ملتقى أهل العلم - الثالوميد الدواء الكارثة واعتذار تأخر نصف قرن

الجمعة 31 أغسطس نقلت رسائل الإعلام مشهدا أعاد إلى الأذهان تداعيات كارثة إنسانية راح ضحيتها عدد تجاوز العشرين ألفا من الأطفال الذين ولدوا بلا أطراف إلى جانب الآلاف من حالات الإجهاض. عقار التالوميد كان وراء تلك الأحداث الموجعة والذى أنتجته شركة ألمانية وروجت له بكثافة كعلاج لأحاسيس القىء التى تنتاب المرأة الحامل فى الصباح ومهدئ يمهد لنوم عميق.

بعد خمسين عاما من الصمت جاء اعتذار شركة الدواء الألمانية فى حديث قصير وجهته للعالم والأحياء من الضحايا فهل يقبل العالم والضحايا الاعتذار الذى تأخر نصف قرن من الزمان؟

الثالوميد قصة تستحق الرواية

تابعت العيون على شاشات تليفزيون العالم هذا الأسبوع هارلدستوك رئيس مجلس إدارة شركة الدواء العملاقة جرونيثال Haraald Stock CEO of Grumenthal Group وهو يستجمع شجاعته وكل ما استطاع أن يرسم من ملامح الأسى على وجهه ويتقدم فى وقار لنزيح الستار عن تمثال برونزى فى مقر الشركة بستولبرج ألمانيا. التمثال لقدمين أحدهما فارغ بينما على الآخر تجلس طفلة بلا ذراعين رمز لتلك الذكرى الأليمة التى يمر عليها هذا الشهر خمسون عاما.

«دعونى أعبر لكم جميعا عن مدى أسفنا العميق عما حدث. علكم تتفهمون الصمت الذى استمر خمسين عاما. لقد كان تعبيرا عن صدمة هائلة ألمت بنا.

عميق وصادق مواساتنا للضحايا ولعائلاتهم».

لم يكن رد الفعل المتأخير فيما يبدو كافيا للأحياء من الضحايا الذين تعالت صيحاتهم مستنكرة ما وصفه أحدهم بالنكتة السخيفة غير المقبولة.

لم يكن رد فعل الأحياء من الضحايا وعائلاتهم وأصدقائهم الرافض لذلك الأسف شعور يخصهم وحدهم إنما كان شعورا عاما انتاب العالم.

رغم أن الشركة الألمانية خلال الخمسين عاما التى مضت قد دفعت تعويضات تزيد على 500 مليون يورو للضحايا إلا أنها دفعتها كلها بصورة ودية بعيدا عن المحاكم. الأمر الذى اعتبره الضحايا عنادا من قبل الشركة وعدم اعتراف جدى بخطئها الفادح فى الترويج للثالوميد دون اعتبار لاختبارات سلامته قبل طرحه للاستعمال.

كيف بدأت القصة؟

بدأت قصة الثالوميد Thalomide فى أواخر الخمسينيات فى معامل الشركة الألمانية لإنتاج الأدوية Grunenthol بتجارب أولية عكف عليها صيدلى عضو سابق فى الحزب النازى لإنتاج عقار مهدئ.

حينما اكتملت الصيغة النهائية للدواء طرحته الشركة للتداول والاستعمال فى أول أكتوبر 1957.

صاحبت ظهور الدواء ضجة تسويقية ضخمة قامت بها الشركة فقدمته للعالم على أنه الدواء المعجزة. يقاوم الأرق ويساعد على نوم هادئ، يقضى على تلك الأحاسيس الصباحية المزعجة للحامل والرغبة فى القىء دون أن يؤثر على حملها.

من المعروف أن معظم الأدوية لها أثر على جنين الحامل إذا تعبر إليه من دم الأم عبر المشيمة لذا فالحرص فى تناول أى دواء كان حتى الفيتامينات أمر واجب وملزم.

لم تكتف الشركة بحملات التسويق والترويج للدواء المعجزة فى الإعلام والمؤتمرات العلمية بل قدمت منه عينات مجانية للعيادات العامة والمستشفيات والأطباء لتعم الفائدة!

أقبلت الدول على إجازته بعد أن أجازته ألمانيا بالطبع فتلتها النمسا وكندا وبريطانيا واستراليا واليابان وتبعتهم دول أوروبا. أما الولايات المتحدة الأمريكية فرفضت تماما التصريح به وجاء فى تقرير هيئة الغذاء والدواء «أنه لا يمكن التصريح بتناوله للإنسان قبل استيفاء اختبارات سلامة لم تتوافر فيه».

كارثة الأطراف المفقودة؟

انتشر الدواء كالنار فى الهشيم حتى أنه كان يعبر الحدود إلى أمريكا مهربا. عرفته الحوامل فى أوروبا وكندا واستراليا واليابان كأول دواء يمكن استعماله بلا آثار جانبية يمكن معاناتها. حتى بدأت بوادر الكارثة. عشرات الأطفال كاملى النمو عند الولادة ناقصى الأطراف بلا عوامل وراثية واضحة يمكن أن تتسبب فى ذلك.

آلاف من حالات الإجهاض التلقائى بلا سبب يعلن عنها أو يبررها. حملت الصحف تلك الأنباء الكارثية وعشرات الصور للأطفال بلا أذرع أو أرجل. غياب أحد الأطراف أو غياب الأربعة أطراف معا كانت صور تنفطر لها القلوب بينما العالم يقف حائرا عاجزا عن التفسير.

حتى البلاد التى لم تجز الدواء مثل الولايات المتحدة ظهرت فيها تلك الصور المؤثرة لأطفال مقطعوعى الأوصال.

ظل العالم حائرا يتلفت فى ذعر باحثا عن سبب تلك الكارثة إلى أن نشرت الدورية العلمية المعروفة لانست (Lancet) خطابا مفتوحا من طبيب أطفال استرالى أشار فيه إلى علاقة محتملة بين ظاهرة غياب الأطراف لدى الأطفال حديثى الولادة وتناول أمهاتهن «للعقار المعجزة» الثالوميد.

ثبت صحة ملاحظة طبيب الأطفال الاسترالى عام 1961 (William Mc Bride) فنال عدة جوائز عالمية بغرض تكريمه بينما تم تكريم الطبيبة العاملة بهيئة الغذاء والدواء والتى رفضت التصريح بتداول الثالوميد فى الولايات المتحدة الأمريكية واستقبلها جون كيندى ليشكرها بحرارة.

وكان أن تقرر رصد جائزة سنوية باسمها France Kelsey تهدى لمن يماثلها شجاعة وأمانة من العاملين فى هيئة الغذاء والدواء (FDA).

هل انتهت القصة؟

توقف استعمال الدواء فى العالم. بدأت بريطانيا فى أوروبا بسحبه تماما من الصيدليات عام 1961 بينما كانت كندا آخر من تحرك فتم إيقافه فى مارس 1962.لم ينته الأمر عند هذا الحد فقد خلف الدواء الكارثى وراءه آلاف الضحايا فى العالم لا تخطئهم عين. كان وراء غياب أطرافهم بلا شك معاناة يومية دائمة لهم ولعائلاتهم. منهم من كسبوا تعاطف من حولهم فعاونوهم بمودة دائمة لكن منهم أيضا من تعرضوا لأقسى ألوان الإهمال أو قضاء أيامهم فى ملاجىء الأيتام والعجزة.

هناك أيضا من تطوعوا للدفاع عنهم فنشأ العديد من الجمعيات الأهلية التى تبنت قضيتهم العادلة وخاصمت الشركة الألمانية والحكومات قضائيا الأمر الذى دفع الحكومات لمحاولة تعويضهم ماديا وتوفير وسائل تعينهم على ما يعانون من إعاقة.

مازال الثالوميد يقاوم الزمن

رغم تحريم الثالوميد على المرأة الحامل من جراء ما ارتكب من جرائم إنسانية إلا أنه مازالت يستخدم فى حالات خاصة تستدعى الإشراف المباشر من الأطباء.

يستخدم الثالوميد فى أغراض مختلفة تماما عما اخترع من أجلها. يدخل الثالوميد فى بروتوكولات محدودة لعلاج السرطان من أنواع اليلوما Multiple Myloma.

أيضا فى علاج بعض المضاعفات التى يعانيها المصابون بالجذام وتظهر فى شكل جروح وتقرحات على الجلد.

لن تنتهى قصة الثالوميد بانقضاء الزمن أو وفاة آخر ضحاياه فالواقع أن من ضحاياه من سيظل العالم يذكرهم ليس بتلك الصورة الموجعة للطفل المعاق فاقد الأطراف إنما صور أخرى تعبر عن حب الإنسان للحياة وقدراته الخاصة على تحدى الإعاقة. ستظل موسيقى تونى ميلندس (Tony Melendes) على الجيتار تصدح رغم أنه يداعبه بقدميه بعد أن ولد بلا ذراعين. سيظل لصوت المذيع ألفين لو (Alvin law) الرحيم وقع لا يتبدد فى آذان مستمعيه فى برنامجه اليومى «صباح الخير لكم جميعا» ولا يعطى أى انطباع يذكر عن غياب أطرافه الأربعة.

إنها بلا شك قصة إنسانية تستحق الرواية.