صقر الاسلام
18 / 12 / 2007, 48 : 03 AM
http://www.almorattal.net/images/basmla.gif
الحمد لله رب العالمين ونصلي ونسلم على إمام الدعاة وسيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين وبعد ، فضيلة الشيخ محمد بن علي السعوي ابلى بلاءً حسنا حين تطرق بمقاله الرائع عن فضل الاحسان الى الام فلبحر اخوتي بين ثنايا هذا المقال الجميل ونستفيد من كل كلمة فيه :
من الإحسان الذي يحب اللهُ فاعلَه الإحسانُ بالوالدين وخصوصاً عند الكبر ، قال تعالى : (( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا )) ( 23 24 ) سورة الإسراء
والإحسان بالوالدين يتضمنُ كلَ عمل من أعمال البر نحو الوالدين مع البعد عن كلِ ما يؤذيهما ، وبرهما يعتبر من أحب الأعمال إلى الله تعالى ، وأفضلِها ، سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله ، وفي لفظ : أي العمل أفضل قال : الصلاة على وقتها ثم قيل : أيٌ قال : بر الوالدين قيل : ثم أي قال : الجهاد في سبيل الله ، رواه البخاري ومسلم عليهما رحمة الله عن ابن مسعود رضي الله عنه .
فبر الوالدين مقدم حتى على الجهاد في سبيل الله ، مما يدل على عظيم حق الوالدين ، ليعلمَ الأولادُ فضلَ والدَيهم وقدرهما ، ولهذا جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال : ( أحي والداك قال نعم قال ففيهما فجاهد ) رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية لمسلم : ( أقبل رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله عز وجل ، فقال : فهل من والديك أحد حي ، قال : نعم بل كلاهما ، قال : فتبتغي الأجر من الله عز وجل ، قال : نعم ، قال : فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما ) .
لقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالأم أكثر مما أوصى بالأب وذلك لعظيم حقها على أولادها ، لكون عنائِها أكثر ومشقتِها أعظم ، مع ما تقاسيه من الحمل والوضع والرضاع ، ولذلك جعل لها ثلاثة أمثال ما للأب من البر وحسن الصحبة .جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من أحق الناس بحسن صحابتي ، قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أبوك " رواه البخاري . قال تعالى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } (14) سورة لقمان .
[ فمن كانت له أم فليتدارك ما بقي من أيامها لئلا يصبح يوماً فلا يجدُها ولا يجدُ ما يعوض عنها ، وإن كانت كبيرة السن أو مريضة أو كثيرة الطلبات ، فاذكر أيها المسلم أنها إن احتاجت إليك اليوم فلقد كنت في يوم أحوج إليها ، ولئن طَلبَتْ أن تقدم لها شيئاً من مالك ، فلقد قدمت لك من نفسها ومن جسدها ، وأنها حملتك في بطنها فكنت عضواً من أعضائها ، وقد تجدُ في الناس من يظهر لك من حبه أكثر مما تظهرُ الأم ويظهرُ الأب ، ولكن منهم من يحبك لجاهك ، أو لجمالك ، أو لمالك ، فإن ساءت الحال ، أو ذهب الجمال ، أو قل المال ، أعرض عنك ولم يعد يعرفك ، أما الذي يحبك لذاتك ، ويبقى على حبك مهما تبدلت الحال بك ، فهو أمك وأبوك لا تجد مثلَهما ] ) 1 ( .
إن بر الأم سبب لإجابة الدعاء ودخول الجنة ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ ، وَلَهُ وَالِدَةٌ ، وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ ، فَمُرُوهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ . وكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ : أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ ؟ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ ؟ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ لَكَ وَالِدَةٌ ؟ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ ، مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأبَرَّهُ ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ فَاسْتَغْفِرْ لِي ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ الْكُوفَةَ ، قَالَ أَلا أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا ؟ قَالَ أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ )) رواه مسلم . ونقل ابن الجوزي في صفة الصفوة ( 3 / 54 ) عن أصبغَ بن زيد قال : (( إنما منع أويسًا أن يقدم على النبي صلى الله عليه وسلم برُه بأمه (( .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( دخلت الجنة فسمعت قراءة فقلت : من هذا ؟ فقيل : حارثةُ بنُ النعمان ، فقال : النبي صلى الله عليه وسلم : كذلكم البر ، وكان أبر الناس بأمه ) رواه الإمام أحمد وغيره .
وقالت عائشة رضي الله عنها : [ كان رجلان من أصحاب النبي صلى عليه وسلم أبرَ من كان في هذه الأمة بأمِهِما : عثمانُ بن عفان ، وحارثةُ بن النعمان رضي الله عنهما ، أما عثمان فإنه قال : ما قدرت أتأمل وجه أمي منذ أسلمت ، وأما حارثة فكان يطعم أمه بيده ، ولم يستفهمها كلاماً قطُ تأمر به ، حتى يسأل من عندها بعد أن يخرج ماذا قالت أمي .
ولازم أبوهريرة رضي الله عنه أمه ولم يحج حتى ماتت . ) 2 (
صور من بر السلف بالأم
لقد كان السلف الصالح يجتهدون في الإحسان بوالدِيهم وخصوصاً أمهاتِهم ، فكانوا يستشيرونهن ، ويستأذنونهن في كل شأن من شئونهم ، ويسمعون كلامهن ، حتى وإن كانوا علماء ، ولذلك بارك الله في حياتهم ، وبارك في علمهم بعد مماتهم ، بسبب رضا والديهم عنهم .كان أبو حنيفة رحمه الله باراً بوالديه ، وكان يدعو لهما ، ويستغفر لهما مع شيخة حماد ، وكان يتصدق كل شهر بعشرين ديناراً عن والديه . قال أبو يوسف رحمه الله : كان أبو حنيفة يحمل والدته على حماره إلى مجلس عمرَ بنِ ذر كراهة أن يرد قولها ، وقال أبو حنيفة : ربما ذهبتُ بها إلى مجلسه وربما أمرتني أن أذهب إليه وأسألَه عن مسألة فآتيه وأذكرُها له وأقول له : إن أمي أمرتني أن أسألك عنها ، فيقول : وأنت تسألني عن هذا ؟ فأقول : هي أمرتني فيقول قل لي ، كيف هو : يعني الجواب ، حتى أخبرك ، فاخبره بالجواب ، ثم يخبرني به ، فآتيها وأخبرها عنه بما قال .
وقال عبدالله بن جعفر المروزي رحمه الله : سمعت بنداراً رحمه الله يقول : أردتُ الخروج يعني لطلب العلم ، فمنعتني أمي فأطعتها فبورك لي فيه ، قال : فجمع حديث البصرة ولم يرحل براً بأمه ثم رحل بعدها () .
وقال جعفر الخلدي :كان الأبار من أزهد الناس ، استأذن أمه في الرحلة لطلب العلم إلى قتيبة في خراسان ، فلم تأذن له ، ثم ماتت فخرج حتى وصل بلخ ، وقد مات قتيبة ، فكانوا يعزونه على هذا ، فقال : هذا ثمرة العلم إني اخترت رضا الوالدة () .
البِرّ والعقوق دَينٌ ووفاء أن البِرّ والعقوق دَينٌ ووفاء ، فإذا أطعت أيها المسلم : والديك أطاعك أولادك ، وإذا أكرمت والديك أكرمك أولادك ، وضي الله عنك ، وبالعكس ، إذا توليت عن والديك وأعرضت عنهما ، سخط الله عليك ، وقد يسلّط عليك من ذريتك من لا يراعي فيك عهداً ، ولا يحفظ لك وُدّاً ، ولا يقيم لك وزنًا ، ولا يعرف لك حق أبوّة ولا واجب بنوّة ، وقد جاء في أثر فيه مقال ( بَرُّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم ) . ( رواه الطبراني في الأوسط ، وفيه خالد بن زيد العمري ، وهو كذاب ) مجمع الزوائد للهيثمي ( 8 / 81 ( .
أيها المسلم : إحذر عقوبة الله نتيجة لعقوقك . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل الذنوب يؤخر الله ما شاء منها إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين ، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات ) رواه مسلم .
وخصوصاً أمك أيها المسلم ، فلقد كانت تحنو عليك صغيراً وترجو نفعك كبيراً ، فلما كَبُرْتَ أسأت إليها مراراً ، وهي تدعو لك بالتوفيق سِراً وجهاراً ، ولما احتاجت عند الكبر إليك ، جعلتها من أهون الأشياء عليك فقدمت عليها أهلك وأصحابك في الإحسان ، وقابلت أياديها بالنسيان ، وصَعُب عليها أمرها وهو يسير ، وطال عمرها عليك وهو قصير ، وهجرتها وما لها سواك نصير .
إن بعض الناس يسيء إلى أمه فيهملها ، ولا يسأل عنها ، ولا يجلس معها ، وربما يسمع ما يقال فيها من قِبَل زوجته وأولاده ، فيغضب عليها ويتمنى فِراقها ، وهذا مِن أعظم العقوق ، وتتضييع الحقوق والعياذ بالله ، مع أن الأم مهما أساء إليها ولدُها فإنها تظل تشفق عليه .
إن وجود الأم سبب للتوفيق وحصول الخير ، عن رفاعةَ بنِ إياس قال: رايتُ الحارث العُكْلي في جنازة أمه يبكي ، فقيل له : تبكي ؟ قال : ولمَ لا أبكي وقد أُغلق عني بابٌ من أبواب الجنة ؟وقال هشام بن حسّان : قلت للحسن : إني أتعلّم القرآن ، وإن أمي تنتظرني بالعشاء . قال الحسن : تعشّ العشاء مع أمك تقرُّ بهِ عينها ، أحبُّ إلى من حجّةٍ تحُجُها تطوُّعاً .
قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : إني لا أعلم عملاً أقرب من برّ الوالدة . وعن محمد بن سيرين قال : بلغت النخلة في عهد عثمان رضي الله عنه ألف درهم ، قال فعمد أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى نخلة فعرّقها فأخرج جُمّارها فأطعمه أمّه ، فقالوا : ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم والجُمّارُ لا يساوي درهمين ؟ قال : إن أمي سألتنيه ولا تسألني شيئاً أقدر عليه إلا اعطيتُها .
وكان طلق بن حبيب يُقبِّلُ رأس أمه ، وكان لا يمشي فوق ظهر بيتٍ وهي تحتَه إجلالاً لها .
أيها المسلم : يا من مات والداه أو أحدُهما وقد قصر ببرهما في حياتهما وندم على ما فرط ، وخاف من عاقبة العقوق ، إعلم ان باب الإحسان بهما مفتوح ، وبإمكانك أن تدرك شيئاً ولو قليلاً من البر بعد موتهما ، لعل الله تعالى أن يعفو عنك ويرضّي عنك والديك ، من ذلك : الدعاء لهما بالمغفرة والرحمة ، والصدقة عنهما ، وإنفاذ عهدهما ، وهي الوصية ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ، وإكرام أصدقائهما ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ : بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا ؟ قَالَ : نَعَمْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا ، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا ، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا ، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا )) رواه أبو داود وغيره .
فإن هذا الأعمالَ مما يفرح بها الوالدان بعد موتهما لتخفيف ما عليهما من سيئات ، وزيادة في الحسنات ، وقد ورد في بعض الأحاديث : (( إن العبد ليموت والداه أو أحدهما ، وإنه لهما لعاق فلا يزال يدعو لهما ، ويستغفر لهما ، حتى يكتبه الله بارّاً )) رواه البيهقي .
نسأل الله تعالى أن يسلك بنا سبيل المحسنين ، وأن يدخلنا في عباده الصالحين ، وأن يعفو عنا وعن والدينا وعن أولادنا أجمعين
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الحمد لله رب العالمين ونصلي ونسلم على إمام الدعاة وسيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين وبعد ، فضيلة الشيخ محمد بن علي السعوي ابلى بلاءً حسنا حين تطرق بمقاله الرائع عن فضل الاحسان الى الام فلبحر اخوتي بين ثنايا هذا المقال الجميل ونستفيد من كل كلمة فيه :
من الإحسان الذي يحب اللهُ فاعلَه الإحسانُ بالوالدين وخصوصاً عند الكبر ، قال تعالى : (( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا )) ( 23 24 ) سورة الإسراء
والإحسان بالوالدين يتضمنُ كلَ عمل من أعمال البر نحو الوالدين مع البعد عن كلِ ما يؤذيهما ، وبرهما يعتبر من أحب الأعمال إلى الله تعالى ، وأفضلِها ، سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله ، وفي لفظ : أي العمل أفضل قال : الصلاة على وقتها ثم قيل : أيٌ قال : بر الوالدين قيل : ثم أي قال : الجهاد في سبيل الله ، رواه البخاري ومسلم عليهما رحمة الله عن ابن مسعود رضي الله عنه .
فبر الوالدين مقدم حتى على الجهاد في سبيل الله ، مما يدل على عظيم حق الوالدين ، ليعلمَ الأولادُ فضلَ والدَيهم وقدرهما ، ولهذا جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال : ( أحي والداك قال نعم قال ففيهما فجاهد ) رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية لمسلم : ( أقبل رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله عز وجل ، فقال : فهل من والديك أحد حي ، قال : نعم بل كلاهما ، قال : فتبتغي الأجر من الله عز وجل ، قال : نعم ، قال : فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما ) .
لقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالأم أكثر مما أوصى بالأب وذلك لعظيم حقها على أولادها ، لكون عنائِها أكثر ومشقتِها أعظم ، مع ما تقاسيه من الحمل والوضع والرضاع ، ولذلك جعل لها ثلاثة أمثال ما للأب من البر وحسن الصحبة .جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من أحق الناس بحسن صحابتي ، قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أبوك " رواه البخاري . قال تعالى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } (14) سورة لقمان .
[ فمن كانت له أم فليتدارك ما بقي من أيامها لئلا يصبح يوماً فلا يجدُها ولا يجدُ ما يعوض عنها ، وإن كانت كبيرة السن أو مريضة أو كثيرة الطلبات ، فاذكر أيها المسلم أنها إن احتاجت إليك اليوم فلقد كنت في يوم أحوج إليها ، ولئن طَلبَتْ أن تقدم لها شيئاً من مالك ، فلقد قدمت لك من نفسها ومن جسدها ، وأنها حملتك في بطنها فكنت عضواً من أعضائها ، وقد تجدُ في الناس من يظهر لك من حبه أكثر مما تظهرُ الأم ويظهرُ الأب ، ولكن منهم من يحبك لجاهك ، أو لجمالك ، أو لمالك ، فإن ساءت الحال ، أو ذهب الجمال ، أو قل المال ، أعرض عنك ولم يعد يعرفك ، أما الذي يحبك لذاتك ، ويبقى على حبك مهما تبدلت الحال بك ، فهو أمك وأبوك لا تجد مثلَهما ] ) 1 ( .
إن بر الأم سبب لإجابة الدعاء ودخول الجنة ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ ، وَلَهُ وَالِدَةٌ ، وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ ، فَمُرُوهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ . وكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ : أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ ؟ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ ؟ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ لَكَ وَالِدَةٌ ؟ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ ، مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأبَرَّهُ ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ فَاسْتَغْفِرْ لِي ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ الْكُوفَةَ ، قَالَ أَلا أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا ؟ قَالَ أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ )) رواه مسلم . ونقل ابن الجوزي في صفة الصفوة ( 3 / 54 ) عن أصبغَ بن زيد قال : (( إنما منع أويسًا أن يقدم على النبي صلى الله عليه وسلم برُه بأمه (( .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( دخلت الجنة فسمعت قراءة فقلت : من هذا ؟ فقيل : حارثةُ بنُ النعمان ، فقال : النبي صلى الله عليه وسلم : كذلكم البر ، وكان أبر الناس بأمه ) رواه الإمام أحمد وغيره .
وقالت عائشة رضي الله عنها : [ كان رجلان من أصحاب النبي صلى عليه وسلم أبرَ من كان في هذه الأمة بأمِهِما : عثمانُ بن عفان ، وحارثةُ بن النعمان رضي الله عنهما ، أما عثمان فإنه قال : ما قدرت أتأمل وجه أمي منذ أسلمت ، وأما حارثة فكان يطعم أمه بيده ، ولم يستفهمها كلاماً قطُ تأمر به ، حتى يسأل من عندها بعد أن يخرج ماذا قالت أمي .
ولازم أبوهريرة رضي الله عنه أمه ولم يحج حتى ماتت . ) 2 (
صور من بر السلف بالأم
لقد كان السلف الصالح يجتهدون في الإحسان بوالدِيهم وخصوصاً أمهاتِهم ، فكانوا يستشيرونهن ، ويستأذنونهن في كل شأن من شئونهم ، ويسمعون كلامهن ، حتى وإن كانوا علماء ، ولذلك بارك الله في حياتهم ، وبارك في علمهم بعد مماتهم ، بسبب رضا والديهم عنهم .كان أبو حنيفة رحمه الله باراً بوالديه ، وكان يدعو لهما ، ويستغفر لهما مع شيخة حماد ، وكان يتصدق كل شهر بعشرين ديناراً عن والديه . قال أبو يوسف رحمه الله : كان أبو حنيفة يحمل والدته على حماره إلى مجلس عمرَ بنِ ذر كراهة أن يرد قولها ، وقال أبو حنيفة : ربما ذهبتُ بها إلى مجلسه وربما أمرتني أن أذهب إليه وأسألَه عن مسألة فآتيه وأذكرُها له وأقول له : إن أمي أمرتني أن أسألك عنها ، فيقول : وأنت تسألني عن هذا ؟ فأقول : هي أمرتني فيقول قل لي ، كيف هو : يعني الجواب ، حتى أخبرك ، فاخبره بالجواب ، ثم يخبرني به ، فآتيها وأخبرها عنه بما قال .
وقال عبدالله بن جعفر المروزي رحمه الله : سمعت بنداراً رحمه الله يقول : أردتُ الخروج يعني لطلب العلم ، فمنعتني أمي فأطعتها فبورك لي فيه ، قال : فجمع حديث البصرة ولم يرحل براً بأمه ثم رحل بعدها () .
وقال جعفر الخلدي :كان الأبار من أزهد الناس ، استأذن أمه في الرحلة لطلب العلم إلى قتيبة في خراسان ، فلم تأذن له ، ثم ماتت فخرج حتى وصل بلخ ، وقد مات قتيبة ، فكانوا يعزونه على هذا ، فقال : هذا ثمرة العلم إني اخترت رضا الوالدة () .
البِرّ والعقوق دَينٌ ووفاء أن البِرّ والعقوق دَينٌ ووفاء ، فإذا أطعت أيها المسلم : والديك أطاعك أولادك ، وإذا أكرمت والديك أكرمك أولادك ، وضي الله عنك ، وبالعكس ، إذا توليت عن والديك وأعرضت عنهما ، سخط الله عليك ، وقد يسلّط عليك من ذريتك من لا يراعي فيك عهداً ، ولا يحفظ لك وُدّاً ، ولا يقيم لك وزنًا ، ولا يعرف لك حق أبوّة ولا واجب بنوّة ، وقد جاء في أثر فيه مقال ( بَرُّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم ) . ( رواه الطبراني في الأوسط ، وفيه خالد بن زيد العمري ، وهو كذاب ) مجمع الزوائد للهيثمي ( 8 / 81 ( .
أيها المسلم : إحذر عقوبة الله نتيجة لعقوقك . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل الذنوب يؤخر الله ما شاء منها إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين ، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات ) رواه مسلم .
وخصوصاً أمك أيها المسلم ، فلقد كانت تحنو عليك صغيراً وترجو نفعك كبيراً ، فلما كَبُرْتَ أسأت إليها مراراً ، وهي تدعو لك بالتوفيق سِراً وجهاراً ، ولما احتاجت عند الكبر إليك ، جعلتها من أهون الأشياء عليك فقدمت عليها أهلك وأصحابك في الإحسان ، وقابلت أياديها بالنسيان ، وصَعُب عليها أمرها وهو يسير ، وطال عمرها عليك وهو قصير ، وهجرتها وما لها سواك نصير .
إن بعض الناس يسيء إلى أمه فيهملها ، ولا يسأل عنها ، ولا يجلس معها ، وربما يسمع ما يقال فيها من قِبَل زوجته وأولاده ، فيغضب عليها ويتمنى فِراقها ، وهذا مِن أعظم العقوق ، وتتضييع الحقوق والعياذ بالله ، مع أن الأم مهما أساء إليها ولدُها فإنها تظل تشفق عليه .
إن وجود الأم سبب للتوفيق وحصول الخير ، عن رفاعةَ بنِ إياس قال: رايتُ الحارث العُكْلي في جنازة أمه يبكي ، فقيل له : تبكي ؟ قال : ولمَ لا أبكي وقد أُغلق عني بابٌ من أبواب الجنة ؟وقال هشام بن حسّان : قلت للحسن : إني أتعلّم القرآن ، وإن أمي تنتظرني بالعشاء . قال الحسن : تعشّ العشاء مع أمك تقرُّ بهِ عينها ، أحبُّ إلى من حجّةٍ تحُجُها تطوُّعاً .
قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : إني لا أعلم عملاً أقرب من برّ الوالدة . وعن محمد بن سيرين قال : بلغت النخلة في عهد عثمان رضي الله عنه ألف درهم ، قال فعمد أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى نخلة فعرّقها فأخرج جُمّارها فأطعمه أمّه ، فقالوا : ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم والجُمّارُ لا يساوي درهمين ؟ قال : إن أمي سألتنيه ولا تسألني شيئاً أقدر عليه إلا اعطيتُها .
وكان طلق بن حبيب يُقبِّلُ رأس أمه ، وكان لا يمشي فوق ظهر بيتٍ وهي تحتَه إجلالاً لها .
أيها المسلم : يا من مات والداه أو أحدُهما وقد قصر ببرهما في حياتهما وندم على ما فرط ، وخاف من عاقبة العقوق ، إعلم ان باب الإحسان بهما مفتوح ، وبإمكانك أن تدرك شيئاً ولو قليلاً من البر بعد موتهما ، لعل الله تعالى أن يعفو عنك ويرضّي عنك والديك ، من ذلك : الدعاء لهما بالمغفرة والرحمة ، والصدقة عنهما ، وإنفاذ عهدهما ، وهي الوصية ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ، وإكرام أصدقائهما ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ : بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا ؟ قَالَ : نَعَمْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا ، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا ، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا ، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا )) رواه أبو داود وغيره .
فإن هذا الأعمالَ مما يفرح بها الوالدان بعد موتهما لتخفيف ما عليهما من سيئات ، وزيادة في الحسنات ، وقد ورد في بعض الأحاديث : (( إن العبد ليموت والداه أو أحدهما ، وإنه لهما لعاق فلا يزال يدعو لهما ، ويستغفر لهما ، حتى يكتبه الله بارّاً )) رواه البيهقي .
نسأل الله تعالى أن يسلك بنا سبيل المحسنين ، وأن يدخلنا في عباده الصالحين ، وأن يعفو عنا وعن والدينا وعن أولادنا أجمعين
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم