله وعن رسوله أمر أو نهي فاعمل به، بادر بالعمل به؛ لأن هذا هو الثمرة.
يقول: "وما شيء أضعف من عالم ترك الناس علمه لفساد طريقته، وجاهل أخذ الناس بجهله لنظرهم إلى عبادته".
لا شك أن عامة الناس يُحسنون الظن بأهل العبادة، وما حصلت الفجوة التي نعيشها بين العلماء والعامة؛ وما حصل من وقوع الناس في أعراض أهل العلم إلا بسبب تقصيرهم في العمل، عامي يحضر إلى المسجد مع الأذان فإذا التفت بعد الصلاة إذا شخص من أهل العلم يقضي بعض الصلاة، هذا نفسه لا توافقه على سؤاله، وإن كان بعضهم يقول: خذ من علمه، ولا تأخذ من عمله، هذا الكلام ليس بصحيح.
وفي صحيح مسلم: جاء شخص من العراق إلى ابن عمر، يريد أن يسأله عما مسألة في المناسك، فقال: عليك بابن عباس، ابن عباس علم وعمل، لكن في مجال العمل لا شك ابن عمر معدود من العباد، وسيأتي شيء من طريقته وعمله، قال: عليك بابن عباس، شهادة حق وإنصاف، فقال: ذلك رجل مالت به الدنيا ومال بها، يعني أنه ليس في زهده مثل ابن عمر، ولا يظن به أنه يزاول المنكرات، أو يأكل مشتبهات، أبداً، حَبر الأمة وترجمان القرآن، لكن عامة الناس ثقتهم بالعامل، فإذا رأوا من أهل العلم من يظهر عمله عليه على جوارحه وفي سرته وعلانيته يقتدون به.
قال -رحمه الله- بعد ذلك: "وهل أدرك من السلف الماضين الدرجات العلى إلا بإخلاص المعتقد، والعمل الصالح، والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا".
يعني كل شيء له ضريبة، توسعت في أمر الدنيا يكون على حساب الآخرة؛ لأنها ضرة، ومع ذلك {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}[(77) سورة القصص] لكن كم ممن يقال له هذا الكلام في وقتنا هذا؟ الناس بحاجة حتى من أهل العلم مع الأسف ومن طلابه أن يقال له: لا تنس نصيبك من الآخرة؛ لأنه وجد بعد انفتاح الدنيا، شاهدنا وسمعنا أشياء حتى من بعض من ينتسب إلى العلم شيء لا يخطر على البال، من الانصراف، وإن لم يكن من ذلك إلا انصراف القلب.
يعني إذا حدث، قصة حصلت هذه الأيام أن مجموعة صلوا صلاة الظهر وجهر الإمام وأمنوا، هؤلاء ماذا بقي للآخرة في قلوبهم؟! وسمع من يقول -وهو ساجد-: آمين، لا شك أن هذا سببه الانصراف عن الآخرة، والإقبال على الدنيا؛ لأن القلب ما يحتمل كل هذه الأمور إلا ممن وفقه الله -جل وعلا-.
فشخص من أهل الدنيا ويملك مليارات، يقول: دعانا في يوم من الأيام فإذا بمجلسه غاص بالناس، هل هم الأعيان؟ هل هم الوجهاء؟ هل هم الملأ من القوم؟ لا، كلهم فقراء، وبعد ذلك يجلس وبدون مبالغة، جلس نصفه خارج المجلس ونصفه داخل، متكئ على الباب، وهؤلاء الفقراء في صدر المجلس، ومع ذلك لما وضع الوليمة رفض أن يجلس معي، جلس معهم، وكان من عادته وديدنه أن يدخل المسجد يصلي العصر ولا يخرج إلا بعد صلاة العشاء، يعني هل الآخرة تعوقهم من تحصيل الدنيا؟ في سلف هذه الأمة أثرياء، ومع ذلك هم النجوم في العلم والعمل، وهذا لا يعوق، والدنيا لا تضر إلا لمن رأى أنه استغنى {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}[(6-7) سورة العلق] فإذا رأى في نفسه أنه استغنى الآن وقعت الهلكة، أما إذا كانت الدنيا تحت تصرفه، وفي يده لا في قلبه، فإن هذا نِعَم على نِعَم.
يقول -رحمه الله- في مقدمة كتابه آنف الذكر:
"وهل وصل الحكماء إلى السعادة العظمى إلا بالتشمير في السعي والرضا بالميسور، وبذل ما فضل عن الحاجة للسائل والمحروم".
ثم عاد بدأ بنا، قال: "وهل جامع كتب العلم إلا كجامع الفضة والذهب، وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما، وهل المغرم بحبها إلا ككانزهما".
ثم ذكر حديث أبي برزة إلى آخر كلامه -رحمه الله-.
جامع الكتب الذي يجمع من الكتب يملأ الدور بالكتب، لكنه لا يفيد منها، ولا يبذل منها، هذا لا شك أنه ككانز الذهب والفضة. وابن خلدون يقول: "أن كثرة التصانيف من عوائق التحصيل".
وهذا شيء مجرب، جربانه وجربه غيرنا، يعني يحتار الإنسان إذا أراد أن يختار تفسير آية من بين خمسين تفسير، أو ينظر شرح حديث من بين عشرات الشروح، يحتار قبل أن يبدأ، فإذا بدأ قال: لعل فلان تكلم أكثر، ولعل علان تكلم أكثر، ثم يضيع الوقت بمثل هذا، وحدث ولا حرج عما يضيع من الأوقات في ترتيبها، ترتيب هذه الكتب، وتنظيفها، ونقلها من مكان إلى مكان، هذا لا شك أنه شيء عائق عن التحصيل.
وأدركنا شيوخنا ممن ليس لديهم من الكتب إلا الأصول المهمة في ثلاثة دواليب لا تزيد عن ثلاثمائة مجلد، أربعمائة مجلد، ومع ذلكم إذا فُتح أي مجلد وجد عليه أثر، أثر قراءة، وأثر في العلم وأثر في العمل، فليس جمع الكتب مما يمدح به الشخص إذا لم يكن ممن يستفيد من هذه الكتب، ويعمل بما علم، ولذا قال: "هل جامع الكتب إلا كجامع الذهب والفضة".
أثر هذه الكتب إذا دخلت في القلب، ولم يفد منها الفائدة المرضية، كأثر الذهب والفضة، يعني شخص من الأشخاص منهوم بالكتب، ومع ذلك قد تضيع عليه صلاة الجماعة بسبب الكتب، يعني عنده موعد مع شخص عنده كتب....... يبيع، ثم بعد ذلك يمتطي السيارة مع الأذان ليصلي عنده، فإذا وصل إليه فإذا الجماعة قد صلوا، وهذا كثير، لماذا؟ لأن الوسائل حلت محل الغايات عندنا، وقاصر النظر عن إدراك المطلوب، ولا أريد أن أطيل في مثل هذا؛ لأنها حقيقة مرة نعاني منها، ويعاني غيرنا منها، فالقصد القصد، ولا يعني هذا أن طالب العلم لا يشتري كتب، يشتري ما يحتاجه من الكتب، والكتب متوفرة وميسورة -ولله الحمد-، لكن إما أن يجمع كل كتاب وكل طبعة من كل كتاب! هذا لا شك أنه يعوق عن التحصيل.
ثم ذكر -رحمه الله- حديث أبي برزة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟)) وهذا هو الشاهد ((وعن علمه ماذا عمل به؟)) فهو سوف يسأل عن هذا العلم الذي نام عنه، وكتمه عن الناس، وسئل فلم يجب، ولم يبذله، وقد جاء في الخبر: ((ابن آدم علم مجاناً كما علمت مجاناً)) وكثيرٌ من أهل العلم يتورع عن بذله، وليس هذا بورع، نعم قد يكون بالنسبة لبعض الناس الذي لا يملك نفسه عن قول: لا أعلم، قد يكون عليه خطر، قد يسأل عما لا يحسن ولا يتقن، ثم بعد ذلك تصاب المقاتل، على الإنسان أن يبذل، ولكن لا يبذل إلا ما يعلم، ولا يتشبع بما لم يعطَ.
قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل".
ولا شك أن العمل هو الذي يثبت العلم، ولذا لو سألت شخصاً يبلغ من العمر خمسين سنة مثلاً، وسألته عن المناسك وقد حج في أول عمره، ما تجده يدرك من أحكام المناسك إلا الشيء اليسير، لكنه يدرك أحكام الصلاة، لا سيما إذا كان لديه أهلية، ومن أهل العلم من أخطأ في كثير من أحكام المناسك؛ لأنه لم يحج، ومنهم من حج بعد تأليفه في المناسك فأحرق ما ألفه؛ لأنه لم يعمل بهذا العلم، ثم لما عمل استنار له الطريق، واتضح له الحق.
وعن الحسن -رضي الله عنه- قال: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني"، يعني الإنسان يدعي ويتشبع ويتصنع لكن هذا لا يكفي "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال".
وعن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مثل العالم الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج، يضيء للناس ويحرق نفسه)) والحديث لا بأس به جيد.
((مثل العالم الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج، يضيء للناس ويحرق نفسه)) والنصوص في هذا كثيرة جداً.
ولو لم يكن إلا حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، وفيهم العالم الذي يعلم الناس، أفنى عمره في العلم والتعليم، ثم بعد ذلك في النهاية يكون من أول من تسعر بهم النار، وإنما يعلم ليقال: عالم، نسأل الله السلامة والعافية.
فالإخلاص لله -جل وعلا- في العلم أمرٌ لا بد منه، بل هو من أول شروطه، فالعلم من أمور الآخرة المحضة، التي لا تقبل التشريك، وإذا قلنا العلم فالمراد به العلم بالكتاب والسنة، وما يعين على فهم الكتاب والسنة.
مسألة الإكثار من العبادة:
المسألة التي يشار إليها قبل الدخول في الموضوع، مسألة الإكثار من التعبد، من أهل من قال: أنه بدعة، فمثلاً الصلاة لو تتبعنا مما نُص عليه من فعله -عليه الصلاة والسلام- غير الأدلة الإجمالية، وجدناه يصلي الفرائض سبع عشرة ركعة، والرواتب والوتر، فيكون المجموع أربعين، منهم من قال: من زاد على ذلك دخل في حيز الابتداع، لكن هذا الكلام ليس بصحيح؛ لأن النصوص العامة والخاصة من فعله -عليه الصلاة والسلام- تدل على خلاف ذلك، نعم من تعبد لله -جل وعلا- بما لم يشرعه مما لم يسبق له شرعية من كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- لا شك أنه مبتدع؛ لأن البدعة العمل الذي يتعبد به مما لم يسبق له شرعية من الكتاب والسنة، والبدع كلها ضلالة، وإذا اشتغل أحدٌ ببدعة، لا شك أنه على حساب سنة. فليحرص الإنسان على تحرير المقام، فلا يفرط بسنة، ولا يرتكب بدعة؛ لأن بعض الناس قد يقصر في هذا الباب علمه وفهمه، ويزيد حرصه، ثم بعد ذلك يدخل في حيز البدع وهو لا يشعر، ومر بنا ومر بغيرنا أننا قد نتذكر ما حفظناه من بعض الأذكار الصحيحة، فلا نذكر، وقد نذكر بعضها ونترك بعضها، فإذا تأملنا أننا زدنا في أذكار عن الحد المشروع مثلاً من الأذكار المحددة، قد يكون زدنا فيها، ثم بعد ذلك لم نوفق للأذكار الثابتة.
فعلى الإنسان أن يحرص أن لا يعمل عملاً إلا وعنده فيه أصل من الكتاب والسنة، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قبل ذلك ما ثبت أصله في الكتاب والسنة كالصلاة والذكر والتلاوة والصيام والحج والإنفاق في سبيل الله، والجهاد والدعوة وغير ذلك، هذا كلها أصولها ثبتت في الكتاب والسنة، فالإكثار منها على الهيئة المشروعة في الأوقات التي جاءت من قبل الشارع، جاء عدم المنع منها ليس ببدعة، للأدلة العامة والخاصة التي تذكر، بل الممنوع من ذلك كما تقدم في حد البدعة ما لم يسبق له شرعية من كتاب أو سنة.
الاجتهاد في التعبد حسب الطاقة ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، فقد قام -عليه الصلاة والسلام- في الليل حتى تفطرت قدماه، وصلى بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران بركعة واحدة، فماذا عن بقية الصلاة؟ ماذا عن الركوع والسجود؟ فإطالة الصلاة مطلوبة؛ لأنها ثابتة عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وكثرة الركعات أيضاً مطلوبة؛ لأنه ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- الإطلاق ((صلاة الليل مثنى مثنى)) وثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه أجاب من سأله مرافقته في الجنة فقال: ((أعني على نفسك بكثرة السجود)) وهذا يتطلب إكثار من الركعات، فالتطويل ثبت بفعله -عليه الصلاة والسلام-، والإكثار ثبت بقوله وحثه -صلى الله عليه وسلم-.
ثم يأتي من يأتي ويقول: أن الإكثار من التعبد بدعة، ما عرف عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قام ليلة كاملة، وهذا عن عائشة -رضي الله تعالى عنها-، مع أنه -عليه الصلاة والسلام- إذا دخلت العشر شد المئزر وأحيا الليل، فهذا وارد على هذا الحديث، فإذا دخل التخصيص بمثل هذا النص، عموم خبر عائشة أضعفه، هذا مقرر عند أهل العلم, وما دام ثبت أنه أحيا الليالي العشر، عشر رمضان، يدل على أن إحياء الليل ليس ببدعة، وقد عرف عن سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين فمن دونهم ممن يأتي ذكره في الأمثلة -إن شاء الله تعالى- هذا بالنسبة للصلاة.
الصيام ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه يصوم حتى يقال: لا يفطر، وثبت عنه أنه كان يفطر حتى يقال: أنه لا يصوم، وكان يصوم من الأشهر الحرم، يصوم في المحرم، ويصوم من شعبان أكثره، فلا يقال: أن مثل هذا العلم بدعة، مع قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((أفضل الصلاة صلاة داود، وأفضل الصيام صيام داود، ينام نصف الليل، ثم يقوم ثلثه، ثم ينام سدسه)) بالنسبة للصيام يصوم يوماً ويفطر يوماً، ثم يأتي من يقول النبي -عليه الصلاة والسلام- نجزم أنه ما صلى يوم وأفطر يوم؛ لأنه ثبت أنه كان يصوم حتى يقال: لا يفطر، ويفطر حتى يقال: لا يصوم.
من كان وضعه في احتياج الناس إليه مثل حال الرسول -عليه الصلاة والسلام- يفاضل بين هذه العبادات، وأهل العلم يقررون أن العبادات المتعدية النفع مقدمة على العبادات الخاصة.
في مسلم عن عائشة أن النبي -عليه الصلاة والسلام- ما كان يصوم العشر، وثبت من حديث بعض أزواجه أنه كان يصوم العشر، فعائشة تذكر من حاله الغالب أنه كان لا يصوم العشر؛ لأنه مشغول بحاجات الناس. وأيضاً ثبت في الحديث الصحيح: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن خيرٌ وأحب إلى الله من هذه الأيام العشر)) ثم بعد ذلك ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)) فإذا ضممنا هذا الحديث إلى هذا الحديث، قلنا بمشروعية صيام العشر، وكونه -عليه الصلاة والسلام- لا يصوم العشر أحياناً مثل ما قال: ((عمرةٌ في رمضان تعدل حجة)) ومع ذلك ما ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه اعتمر في رمضان، هل نقول: أن العمرة في رمضان ليست مشروعة؟ يكفينا قوله -عليه الصلاة والسلام-.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد يترك العمل رأفة بأمته، خشية أن يفرض عليهم، لو تظافر قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((عمرة في رمضان تعدل حجة)) مع فعله، ماذا يكون الواقع؟ الآن الناس يموتون، يعتمر في رمضان أكثر من ملونين شخص، يجتمعون في ليلة واحدة، لو تظافر فعله مع قوله كيف يكون العمل؟ لكن من الناس من يقول: النبي -عليه الصلاة والسلام- ما اعتمر في رمضان، والحمد لله لنا أعمال بدائل، نقول: يكفينا ما ثبت من قوله -عليه الصلاة والسلام-.
لكن إذا عمل عملاً وندم عليه ولم يحثنا عليه، اقتدينا به في مثله، فلا نكلف أنفسنا في مثل هذا العمل، كدخول الكعبة مثلاً، ما ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- حثنا على دخولها، لكنه دخلها، ومع ذلك ندم على ذلك؛ لئلا يشق على أمته.
فانظروا لما لم يتظافر القول مع العمل صار الأمر أقل، ولو تظافر القول مع العمل في عمرة رمضان لوجدنا الزحمة التي لا تطاق، فبعض الناس يتشبث بكونه -عليه الصلاة والسلام- لم يعتمر في رمضان، ويتسلى بذلك.
تقول عائشة -رضي الله عنها-: "وأيكم يطيق ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطيق؟!" بذله وتضحيته في الصلاة والصيام والدعوة والجهاد شيء لا يطاق، لكن تجد مثلاً بعض الناس يذكر عنه في التلاوة أشياء، يذكر عنه ما يتعجب منه في التلاوة، لماذا؟ لأنه صارت على حساب أعمال أخرى، وبعضهم يذكر عنه على ما سيأتي من ذكر الأمثلة من الصلاة ما لا يخطر على البال، وصار هذا على حساب عبادات أخرى، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يفاضل، ويوازن بين هذه العبادات، ووقته مشغول ومعمور بالطاعة، والتبليغ ودعوة الناس إلى الخير. تقول عائشة: "وأيكم يطيق ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطيق؟!" ومحل ذلك كما قال ابن حجر: "ما لم يفضِ إلى الملل" لما جاء في الحديث الصحيح: ((أكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا)) وأخرج البخاري من حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً: ((عليكم ما تطيقون من الأعمال، فإن الله لا يمل حتى تملوا)) وجاء في الحديث الصحيح: ((أفضل الأعمال ما داوم عليها صاحبه)).
بعده -عليه الصلاة والسلام- وجد الاجتهاد في العبادة من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم من غير نكير، فلا يمكن أن يوصف مثل هذا بالابتداع؛ لأنه عمل سلف هذه الأمة، وخير هذه الأمة، اقتداءً بنبيها -عليه الصلاة والسلام-، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: ((الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر)) فجاء الحث على الذكر والتلاوة في الكتاب والسنة، قال الله -جل وعلا-: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[(35) سورة الأحزاب] وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((سبق المفردون... الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)) وجاء الترغيب بتلاوة القرآن، ففي كل حرفٍ من القرآن عشر حسنات، عبادات أجورها لا يمكن أن يحاط به، ممن لا تنفذ خزائنه، ومع ذلك لا تكلف شيئاً، والمحروم لا تنفعه مثل هذه النصوص، إلا أن الله -جل وعلا- قال: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}[(45) سورة ق] {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}[(17) سورة القمر] ما هو كل الناس، ولذلك تجد بعض الناس يصعب عليه أن يفتح المصحف، وتجده حافظ ومع ذلك لا يقرأ، ولا شك أن هذا حرمان، وبكل حرف عشر حسنات، والختمة الواحدة بأكثر من ثلاثة ملايين حسنة، يعني الجزء الواحد الذي يقرأ بربع ساعة مائة ألف حسنة.
وهذا أمرٌ في غاية اليسر، مصداقاً لقول الله -جل وعلا-: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}[(17) سورة القمر] يعني: الإنسان إذا جلس بعد صلاة الصبح ينتظر الشمس إلى أن ترتفع بإمكانه أن يقرأ القرآن في سبع، وهو مرتاح، وهذا لا يعوقه عن شيء من أعماله، لكن هذا الأمر يحتاج إلى شيء من المجاهدة، ثم بعد ذلك التلذذ كغيره من العبادات، وإلا فالأصل أن هذه العبادات تكاليف، ومما حفت به الجنة، والجنة حفت بالمكاره، يعني خلاف ما تشتهيه النفوس، فإذا جاهد نفسه، وعلم الله -جل وعلا- منه صدق الرغبة والنية أعانه، حتى تلذذ بذلك، وأثر عن السلف أنهم كابدوا قيام الليل، وما أشق قيام الليل على من لم يعتاده، تجده مستعد يجلس في القيل والقال إلى قرب الفجر، ثم بعد ذلك صراع مع نفسه، هل يوتر بركعة أو يقول الوتر سنة؟ ولئلا يشبه بالفرائض نتركه أحياناً، هذا شيء مجرب، وما كُره السهر والحديث بعد صلاة العشاء إلا لهذا الأمر؛ لأنه يعوق عن ذكر الله وعن الصلاة؛ لأنه على حساب الذكر، فإذا صلى العشاء ونام نام على خير، والصلاة كفرت ذنوبه ((الصلوات الخمس إلى الصلوات الخمس كفارات لما بينهما ما لم تغش كبيرة)) نام على ذنوب مكفرة، ولذا كان ابن عمر إذا تحدث بعد صلاة العشاء صلى قبل أن ينام، لينام عن صلاة.
هذا الحديث القيل والقال لا شك أنه يعوق صاحبه عن الذكر والتلاوة، ولذا نرى مع قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) بعض الناس يقول: الحج أربعة أيام، بالإمكان أن تضبط النفس ولا يتكلم بكلمة، لكن إذا كان قد عود نفسه على القيل والقال يستطيع أن يملك نفسه ثلاثة أيام؟ وبعض الناس يجاور في العشر الأواخر، ويجلس من صلاة العصر إلى صلاة المغرب في المسجد الحرام، فالمتوقع أنه ترك أهله وترك أمواله وجاور في هذه البقعة طلباً للثواب، والإكثار من العبادات، تجده يفتح المصحف إذا صلى العصر، ثم إذا قرأ صفحة أخذ يلتفت يميناً وشمالاً؛ لأنه ما تعرف على الله في الرخاء يعرفه في الشدة، ثم بعد ذلك إن رأى أحداً ممن يعرفه وإلا أطبق المصحف ثم يؤنبه ضميره لماذا أنا جئت؟ يفتح المصحف مرة ثانية، ثم يقوم من مكانه يبحث عمن يبادله الحديث، وتجد بعض الناس نظره في الساعة خشية أن يؤذن المغرب قبل أن يتم حزبه، هذا تعود في حال الرخاء، والله -جل وعلا- يقول: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}[(4) سورة الليل].
الذكر:
الذكر من أفضل العبادات، وذكر له ابن القيم فوائد عظيمة جداً في مقدمة الوابل الصيب، وهو لا يكلف شيئاً، سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر، يعني هذه تقال بدقيقة ونصف، ومن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كمن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، والمائة عشرة من ولد إسماعيل، مع ما فيها من حفظ ورفع درجات، وحط سيئات، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له إلى آخره مائة مرة بعشر دقائق.
والاستغفار شأنه عظيم، وجاء التنصيص عليه بالكتاب، وصحيح السنة، والإنسان تجده إما بالقيل والقال، أو بالسكوت، عرفنا أن هذا الشيء لا يكلف شيئاً، لكن على الإنسان أن يري الله -جل وعلا- من نفسه خيراً، ويعزم، ويترك أو يسد منافذ الشيطان إلى قلبه ليوفق لمثل هذه الأعمال.
النبي -عليه الصلاة والسلام- كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ((أرحنا يا بلال بالصلاة)) كثير من المصلين الآن يصلي خلف إمامٍ لا تزيد صلاته على خمس دقائق، ومع ذلك ينظر في الساعة في كل ركن من أركان الصلاة، ويراوح بين رجليه، وثبت من خلال التجربة -من أهل العلم والعلم- أن الذي يتعامل مع الله -جل وعلا- هو القلب، فشخصٌ يناهز المائة، يصلي خلف شخصٍ قراءته عادية، يقرأ في كل تسليمة بجزء من القرآن، ويلوم الإمام لما استعجل في التسليمة الأخيرة، وشباب في العشرين والخمسة والعشرين والثلاثين ممن يطلب العلم، ويحرص على طلب العلم، تجده إذا صلى الإمام التسليمة من التراويح بعشر دقائق ضاق به ذرعاً، وبحث عن مسجدٍ آخر، والمساجد تمتلئ من طلاب العلم إذا كان الإمام لا يطيل القراءة، والله المستعان.
وقال ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه-: "صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى هممت بأمرِ سوء، قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه" وهذا الحديث في الصحيحين.
ومرض -عليه الصلاة والسلام- ليلةً فلما أصبح قيل: يا رسول الله: "إن أثر الوجع عليك لبين، فقال: ((إني علا ما ترون -بحمد لله- قد قرأت السبع الطوال)) نحن إذا زكم الإنسان وأصيب برشح، أول ما يتبادر إلى ذهنه حديث أن الإنسان إذا مرض أو سافر يكتب له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً، من أجل أيش؟ ألا يصلي، ولا يقرأ، يمكن ولا يذكر الله -جل وعلا-.
وكان مع ذلك -عليه الصلاة والسلام- يخشع في صلاته ويبكي، فعن عبد الله بن الشخير -رضي الله تعالى عنه- قال: "أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء" وربما قام ليلة بآية واحدة، فعند ابن خزيمة وابن ماجه بسند لا بأس به أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قام بآية حتى أصبح يرددها" قوله -جل وعلا-: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[(118) سورة المائدة].
الله -جل وعلا- أمر نبيه -عليه الصلاة والسلام- إذا فرغ أن ينصب {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[(7-8) سورة الشرح] قال ابن عباس: "فإذا فرغت من صلاتك فانصب" أي بالغ في الدعاء وسله حاجتك، وقال ابن مسعود: "إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل" وقال الحسن وقتادة: "إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب لعبادة ربك" فهو مأمور بهذا، والنصب هو التعب، ولا يمكن النصب والتعب بأداء أربعين ركعة في اليوم والليلة، بل لا بد من المزيد على ذلك في الكم والكيف؛ ليتحقق النصب المأمور به. يتبع الموضوع ان شاء الله