أنت غير مسجل في ملتقى أهل العلم . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا
Google
 
تابعونا عبر تويتر تابعونا عبر فيس بوك

الإهداءات



ملتقى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ملتقى خاص بالموضوعات التي تخص الدعوة بكافه الأشكال كالاشرطة والفيديو .. ومواضيع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ورجال الحسبة وانجازاتهم .

« آخـــر الــمــواضــيــع »
         :: صلاة التراويح من مسجد شيخ الإسلام | ليبيا 16 رمضان 1445 هـ (آخر رد :شريف حمدان)       :: صلاة التراويح من مسجد شيخ الإسلام | ليبيا (آخر رد :شريف حمدان)       :: القارئ الشيخ رعد الكردي | صلاة التراويح ليلة 9 رمضان 1445 | مسجد الغانم والخرافي (آخر رد :شريف حمدان)       :: القارئ الشيخ رعد الكردي | صلاة التراويح ليلة 8 رمضان 1445 | مسجد الغانم والخرافي (آخر رد :شريف حمدان)       :: تلاوة من صلاة التراويح للدكتور المقرئ عبد الرحيم النابلسي بمسجد الكتبية الليلة 10 رمضان 1445هـ (آخر رد :شريف حمدان)       :: تلاوة ماتعة من صلاة التراويح للقارئ أحمد الخالدي (آخر رد :شريف حمدان)       :: صلاة العشاء والتراويح من مسجد الأندلس بالرباط للقارئ أحمد الخالدي سورة مريم (آخر رد :شريف حمدان)       :: الشفع والوتر ليلة 18 رمضان 1445 هجرية - للشيخ أحمد زين العابدين - بمسجد الرحمن البحري بنزالي جانوب (آخر رد :شريف حمدان)       :: صلاة التراويح ليلة 18 رمضان 1445 هجرية - للشيخ أحمد زين العابدين - بمسجد الرحمن البحري بنزالي جانوب (آخر رد :شريف حمدان)       :: صلاة العشاء ليلة 18 رمضان 1445 هجرية - للشيخ أحمد زين العابدين - بمسجد الرحمن البحري بنزالي جانوب (آخر رد :شريف حمدان)      

إضافة رد
كاتب الموضوع ابو الوليد البتار مشاركات 17 المشاهدات 10089  مشاهدة صفحة طباعة الموضوع | أرسل هذا الموضوع إلى صديق | الاشتراك انشر الموضوع
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 25 / 12 / 2008, 20 : 01 AM   المشاركة رقم: 11
المعلومات
الكاتب:
ابو الوليد البتار
اللقب:
موقوف


البيانات
التسجيل: 24 / 12 / 2007
العضوية: 11
العمر: 41
المشاركات: 0 [+]
بمعدل : 0 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 0
نقاط التقييم: 40
ابو الوليد البتار is on a distinguished road

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو الوليد البتار غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو الوليد البتار المنتدى : ملتقى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
افتراضي

1. أقنعه بخطئه ليقبل النصح ..
بعض الناس يشغل الآخرين بكثرة التوجيهات والملاحظات حتى يوصلهم إلى مرحلة الملل والاستثقال ..
خاصة إذا كانت النصائح والتوجيهات مبنية على آراء وأمزجة شخصية ..
كمن ينصحك بعد وليمة دعوت الناس إليها وتعبت في إعدادها وتعب معك أهلك ومالك ! ثم يقول لك هذا الناصح : يا أخي الوليمة ما كانت مناسبة .. وتعبك ذهب هدراً .. وكنت أظن أنها ستكون بمستوى أعلى من هذا .. فتقول لماذا ؟ فيقول : يا أخي أكثر اللحم كان مشوياً .. وأنا أحب اللحم المسلوق !!
والسلطات كانت حامضة بسبب اللليمون .. وأنا لا أحب ذلك ..
وكذلك الحلويات كانت مزينة بالكريمة .. وهذا يجعل طعمها غير مقبول ..
ثم يقول لك : وعموماً أكثر الناس أيضاً تضايقوا .. وما أكلوا إلا مجاملة .. أو لأنهم اضطروا إليه ..
فقطعاً .. أنت هنا ستنظر إلى هذا الناصح نظرة ازدراء وإعراض .. ولن تقبل منه نصيحته ؛ لأنها مبنية على آراء وأمزجة شخصية ..!!
قل مثل ذلك فيمن ينصح آخر حول طريقة تعامله مع أولاده .. أو مع زوجته .. أو طريقة بنائه لبيته .. أو نوع سيارته .. بناء على ذوقه الخاص ..
انتبه دائماً أن تكون هذه النصائح والانتقادات مبنية على مجرد أمزجة شخصية ..
نعم لو طلب رأيك .. أبده له واعرضه عليه .. أما أن تتكلم معه وتنصح كما تنصح المخطئ .. فلا ..
وأحياناً .. المنصوح لا يشعر أنه مخطئ فلا بد أن تكون حجتك قوية عند نصحه ..
جلس أعرابي صلف مع قوم صالحين .. فتكلموا حول بر الوالدين .. والأعرابي يسمع ..
فالتفت إليه أحدهم وقال : يا فلان .. كيف برك بأمك ..
فقال الأعرابي : أنا بها بار ..
قال : ما بلغ من برك بها ؟
قال : والله ما قرعتها بسوط قط !!
يعني إن احتاج إلى ضربها .. ضربها بيده أو عمامته .. أما السوط فلا يضربها به .. من شدة البرّ!!
فالمسكين ما كان ميزان الخطأ والصواب عنده مستقيماً ..
فكن رفيقاً لطيفاً .. حتى يقتنع الذي أمامك بخطئه ..
كان في عهده e امرأة من بني مخزوم تستلف المتاع من النساء .. وتتغافل عن رده فإذا سألوها عنه جحدته .. وأنكرت أنها أخذت شيئاً ..
حتى زاد أذاها في الجحد والسرقة فرفع أمرها إلى رسول الله e .. فقضى فيها أن تقطع يدها ..
فشق على قريش أن تقطع يدها وهي من قبيلة من كبار قبائل قريش ..
فأرادوا أن يكلموا النبي e ليخفف هذا الحكم إلى حكم آخر .. كجلد أو غرامة مال .. أو نحو ذلك ..
وكلما توجه رجل منهم لنقاش النبي e في هذا الأمر .. تردد ورجع ..
فقالوا لن يجترئ على رسول الله e إلا أسامة بن زيد .. حِبُّ رسول الله e وابن حِبِّه .. تربى هو وأبوه في بيت النبي e حتى صار كولده ..
فكلموا أسامة ..
أقبل أسامة إلى رسول الله e .. فرحب به وأجلسه عنده ..
جعل أسامة يكلم النبي e ليخفف الحكم .. ويبين أن هذه المرأة من أشراف الناس ..
وأسامة يواصل الكلام والنبي e يستمع .. كان أسامة يحاول إقناع النبي e برأيه ..
نظر النبي e إلى أسامة .. فإذا هو يحاول ويناقش .. بكل قناعة .. ولا يدري أنه يطلب منه ما لا يجوز ..!!
فتغير النبي وغضب e وكان أول كلمة قالها أن بين له خطأه فقال :
أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة ؟
فكأنه يبين سبب غضبه لأسامة .. وأن حدود الله تعالى التي أوجب على عباده إقامتها لا تجوز الشفاعة فيها ..
فانتبه أسامة .. وقال فوراً : استغفر لي يا رسول الله ..
فلما كان الليل .. قام e فخطب في الناس وأثنى على الله بما هو أهله .. ثم قال :
" أما بعد .. فإنما أهلك الذين من قبلكم :
أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه .. وإذا سرق فيهم الضعيف .. أقاموا عليه الحد ..
وإني والذي نفسي بيده .. لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها .."
ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها ..
قالت عائشة t : فحسنت توبتها بعدُ .. وتزوجت ..
وكانت تأتيني بعد ذلك .. فأرفع حاجتها إلى رسول الله e([1]) ..
أسامة t له مواقف متعددة مع رسول الله e .. كلها تفيض بالرحمة والتعامل الراقي ..
قال أسامة بن زيد : بعثنا رسول الله e إلى الحرقات من جهينة ..
فهزمناهم وخرجنا في آثارهم .. فلحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم ..
فلاذ منا بشجرة ..
فلما أدركناه .. ورفعنا عليه السيف .. قال : لا إله إلا الله ..
فأما صاحبي الأنصاري فخفض سيفه ..
وأما أنا فظننت أنه يقولها فرقاً من السلاح .. فحملت عليه فقتلته ..
فعرض في نفسي من أمره شيء .. فأتيت النبي e ..
فأخبرته ..
فقال لي : أقال لا إله إلا الله .. ثم قتلته ؟!
قلت : إنه لم يقلها من قِبَلِ نفسه .. إنما قالها فرقاً من السلاح ..
فأعاد علي : أقال لا إله إلا الله .. ثم قتلته ؟!
فهلا شققت عن قلبه .. حتى تعلم أنه إنما قالها فرقاً من السلاح ..
سكت أسامة .. فهو لم يشق عن قلب الرجل فعلاً ..!! لكنه كان في ساحة حرب .. والرجل مقاتل !!
فأعاد عليه e السؤال مستنكراً : أقال لا إله إلا الله .. ثم قتلته ؟!
يا أسامة قتلت رجلاً بعد أن قال لا إله إلا الله !! كيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة ؟!
فما زال يقول ذلك حتى وددت إني لم أكن أسلمت إلا يومئذ ([2]) ..
فتأمل كيف تدرج معه ببيان الخطأ وإقناعه به .. ثم وعظه ونصحه ..
ولأجل أن يقتنع المنصوح بما تقول .. ناقشه بأفكاره ومبادئه هو قدر المستطاع ..
نعم فكر من وجهة نظره ..
بينما رسول الله e في مجلسه المبارك .. يحيط به أصحابه ألأطهار ..
إذ دخل شاب إلى المسجد وجعل يتلتفت يميناً وشمالاً كأنه يبحث عن أحد ..
وقعت عيناه على رسول الله e .. فأقبل يمشي إليه ..
كان المتوقع أن يجلس الشاب في الحلقة ويستمع إلى الذكر .. لكنه لم يفعل ..!
إنما نظر الشاب إلى رسول الله e وأصحابه حوله .. ثم قال بكل جرأة :
يا رسول الله .. ائذن لي بـ .. بطلب العلم ؟!
لا .. لم يقلها .. ويا ليته قالها ..
ائذن لي بالجهاد .. لا .. ويا ليته قالها ..
أتدري ماذا قال ؟
قال : يا رسول الله .. ائذن لي بالزنا ..
عجباً !! هكذا بكل صراحة ؟!!
نعم .. هكذا : ائذن لي بالزنا ..
نظر النبي e إلى الشاب .. كان يستطيع أن يعظه بآيات يقرؤها عليه .. أو نصيحة مختصرة يحرك بها الإيمان في قلبه .. لكنه e سلك أسلوباً آخر ..
قال له e بكل هدوء : أترضاه لأمك ؟
فانتفض الشاب وقد مرَّ في خاطره أن أمه تزني .. فقال : لا .. لا أرضاه لأمي ..
فقال له e بكل هدوء : كذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم ..
ثم فاجأه سائلاً : أترضاه لأختك ؟!
فانتفض الشاب أخرى .. وقد تخيل أخته العفيفة تزني .. وقال مبادراً : لا .. لا أرضاه لأختي ..
فقال e : كذلك الناس لا يرضونه لأخواتهم ..
ثم سأله : أترضاه لعمتك ؟! أترضاه لخالتك ؟!
والشاب يردد : لا .. لا ..
فقال e : فأحب للناس ما تحب لنفسك .. واكره للناس ما تكره لنفسك ..
أدرك الشاب عند ذلك أنه كان مخطئاً .. فقال بكل خضوع :
يا رسول الله .. ادعُ الله أن يطهر قلبي ..
فدعاه e .. فجعل الشاب يقترب .. ويقترب .. حتى جلس بين يديه .. ثم وضع يده على صدره .. وقال :
اللهم اهد قلبه .. واغفر ذنبه .. وحصن فرجه ..
فخرج الشاب وهو يقول : والله لقد دخلت على رسول الله e .. وما شيء أحب إليَّ من الزنا .. وخرجت من عنده وما شيء أبغض إليَّ من الزنا ..
ثم انظر إلى استعمال العواطف .. دعاه .. وضع يده على صدره .. دعا له ..
يعني استعمل جميع الأساليب لإصلاح من أمامه .. بعدما جعله يقتنع بشناعة الفعل ليتركه عن قناعة .. فلا يفعله أبداً .. لا أمامه ولا خلفه ..

قاعدة ..
إذا شعر المخطئ ببشاعة خطئه اقتنع بحاجته للنصيحة .. وصار قبوله أكثر .. وقناعته أكبر ..

2. لا تلمني !! انتهى الأمر .. ؟
يظن بعض الناس أنه عندما يلوم الآخرين على أخطائهم التي ربما تكون لا ترى إلا بالمجهر ..
يظن أنه يتقرب منهم أكثر .. أو أنه يقوي شخصيته بذلك ..
والحق أنه ليس الذكاء والفطنة أن تستطيع اللوم .. وإنما هو أن تتجنبه قدر المستطاع .. وتسعى إلى إصلاح الأشخاص بأساليب لا تجرح .. ولا تحرج ..
أحياناً تحتاج في بعض الأمور أن تتعامى .. خاصة الأشياء الدنيوية .. والحقوق الخاصة ..
ليس الغبي بسيد في قومه 00 لكن سيد قومه المتغابي

والملوم يعتبر اللوم سهماً حاداً يوجه إليه .. لأنه يشعره بنقصه ..
هذا أولاً ..
ثانياً : تجنب النصح في الملأ قدر المستطاع ..
تغمدني بنصحك في انفرادي ..
وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع ..
من التوبيخ لا أرضى استماعه
بل .. إذا انتشر خطأ معين .. واضطررت إلى النصح العام .. فاعمل بقاعدة : ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا .. كما تقدم معنا ..
إذن .. اللوم كالسوط الذي يجلد به اللائم ظهر الملوم ..
وبعض الناس ينفر الآخرين إما بكثرة لومه .. أو بلومه على أمور انتهت ولا يقدم اللوم أو يؤخر فيها شيئاً ..
أذكر أن رجلاً فقيراً .. تغرب عن أهله إلى بلد آخر .. واشتغل سائق شاحنة .. كان في أحد الأيام متعباً لكنه ركب الشاحنة ومضى بها في طريق طويل بين مدينتين ..
غلبه النوم أثناء الطريق .. فجعل يصارعه وأسرع قليلاً .. فتجاوز سيارة أمامه دون أن ينتبه إلى الطريق فإذا أماه سيارة صغيره فيها ثلاثة أشخاص .. حاول أن يتفاداها .. لم يستطع .. فاصطدم بها وجهاً لوجه ..
ثار الغبار .. وجعل المارة يوقفون سياراتهم ويتفرجون على الحادث ..
نزل سائق الشاحنة .. ونظر إلى السيارة المصدومة .. وإلى من بداخلها فإذا هم موتى ..
أنزلهم الناس واتصلوا بالإسعاف ..
قعد سائق الشاحنة ينتظر ووصول الإسعاف .. ويفكر فيما سيحصل له بعد الحادث من سجن ودية .. ويفكر في أولاده الصغار .. وزوجته ..
مسكين .. هموم انهدت عليه كالجبال ..!!
جعل الناس يمرون به ويلومونه ..
عجباً ..!! أهذا وقت اللوم .. ألا يمكن أن يؤجل قليلاً ؟
قال أحدهم : لماذا تسرع ؟ هذه عواقب السرعة ..
وقال آخر : أكيد أنك كنت نعسان ومع ذلك استمريت في القيادة ..! لم توقف سيارتك وتنام ..؟
وقال ثالث : المفروض أن مثلك لا تصرف لهم رخص قيادة !!
كانوا يقولون هذه العبارات بأسلوب حاد .. فيه تعنيف وصراخ ..
كان الرجل واجماً .. جالساً على صخرة ساكتاً .. متكئاً برأسه على يديه ..
وفجأة هوى على جنبه .. و .. و .. مااات ..
قتلوه بلومهم .. ولو صبروا قليلاً لكان خيراً له ولهم ..
ضع نفسك موضع الملوم ..المخطئ .. وفكر من وجهة نظره ..
فأحياناً لو كنت مكانه قد تقع في خطأ أكبر من خطئه ..
كان رسول الله e يراعي ذلك كثيراً ..
لما انصرف r من خيبر.. أطالوا المسير حتى تعبوا ..
فلما أقبل الليل .. نزلوا في موضع في الطريق ليناموا ..
فقال r : من رجل يحفظ علينا الفجر لعلنا ننام ؟
كان بلال t متحمساً فقال : أنا يا رسول الله أحفظه عليك ؟
فاضطجع رسول الله r .. ونزل الناس فناموا ..
وقام بلال يصلي حتى تعب .. وقد كان متعباً من طول الطريق قبل ذلك ..
فقعد واستند إلى بعيره مستريحاً .. واستقبل الفجر يرمقه .. فغلبته عينه .. فناااام ..
كان الجميع في تعب شديد .. فطال نومه ونومهم .. ومضى الليل .. وطلع لاصبح .. والكل نيام .. ولم يوقظهم إلا حر الشمس ..
استيقظ رسول الله r .. وهبَّ الناس من نومهم .. فلما رأوا الشمس اضطربوا .. وكثر لغطهم ..
الكل ينظر إلى بلال ..
التفت r إلى بلال وقال : ماذا صنعت بنا يا بلال ؟
فأجاب بلال بجواب مختصر .. لكنه موضح للواقع تماماً ..
قال : يا رسول الله .. أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك ..
يعني أنا بشر .. حاولت أن أقاوم النوم .. فلم أستطع .. غلبني النوم كما غلبكم !!
فقال e : صدقت .. وسكت عنه ..
نعم فما فائدة اللوم هنا ..
فلما رأى r اضطراب الناس .. قال r : ارتحلوا ..
فارتحلوا .. فمشى شيئاً يسيراً ..
ثم نزل ونزلوا .. فتوضأ وتوضئوا ..
ثم صلى بالناس ..
فلما سلم .. أقبل على الناس فقال :
إذا نسيتم الصلاة .. فصلوها إذا ذكرتموها ..
فلله دره ما أعقله وأحكمه e ..
كان مدرسة لكل قائد ..
ليس مثل بعض الرؤساء اليوم لا تكاد عصا اللوم والتقريع تنزل من يده ..
بل كان e يضع نفسه مكان من تحته ويفكر بعقولهم .. ويتعامل مع القلوب قبل الأجساد ..
يعلم أنهم بشر .. وليسوا آلات !!
في السنة الثامنة من الهجرة ..
جمع الروم جيشاً .. وأقبل من جهة الشام .. لقتال النبي r وأصحابه ..
وقيل إنهr جمع جيشاً لغزوهم ابتداءً ..
بدأ r يجهز جيشاً لإرساله إليهم .. فلم يزل يحث الناس حتى جمع ثلاثة آلاف ..
فزودهم بما وجد من سلاح وعتاد ..
قال لهم : أميركم زيد بن حارثة ..
فإن أصيب زيد .. فجعفر بن أبي طالب على الناس ..
فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة ..
وخرج معهم r يودعهم ..
وخرج الناس يودعون الجيش ..
ويقولون : صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين ..
كان عبد الله بن رواحة مشتاقاً إلى الشهادة .. فقال :
لكنني أسأل الرحمن مغفرةً وضربةً ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي ياأرشد الله من غازٍوَقد رشدا
ثم مضى الجيش حتى نزلوا "معان" من أرض الشام ..
فبلغهم أن هرقل ملك الروم قد نزل من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم ..
وانضم إليه من القبائل حوله مائة ألف .. فصار جيش الروم مائتي ألف ..
فلما تيقن المسلمون من ذلك .. أقاموا في "معان" ليلتين ينظرون في أمرهم ..
فقال بعضهم : نكتب إلى رسول الله r نخبره بعدد عدونا ..
فإما أن يمدنا بالرجال ..
أو يأمرنا بما يشاء فنمضي له .. وكثر كلام الناس في ذلك ..
فقام عبد الله بن رواحة .. ثم صاح بالناس وقال :
يا قوم .. والله إن التي تكرهون هي التي خرجتم تطلبون .. الشهادة في سبيل الله .. تفرون منها !!
وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة .. ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به .. فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين .. إما ظهور وإما شهادة ..
فمضى الناس .. يسيرون ..
حتى إذا دنوا من جيش الروم .. في موقعة "مؤتة" فإذا أعداد عظيمة لا قبل لأحد بها ..
قال أبو هريرة t : شهدت يوم مؤتة .. فلما دنا منا المشركون .. رأينا ما لا قبل لأحد به من العدة .. والسلاح .. والكراع .. والديباج .. والحرير .. والذهب ..
فبرق بصري ..
فقال لي ثابت بن أرقم : يا أبا هريرة .. كأنك ترى جموعاً كثيرة ؟
قلت : نعم ..
قال : إنك لم تشهد بدراً معنا .. إنا لم ننصر بالكثرة ..
ثم التقى الناس فاقتتلوا ..
فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله r حتى كثرت عليه الرماح وسقط صريعاً شهيداً t ..
فأخذ الراية جعفر بكل بطولة .. فاقتحم عن فرس له شقراء فجعل يقاتل القوم .. وهو يقول :
يا حبذا الجنة واقـترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
علي إن لاقيتها ضرابها
أن جعفر أخذ اللواء بيمينه فقطعت ..
فأخذ اللواء بشماله فقطعت ..
فاحتضنه بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ..
قال ابن عمر : وقفت على جعفر يومئذ .. وهو قتيل .. فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره ..
فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث يشاء ..
إن رجلاً من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعته نصفين ..
فلما قتل جعفر .. أخذ عبد الله بن رواحة الراية ..
ثم تقدم بها وهو على فرسه ..
فجعل يستنزل نفسه .. ويتردد بعض التردد .. ويقول :
أقسمت يا نفس لتنزلنه لتنزلن أو لتكرهنه
إن أ*** الناس وشدوا الرنة مالي أراك تكرهين الجنة
ثم قال :
يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت إن تفعلي فعلهما هديت
ثم نزل .. فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم ..
شد بهذا صلبك .. فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت ..
فأخذه من يده فانتهش منه نهشة .. ثم سمع الحطمة في ناحية الناس ..
فقال : وأنت في الدنيا ! فألقاه من يده .. ثم أخذ سيفه ثم تقدم ..
فقاتل حتى قتل t ..
فوقعت الراية .. واضطرب المسلمون .. وابتهج الكافرون ..
والراية تطؤها الخيل .. ويغلوها الغبار ..
فأقبل البطل ثابت بن أرقم ..
ثم رفعها .. وصاح ..
يا معاشر المسلمين .. هذه الراية .. فاصطلحوا على رجل منكم ..
فتصايح من سمعه وقالوا : أنت .. أنت ..
قال : ما أنا بفاعل ..
فأشاروا إلى خالد بن الوليد ..
فلما أخذ الراية .. قاتل بقوة .. حتى إنه كان يقول :
لقد اندقَّ في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف ، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية ..
ثم انحاز خالد بالجيش .. وانحاز الروم إلى معسكرهم ..
خشي خالد أن يرجع بالجيش إلى المدينة من ليلته .. فيتبعهم الروم ..
فلما أصبحوا .. غير خالد مواقع الجيش ..
فجعل مقدمة الجيش .. في المؤخرة ..
وجعل مؤخرة الجيش مقدمة ..
ومن كانوا يقاتلون في يمين الجيش .. أمرهم بالانتقال إلى يساره ..
وأمر من في الميسرة أن يذهبوا للميمنة ..
فلما ابتدأ القتال .. وأقبل الروم ..
فإذا كل سرية منهم ترى رايات جديدة .. ووجوهاً جديدة ..
فاضطرب الروم .. وقالوا : قد جاءهم في الليل مدد .. فرعبوا في القتال ..
فقتل المسلمون منهم مقتلة عظيمة .. ولم يقتل من المسلمين إلا اثنا عشر رجلاً ..
وانسحب خالد بالجيش .. آخر النهار من ساحة القتال .. ثم واصل مسيره نحو المدينة ..
فلما أقبلوا إلى المدينة ..
لقيهم الصبيان يتراكضون إليهم .. ولقيتهم النساء ..
فجعلوا يحثون التراب في وجوه الجيش .. ويقولون :
يا فرار .. فررتم في سبيل الله ..
فلما سمع النبي r ذلك ..
علم أنهم لم يكن أمامهم إلا ذلك ..
وأنهم فعلوا ما بوسعهم ..
فقال r مدافعاً عنهم :
ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار .. إن شاء الله عز وجل " .
نعم انتهى الأمر .. وهم أبطال ماقصروا .. لكنهم بشر والأمر كان فوق طاقتهم ..
إذن الصلاة على الميت الحاضر .. أحياناً انتهى الأمر فلا فائدة من اللوم ..
كان هذا منهجه e دائماً ..
لما سمع الكفار برسول الله r قادماً بجيشه إلى مكة فاتحاً .. دخلهم الرعب ..
فأرسل إليهم رسول الله r من يقول لهم :
· من دخل داره وأغلق عليه بابه فهو آمن ..
· ومن دخل المسجد فعو آمن ..
· ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ..
فبدأ الناس يفرون من بين يديه r ..
فاجتمع بعض فرسان قريش .. وأردوا أن يحاربوا .. فأبى عليهم قومهم ..
فاجتمع نفر منهم في مكان يقال له الخندمة ..
اجتمع صفوان بن أمية .. وعكرمة بن أبي جهل .. وسهيل بن عمرو ..
وجمعوا ناساً معهم بالخندمة ليقاتلوا ..
وكان حماس بن قيس ..
يعد سلاحاً قبل قدوم النبي e .. ويصلحه ..
فقالت له امرأته : لماذا تعد ما أرى ؟
قال : لمحمد وأصحابه ..!!
كانت امرأته تعلم بقوة المسلمين .. فقالت : والله ما أرى يقوم لمحمد وأصحابه شيء !
قال : والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم .. يعين ياسر بعضهم ويجيء بهم إليها خدماً ..
ثم قال مفتخراً :
إن يقبلوا اليوم فما لي علة هذا سلاح كامل وأله
وذو غرارين سريع السلة
ثم خرج من عندها .. إلى موقع "الخندمة" .. حيث اجتمع أصحابه ..
فما هو إلا أن لقيهم المسلمون .. يتقدمهم سيف الله خالد بن الوليد ..
فابتدأ القتال .. وصال الأبطال ..
فقتل في لحظة واحدة .. أكثر من اثني عشر أو ثلاثة عشر .. من الكفار ..
فلما رأى حماس بن قيس ذلك ..
التفت إلى صفوان وعكرمة .. فإذا هما يفران إلى بيوتهما ..
فانهزم معهم .. وذهب يعدو إلى بيته .. فدخله سريعاً ..
وأخذ يصيح بامرأته فزعاً : أغلقي علي بابي .. فإنهم يقولون من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن ..!!
فقالت : فأين ما كنت تقول ؟ أن تهزمهم .. وتخدمني بعضهم ..!!
فقال :
إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة
وأبو يزيد قائم كالمؤتمة واستقبلتهم بالسيوف المسلمة
يقطعن كل ساعد وجمجمة ضرباً فلا يسمع إلا غمغمة
لهم نهيت خلفنا وهمهمة لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة
صحيح .. لو رأت امرأته ما رأى من شدة القتال .. ما نطقت في لومه كلمة ..
وفي موقف آخر ..
لما دخل النبي e .. مكة فاتحاً .. فقد كان يعلم عظمة البلد الحرام .. فقاتل قتالاً يسيراً ..
ثم قال : إن الله حرم هذا البلد يوم خلق السموات والأرض .. وإنما حلَّ لي ساعة من نهار " ..
فقيل له : يا رسول الله .. أنت تنهى عن القتل .. وهذا خالد بن الوليد في كتيبته .. يقتل من لقيه من المشركين ؟
فقال r : " قم يا فلان .. فأت خالد بن الوليد .. فقل له : فليرفع يده من القتل " .
هذا الرجل يعلم أنهم الآن يعيشون حالة حرب .. وأن النبي e أمرهم قريشاً بالبقاء في بيوتهم لئلا يقتلوا .. فمن كان في غير بيته استحق المقاتلة ..
ففهم من قول النبي r : يرفع يده من القتل .. أي يقتل كل من وقف أمامه .. حتى يرفع يده بالسيف لأنه لا يجد من يقتل ..!!
فأتى الرجل خالداً فصاح به : يا خالد .. إن رسول الله r .. يقول : اقتل من قدرت عليه !
فقتل خالد سبعين إنساناً ..
فأتي رجل النبي r .. قال : يا رسول الله .. هذا خالد يقتل ..
فعجب النبي r .. كيف يقتل وقد نهاه ..؟!
فأرسل إلى خالد ليأتيه .. فأتاه .. فقال e : " ألم أنهك عن القتل ؟ "
فعجب خالد وقال : يا رسول الله .. جاءني فلان فأمرني أن أقتل من قدرت عليه ..
فأرسل النبي r إلى ذاك الرجل .. فجاء ورأى خالداً .. فقال له e : " ألم أقل يرفع يده من القتل ؟ "
فأدرك الرجل خطأه .. لكن الأمر انتهى .. فقال : يا رسول الله .. أردتَّ أمراً .. وأراد الله أمراً .. فكان أمرُ الله فوق أمرك .. وما استطعتُ إلا الذي كان ..
فسكت عنه النبي r وما ردَّ عليه شيئاً ..
من تأمل في مسيرة الحياة .. وجد هذا الأمر ظاهراً ..
أحياناً يكون الشخص قد فعل أحسن ما يستطيع ..
ركبت مع أحد الشباب في سيارته .. فإذا قيادته جيدة ..
وكنت أعلم أنه وقع له حادث تصادم قبل اسبوع ..
فسألته : ألاحظ أن قيادتك جيدة .. فلماذا صدمت قبل أسبوع ؟!
قال : كان لا بد أن أصدم !!
قلت عجباً !!
قال : نعم .. كان لا بد أن أصدم .. أتدري لماذا ؟
قلت : لماذا ؟!
قال :
أقبلت بسيارتي على جسر .. وكنت مسرعاً ..
فلما نزلت منه فإذا السيارات أمامي متوقفة صفوفاً ..
لا أدري ما السبب .. حادث في الأمام .. أو نقطة تفتيش .. لا أدري .. المهم أني تفاجات بها ..
كان أمامي أربعة مسارات كلها مليئة بالسيارات .. وكنت مخيراً بين أن أنحرف عنها كلها وأسقط من فوق الجسر .. أو أمسك فرامل بأقوى ما أستطيع وعندها ستلعب بي السيارة في الطريق ..
أو الاختيار الثالث .. وهو أهونها ..
قلت : وما هو ؟!
قال : أن أصدم إحدى السيارات الأربع الواقفة أمامي ..
ضحكت .. وقلت .. هاه وماذا فعلت ؟
قال : خففت سرعتي قدر استطاعتي .. واخترت أرخص السيارات التي أمامي .. و .. و .. صدمتها ..
فكرت فيما قال .. فرأيت أنه لا يستحق اللوم كثيراً .. وذلك أن الاختيارات التي كانت أمامه محدودة ..
يعني بعض المشاكل ليس لها حل .. شخص أبوه عصبي .. نصحه بجميع الأساليب .. ما نفع .. ماذا يفعل ؟

لفتة ..
ضع نفسك موضع الملوم وفكر من وجهة نظره .. ثم احكم عليه ..

3. تأكد من الخطأ قبل النصيحة ..
كان واضحاً من نبرة صوته لما اتصل بي .. أنه كن غضباناً يكتم غيظه قدر المستطاع ..
ليست هذه هي النبرة التي تعودت عليها من فهد ..
شعرت أن عنده شيئاً ..
بدأ كلامه .. متحدثاً عن الفتن وتعرض الناس لها ..
ثم احتدت النبرة .. وجعل يكرر : أنت داعية .. وطالب علم .. وأفعالك محسوبة عليك ..
قلت : أبا عبد الله ليتك تدخل في الموضوع مباشرة ..
قال : المحاضرة لتي ألقيتها في .. وقلت ..
تعجبت .. قلت : متى كان ذلك ؟
قال : قبل ثلاثة أسابيع ..
قلت : لم أذهب لتلك المنطقة منذ سنة ..
قال : بلى .. وتحدثت عن كذا ..
ثم تبين لي أن صاحبي .. بلغته إشاعة فصدقها .. وبنى على أساسها مناصحته .. وموقفه .. وكلامه ..
صحيح أنني لا أزال أحبه .. لكن نظرتي إليه قصرت .. لأنني اكتشفت أنه متسرع .. ومثل ما يقولون ( يطير في العجّة ) ..!!
كم هم أولئك الذين يبنون مواقفهم ونظراتهم على إشاعات ..
قليل منهم من يأتيك مناصحاً .. ليكتشف بعدها أنه كان يجري وراء إشاعة ..
وكثير منهم من تنطبع هذه الإشاعة في قلبه .. ويكوّن على أساسه تصوره عنك .. وهي كذبة ..
أحياناً يشاع أن فلاناً فعل كذا وكذا ..
فلأجل أن تحتفظ بقدرك عنده .. تأكد من الخبر قبل الكلام عنه ..
وهذا منهج النبي e ..
أتى رجل إلى النبي r .. فنظر النبي e إليه ..
فإذا رجل رث الهيئة .. مغبر الشعر .. فأراد r أن ينصحه ليصلح من هيئته .. لكنه خشي أن يكون الرجل فقيراً أصلاً .. ليس ذا مال ..
فقال له : هل لك من مال ؟
قلت : نعم ..
قال : من أي المال ..؟
قال : من كل المال .. من الإبل .. والرقيق .. والخيل .. والغنم ..
قال : فإذا آتاك الله مالاً .. فليُر عليك ..
ثم قال : تنتج إبل قومك صحاح آذانها .. فتعمد إلى الموسى .. فتقطع آذانها ..
فتقول : هذه بحيرة .. وتشقها .. أو تشق جلودها ..
وتقول :هذه صرم .. فتحرمها عليك وعلى أهلك ..
قال : نعم ..
قال : فإن ما أعطاك الله لك حل .. موسى الله أحد .. ([3])
وفي عام الوفود .. كان بعض الناس يأتي مسلماً .. ويبايع النبي r .. وبعضهم يأتي كافراً .. ويسلم أو يعاهد ..
فبينما رسول الله r مع أصحابه يوماً .. إذ جاء وفد الصّدِف .. وهم بضعة عشر راكبا .. فأقبلوا إلى مجلس النبي r .. فجلسوا و لم يسلموا ..
فسألأهم : " أمسلمون أنتم ؟ "
قالوا : نعم .. قال : " فهلا سلمتم ؟ " ..
فقاموا قياماً فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ..
فقال : " وعليكم السلام .. اجلسوا " .. فجلسوا ثم سألوه r عن أوقات الصلوات ..
وفي عهد عمر t .. توسعت بلاد الإسلام ..
فعين عمر سعد بن أبي وقاص أميراً على الكوفة ..
كان أهل الكوفة حينذاك مشاغبين على ولاتهم ..
أرسل نفر منهم رسالة إلى الخليفة عمر t .. يشتكون إليه من سعد ..
وذكروا عيوباً كثيرة .. حتى إنهم قالوا : ولا يحسن أن يصلي !!
فلما قرأ عمر الكتاب .. لم يتسرع باتخاذ قرار .. ولا كتابة نصيحة ..
وإنما أرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة معه كتاب إلى سعد ..
وأمره أن يسير مع سعد ويسأل الناس عنه ..
جعل محمد بن مسلمة يصلي مع سعد في المساجد .. ويسأل الناس عن سعد ..
ولم يدع مسجد إلا سأل عنه .. ولا يذكرون عن سعد إلا معروفاً ..
حتى دخلا مسجداً لبني عبس ..
فقام محمد بن مسلمة .. وسأل الناس عن أميرهم سعد ؟؟
فأثنوا عليه خيراً ..
فقال محمد : أنشدكم بالله .. هل تعلمون منه غير ذلك ؟
قالوا : لا نعلم إلا خيراً ..
فكرر عليهم السؤال ..
عندها قام رجل في آخر المسجد .. اسمه أسامة بن قتادة .. فقال :
أما إذ نشدتنا بالله .. فاسمع :
إن سعداً كان لا يسير بالسوية .. ولا يعدل في القضية ..
فعجب سعد وقال : أنا كذلك ؟
قال الرجل نعم ..
فقال سعد : أما والله لأدعون بثلاث :
اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً .. وقد قام رياء وسمعة ..
اللهم فـ :
· أطل عمره ..
· وأطل فقره ..
· وعرضه للفتن ..
ثم خرج سعد من المسجد ..
ومضى إلى لمدينة ومات بعدها بسنوات ..
أما ذلك الرجل فلا زالت دعوة سعد تلاحقه ..
حتى كبرت سنه .. ورق عظمه .. واحدودب ظهره ..
وطال عمره حتى مل من حياته .. واشتد فقره ..
فكان يجلس وسط الطريق يسأل الناس .. وقد سقط حاجباه على عينيه من شدة الكبر .. فإذا مرت به النساء مد يده يغمزهن ويتعرض لهن ..
فكان الناس يصيحون به .. ويسبونه .. فيقول :
وماذا أفعل !! شيخ كبير مفتون .. أصابتني دعوة الرجل الصالح سعد بن أبي وقاص ..

حديث ..
بئس مطية الرجل زعموا .. وكفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع ..

4. اجلدني برفق !!
لا يعني ما تقدم من كلام عدمُ اللوم أبداً ..
بلى .. فقد تحتاج في أحيان متكررة أن تلوم الآخرين .. ولدك .. زوجتك .. صديقك ..
لكن يمكن تأجيله قليلاً .. أو استخدام أساليب أخف ..
دع الملوم يحتفظ بماء وجهه ..
بعدما فتح e مكة .. وقد قوي شأنه عند العرب ..
وكثر الداخلون في الإسلام ..
غزا e بالناس حنيناً .. فجاء المشركون بأحسن صفوف .. فصفت الخيل ..
ثم صفت المقاتلة .. ثم صفت النساء من وراء ذلك ..
ثم صفت الغنم .. ثم النعم ..
والمسلمون بشر كثير .. قد بلغوا اثني عشر ألفاً ..
وكان المشركون قد سبقوا إلى وادي حنين .. واختبأت كتائب منهم في جانبيه بين الصخور ..
فما هو إلا أن ابتدأ القتال .. ودخلت جموع المسلمين في الوادي ..
حتى تفجر عليهم الكفار من كل جانب .. واضطرب الناس ..
وجعلت خيل المسلمين .. تلوذ خلف ظهورهم .. فلم يلبثوا أن انكشفت خيلهم .. وكان أولُ من فرَّ الأعراب .. وتسلط الكفار وظهروا ..
فالتفت رسول الله r .. فإذا الجموع تفر .. والدماء تسيل .. والخيل يضرب بعضها في بعض ..
فجعل يأمر العباس بأن ينادي : يا للمهاجرين يا للأنصار ؟
فرجعوا حتى ثبت r في ثمانين أو مائة رجل ..
ثم نصر الله المسلمين .. وانتهى القتال ..
وجمعت الغنائم بين يدي النبي e ..
فإذا الذين فروا من القتال .. وخافوا من الرماح والنبال ..
هم أول من اجتمع على رسول الله r .. يريد الغنائم ..
تعلقت الأعراب .. برسول الله r يقولون له :
اقسم علينا فيئنا .. اقسم علينا فيئنا .. يريدون الغنائم ..
عجباً ..!! يقسم فيئكم .. متى صار فيؤكم وأنتم لم تقاتلوا ..
كيف تطلبون من الغنيمة .. وهو الذي كان يصرخ بكم لتعودوا وأنتم لا تستجيبون ..!!
لكنه r لم يكن يدقق على مثل هذا .. فالدنيا لا تساوي عنده شيئاً ..
جعلوا يتبعونه ويرددون : اقسم علينا فيئنا ..
حتى تزاحموا عليه .. وضيقوا الطريق بين يديه ..
واضطروه إلى شجرة .. فمرّ من شدة الزحام ملاصقاً لها ..
فتعلق رداؤه بأغصانها .. حتى سقط عن منكبيه .. وصار بطنه وظهره مكشوفاً ..
فلم يغضب .. وإنما التفت إليهم وقال .. بكل هدووووء :
أيها الناس .. ردوا علي ردائي .. فوالذي نفسي بيده لو كان لي عدد شجر تهامة .. نَعماً لقسمته عليكم ..
ثم لا تجدوني بخيلا .. ولا جباناً .. ولا كذاباً ..
نعم .. لأنه لو كان بخيلاً لأمسك الأموال لنفسه ..
ولو كان جباناً لفرّ مع الفارين ..
ولو كان كذاباً لما نصره رب العالمين ..
مواقفه e الرائعة كثيرة ..
كان e يمشي مع بعض أصحابه .. فمر بامرأة تبكي عند قبر .. على صبي لها ..
فقال لها e : اتقي الله واصبري ..
وكانت المرأة باكية مهمومة .. فلم تعرف النبي e .. فقالت : إليك عني .. وما تبالي أنت بمصيبتي ..؟!
فسكت النبي e .. وذهب وتركها .. فقد أدى ما عليه ..
وأدرك أن المرأة الآن في وضع نفسي قد لا يناسب أن يزاد عليها في النصح أكثر مما سمعت ..
التفت بعض الصحابة إليها وقالوا : هذا رسول الله e ..!!
فندمت المرأة على ما قالت .. وقامت تحاول أن تلحق بالنبي e .. حتى وصلت بيته ..
فلم تجد على بابه بوابين ..
فقالت معتذرة : يا رسول الله .. لم أعرفك .. الآن أصبر ..
فقال إنما الصبر عند الصدمة الأولى .. ([4])

اقتل برفق ..
إنالله كتب الإحسان على كل شيء .. فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة .. وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح .. وليحد أحدكم شفرته .. وليرح ذبيحته .. حديث رواه مسلم

5. فِرَّ من المشاكل !!
أظنه لو أجرى تحليلاً في مستشفى بدائي لاكتشف في جسمه عشرة أنواع من الأمراض .. أهونها الضغط والسكر ..
كان المسكين يعذب نفسه كثيراً لأنه يطالب الناس بالمثالية التامة .. دائماً تجده متضايقاً من زوجته ..
كسرت الصحن الجديد ..
نسيت كنس الصالة ..
أحرقت ثوبي الجديد بالمكواة ..
وأولاده .. خالد إلى الآن لم يحفظ جدول الضرب ..
وسعد .. لم يظفر بتقدير ممتاز ..
وسارة .. وهند ..
هذا حاله في بيته ..
أما بين زملائه .. فأعظم .. أبو عبد الله قصدني لما ذكر قصة البخيل ..!
والبارحة أبو أحمد يعنيني لما تكلم عن السيارات القديمة .. نعم يقصد سيارتي .. نعم .. كان ينظر إليَّ ..
إلى آخر مواقف وتفكيرات هذا الرجل المسكين ..
قديماً قالوا في المثل : إن أطاعك الزمان وإلا فأطعه ..
أذكر أن أعرابياً - من أصدقائي - كان يردد مثلاً حفظه من جده .. كان يسمعني إياه كثيراً إذا بدأت أتفلسف عليه ببعض المعلومات .. فكان يخرج زفيراً طوييييلاً من صدره ثم يقول : ياااا شيخ .. اليد اللي ما تقدر تلويها صافحها ..!!
وإذا تفكرت في هذا وجدته صحيحاً .. فنحن إذا لم نعود أنفسنا على التسامح وتمشية الأمور .. أو بمعنى آخر التغابي .. وعدم الإغراق في التفسيرات والظنون .. وإلا فسوف نتعب كثيراً ..
ليس الغبي بسيد في قومه .. لكن سيد قومه المتغابي
وأذكر أن شاباً متحمساً أقبل إلى شيخه يريده أن يساعده في اختيار زوجة تكون رفيقة دربه حتى الممات .. فقال الشيخ : ما هي الصفات التي ترغب وجودها في زوجتك ؟
فقال : منظرها جميل .. وقوامها طويل .. وشعرها حرير.. ورائحتها عبير .. لذيذة الطعام .. عذبة الكلام .. إن نظرت إليها سرتني .. وإن غبت عنها حفظتني .. لا تخالف لي أمراً .. ولا أخشى منها شراً .. لها دين يرفعها .. وحكمة تنفعها ..
وراح يسرد من صفات الكمال المتفرقة في النساء ويجمعها في امرأة واحدة ..
فلما أكثر على الشيخ .. قال له : يا ولدي .. عندي طلبك ..
قال : أين ؟ قال : في الجنة بإذن الله .. أما في الدنيا فعود نفسك التسامح ..
نعم في الدنيا عود نفسك التسامح .. لا تعذب نفسك بالبحث عن مشاكل لإثارتها .. والنقاش حولها ..
فيوماً تصرخ في وجه جليس : أنت تقصدني بكلامك ؟
ويوماً في وجه ولدك : أنت تريد أن تحزنني بكسلك ؟
ويوماً في وجه زوجتك : أنت تتعمدين إهمال بيتك ؟ ...
وقد كان منهج النبي r .. التسامح عموماً .. فكان يستمتع بحياته ..
كان يدخل r على أهله أحياناً .. في الضحى .. وهو جائع .. فيسألهم : هل عندكم من شيء .. عندكم طعام ..
فيقولون : لا ..
فيقول r : إني إذا صائم ..
ولم يكن يصنع لأجل ذلك مشاكل .. ما كان يقول : لِمَ لم تصنعوا طعاماً .. لِم لم تخبروني لأشتري .. إني إذا صائم .. وانتهى الأمر ..([5])
وكان في تعامله مع الناس .. يتعامل بكل سماحة ..
قال كلثوم بن الحصين .. كان من خيار الصحابة ..
قال : غزوت مع رسول الله r غزوة تبوك .. فسرت ذات ليلة معه ونحن بوادي "الأخضر" ..
أطالوا المشي .. فجعل يغلبه النعاس ..
وجعلت ناقته تقترب من ناقة النبي e .. ويستيقظ فجأة .. فيبعدها .. خوفاً من أن يصيب رحل ناقته رجل النبي e ..
حتى غلبته عينه في بعض الطريق .. فزاحمت راحلته راحلة النبي e .. وضرب رحله رجل النبي e .. فآلمه ..
فقال النبي e من حر ما يجد : " حسّ "
فاستيقظ كلثوم .. فاضطرب وقال :
يا رسول الله .. استغفر لي ..
فقال e بكل سماحة : سِرْ .. سِرْ ..
نعم : سِرْ .. ولم يعمل قضية .. لماذا تضايقني ؟ الطريق واسع ! ما الذي جاء بك بجانبي ؟! لا .. لم يتعب نفسه .. ضربة رجل .. وانتهت ..
كان هذا أسلوبه e دائماً ..
جلس يوماً بين أصحابه ..
فأقبلت إليه امرأة ببردة .. قطعة قماش ..
فقالت : يا رسول الله .. إني نسجت هذه بيدي .. أكسوكها ..
فأخذها النبي e .. وكان محتاجاً إليها ..
وقام ودخل بيته .. فلبسها .. ثم خرج إلى أصحابه وهي إزاره ..
فقال رجل من القوم : يا رسول الله .. اكسنيها ..
فقال e : نعم ..
ثم رجع e .. فخلعها وطواها .. ولبس إزاراً قديماً ..
ثم أرسل بها إلى الرجل ..
فقال الناس للرجل : ما أحسنت .. سألته إياها وقد علمت أنه لا يرد سائلاً ؟!
فقال الرجل : والله ما سألته .. إلا لتكون كفني يوم أموت ..
فلما مات الرجل .. كفنه أهله فيها ([6]) ..
ما أجمل احتواء الناس بهذه التعاملات ..
قام e يوماً يؤم أصحابه في صلاة العشاء ..
فدخل إلى المسجد طفلان .. الحسن والحسين .. ابنا فاطمة t ..
فأقبلا إلى جدهما رسول الله e .. وهو يصلي ..
فكان إذا سجد .. وثب الحسن والحسين على ظهره ..
فإذا أراد e أن يرفع رأسه .. تناولهما بيديه من خلفه تناولاً رفيقاً ..
ووضعهما عن ظهره .. فجلسا جانباً ..
فإذا عاد لسجوده .. عادا فوثبا على ظهره ..
حتى قضى e صلاته ..
فأخذهما بكل رفق .. وأقعدهما على فخذيه ..
فقام أبو هريرة t .. فقال : يا رسول الله .. أردُّهما ..؟ يعني أعيدهما لأمهما ..؟
فلم يعجل e عليهما ..
ثم لبث قليلاً .. فبرقت برقة من السماء ..
فقال لهما e : الحقا بأمكما .. فقاما فدخلا على أمهما ..([7])
وفي يوم آخر ..
خرج النبي عليه e .. على أصحابه في إحدى صلاتي الظهر أو العصر ..
وهو حامل الحسن أو الحسين ..
فتقدم إلى موضع صلاته .. فوضعه .. ثم كبر مصلياً بالناس ..
فسجد رسول الله e سجدة .. أطالها .. حتى خشي عليه أصحابه أن يكون قد أصابه شيء ..
ثم رفع من سجوده ..
وبعد انتهاء الصلاة .. سأله أصحابه .. قالوا : يا رسول الله .. لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها ..!! أشيء أمرت به ؟ أو كان يوحى إليك ؟
فقال e : كل ذلك لم يكن .. ولكن ابني ارتحلني .. فكرهت أن أعجله .. حتى يقضي حاجته .. ([8]) ..
ودخل e يوماً على أم هانئ بنت أبي طالب t .. وكان جائعاً ..
فقال : هل عندك من طعام نأكله ؟
فقالت : ليس عندي إلا كسر يابسة .. وإني لأستحي أن أقدمها إليك ..
فقال : هلمي بهن ..
فأتته بهن .. فكسرهن في ماء .. وجاءت بملح فذرته عليه ..
فجعل e .. يأكل هذا الخبز مخلوطاً بالماء ..
فالتفت إلى أم هانئ وقال : هل من إدام ؟
فقالت : ما عندي يا رسول الله إلا شيء من "خلٍّ" ..
فقال : هلميه ..
فجاءته به .. فصبه على طعامه .. فأكل منه ..
ثم حمد الله عز وجل .. ثم قال : نعم الإدام الخل ([9]) ..
نعم .. كان يعيش حياته كما هي .. يتقبل الأمور بحسب ما هي عليه ..
وفي رحلة الحج ..
خرج e مع أصحابه .. فنزلوا منزلاً .. فذهب النبي e فقضى حاجته ..
ثم جاء إلى حوض ماء فتوضأ منه ..
ثم قام e ليصلي ..
جاء جابر بن عبد الله t .. فوقف عن يسار رسول الله e .. وكبّر مصلياً معه ..
فأخذ النبي e بيده .. فأداره حتى أقامه عن يمينه ..
ومضيا في صلاتهما ..
فجاء جبار بن صخر t .. فتوضأ ..
ثم أقبل فقام عن يسار رسول الله e ..
فأخذ e بأيديهما جميعاً – بكل هدوء - فدفعهما حتى أقامهما خلفه ([10]) ..
وفي يوم كان e جالساً ..
فأقلبت إليه أم قيس بنت محصن بابن لها حديث الولادة .. ليحنكه ويدعو له ..
فأخذه e فجعله في حجره .. فلم يلبث الصغير أن بال في حجر النبي e .. وبلل ثيابه بالبول ..
فلم يزد النبي e على أن دعا بماء فنضحه على أثر البول ([11]) ..
وانتهى الأمر .. لم يغضب .. ولم يعبس ..
فلماذا نعذب نحن أنفسنا ونصنع من الحبة قبة .. ليس شرطاً أن يكون كل ما يقع حولك مرضياً لك 100% ..
وإن تجد عيباً فسدَّ الخللا جل من لا عيب فيه وعلا
بعض الناس يحرق أعصابه .. ويكبر القضايا .. وبعض الآباء والأمهات كذلك .. وربما بعض المدرسين والمدرسات كذلك ..
ولا تفتش عن الأخطاء الخفية ..
وكن سمحاً في قبول أعذار الآخرين .. خاصة من يعتذرون إليك حفاظاً على محبتهم معك .. لا لأجل مصالح شخصية ..
اقبل معاذير من يأتيك معتذراً
إن برَّ عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من يرضيك ظاهره
وقد أجلّك من يعصيك مستتراً

وانظر إلى رسول الله e .. وقد رقى منبره يوماً ..
وخطب بأصحابه فرفع صوته حتى أسمع النساء العواتق في خدورها داخل بيوتهن ..!!
فقال e : يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان إلى قلبه .. لا تغتابوا المسلمين .. ولا تتبعوا عوراتهم ..فإنه من يتبع عورة أخيه .. يتبع الله عورته .. ومن يتبع الله عورته .. يفضحه ولو في جوف بيته .. ([12]) ..
نعم لا تتصيد الأخطاء .. وتتبع العورات .. كن سمحاً ..
وكان e حريصاً على عدم إثارة المشكلات أصلاً ..
في مجلس هادئ مع بعض أصحابه .. صفت فيه النفوس .. واطمأنت القلوب .. قال e لأصحابه :
ألا لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئاً .. فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر .. ([13]) ..
لا تعذب نفسك ..
لا تثر على نفسك الغبار ما دام ساكناً .. وإن ثار فسدَّ أنفك بِكُمِّك .. واستمتع بحياتك ..

6. اعترف بخطئك .. لا تكابر ..
كثير من المشاكل التي ربما تستمر العداوة بسببها .. سنة وسنتين .. وربما العمر كله .. يكون حلها أن يقول أحدهما للآخر : أنا أخطأت .. وأعتذر ..
موعد أخلفته .. أو مزحة ثقيلة ..أو كلمة نابية .. سارع إلى إطفاء شرارها قبل أن تضطرم النار بسببها ..
أنا آسف .. حقك عليَّ .. ما يصير خاطرك إلا طيب ..
ما أجمل أن نتواضع ونسمع الناس هذه العبارات ..
وقعت خصومة بين أبي ذر وبلال .. رضي الله عنهما .. وهما صحابيان .. لكنهما بشر ..
فغضب أبو ذر .. وقال لبلال : يا ابن السوداء ..
فشكاه بلال إلى رسول الله e ..
فدعاه النبي e فقال : أساببت فلاناً ؟
قال : نعم ..
قال : فهل ذكرت أمه ؟
قال : من يسابب الرجال .. ذُكر أبوه وأمه يا رسول الله ..
فقال e : إنك امرؤ فيك جاهلية ..
فتغير أبو ذر .. وقال : على ساعتي من الكبر ..؟
قال : نعم ..
ثم أعطاه النبي e منهجاً يتعامل به مع من هم أقل منه فقال :
إنما هم إخوانكم .. جعلهم الله تحت أيديكم .. فمن كان أخوه تحت يده .. فليطعمه من طعامه .. وليلبسه من لباسه .. ولا يكلفه ما يغلبه .. فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه ..
فماذا فعل أبو ذر t ؟!
مضى أبو ذر حتى لقي بلالاً .. ثم اعتذر .. وقعد على الأرض .. بين يدي بلال .. ثم جعل يقرب من الأرض حتى وضع خده على التراب وقال : يا بلال .. طأ برجلك على خدي .. ([14])
هكذا كان الصحابة y في حرصهم على إطفاء نار العداوة قبل اشتعالها .. فإن اشتعلت منعوها من الامتداد ..
وقعت بين أبي بكر وعمر y محاورة .. فأغضب أبو بكر عمرَ ..
فانصرف عنه عمرُ مغضباً ..
فلما رأى أبو بكر ذلك .. ندم .. وخشي أن يتطور الأمر ..
فانطلق يتبع عمر .. ويقول : استغفر لي يا عمر ..
وعمر لا يلتفت إليه .. وأبو بكر يعتذر .. ويمشي وراءه حتى وصل عمر إلى بيته .. وأغلق بابه في وجهه ..
فمضى أبو بكر إلى رسول الله e ..
فلما رآه النبي e مقبلاً من بعيد .. رآه متغيراً .. فقال :
أما صاحبكم هذا فقد غامر .. جلس أبو بكر ساكتاً ..
فلم تمض لحظات .. حتى ندم عمر على ما كان منه .. وكانت قلوبهم بيضاء ..
فأقبل إلى مجلس رسول الله e .. فسلم وجلس بجانب النبي e .. وقص عليه الخبر ..
وحكى كيف أعرض عن أبي بكر ولم يقبل اعتذاره ..
فغضب رسول الله e ..
فلما رأى أبو بكر غضبه .. جعل يقول : والله يا رسول الله .. لأنا كنت أظلم .. أنا كنت أظلم ..
وجعل يدافع عن عمر ويعتذر له ..
فقال e : هل أنتم تاركون لي صاحبي ؟ هل أنتم تاركون لي صاحبي ؟ إني قلت : يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً .. فقلتم : كذبت .. وقال أبو بكر : صدقت ([15]) ..
وانتبه أن تكون ممن يصلح الناس ويفسد نفسه .. يدور بها كما يدور الحمار في الرحى ..
فإذا كنت في موضع توجيه أو اقتداء .. كمدرس مع طلابه .. وأب مع أولاده .. أو أم .. وكذلك الزوجان مع بعضهما ..
وزع عمر t ثياباً على الناس .. فنال كل واحد قطعة قماش تكفيه إزاراً أو رداءً ..
ثم قام يخطب الناس يوم الجمعة ..
فقال في أول خطبته : إن الله كتب لي عليكم السمع والطاعة ..
فقام رجل من القوم وقال : لا سمع لك ولا طاعة ..
فقال عمر : لمه ؟
قال : لأنك قسمت علينا ثوباً .. ثوباً .. وأنت تلبس ثوبين جديدين ..
أي إزارك ورداؤك .. كلاهما نلحظ أنه جديد ..
فقال عمر : قم يا عبد الله بن عمر .. فقام .. فقال : ألست دفعت لي ثوبك لأخطب به ..؟
قال : نعم ..
فقعد الرجل وقال : الآن نسمع ونطيع .. وانتهت المشكلة ..
عزيزي لا تعجل عليَّ .. أنا معك أن أسلوب الرجل لما اعترض على عمر .. غير مناسب .. لكن العجب هو من قدرة عمر على استيعاب الموقف .. وإطفاء النار ..
وأخيراً .. إذا أردت أن يقبل الناس منك ملاحظتك .. ونصحك .. أياً كانوا .. زوجة .. ولداً .. أختاً ..
فكن أنت متقبلاً للنصح أصلاً .. غير متكبر عنه ..
كان كثيراً ما يقول لها : اعتن بأولادك أكثر .. اطبخي جيداً .. إلى متى أقول : رتبي غرفة النوم ..
وكانت تردد دائماً بكل أريحية : أبشر .. إن شاء الله .. أمرك ..
قالت له يوماً – ناصحة - : الأولاد في أيام اختبارات ويحتاجون وجودك بينهم .. فلا تتأخر إذا خرجت لأصحابك .. فما كاد يسمع منها ذلك حتى صاح بها :
لست متفرغاً لهم .. أتأخر أو لا أتأخر .. ليس شغلك .. ليس لك دخل فيَّ ..
فبالله عليك قل لي : كيف تريدها أن تقبل منه نصحاً بعد ذلك !!
وأخيراً ..
الذكي .. هو الذي يسد الفتحات في جداره حتى لا يستطيع الناس أن يسترقوا النظر ..
بمعنى : أن لا تفتح مجالاً لشك الناس فيك ..
أذكر أن إحدى الجمعيات الدعوية استدعت مجموعة من الدعاة لعقد محاضرات في ألبانيا ..
كان رئيس المراكز الدعوية في ألبانيا حاضراً الاجتماع ..
نظرنا إليه .. فإذا ليس في خديه شعرة واحدة ..
فنظر بعضنا إلى بعض مستغرباً ..!! فقد جرت العادة أن يكون الداعية ملتزماً بهدي رسول الله e معفياً لحيته .. ولو بعضها .. فكيف برئيس الدعاة ؟!
فلما ابتدأ الاجتماع قال لنا ضاحكاً : يا جماعة .. أنا أمرد .. أصلاً لا ينبت لي لحية .. لا تعملوا لي محاضرة إذا انتهينا ..
تبسمنا وشكرناه ..
وإن شئت فارحل معي إلى المدينة .. وانظر إلى رسول الله e وقد كان معتكفاً في مسجده في ليالي رمضان ..
فأقبلت إليه زوجه صفية بنت حيي t زائرة ..
فمكثت عنده قليلاً ..
ثم قامت لتعود لبيتها ..
فلم يشأ النبي e أن تعود في ظلمة الليل وحدها ..
فقام معها ليوصلها ..
فمشى معها في الطريق .. فمر به رجلان من الأنصار ..
فلما رأيا النبي e والمرأة معه .. أسرعا ..
فقال e لهما : على رسلكما إنها صفية بنت حيي ..
فقالا : سبحان الله يا رسول الله .. أي : أيُعقل أن نشك فيك أن يكون معك امرأة أجنبية عنك ..!!
فقال e : إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم .. وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً .. أو قال شيئاً .. ([16]) ..

شجاعة ..
ليست الشجاعة أن تصر على خطئك .. وإنما أن تعترف به .. ولا تكرره مرة أخرى ..

( [1] ) متفق عليه
( [2] ) متفق عليه
( [3] ) أخرجه الحاكم وصحح إسناده .
( [4] ) رواه البخاري
( [5] ) رواه أبو داود - صحيح
( [6] ) رواه البخاري
( [7] ) رواه أحمد وقال الهيثمي : رجاله ثقات
( [8] ) الحاكم في المستدرك
( [9] ) رواه الطبراني في الأوسط ، وأصله في الصحيحين
( [10] ) رواه مسلم
( [11] )
( [12] ) أخرجه أبو يعلى ، صحيح .
( [13] ) أخرجه أبو داود ، صحيح .
( [14] ) رواه مسلم مختصراً
( [15] ) البخاري
( [16] ) متفق عليه









عرض البوم صور ابو الوليد البتار   رد مع اقتباس
قديم 25 / 12 / 2008, 26 : 01 AM   المشاركة رقم: 12
المعلومات
الكاتب:
ابو الوليد البتار
اللقب:
موقوف


البيانات
التسجيل: 24 / 12 / 2007
العضوية: 11
العمر: 41
المشاركات: 0 [+]
بمعدل : 0 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 0
نقاط التقييم: 40
ابو الوليد البتار is on a distinguished road

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو الوليد البتار غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو الوليد البتار المنتدى : ملتقى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
افتراضي

..مفاتيح الأخطاء!
التعامل مع الأخطاء فن .. فلكل باب مفتاح .. وللقلوب دروب ..
إذا وقع أحد في خطأ كبير .. وانتشر خبره في الناس .. وبدأ الناس يترقبون ماذا تفعل فأشغلهم بشيء .. حتى يكون عندك وقت لدراسة الأمر .. حتى لا يتجرّأ أحد على مثل فعله .. أو يتعودوا على مثل هذا الخطأ ..
خرج e مع أصحابه في غزوة بني المصطلق ..
وأثناء رجوعهم .. نزلوا يستريحون ..
فأرسل المهاجرون غلاماً لهم اسمه : جهجاه بن مسعود .. ليستقي لهم من البئر ماءً ..
وأرسل الأنصار غلاماً لهم اسمه : سنان بن وبر الجهني .. ليستقي لهم أيضاً ..
فازدحم الغلامان على الماء .. فكسع أحدهما صاحبه .. أي ضربه على مؤخرته ..
فصرخ الجهني : يااااا معشر الأنصار ..
وصرخ جهجاه : يااااا معشر المهاجرين ..
فثار الأنصار .. وثار المهاجرون ..
واشتد الخلاف .. والقوم قادمون من حرب .. ولا يزالون بسلاحهم !!
فانطلق e .. حتى اطفأ ما بينهم ..
فتحركت الأفاعي ..
غضب عبد الله بن أبي بن سلول .. وعنده رهط من قومه الأنصار ..
فقال : أوقد فعلوها!! قد نافرونا .. وكاثرونا في بلادنا .. والله ما أعدُّنا وجلابيب قريش هذه .. إلا كما قال الأول : سَـمِّن كلبك يأكلك .. وجوِّع كلبك يتبعك !!
ثم قال الخبيث : أما والله لئن رجعنا الى المدينة .. ليخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ ..
ثم أقبل على من حضره من قومه فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم .. أحللتموهم بلادكم .. وقاسمتموهم أموالكم .. أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم .. لتحولوا إلى غير داركم ..
وجعل الخبيث يهدد ويتوعد .. والذين عنده من أنصاره المنافقين .. يؤيدونه ويشجعونه ..
كان من بين الجالسين غلام صغير .. اسمه زيد ابن أرقم ..
فمضى إلى رسول الله e فأخبره الخبر ..
وكان عمر بن الخطاب جالساً عند النبي e ..
فثار .. كيف يجرؤ هذا المنافق على رسول الله e بهذا الأسلوب القبيح .. ورأى عمر أن قتل الأفعى أولى من قطع ذيلها .. ورأى أن قتل ابن سلول .. يقضي على الفتنة في مهدها ..
ولكن أن يقتله رجل من قومه الأنصار .. أسلم من أن يقتله رجل من المهاجرين ..
ففقال عمر : يا رسول الله ..
من مر به عباد ابن بشر الأنصاري فليقتله ..
لكن رسول الله كان أحكم .. فهم قادمون من حرب .. والناس بسلاحهم .. والنفوس مشحونة .. وليس من المناسب إثارتهم أكثر ..
فقال e : فكيف يا عمر اذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ؟!
لا يا عمر .. ولكن آذن الناس بالرحيل ..
وكان الناس قد نزلوا للتوّ واستظلوا .. فكيف يأمرهم بالرحيل .. في شدة الحر والشمس ..
ولم تكن عادته e أن يرتحل في شدة الحر ..
ارتحل الناس ..
وبلغ عبد الله بن سلول أن رسول الله e .. أخبره زيد بن أرقم بما سمع منه ..
فأقبل ابن سلول إلى رسول الله e .. وجعل يحلف بالله .. ما قلت .. ولا تكلمت به .. كذب عليَّ الغلام ..
وكان ابن سلول رئيساً في قومه .. شريفا عظيما ..
فقال الأنصار : يا رسول الله .. عسى أن يكون الغلام أوْهمَ في حديثه .. ولم يحفظ ما قال الرجل ..
وجعلوا يدافعون عن ابن سلول ..
فأقبل سيد من سادة الأنصار .. أسيد بن حضير .. فحياه بتحية النبوة وسلم عليه .. وقال :
يا رسول الله .. والله لقد رحت في ساعة منكرة .. ما كنت تروح في مثلها !!
فالتفت إليه e وقال : أو ما بلغك ما قال صاحبكم ؟
قال : أي صاحب يا رسول الله ؟
قال : عبد الله بن أبي ..
قال : وما قال ؟
قال : زعم أنه ان رجع الى المدينة أخرج الأعزُّ منها الأذلَّ ..
فثار أسيد وقال : فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت .. هو والله الذليل .. وأنت العزيز ..
ثم قال أسيد مخففاً على رسول الله e :
يا رسول الله .. ارفق .. لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه .. فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً ..
فسكت النبي e .. ومضى براحلته .. والناس منهم من يجمع متاعه .. ومنهم من يرحل راحلته ..
وجعلت الحادثة تنتشر .. وصارت أحاديث الجيش : .. لماذا ارتحلنا في هذا الوقت .. ماذا قال ؟ كيف تعامل معه ؟ صدق ابن سلول .. لا بل كذب ..
وبدأت الشائعات تزيد .. والكلام يزاد فيه ويُنقَص .. واضطرب الجيش .. وهم في طريقهم من قتال .. ويمرون بقبائل أعداء يتربصون بهم ..
فشعر e أن الجيش بدأ ينقسم .. فأراد أن يشغلهم عن المشكلة .. وعن النقاش فيها .. لأنهم يزيدون أوارها .. ويشعلون الفتنة بين المهاجرين والأنصار ..
وصار الناس يترقبون متى ينزلون حتى يجتمع بعضهم إلى بعض ويتحدثوا في الأمر ..
فمشى e بالناس يومهم ذلك والشمس فوقهم .. ومشى ومشى حتى غابت الشمس .. فظن الناس أنهم سينزلون للصلاة ويرتاحون .. فلم ينزل إلا دقائق معدودات .. صلوا ثم أمرهم فارتحلوا .. وواصل المشي ليلتهم حتى أصبح ..
ثم نزل فصلى الفجر .. ثم أمرهم فارتحلوا ..
ومشوا صباحهم حتى تعبوا .. وآذتهم الشمس ..
فلما شعر أن الإرهاق والتعب سيطر عليهم .. فليس فيهم جهد للكلام ..
أمرهم فنزلوا .. فما كادت أجسادهم تمس الأرض .. حتى وقعوا نياما ..
وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عما حدث ..
ثم أيقظهم .. وارتحل بهم .. وواصل حتى دخل المدينة .. وتفرق الناس في بيوتهم عند أهليهم ..
وأنزل الله تعالى سورة المنافقين :
( هُمُالَّذِينَيَقُولُونَ لَاتُنفِقُواعَلَىمَنْعِندَرَسُولِاللَّهِحَتَّىيَنفَضُّواوَلِلَّهِ خَزَائِنُالسَّمَاوَاتِوَالْأَرْضِوَلَكِنَّالْمُنَافِقِينَلَايَفْقَهُونَ * يَقُولُونَلَئِنرَّجَعْنَاإِلَىالْمَدِينَةِلَيُخْرِجَنَّالْأَعَزُّ مِنْهَاالْأَذَلَّوَلِلَّهِالْعِزَّةُوَلِرَسُولِهِوَلِلْمُؤْمِنِينَوَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَلَايَعْلَمُونَ ) ..
فقرأها رسول الله e .. ثم أخذ بأذن الغلام زيد بن أرقم .. وقال : هذا الذي أوفى لله بأذنه ..
وبدأ الناس يسبون ابن سلول .. ويلومونه ..
فالتفت e إلى عمر وقال : أرأيت يا عمر .. لو قتلته يوم ذكرت ذلك .. لأرعدت له أنوف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته ..
ثم سكت عنه e .. فلم يتعرض له بشيء ..
وأحياناً إذا وقع الخطأ أمام الناس قد تحتاج أن تنكر عليه بأسلوب مناسب .. وإن كان أمام الناس ..
بينما رسول الله e جالساً يوماً مع أصحابه .. وكانوا في أيام قحط .. واحتباس مطر .. وقلة زرع ..
إذ أتاه أعرابي فقال :
يا رسول الله جهدت الأنفس .. وضاعت العيال .. ونهكت الأموال .. وهلكت الأنعام ..
فاستسق الله لنا .. فإنا نستشفع بك على الله .. ونستشفع بالله عليك ..
فتغير رسول الله e .. لما سمعه يقول نستشفع بالله عليك ..
فالشفاعة والواسطة تكون من الأدنى إلى الأعلى .. فلا يجوز أن يقال إن الله يشفع عند خلقه .. بل يأمرهم جل جلاله .. لأنه أعلى وأرفع ..
فقال e : ويحك !! أتدري ما تقول ؟!!
ثم جعل e يقدس الله .. ويردد .. سبحااان الله .. سبحااان الله ..
فما زال يسبح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه ..
ثم قال :
ويحك !! إنه لا يُسْتَشفعُ بالله على أحد من خلقه .. شأنُ الله أعظم من ذلك ..
ويحك !! أتدري ما الله ؟! إن عرشه على سماواته لهكذا .. وقال بأصابعه مثل القبة عليه .. وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب .. ([1]) ..
ولكن إذا وقع الخطأ من الشخص لوحده قد يكون هناك شيء من اللين ..
أتى رسول الله r إلى بيت عائشة t في ليلتها ..
فوضع نعليه من رجليه .. ووضع رداءه .. واضطجع على فراشه ..
فلبث كذلك .. حتى ظن أن عائشة قد رقدت ..
فقام من على فراشه .. ولبس رداءه ونعليه .. رويداً ..
ثم فتح الباب رويداً .. وخرج .. وأغلقه رويداً ..
فلما رأت عائشة ذلك .. دخلتها غَيْرةُ النساء .. وخشيت أنه ذهب إلى بعض نسائه ..
فقامت .. ولبست درعها .. وخمارها .. وانطلقت في إثره .. تمشي وراءه .. دون أن يشعر بها ..
فانطلق r .. يمشي في ظلمة الليل .. حتى جاء مقبرة البقيع ..
فوقف عندها .. ينظر إلى قبور أصحابه .. الذين عاشوا عابدين .. وماتوا مجاهدين .. واجتمعوا تحت الثرى .. ليرضى عنهم من يعلم السرَّ وأخفى ..
أخذ r ينظر إلى قبورهم .. ويتذكر أحوالهم ..
ثم رفع يديه فدعا لهم .. ثم أخذ ينظر إلى القبور .. ثم رفع يديه ثانية فدعا لهم ..
ثم لبث ملياً .. ثم رفعها فاستغفر لهم ..
وأطال القيام .. وعائشة تنظر إليه من بعيد ..
ثم التفت r وراءه راجعاً ..
فلما رأت ذلك عائشة .. انحرفت إلى ورائها راجعة .. خشية أن يشعر بها ..
فأسرع r مشيه .. فأسرعت عائشة ..
فهرول .. فهرولتْ .. فأحضرَ – أي جرى مسرعاً - فأحضرتْ وجرت ..
حتى سبقته إلى البيت فدخلت ..
ونزعت درعها وخمارها .. وأقبلت إلى فراشها فاضطجعت عليه .. كهيئة النائمة .. ونفَسها يتردد في صدرها ..
فدخل r البيت .. فسمع صوت نَفَسها .. فقال :
مالك يا عائش .. حشياً رابية ..
قالت : لا شيء ..
قال : لتخبرني .. أو ليخبرني اللطيف الخبير ..
فأخبرته بالخبر .. وأنها غارت عليه .. فانطلقت تنظر أين يذهب ..
فقال r : أنت الذي رأيتُ أمامي ؟
قالت : نعم ..
فدفعها في صدرها .. دفعة .. ثم قال :
أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله ..
فقالت عائشة : مهما يكتمِ الناسُ .. يعلمه الله عز وجل ..؟
قال : نعم .. ثم قال r مبيناً لها خبر خروجه :
إن جبريل عليه السلام .. أتاني حين رأيت .. ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك ..
فناداني .. فأخفى منك فأجبته وأخفيته منك .. وظننت أنك قد رقدت .. فكرهت أن أوقظك .. وخشيت أن تستوحشي .. فأمرني أن آتي أهل البقيع فأستغفرَ لهم .. ([2]) ..
نعم .. كان r .. سهلاً لـيِّناً لا يكبر الأخطاء ..
بل كان يرددها في الناس ويقول :
كما عند مسلم : لا يفرك مؤمن مؤمنة .. إن كره منها خلقاً .. رضي منها آخر ..
أي لا يبغضها بغضاً تاماً .. لأجل خلق عندها .. أو طبعٍ يلازمها ..
بل يغفر سيئتها لحسنتها .. فإذا رأى خطأها تذكر صوابها .. وإذا شاهد سوءها تذكر حسنها ..
ويتغاضى عما يكرهه من خلقها .. وما لا يرضاه من تعاملها ..
إضاءة ..
ليس اللوم على من لا يقبل النصيحة .. وإنما على من يقدمها بأسلوب غير مناسب ..

1. فَـكِّك الحزمة ..!!
إذا كان الخطأ واقعاً من مجموعة .. فالأصل أن تنصحهم وهم مجتمعون ..
ولكن قد تحتاج أحياناً أن تفكك الحزمة .. أعني ..أن تكلم كل واحد علىا حدة .. وتنصحه .
مثال : مررت بمجلس منزلكم .. وسمعت أخاك يتحدث مع أصدقائه – وكانوا ضيوفاً عنده – ويخططون أن يسافروا إلى بلد كذا .. وهذا البلد لا يسلم من يذهب إليه غالباً من التعرض للمحرمات الكبار .. كالزنا وشرب الخمر ..
أردت أن تنصح ..
من الأساليب أن تدخل عليهم وتنصحهم بكلمتين .. وتخرج .. لكن نتيجة ذلك قد لا تكون ناجحة كثيراً ..
فما رأيك أن تفكك الحزمة .. وتكسر كل عود على حدة ..
كيف ؟!
إذا تفرقوا اجلس مع من تظنه أعقلهم .. وقل : يا فلان .. بلغني أنكم ستسافرون .. وأنت أعقلهم .. وتعلم أن هذا البلد لا يسلم المسافر إليه من البلايا والفتن .. وقد يعود مريضاً أو مبتلى .. فما رأيك أن تكسب أجرهم .. وتقترح عليهم أن يسافروا إلى بلد آخر .. تستمتعون فيه بالأنهار والبحار .. واللعب والأنس .. من غير معصية ..
لا شك أنه إذا سمع منك هذا الكلام بالأسلوب الحسن .. سيقل حماسه إلى النصف ..
اذهب إلى آخر .. وقل له مثل ذلك ..
ثم قل للثالث مثله ..
دون أن يشعر كل منهم بحديثك لصاحبه ..
فتجد أنهم إذا اجتمعوا .. وتشجَّع أحدهم واقترح تغيير البلد .. وجد من يعاونه ..
أو لو اكتشفت يوماً أن أولادك يجتمعون في غرفة أحدهم .. وينظرون إلى شريط فيديو خليع .. أو مقاطع ( بلوتوث ) فيها صور خليعة .. أو نحو ذلك ..
فقد يكون من المناسب أن تنصح كلاً منهم على حدة .. لكيلا تأخذهم العزة بالإثم ..
هل لهذا شاهد من السيرة ؟ نعم ..
لما اشتد الخلاف بين رسول الله r وبين قريش ..
اجتمعت قريش وقاطعت النبي وجميع أقاربه من بني هاشم .. وكتبت صحيفة أن بني هاشم لا يُشترى منهم .. ولا يُباع عليهم .. ولا يُزوَّجون .. ولا يُتزوَّج منهم ..
وحُبس النبي e مع أصحابه في وادٍ غير ذي زرع ..
واشتدت الكربة على الصحابة حتى أكلوا الشجر ..
بل مضى أحدهم يوماً ليبول .. فسمع صوتاً تحته .. فنظر فإذا قطعة من جلد بعير .. فأخذها .. وغسلها وشواها بالنار .. ثم فتّـتَـتها .. وخلطها بالماء .. وجعل يتموَّن بها ثلاثة أيام !!
فقال e يوماً لعمه أبي طالب – وكان محبوساً معهم في الشعب - :
يا عم إن الله قد سلط الأَرَضة على صحيفة قريش .. فلم تدع فيها اسماً هو لله إلا أثبتته فيها .. ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان ..
أي إن دابة الأرضة أكلت صحيفة قريشس فلم يبق منها إلا عبارة : باسمك اللهم !!
فعجب أبو طالب وقال : أربك أخبرك بهذا ؟ قال : نعم ..
قال : فوالله ما يدخل عليك أحد .. حتى أخبر قريشاً بذلك ..
ثم خرج إلى قريش فقال :
يا معشر قريش .. إن ابن أخي قد أخبرني بكذا وكذا ..
فهلمَّ صحيفتكم ..
فإن كانت كما قال فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عنها ..
وإن كان كاذباً .. دفعت إليكم ابن أخي فافعلوا به ما شئتم ..
فقال القوم : قد رضينا .. فتعاقدوا على ذلك ..
ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله r .. فزادهم ذلك شراً ..
وظل بنو هاشم وبنو المطلب في واديهم .. حتى كادوا أن يهلكوا ..
وكان من كفار قريش رجال رحماء ..
منهم : هشام بن عمرو .. وكان ذا شرف في قومه ..
فكان يأتي بالبعير قد حمله طعاماً .. وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلاً ..
حتى إذا بلغ به فم الشعب .. خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه فدخل الشعب عليهم ..
ومضت اليام ورأى هشام .. أنه لا طاقة له بإطعامهم كل ليلة .. وهم كثير ..
فقرر أن يسعى لنقض الصحيفة الظالمة .. ولكن أنى له ذلك وقريش قد أجمعت عليها ..
فاتبع أسلوب تفكيك الحزمة ..
مشى إلى زهير بن أبي أمية .. وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب ..
فقال : يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء .. وأخوالك حيث علمت ؟ لا يباع لهم ولا يبتاع منهم .. ولا يُنَكَّحون ولا يُنكحُ إليهم ؟!
أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام .. - يعني أبا جهل .. وكان أشدهم عداوة للمؤمنين وتعصباً للمقاطعة .. – ما تركهم على هذا لاحال ..
قال : ويحك يا هشام .. فماذا أصنع ؟
إنما أنا رجل واحد والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها ..
قال : قد وجدت رجلاً ..
قال : من هو ؟
قال : أنا ..
قال زهير : أبغنا ثالثاً ..
قال هشام : فاكتم عني ..
فذهب إلى المطعم بن عدي .. وكان رجلاً عاقلاً .. فقال له : يا مطعم .. أرضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف .. وأنت شاهد على ذلك .. موافق لقريش فيه ؟!
قال : ويحك فماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد ..
قال : وجدت لك ثانياً ..
قال : من ؟ قال : أنا ..
قال : أبغنا ثالثاً .
قال : قد فعلت .. قال : من هو ؟
قال : زهير بن أبي أمية ..
قال : أبغنا رابعاً ..
قال : فاكتم عني ..
فذهب إلى أبي البختري بن هشام .. فقال له ما قال لصاحبيه ..
فتحمس لذلك .. وقال : وهل تجد أحدا يعين على هذا ؟
قال : نعم ..
قال : من هو ؟
قال : زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا معك ..
قال : أبغنا خامساً ..
فذهب هشام إلى زمعة بن الأسود .. فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم ..
فقال له : وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد ؟
قال : نعم .. فلان وفلان ..
فاتفقوا جميعاً على هذا الرأي .. وتوعدوا عند "حطم الحجون " ليلاً بأعلى مكة .. فاجتمعوا هنالك ..
وأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها ..
وقال زهير : أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم .. ثم تقموا أنتم فتتكلمون ..
فلما أصبحوا غدوا إلى مجالسهم حول الكعبة .. حيث يجتمع الناس ويتبايعون ..
وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة ..
فطاف بالبيت سبعاً .. ثم أقبل على الناس وصرخ :
ياااا أهل مكة أنأكل الطعام ..؟ ونلبس الثياب ..؟ وبنو هاشم هلكي !! لا يباع لهم ولا يبتاع منهم .. والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة ..
فصرخ أبو جهل ..وكان في مجلس مع أصحابه .. قال : كذبت .. والله لا تشق ..
فقام زمعة بن الأسود وصرخ : بل أنت والله أكذب .. ما رضينا كتابتها حين كتبت ..
فالتفت إليه أبو جهل ليرد عليه .. ففاجأه البخترى قائماً يقول : صدق زمعة .. لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به ..
فالتفت أبو جهل إلى البخنري ..
فإذا بالمطعم بن عدى يصرخ : صدقتما وكذب من قال غير ذلك .. نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها ..
وقام هشام بن عمرو وقال مثل قولهم ..
فتحير أبو جهل .. وسكت هنية ثم قال : هذا أمر قُضِي بليل .. تشوور فيه بغير هذا المكان ..
ثم انطلق المطعم بن عدي إلى الكعبة .. وتوجه إلى الصحفية ليشقها .. فوجد دابة الأرضة قد أكلتها .. إلا باسمك اللهم ..

كن ذكياً ..
الطبيب الحاذق يتلمس أولاً بأصابعه .. فيختار الموضع المناسب قبل غرز الإبرة ..

2. جلد الذات !!
من الذكريات ..
أنا خرجنا مرة للبر .. وكان معنا أبو خالد .. صديق لنا نظره ضعيف جداً ..
كنا نخدمه .. نقرب إليه الماء .. التمر .. القهوة .. وهو يردد : لا بد أن أساعدكم .. أريد أن أشتغل معكم .. كلفوني بأي عمل ..
ونحن ننهاه عن ذلك ..
ذبحنا شاة معنا .. وقطعناها ووضعناها في القدر .. تمهيداً لطبخها .. ولم نشعل النار بعد ..
وانشغلنا بنصب الخيمة .. وترتيب الأغراض ..
تحركت الشهامة في أبي خالد – ويا ليتها لم تفعل - فقام وتوجه إلى القدر .. فرأى اللحم .. فأدرك أن أول شيء سنفعله هو أن نصب الماء على اللحم .. فتوجه إلى الأغراض في السيارة .. وجعل يتلمس الأغراض .. مولد كهرباء .. أسلاك .. مصابيح .. أربع مطارات بلاستيك فيها ماء .. وبنزين .. وأغراض أخرى ..
فالتقط أقرب مطارة إليه .. وأقبل بها مبتهجاً إلى القدر .. وأفرغ نصفها فيه ..
لمحه أحدنا .. فصرخ به .. لا .. لا .. أبو خالد ..
وهو يردد : خلوني أشتغل .. خلوني ..
فسحبنا المطارة منه فوراً .. وغرقنا في الضحك الذي يغالبه البكاء ..
لأننا اكتشفنا أنها مطارة البنزين .. وليست مطارة الماء ..!!
وتغدينا على خبز وشاي ..
لم تفسد الرحلة .. بل كانت من أمتع الرحلات ..
ولماذا نعذب أنفسنا بأمر قد انتهى ..
وأذكر أيضاً :
لما كنت في الثانوية خرجت مع بعض الزملاء في رحلة .. تعطلت بطارية إحدى السيارات ..
أقبلنا بسيارة أخرى وأوقفاناها أمامها لنوصل ببطاريتها البطارية المتعطلة ..
أقبل طارق ووقف بين السيارتين .. وشبك الأسلاك في بطارية السيارة الأولى .. ثم شبكها في البطارية المتعطلة .. ثم أشار لأحد الشباب .. شغل السيارة ..
ركب صاحبنا .. وكان ناقل الحركة ( القير ) على رقم واحد .. فما إن شغل السيارة حتى قفزت السيارة إلى الأمام وصكت ركبتي طارق بين صدامي السيارتين .. ووقع على الأرض مصاباً ..
وصاحبنا في السيارة يردد : أشغل مرة ثانية ؟!!
أبعدنا السيارتين .. وساعدنا طارق على المشي .. كان يعرج ويتألم من ركبتيه بشدة ..
لكنه أعجبني أنه لم يزد ألمه بصراخ أو سبّ .. أو توبيخ .. بل ابتسم وأظهر الرضى ..
وما فائدة الصراخ ؟ والأمر قد انتهى .. وصاحبنا أدرك خطأه ..
إذا أردت أن تستمتع بحياتك .. فاعمل بهذه القاعدة :
لا تهتم بصغائر الأمور ..
نحن أحياناً نعذب أنفسنا .. ونجلدها ..
ونضيق ونتألم .. والألم لا يحل المشكلة ..
افرض أنك دخلت إلى حفل عرس .. وقد لبست ثوباً حسناً .. ووضعت فوق رأسك غترة وعقالاً .. حتى صرت أجمل من العريس !!
وبدأت تصافح الناس واحداً واحداً .. وفجأة أقبل طفل من ورائك .. وتعلق بطرف غترتك .. وسحبها فسقطت الغترة والعقال .. والطاقية .. وصار شكلك مضحكاً ..
كيف تتصرف؟
كثير منا يتعامل مع هذه المشكلة بأسلوب هو ليس حلاً لها ..
يركض وراء الصغير .. يصرخ .. يسب .. يلعن ..
والنتيجة : أنه حقق ما كان يريده الطفل من جذب انتباه .. وضجة .. وأضحك الناس عليه ..
وربما صوره بعضهم وصار بلوتوثاً يتناقلونه ..!!
أنت هنا – حقيقة – لا تعذب الطفل إنما تعذب نفسك ..
أو افرض أنك ..
لبست ثوباً جديداً .. ربما لم تسدد قيمته بعد ..
وذهبت إلى شركة لتقدم على وظيفة ..
مررت بأحد الأبواب كان مدهوناً بالطلاء للتوّ .. وبجانبه لوحة تحذيرية لم تنتبه لها ..
وفجأة مسحت نصف الطلاء بثوبك .. وطفق عامل الطلاء يصرخ بك ساباً غضباباً ..
كيف تتعامل مع هذه المشكلة ؟
نحن في كثير من الأحيان أيضاً نتعامل معها بأسلوب ليس حلاً لها ..
نثور .. نسبُّ العامل .. لِمَ لم تضع لوحة واضحة .. فيرد عليك بغضب .. وقد تكون النتيجة أن تتلطخ بتراب الأرض أكثر مما تلطخت بطلاء الباب !!
على رسلك .. تدري أنت الآن ماذا تفعل ؟! إنك تعذب نفسك .. تجلد ذاتك ..
وقل مثل ذلك لو تزينت وذهبت خاطباً .. فمرت بك سيارة وأنت خارج من البيت .. ورشت عليك من ماء كان مجتمعاً على الأرض .. هل ستعذب نفسك فتصرخ وتزعق بالسيارة وركابها .. وهي قد ولَّتك ظهرها ..
وكذلك ..
لا داعي لنتذكر دائماً الآلام التي مستنا في حياتنا ..
محمد e مرت به لحظات حزينة في حياته ..
حتى جلس يوماً مع زوجه الحنون عائشة t .. في لحظة ساكنة .. فسألته :
هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أحد ؟
مرَّت تلك المعركة في ذاكرة النبي e ..
آآآه .. ما أقسى ذلك اليوم .. يوم قُتل عمه حمزة وهو من أحب الناس إليه ..
يوم وقف ينظر إلى عمه وقرة عينه .. وقد جُدع أنفه .. وقطعت أذناه .. وشُقَّ بطنه .. ومُزِّق جسده ..
يوم كسرت أسنانه e .. وجُرح وجهه .. وسالت منه الدماء ..
يوم قتل أصحابه بين يديه ..
يوم عاد e إلى المدينة .. وقد نقص سبعون من أصحابه .. فرأى النساء الأرامل والأطفال اليتامى .. يبحثون عن أحبابهم وآبائهم ..
فعلاً .. كان ذلك اليوم قاسياً ..
كانت عائشة تنتظر الجواب .. فقال e :
ما لقيت من قومك كان أشد منه ..
يوم العقبة .. إذ عرضت نفسي ..
ثم ذكر لها قصة استنصاره بأهل الطائف .. وتكذيبهم له .. ورمي سفهائهم له بالحجارة حتى أدموا قدميه .. ([3]) ..
ومع وجود هذه الآلام في تاريخ حياته e .. إلا أنه كان لا يسمح لها أن تنغص عليه استمتاعه بالحياة ..
لا تستحق الالتفات إليها .. وقد مضت آلامها وبقيت حسناتها ..
إذن لا تقتل نفسك بالهمّ ..
وكذلك لا تقتل الناس بالهم واللوم ..
نحن أحياناً نتعامل مع بعض المشاكل بأساليب هي في الحقيقة ليست حلاً لها ..
كان الأحنف بن قيس سيد بني تميم ..
لم يكن ساد قومه بقوة جسد .. ولا كثرة مال .. ولا ارتفاع نسب ..
وإنما سادهم بالحلم والعقل ..
حقد عليه قوم ..
فأقبلوا إلى سفيه من سفهائهم وقالوا له :
هذه ألف درهم على أن تذهب إلى سيد بني تميم .. الأحنف بن قيس .. فتلطمه على وجهه ..
مضى السفيه .. فإذا الأحنف جالس مع رجال .. محتبياً بكل رزانة .. قد ضم ركبتيه إلى صدره .. وجعل يحدث قومه ..
اقترب السفيه منه .. ودنا .. ودنا .. فلما وقف عنده .. مدَّ الأحنف إليه رأسه ظاناً أنه سيسرّ إليه بشيء ..
فإذا بالسفيه يرفع يده ويلطم الأحنف على وجهه لطمة كادت تمزق خده !!
نظر الأحنف إليه .. ولم يحلّ حبوته .. وقال بكل هدوووء :
لماذا لطمتني ؟!!
قال : قوم أعطوني ألف درهم على أن ألطم سيد بني تميم ..
فقال الأحنف .. آآآه .. ما صنعت شيئاً ..
لست سيد بني تميم ..!
قال : عجباً !! فأين سيد بني تميم ..
قال : هل ترى ذاك الرجل الجالس وحده .. وسيفه بجانبه ؟
وأشار إلى رجل اسمه حارثة بن قدامة .. امتلأ غضباً وغيظاً .. لو قُسِّم غضبه على أمةٍ لكفاهم ..
قال : نعم أراه .. الجالس هناك ..
قال : فاذهب والطمه لطمة .. فذاك سيد بني تميم ..
مضى الرجل إليه : واقترب من حارثة .. فإذا عينا حارثة تلتمع شرراً ..
وقف السفيه عليه .. ورفع يده ولطمه على وجهه .. فما كادت يده تفارق خده حتى التقط حارثة سيفه .. وقطع يده ..!!
وقديماً قيل : الفائز هو الذي يضحك في النهاية !!

قناعة ..
التعامل مع المشكلة بأساليب ليست حلاً لها .. يعذبك .. ولا يحل المشكلة !!

3. مشاكل ليس لها حل ..
كم ترى من الناس غاضباً وهو يقود سيارته ..
وربما ضرب بيديه على مقودها .. وردد .. أوووه دائماً زحمة .. زحمة ..
أو قد تراه يمشي في الطريق .. ولا يحتمل أن يكلمه أحد .. بل متضايق أشد الضيق .. ويردد : أوووف حررر شديييد ..!!
وربما كنت زميلاً له في مكتب واحد .. تبتلى برؤيته كل يوم .. ويشغلك كلما جلس .. " ياخي العمل كثييير .. أوووه إلى متى ما يزيدون رواتبنا " .. ويدخل عابساً .. ويخرج ساخطاً ..
وربما أكثر التشكي من آلام بدنه .. أو إعاقة ولده ..
لا بد أن نقتنع جميعاً أننا تواجهنا في حياتنا مشاكل ليس لها حل .. فلا بد أن نتعامل معها بأريحية ..
قال : السماء كئيبة وتجهما ***
قلت : ابتسم ، يكفي التجهم في السما!
قال : الصبا ولى ! فقلت له : ابتسم ***
لن يرجع الأسف الصبا المتصرما
قال : التي كانت سمائي في الهوى ***
صارت لنفسي في الغرام جهنما
خانت عهودي بعدما ملكتها ***
قلبي فكيف أطيق أن أتبسما
قلت : ابتسم واطرب فلو قارنتها ***
قضيت عمرك كله متألما
قال : العدى حولي علت صيحاتهم ***
أَأُسَرُّ والأعداء حولي في الحمى
قلت : ابتسم ، لم يطلبوك بذمهم ***
لو لم تكن منهم أجلَّ وأعظما!
قال : الليالي جرعتني علقماً ***
قلت : ابتسم ولئن جرعت العلقما
فلعل غيرك إن رآك مُرَنِّـماً ***
طرح الكآبة خلفه وترنما
أتراك تغنم بالترنم درهماً ***
أم أنت تخسر بالبشاشة مغنماً
فاضحك فإن الشهب تضحك والدجى ***
متلاطم ولذا نحب الأنجما ([4]) ..
نعم استمتع بحياتك ..
انتبه أن تكون ظروفك مؤثرة على سلوكك .. في عملك .. أولادك .. زملائك ..
فما ذنبهم أن يتعذبوا بأمور ليس هم طرفاً فيها .. ولا يملكون حلها ؟
لا تجعلهم إذا رأوك .. أو ذكروك . ذكروا معك الهم والحزن ..
لذا نهى e عن النياحة على الميت .. والصراخ .. وشق الجيب .. وحلق الشعر .. و ..
لماذا ؟
لأن التعامل مع الموت يكون بتغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه .. والدعاء له ..
أما الصراخ والعويل فلا ينفع شيئاً .. سوى أنه يقلب متعة الحياة إلى أحزان ..
مشى المعافى بن سليمان مع صاحب له .. فالتفت إليه صاحبه عابساً وقال : ما أشد البرد اليوم ؟
فقال المعافى : أستدفأت الآن ؟
قال : لا ..
قال : فماذا استفدت من الذم ؟ لو سبّحت لكان خيراً لك ..
عش حياتك ..
لا تنقب عن المشكلات .. ولا تدقق في صغائر الأمور .. وإنما استمتع بحياتك ..

4. لا تقتل نفسك بالهم ..
كان أحد طلابي في الجامعة ..
غاب أسبوعاً كاملاً .. ثم لقيته فسألته : سلامات .. سعد ..؟
قال : لا شيء .. كنت مشغولاً قليلاً ..
كان الحزن واضحاً عليه ..
قلت : ما الخبر ؟
قال : كان ولدي مريضاً .. عنده تليف في الكبد .. وأصابه قبل أيام تسمم في الدم .. وتفاجأت أمس أن التسمم تسلل إلى الدماغ ..
قلت : لا حول ولا قوة إلا بالله .. اصبر .. وأسأل الله أن يشفيه ..
وإن قضى الله عليه بشيء .. فأسأل الله أن يجعله شافعاً لك يوم القيامة ..
قال : شافع ؟ يا شيخ .. الولد ليس صغيراً ..
قلت : كم عمره ؟
قال : سبع عشرة سنة ..
قلت : الله يشفيه .. ويبارك لك في إخوانه ..
فخفض رأسه وقال : يا شيخ .. ليس له إخوان .. لم أُرْزق بغير هذا الولد .. وقد أصابه ما ترى ..
قلت له : سعد .. بكل اختصار .. لا تقتل نفسك بالهم .. لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ..
ثم خففت عنه مصابه وذهبت ..
نعم لا تقتل نفسك بالهم .. فالهم لا يخفف المصيبة ..
أذكر أني قبل فترة .. ذهبت إلى المدينة النبوية ..
التقيت بخالد .. قال لي : ما رأيك أن نزور الدكتور : عبد الله ..
قلت : لماذا .. ما الخبر ؟
قال : نعزيه ..
قلت : نعزيه ؟!!
قال : نعم .. ذهب ولده الكبير بالعائلة كلها لحضور حفل عرس في مدينة مجاورة .. وبقي هو في المدينة لارتباطه بالجامعة ..
وفي أثناء عودتهم وقع لهم حادث مروع .. فماتوا جميعاً .. أحدى عشر نفساً !!
كان الدكتور رجلاً صالحاً قد جاوز الخمسين .. لكنه على كل حال .. بشر .. له مشاعر وأحاسيس ..
في صدره قلب .. وله عينان تبكيان .. ونفس تفرح وتحزن ..
تلقى الخبر المفزع .. صلى عليهم .. ثم وسدهم في التراب بيديه .. إحدى عشر نفساً ..
صار يطوف في بيته حيران .. يمر بألعاب متناثرة .. قد مضى عليها أيام لم تحرك .. لأن خلود وسارة اللتان كانتا تلعبان بها .. ماتتا ..
يأوي إلى فراشه .. لم يرتب .. لأن أم صالح .. ماتت ..
يمر بدراجة ياسر .. لم تتحرك .. لأن الذي كان يقودها .. مااات ..
يدخل غرف ابنته الكبرى .. يرى حقائب عرسها مصفوفة .. وملابسها مفروشة على سريرها .. ماتت .. وهي ترتب ألوانها وتنسقها ..
سبحان من صبّره .. وثبت قلبه ..
كان الضيوف يأتون .. معهم قهوتهم .. لأنه لا أحد عنده يخدم أو يُعين ..
العجيب أنك إذا رأيت الرجل في العزاء .. حسبت أنه أحد المعزين .. وأن المصاب غيره ..
كان يردد .. إنا لله وإنا إليه راجعون .. لله ما أخذ وله ما أعطى .. وكل شيء عنده بأجل مسمى ..
وهذا هو قمة العقل .. فلو لم يفعل ذلك .. لمات هماً ..
أعرف أحد الناس أراه دائماً سعيد .. وإذا تأملت حاله وجدت :
وظيفته متواضعة
بيته وضيق .. إيجار ..
سيارته قديمة ..
أولاده كثيرون ..
ومع ذلك كان دائم الابتسامة .. محبوباً .. يعيش حياته ..
صحيح .. لا يقتل نفسه بالهم ..
ولا تكثر التشكي..فيملّك الناس..
عنده ولد معوق .. ولدي مريض .. ضايق صدري .. يا أخي مسكين ولدي .. خلاص فهمنا ..
راتبي قليل ..
امرأة مع زوجها : بيتنا قديم .. سيارتنا متهالكة .. ثيابي ليست على الموضة ..
أفنيت يا مسكين عمرك بالتأوه والحزن
وظللت مكتوف اليدين تقول حاربني الزمن
إن لم تقم بالعبء أنت فمن يقوم به إذن

إضاءة
عش حياتك بما بين يدك من معطيات .. لتسعد

5. ارض بما قسم الله لك ..
كنت في رحلة إلى أحد البلدان لإلقاء عدد من المحاضرات ..
كان ذلك البلد مشهوراً بوجود مستشفى كبير للأمراض العقلية ..أو كما يسميه الناس "مستشفى المجانين" ..
ألقيت محاضرتين صباحاً .. وخرجت وقد بقي على أذان الظهر ساعة ..
كان معي عبد العزيز .. رجل من أبرز الدعاة ..
التفت إليه ونحن في السيارة .. قلت : عبد العزيز .. هناك مكان أود أن أذهب إليه ما دام في الوقت متسع ..
قال : أين ؟ صاحبك الشيخ عبد الله .. مسافر .. والدكتور أحمد اتصلت به ولم يجب .. أو تريد أن نمر المكتبة التراثية .. أو ..
قلت : كلا .. بل : مستشفى الأمراض العقلية ..
قال : المجانين !! قلت : المجانين ..
فضحك وقال مازحاً : لماذا .. تريد أن تتأكد من عقلك ..
قلت : لا .. ولكن نستفيد .. نعتبر .. نعرف نعمة الله علينا ..
سكت عبد العزيز يفكر في حالهم .. شعرت أنه حزين .. كان عبد العزيز عاطفياً أكثر من اللازم ..
أخذني بسيارته إلى هناك ..
أقبلنا على مبنى كالمغارة..الأشجار تحيط به من كل جانب..كانت الكآبة ظاهرة عليه..
قابلنا أحد الأطباء .. رحب بنا ثم أخذنا في جولة في المستشفى ..
أخذ الطبيب يحدثنا عن مآسيهم .. ثم قال :
وليس الخبر كالمعاينة ..
دلف بنا إلى أحد الممرات .. سمعت أصواتاً هنا وهناك ..
كانت غرف المرضى موزعة على جانبي الممر ..
مررنا بغرفة عن يميننا .. نظرت داخلها فإذا أكثر من عشرة أسرة فارغة .. إلا واحداً منها قد انبطح عليه رجل ينتفض بيديه ورجليه ..
التفتُّ إلى الطبيب وسألته : ما هذا !!
قال : هذا مجنون .. ويصاب بنوبات صرع .. تصيبه كل خمس أو ست ساعات ..
قلت : لا حول ولا قوة إلا بالله .. منذ متى وهو على هذا الحال ؟
قال :منذ أكثر من عشر سنوات ..كتمت عبرة في نفسي .. ومضيت ساكتاً ..
بعد خطوات مشيناها .. مررنا على غرفة أخرى .. بابها مغلق .. وفي الباب فتحة يطل من خلالها رجل من الغرفة .. ويشير لنا إشارات غير مفهومة ..
حاولت أن أسرق النظر داخل الغرفة .. فإذا جدرانها وأرضها باللون البني ..
سألت الطبيب : ما هذا ؟!! قال : مجنون ..
شعرت أنه يسخر من سؤالي .. فقلت : أدري أنه مجنون .. لو كان عاقلاً لما رأيناه هنا .. لكن ما قصته ؟
فقال : هذا الرجل إذا رأى جداراً .. ثار وأقبل يضربه بيده .. وتارة يضربه برجله .. وأحياناً برأسه ..
فيوماً تتكسر أصابعه .. ويوماً تكسر رجله .. ويوماً يشج رأسه .. ويوماً .. ولم نستطع علاجه .. فحبسناه في غرفة كما ترى .. جدرانها وأرضها مبطنة بالإسفنج .. فيضرب كما يشاء .. ثم سكت الطبيب .. ومضى أمامنا ماشياً ..
أما أنا وصاحبي عبد العزيز .. فظللنا واقفين نتمتم : الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاك به
ثم مضينا نسير بين غرف المرضى ..
حتى مررنا على غرفة ليس فيها أسرة .. وإنما فيها أكثر من ثلاثين رجلاً .. كل واحد منهم على حال .. هذا يؤذن .. وهذا يغني .. وهذا يتلفت .. وهذا يرقص ..
وإذا من بينهم ثلاثة قد أُجلسوا على كراسي .. وربطت أيديهم وأرجلهم .. وهم يتلفتون حولهم .. ويحاولون التفلت فلا يستطيعون ..
تعجبت وسألت الطبيب : ما هؤلاء ؟ ولماذا ربطتموهم دون الباقين ؟
فقال : هؤلاء إذا رأوا شيئاً أمامهم اعتدوا عليه .. يكسرون النوافذ .. والمكيفات .. والأبواب ..
لذلك نحن نربطهم على هذا الحال .. من الصباح إلى المساء ..
قلت وأنا أدافع عبرتي : منذ متى وهم على هذا الحال ؟
قال : هذا منذ عشر سنوات .. وهذا منذ سبع .. وهذا جديد .. لم يمض له إلا خمس سنين !!
خرجت من غرفتهم .. وأنا أتفكر في حالهم .. وأحمد الله الذي عافاني مما ابتلاهم ..
سألته : أين باب الخروج من المستشفى ؟
قال : بقي غرفة واحدة .. لعل فيها عبرة جديدة .. تعال ..
وأخذ بيدي إلى غرفة كبيرة .. فتح الباب ودخل .. وجرني معه ..
كان ما في الغرفة شبيهاً بما رأيته في غرفة سابقة .. مجموعة من المرضى .. كل منهم على حال .. راقص .. ونائم ..
و .. و .. عجباً ماذا أرى ؟؟
رجل جاوز عمره الخمسين .. اشتعل رأسه شيباً .. وجلس على الأرض القرفصاء .. قد جمع جسمه بعضه على بعض .. ينظر إلينا بعينين زائغتين .. يتلفت بفزع ..
كل هذا طبيعي ..
لكن الشيء الغريب الذي جعلني أفزع .. بل أثور .. هو أن الرجل كان عارياً تماماً ليس عليه من اللباس ولا ما يستر العورة المغلظة ..
تغير وجهي .. وامتقع لوني .. والتفت إلى الطبيب فوراً .. فلما رأى حمرة عيني ..
قال لي .. هدئ من غضبك .. سأشرح لك حاله ..
هذا الرجل كلما ألبسناه ثوباً عضه بأسنانه وقطعه .. وحاول بلعه .. وقد نلبسه في اليوم الواحد أكثر من عشرة ثياب .. وكلها على مثل هذا الحال ..
فتركناه هكذا صيفاً وشتاءً .. والذين حوله مجانين لا يعقلون حاله ..
خرجت من هذه الغرفة .. ولم أستطع أن أتحمل أكثر .. قلت للطبيب : دلني على الباب .. للخروج ..
قال : بقي بعض الأقسام ..
قلت : يكفي ما رأيناه ..
مشى الطبيب ومشيت بجانبه .. وجعل يمر في طريقه بغرف المرضى .. ونحن ساكتان ..
وفجأة التفت إليّ وكأنه تذكر شيئاً نسيه .. وقال :
يا شيخ .. هنا رجل من كبار التجار .. يملك مئات الملايين .. أصابه لوثة عقلية فأتى به أولاده وألقوه هنا منذ سنتين ..
وهنا رجل آخر كان مهندساً في شركة .. وثالث كان ..
ومضى الطبيب يحدثني بأقوام ذلوا بعد عز .. وآخرين افتقروا بعد غنى .. و ..
أخذت أمشي بين غرف المرضى متفكراً ..
سبحان من قسم الأرزاق بين عباده ..
يعطي من يشاء .. ويمنع من يشاء ..
قد يرزق الرجل مالاً وحسباً ونسباً ومنصباً .. لكنه يأخذ منه العقل .. فتجده من أكثر الناس مالاً .. وأقواهم جسداً .. لكنه مسجون في مستشفى المجانين ..
وقد يرزق آخر حسباً رفيعاً .. ومالاً وفيراً .. وعقلاً كبيراً .. لكنه يسلب منه الصحة .. فتجده مقعداً على سريره .. عشرين أو ثلاثين سنة .. ما أغنى عنه ماله وحسبه ..!!
ومن الناس من يؤتيه الله صحة وقوة وعقلاً .. لكنه يمنعه المال فتراه يشتغل حمال أمتعة في سوق أو تراه معدماً فقيراً يتنقل بين الحرف المتواضعة لا يكاد يجد ما يسد به رمقه ..
ومن الناس من يؤتيه .. ويحرمه .. وربك يخلق ما يشاء ويختار .. ما كان لهم الخيرة ..
فكان حرياً بكل مبتلى أن يعرف هدايا الله إليه قبل أن يعد مصائبه عليه .. فإن حرمك المال فقد أعطاك الصحة .. وإن حرمك منها .. فقد أعطاك العقل .. فإن فاتك .. فقد أعطاك الإسلام .. هنيئاً لك أن تعيش عليه وتموت عليه ..
فقل بملء فيك الآن بأعلى صوتك : الحممممد لله ..
وكذلك كان الصحابة الكرام y ..
بعث رسول الله r .. عمرو بن العاص t جهة الشام .. في غزوة ذات السلاسل ..
فلما صار إلى هناك رأى كثرة عدوه ..
فبعث إلى رسول الله r يستمده ..
فبعث إليه r أبا عبيدة بن الجراح .. أميراً على مدد .. فيه المهاجرون الأولون .. وفيهم أبو بكر وعمر .. وقال r لأبي عبيدة حين وجهه : لا تختلفا ..
فخرج أبو عبيدة ..
حتى إذا قدم على عمرو قال له عمرو : إنما جئت مدداً لي ..
فقال له أبو عبيدة : لا ولكن على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه ..
وكان أبو عبيدة رجلاً ليناً سهلاً .. هيناً عليه أمر الدنيا ..
فقال له عمرو : بل أنت مددي ..
فقال له أبو عبيدة : يا عمرو إن رسول الله r .. قد قال لي :
لا تختلفا .. وإنك إن عصيتني أطعتك ..
فقال له عمرو: فإني أمير عليك .. وإنما أنت مدد لي ..
قال : فدونك ..
فتقدم .. عمرو بن العاص t فصلى بالناس ..
وبعد الغزوة .. كان أول من وصل المدينة .. عوف بن مالك t ..
فمضى إلى رسول r ..
فلما رآه .. قال له r .. أخبرني ..
فأخبره عن الغزوة .. وما كان بين أبي عبيدة وعمرو بن العاص ..
فقال r : يرحم الله أبا عبيدة بن الجراح ..
نعم .. يرحم الله أبا عبيدة t ..
فكرة ..
انظر للجوانب المشرقة من حياتك .. قبل أن تنظر للمظلمة .. لتكون أسعد ..

6. كن جبلاً ..
في بداية سلوكي في طريق الدعوة .. دعيت لإلقاء محاضرة في إحدى القرى ..
استقبلني المسئول عن الدعوة هناك .. ركبت سيارته .. كانت قديمة متهالكة ..
تحدثت معه .. أخبرني أنه حديث عهد بزواج ..
ثم اشتكى إليَّ من غلاء المهور في قريتهم .. حتى إنه لم يستطع أن يشتري سيارة جديدة .. أو على الأقل أحسن من سيارته ..
دعوت له بالتوفيق ..
ثم دخلت وألقيت المحاضرة .. وفي آخرها .. قرئت عليَّ الأسئلة .. وكان من بينها سؤال عن غلاء المهور ..
ففرحت به وقلت : جاءك يا مهنا ما تتمنا !!
وانطلقت أتكلم عن غلاء المهور وتأثيره على الشباب والفتيات ..
ثم ذكرت إن رسول الله e ما زوج بناته بأكثر من خمسمائة درهم .. ثم رفعت صوتي قائلاً : يعني بناتكم أحسن من بنات النبي e ؟!!
فصرخ رجل مُسن من طرف الصف قائلاً : إيش فيهم بناتنا ؟
فثار آخر وقال : يتكلم على بناتنا !!
ونهض الثالث جاثياً على ركبتيه وقال : أوووه تتكلم على بناتنا ؟!!
كنت في حال لا أحسد عليه .. وكنت في أوائل طريق الدعوة .. وحديث التخرج من الجامعة ..
بقيت ساكتاً لم أنبس ببنت شفة .. نظرت إلى الأول لما تكلم وتبسمت .. فلما تكلم الثاني .. نظرت إليه أيضاً وتبسمت .. وكذلك الثالث ..
كان بعض الشباب في آخر المسجد يتضاحكون .. وبعضهم قاموا وقوفاً ينظرون .. وكأني بهم يقولون : وقف حمار الشيخ في العقبة !!
لما رأوا هدوئي .. هدؤوا .. ثم قام أحدهم وقال : يا جماعة .. خلوا الشيخ يوضح قصده ..
فسكتوا .. فشكرت له عمله .. ثم اعتذرت وأثنيت عليهم – وعلى بناتهم - ووضحت مرادي ..
عند تعاملك مع الناس .. أنت في الحقيقة تصنع شخصيتك .. وتبني في عقولهم تصورات عنك .. يبنون على أساسها أساليب تعاملهم معك .. واحترامهم لك ..
تأكد أن الأشجار الثابتة لا تقتلعها الرياح .. مهما اشتدت .. وإنما النصر صبر ساعة ..
كلما زاد عقلك .. قل جهلك .. وإذا زاد قدرك .. قل غضبك ..
كالبحر لا يحركه أي شيء .. ويا جبل ما تهزك ريح ..!
بل إنك لو استثارك شخص ما .. في مجلس .. أو بيت .. أو قناة فضائية .. أو محاضرة عامة ..
فإنك إذا بقيت هادئاً لم تغضب ولم تثر .. مال الناس معك ضده ..
كان أبو سفيان بن حرب مقبلاً بقافلة تجارة من الشام .. فخرج إليهم المسلمون لقتالهم ..
ففر أبو سفيان بالقافلة .. وأرسل إلى قريش فخرجت بجيش عرمرم ..
ووقعت معركة بدر بين المسلمين وقريش .. وانتصر المسلمون ..
قتل من كفار قريش سبعون .. وأُسِر منهم سبعون ..
رجع من تبقى من جيش قريش .. وهم جرحى .. وجوعى ..
ثم وصل أبو سفيان بقافلته إلى مكة ..
فمشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان ابن أمية ..
في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر ..
فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة ..
فقالوا : يا معشر قريش .. إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم .. فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأراً .. ففعلوا ..
وقد قال الله فيهم : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون " .
فخرجت قريش .. بحدها وحديدها .. وجدها وأحابيشها ..
وخرج معها من تابعها من بني كنانة وأهل تهامة .. وخرجوا معهم بالنساء لئلا يفر الرجال من القتال ..
فخرج أبو سفيان بزوجته هند بنت عتبة ..
وخرج عكرمة بن أبي جهل بزوجته أم حكيم بنت الحارث ..
وخرج الحارث بن هشام بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة ..
فأقبل الكفار .. حتى نزلوا على شفير الوادي مقابل المدينة ..
فلما سمع بهم رسول الله r .. استشار أصحابه .. ما رأيكم ؟‍
نبقى في المدينة فإذا دخلوها علينا ..
فقال له ناس لم يكونوا شهدوا بدراً : نخرج يا رسول الله إليهم نقاتلهم بـ "أحد" ..
ورجوا أن يصيبهم من الفضيلة ما أصاب أهل بدر ..
فما زالوا برسول الله r حتى لبس أداة الحرب ..
ثم ندموا .. وقالوا : يا رسول الله أقم .. فالرأي رأيك ..
فقال لهم : ما ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد ما لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه ..
فلما نزل أبو سفيان والمشركون بأصل أحد فرح المسلمون الذين لم يشهدوا بدراً بقدوم العدو عليهم ..
وقالوا : قد ساق الله علينا أمنيتنا ..
ثم قال النبي r لأصحابه :
" من رجل يخرج بنا على القوم من كثب ـ أي من قريب ـ من طريق لا يمر بنا عليهم " ؟
فقال رجل من بني حارثة بن الحارث اسمه أبو خيثمة :
أنا يا رسول الله ..
فسلك به في أرض بني حارثة وبين أموالهم ومزارعهم ..
حتى سلك به في مال لرجل اسمه : مربع ابن قيظي ..
وكان رجلاً منافقاً ضرير البصر ..
فلما سمع حِسّ رسول الله r .. ومن معه من المسلمين ..
قام يحثي في وجوههم التراب .. ويقول : إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل في حائطي ..
ثم أخذ الخبيث حفنة من التراب في يده .. ثم قال :
والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك ..
فابتدره القوم ..
فقال النبي e :
" لا تقتلوه .. فهذا الأعمى .. أعمى القلب .. أعمى البصر .. "
ومضى رسول الله r .. ولم يلتفت إلى ذلك المنافق ..
نعم ..

لو كل كلب عوى ألقمته حجراً

لأصبح الصخر مثقالاً بدينار

والكلاب تنبح .. والقافلة تسييييير ..
قناعة ..
الرياح لا تحرك الجبال .. لكنها تلعب بالرمال .. وتشكلها كما تشاء ..

7. لا تلعنه .. إنه يشرب خمراً ..!!
أكثر الناس الذين نخالطهم مهما بلغ من السوء .. إلا أنه لا يخلو من خير وإن كان قليلاً ..
فلو استطعنا أن نعثر على مفتاح الخير لكان حسناً ..
اشتهر عن بعض المجرمين .. أنه كان يسطو على بيوت الناس ويسرق أموالهم .. لينفق بعضها على ضعفاء وأيتام !! أو يبني بها مساجد !!
أو كالتي ترى أيتاماً جوعى فتزني لتحصل مالاً تسد به جوعهم ..
بنى مسجداً لله من غير حله **
فكان بحمد الله غير موفق
كمطعمة الأيتام من كدِّ عرضها ! **
لك الويل لا تزني ولا تتصدقي
وكم من حامل سكين ليطعن بها .. فاستعطفه طفل أو امرأة فرق قلبه .. وألقى سكينه عنه ..
إذن عامل الناس جميعاً بما تعلم فيهم من خير .. قبل أن تسيء الظن بهم ..
محمد e .. بلغ من خلقه أنه كان يلتمس المعاذير للمخطئين .. ويحسن الظن بالمذنبين .. وكان إذا قابل عاصياً ينظر فيه إلى جوانب الإيمان قبل جوانب الشهوة والعصيان ..
ما كان يسيء الظن بأحد .. يعاملهم كأنهم أولاده وإخوانه .. يحب لهم الخير كما يحبه لنفسه ..
كان رجل في عهد النبي e قد ابتلي بشرب الخمر ..
فأُتيَ به يوماً إلى رسول الله e فأمر به فجُلد ..
ثم مرت أيام .. فشرب خمراً .. فجيء به أخرى فجلد ..
ومرت أيام .. ثم جيء به قد شرب خمراً .. فجلد ..
فلما ولى خارجاً .. قال رجل من الصحابة :
لعنه الله .. ما أكثر ما يؤتى به !!
فالتفت إليه e .. وقد تغير وجهه فقال له : لا تلعنه .. فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله ..([5])

فن ..
قبل أن تبدأ في نزع شجرة الشر في الآخرين .. ابحث عن شجرة الخير واسقها ..

8. إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون ..!!
ما دمت مُلزما فاستمتع .. هكذا كنت أقول لشاب أصيب بمرض السكر .. فكان يشرب الشاي من غير سكر .. ويتأسف لحاله ..
كنت أقول له : هل إذا تأسفت وحزنت أثناء شربك الشاي .. هل تنقلب المرارة حلاوة ..
قال : لا ..
قلت : ما دمت ملزماً .. فاستمتع ..
أعني لن تأتي الدنيا دائماً على ما نحب ..
وهذا يقع في حياتنا كثيراً ..
سيارتك قديمة .. مكيف لا يشتغل .. مراتب ممزقة .. ولا تستطيع حالياً تغييرها .. ما الحل ؟
تقدمت للدراسة بالجامعة .. فقبلت في كلية لا ترغب في الدراسة فيها .. حاولت تعديل الحال فلم تستطع .. فاضطررت لمواصلة الدراسة .. وأكملت سنتين وثلاث .. فما الحل ؟
تقدمت لوظيفة فلم تقبل .. وقبلت في أخرى .. وبدأت دوامك فيها .. فما الحل؟
خطبت فتاتاً فرفضت .. وتزوجت آخر .. ما الحل ؟
كثير من الناس يجعل الحل هو الاكتئاب الدائم .. والتأفف من واقعه .. وكثرة التشكي إلى من عرف ومن لم يعرف ! وهذا لا يرد إليه رزقاً فاته .. ولا يعجل برزق لم يكتب له ..
إذن ما الحل ؟
العاقل فهو الذي يتكيف مع واقعه كيفما كان .. مادام لا يستطيع التغيير إلى الأحسن ..
أحد أصدقائي كان يشرف على بناء مسجد ..
فضاقت بهم النفقة .. فتوجهوا إلى أحد التجار للاستعانة به في إكمال البناء ..
فتح لهم الباب .. جلس معهم قليلاً .. وأعطاهم ما تيسر .. ثم أخرج دواء من جيبه وجعل يتناوله ..
قال له أحدهم : سلامات .. عسى ما شر !!
قال : لا .. هذه حبوب منومة .. منذ عشر سنين لا أنام إلا بها ..
دعوا له .. وخرجوا ..
فمروا على حفريات وأعمال طرق عند مخرج المدينة .. وقد وضع عندها أنوار تعمل بمولد كهربائي قد ملأ الدنيا ضجيجاً ..
ليس هذا هو الغريب ..
الغريب أن حارس المولد هو عامل فقير قد افترش قصاصات جرائد .. ونااااام ..
نعم .. عش حياتك .. لا وقت فيها لِلهمِّ .. تعامل مع المعطيات التي بين يديك ..
خرج e مع أصحابه في غزوة فقلَّ طعامهم .. وتعبوا ..
فأمرهم .. أن يجمعوا ما عندهم من طعام ..
وفرش رداءه .. وصار الرجل يأتي بالتمرة .. والتمرتين .. وكسرة الخبز .. وكلها تجتمع فوق هذا الرداء .. ثم أكلوا .. وهم مستمتعون ..

لمحة ..
ما كل ما يتمنى المرء يدركه ..
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

( [1] ) رواه أبو داود
( [2] ) رواه النسائي بسند جيد
( [3] ) تقدمت القصة كاملة ص .
( [4] ) أبيات لإيليا أبو ماضي من ديوانه ص656
( [5] ) متفق عليه









عرض البوم صور ابو الوليد البتار   رد مع اقتباس
قديم 25 / 12 / 2008, 30 : 01 AM   المشاركة رقم: 13
المعلومات
الكاتب:
ابو الوليد البتار
اللقب:
موقوف


البيانات
التسجيل: 24 / 12 / 2007
العضوية: 11
العمر: 41
المشاركات: 0 [+]
بمعدل : 0 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 0
نقاط التقييم: 40
ابو الوليد البتار is on a distinguished road

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو الوليد البتار غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو الوليد البتار المنتدى : ملتقى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
افتراضي


1. نختلف ونحن إخوان !
ذُكر أن الشافعي رحمه الله تناظر يوماً مع أحد العلماء حول مسألة فقهية عويصة ..
فاختلفا .. وطال الحوار .. حتى علت أصواتهما ..
ولم يستطع أحدهما أن يقنع صاحبه ..
وكأن الرجل تغير وغضب .. ووجد في نفسه ..
فلما انتهى المجلس وتوجها للخروج .. التفت الشافعي إلى صاحبه .. وأخذ بيده وقال :
ألا يصح أن نختلف ونبقى إخواناً ..!
وجلس بعض علماء الحديث يوماً .. عند الخليفة ..
فتكلم رجل في المجلس بحديث ..
فاستغرب العالم منه .. وقال : ما هذا الحديث !! من أين جئت به ؟ تكذب على رسول الله e ؟
فقال الرجل : بل هذا حديث .. ثابت ..
قال العالم : لا .. هذا حديث لم نسمع به .. ولم نحفظه ..
وكان في المجلس وزير عاقل ..
فالتفت إلى العالم وقال بهدوء : يا شيخ .. هل حفظت جمييييع أحاديث النبي e ..؟
قال : لا ..
قال : فهل حفظت نصفها ؟
قال : ربما ..
فقال : فاعتبر هذا الحديث من النصف الذي لم تحفظه ..
وانتهت المشكلة ..
كان الفضيل بن عياض وعبد الله بن المبارك صاحبين لا يفترقان ..
وكانا عالمين زاهدين ..
عنَّ لعبد الله بن المبارك فخرج للقتال والرباط في الثغور ..
وبقي الفضيل بن عياض في الحرم يصلي ويتعبد ..
وفي يوم رق فيه القلب .. وأسبلت الدمعة ..
كتب الفضيل إلى ابن المبارك كتاباً يدعوه فيه إلى المجيء والتعبد في الحرم .. والاشتغال بالذكر وقراءة القرآن ..
فلما قرأ ابن المبارك الكتاب ..
أخذ رقعة وكتب إلى الفضيل :
ياعابد الحرمين لو أبصرتنا ***
لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه ***
فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل ***
فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ***
رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا ***
قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في ***
أنف امريء ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا***
ليس الشهيد بميت لا يكذب
ثم قال :
إن من عباد من فتح الله في الصيام .. فيصوم ما لا يصومه غيره .. ومنهم من فتح له في قراءة القرآن .. ومنهم من فتح له في طلب العلم .. ومنهم من فتح في الجهاد .. ومنهم من فتح له في قيام الليل ..
وليس ما أنت عليه بأفضل مما أنا عليه ..
وما أنا عليه .. ليس بأفضل مما أنت عليه ..
وكلانا على خير ..
وهكذا كان منهج الصحابة ..
اجتمع الكفار وتألبوا لحرب المسلمين في المدينة .. وجاؤوا في جيش لم تشهد العرب مثله كثرة وعتاداً ..
فحفر المسلمون خندقاً لم يستطع الكفار أن يتجاوزوه لدخول المدينة ..
فعسكر الكفار وراء الخندق ..
وكان في المدينة قبيلة بني قريظة .. وهم يهود يتربصون بالمؤمنين ..
فأقبلوا إلى الكفار يمدونهم .. ويعيثون في المدينة فساداً ونهباً ..
وقد انشغل المسلمون عنهم بالرباط عند الخندق ..
ومضت الأيام عصيبة .. حتى أرسل الله على الكفار ريحاً وجنوداً .. من عنده فتمزق جيشهم .. وانقلبوا خائبين .. يجرون أذيال هزيمتهم في ظلمة الليل ..
فلما أصبح رسول الله r .. انصرف عن الخندق راجعاً إلى المدينة ..
ووضع المسلمون السلاح .. ورجعوا إلى بيوتهم ..
ودخل رسول الله r بيته .. ووضع السلاح واغتسل ..
فلما كانت الظهر .. جاءه جبريل ..
فنادى رسول الله r .. من خارج البيت ..
فقام رسول الله r فزعاً ..
فقال له جبريل عليه السلام : أوقد وضعت السلاح يا رسول الله ؟
قال : نعم ..
قال جبريل : ما وضعت الملائكة السلاح بعد .. وما رجعت الآن إلا من طلب القوم .. طلبناهم حتى بلغنا حمراء الأسد ..
إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة .. فإني عامد إليهم فمزلزل بهم ..
فأمر رسول الله r مؤذناً فأذن في الناس :
" من كان سامعاً مطيعاً .. فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة " ..
فتسابق الناس إلى سلاحهم .. وسمعوا وأطاعوا .. ومضوا إلى ديار بني قريظة ..
فدخل عليهم وقت العصر وهم في الطريق ..
فقال بعضهم لا نصلي العصر إلا في بني قريظة ..
وقال بعضهم : بل نصلي لم يرد منا ذلك .. يعني إنما أراد الإسراع إليهم ..
فصلوا العصر وأكملوا مسيرهم ..
وأخرها الآخرون .. حتى وصلوا بني قريظة .. فصلوها ..
فذكر ذلك للنبي r فلم يعنف واحداً من الفريقين ..
فحاصرهم النبي r .. حتى نصره الله عليهم ..

وجهة نظر ..
ليست الغاية أن نتفق .. لكن الغاية أن لا نختلف ..

2. الرفق .. إلا زانه ..
يتكرر على ألسنتنا كثيراً عندما نعجب بشخص ما .. أن نصفه قائلين :
فلان رزين .. فلان ثقيل .. فلان راكد ..
وإذا أردنا مذمة شخص قلنا : فلان عجول .. فلان خفيّف ..
أما رسول الله e فيقول : ما كان الرفق في شيء إلا زانه .. وما نزع من شيء إلا شانه .. ([1])
هل تستطيع تحريك طن الحديد بأصبع ؟
نعم : إذا أحضرت رافعة .. ثم ربطته برفق .. وأحكمت ربطه ..
ثم رفعته .. فإذا تعلق في الهواء .. حركه بأصغر أصابعك ..
اتفق صديقان على أن يتقدما لرجل لخطبة ابنتيه .. كانت إحداهما أكبر من الأخرى ..
قال أحدهما للآخر : أنا آخذ الصغيرة .. وأنت تأخذ الكبيرة ..
فصاح صاحبه : لااااا .. بل أنت خذ الكبيرة .. وأنا آخذ الصغيرة ..
فقال الأول : طيب .. أنت تأخذ الصغيرة .. وأنا آخذ التي أصغر منها ..
قال : موافق ..!!
ولم يدرك أن صاحبه ما غير قراره .. سوى أنه غير أسلوب الكلام برفق ..
وفي الحديث : إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق .. وإذا أراد الله بأهل بيت شراً .. نزع منهم الرفق .. ([2])
وفيه : إن الله رفيق يحب الرفق .. ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف .. وما لا يعطي على ما سواه .. ([3])
الرفيق .. الهين اللين .. محبوب عند الناس .. تطمئن إليه النفوس .. وتثق فيه ..
خاصة إذا صاحب ذلك وزن للكلام .. وقدرة على التعامل الرائع ..
من أشهر طلاب علماء الحنفية الإمام أبو يوسف القاضي ..
هو أشهر طلاب أبي حنيفة ..
كان أبو يوسف في صغره فقيراً .. وكان أبوه يمنعه من حضور درس أبي حنيفة .. ويأمره بالذهاب للسوق لتكسب ..
كان أبو حنيفة حريصاً عليه .. وإذا غاب عاتبه ..
فاشتكى أبو يوسف يوماً إلى أبي حنيفة حاله مع والده .. فاستدعى أبو حنيفة والد أبي يوسف وسألأه : كم يكسب الولد كل يوم ؟
قال : درهمان ..
قال : أنا أعطيك الدرهمين .. ودعه يطلب العلم ..
فلازم أبو يوسف شيخه سنين ..
فلما بلغ أبو يوسف سن الشباب .. ونبغ على أقرانه .. أصابه مرض أقعده ..
فزاره أبو حنيفة .. وكان المرض شديداً متمكناً منه .. فلما رآه أبو حنيفة حزن .. وخاف عليه الهلاك ..
وخرج وهو يكلم نفسه قائلاً : آآآه يا أبا يوسف .. لقد كنت أرجوك للناس من بعدي !!
ومضى أبو حنيفة يجر خطاه حزيناً إلى حلقته وطلابه ..
ومضت يومان .. فشفي أبو يوسف .. واغتسل ولبس ثيابه ليذهب لدرس شيخه ..
فسأله من حوله : إلى أين تذهب ؟
قال : إلى درس الشيخ ..
قالوا : إلى الآن تطلب العلم ؟ أنت قد اكتفيت .. أما بلغك ما قال فيك الشيخ ؟
قال : وما قال ؟!
قالوا : قد قال : كنت أرجوك للناس من بعدي .. أي أنك قد حصلت كل علم أبي حنيفة .. فلو مات الشيخ اليوم جلست مكانه ..
فأعجب أبو يوسف بنفسه ..
ومضى إلى المسجد ورأى حلقة أبي حنيفة في ناحية .. فجلس في الناحية الأخرى .. وبدأ يدرس ويفتي ..
التفت أبو حنيفة إلى الحلقة الجديدة .. فسأل : حلقة من هذه ؟
قالوا : هذا أبو يوسف ..
قال : شُفي من مرضه ؟!
قالوا : نعم ..
قال : فلم لم يأت إلى درسنا ؟!
قالوا : حدثوه بما قلت .. فجلس يدرس الناس واستغنى عنك ..
ففكر أبو حنيفة كيف يتعامل مع الموقف برفق .. وجعل يفكر ثم قال :
يأبى أبو يوسف إلا أن نقشِّر له العصا!!
ثم التفت إلى أحد طلابه الجالسين وقال :
يا فلان .. اذهب إلى الشيخ الجالس هناك .. يعني أبا يوسف .. فقل له : يا شيخ .. عندي مسألة ..
فسيفرح بك ويسألك عن مسألتك .. فما جلس إلا ليسأل !!
فقل له : رجل دفع ثوباً له إلى خياط ليقصره .. فلما جاءه بعد أيام يريد ثوبه جحده الخياط .. وأنكر أنه أخذ منه ثوباً .. فذهب الرجل إلى الشرطة فاشتكاه فأقبلوا واستخرجوا الثوب من الدكان ..
والسؤال : هل يستحق الخياط أجرة تقصير الثوب أم لا يستحق ؟
فإن أجابك وقال : يستحق .. فقل له : أخطأت ..
وإن قال : لا يستحق .. فقل له : أخطأت ..
فرح الطالب بهذه المسألة المشكلة .. ومضى على أبي يوسف وقال : يا شيخ .. مسألة ..
قال : ما مسألتك ؟
قال : رجل دفع ثوباً إلى خياط ..
فأجاب أبو يوسف على الفور قائلاً : نعم يستحق الأجرة .. ما دام أتم العمل ..
فقال السائل : أخطأتَ ..
فعجب أبو يوسف .. وتأمل في المسألة أكثر .. ثم قال : لا .. لا يستحق الأجرة ..
فقال السائل : أخطأت ..
فنظر أبو يوسف إليه .. ثم سأله : بالله من أرسلك ..
فأشار إلى أبي حنيفة .. وقال : أرسلني الشيخ ..
فقام أبو يوسف من مجلسه .. ومضى حتى وقف على حلقة أبي حنيفة وقال : يا شيخ .. مسألة ..
فلم يلتفت أبو حنيفة إليه ..
فأقبل أبو يوسف حتى جثى على ركبتيه بين يدي الشيخ .. وقال بكل أدب : يا شيخ .. مسألة ..
قال : ما مسألتك ؟
قال : تعرفها ..
قال : مسألة الخياط والثوب ؟
قال : نعم ..
قال : اذهب وأجب .ز ألست شيخاً ..
قال : الشيخ أنت ..
فقال ابو حنيفة : ننظر في مقدار تقصير الخياط للثوب .. فإن كان قصره على مقاس الرجل .. فمعنى ذلك أنه قام بالعمل كاملاً .. ثم بدا له أن يجحد الثوب .. فيكون قام بالعمل لأجل الرجل .. فيستحق عليه الأجرة ..
وإن كان قصره على مقاس نفسه .. فمعنى ذلك أنه قام بالعمل لأجل نفسه .. فلا يستحق على ذلك أجرة ..
فقبل أبو يوسف رأس أبي حنيفة .. ولازمه حتى مات أبو حنيفة .. ثم قعد أبو يوسف للناس من بعده ..
فلو استعمل الزوجان الرفق مع بعضهما ..
وكذلك الأبوان ..
والمدراء .. والمدرسون ..
نستعمل الرفق دائماً .. في سواقة السيارة .. في التدريس .. في البيع والشراء ..
وإن كان المرء قد يحتاج الشدة أحياناً .. حتى في النصح .. وهذا هو الحكمة في النصيحة .. وهي وضع الأمور في مواضعها ..
وقد كان غضبه r دائماً إن غضب في الأمور الدينية ..
فما غضب رسول الله e لنفسه قط .. إلا أن تنتهك حرمة من محارم الله ..
قابل عمر بن الخطاب t يوماً رجلاً من اليهود ..
فأطلعه على كلام في التوراة .. فأعجبه .. فأمره فنسخه له ..
ثم جاء عمر بهذه الصحيفة من التوراة إلى رسول الله e ..
فقرأها عليه ..
فلاحظ النبي e أن عمر معجب بما معه .. وأن التلقي عن الديانات السابقة .. إن فُتح المجال له .. اختلط ذلك بالقرآن .. والتبس الأمر على الناس ..
وكيف يفعل عمر ذلك .. وينسخ .. ويكتب .. دون استئذان النبي e !!
فغضب e .. وقال : أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب ؟! أي شاكّون في شريعتي ..
والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية .. لا تسألوهم عن شيء .. فيخبروكم بحق فتكذبوا به .. أو بباطل فتصدقوا به .. والذي نفسي بيده لو أن موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني .. ([4]) ..
والله يا معشر قريش لقد جئتكم بالذبح ..
في أوائل بعثة النبي e .. كان e يأتي عند الكعبة وقريش في مجالسهم .. ويصلي .. ولا يلتفت إليهم ..
وكانوا يؤذونه بأنواع الأذى .. وهو صابر ..
وفي يوم ..
اجتمع أشرافهم في الحجر .. فذكروا رسول الله e فقالوا :
ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط .. سفّهَ أحلامنا .. وشتم آباءنا .. وعاب ديننا .. وفرق جماعتنا .. وسب آلهتنا .. وصرنا منه على أمر عظيم ..
فبينما هم في ذلك .. إذ طلع رسول الله e .. فأقبل يمشي حتى استلم الركن ..
ثم مر بهم طائفاً بالبيت ..
فغمزوه ببعض القول ..
فتغير وجه رسول الله e .. فرفق بهم .. وسكت عنهم .. ومضى ..
فلما مر بهم الثانية .. غمزوه بمثلها ..
فتغير وجهه أيضاً .. فسكت عنهم .. ومضى في طوافه ..
فمر بهم الثالثة .. فغمزوه بمثلها ..
فرأى أن الرفق لا يصلح مع أمثال هؤلاء .. فوقف عليهم وقال :
أتسمعون يا معشر قريش !! أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح .. ووقف أمامهم ..
فلما سمع القوم هذا التهديد .. الذبح .. وهو الصادق الأمين ..
انتفضوا .. حتى ما منهم من رجل إلا وكأنما على رأسه طائر وقع .. حتى أن أشدهم عليه ليتلطف معه .. وصاروا يقولون : انصرف أبا القاسم راشدا .. فما كنت جهولاً ..
فانصرف رسول الله e عنهم ..
نعم ..
إذا قيل : حلم ، قل : فللحلم موضع **
وحلم الفتى في غير موضعه جهل
وإن كان المتتبع لسيرة النبي r يجد أنه كان يغلب الرفق دائماً ..
انتبه !! ليس الضعف والجبن .. وإنما الرفق ..
ومن مواقف الرفق :
أنه بعد وقعة بدر بشهر .. أراد أبو العاص زوج زينب بنت النبي e أن يرسلها إلى المدينة عند أبيها ..
فبعث رسول الله r زيد بن حارثة .. ورجلاً من الأنصار ..
فقال :كونا ببطن يأجح حتى تمر بكما زينب فتصحباها فتأتياني بها ..
فخرجا مكانهما ..
فأمرها أبو العاص بالتجهز .. فبدأت في جمع متاعها ..
فبينا هي تتجهز .. لقيتها هند بنت عتبة .. زوجة أبي سفيان ..
فقالت : يا ابنة محمد .. ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك ؟
قالت : ما أردت ذلك ..
فقالت : أي ابنة عم .. أن أردت أن تفعلي ..
فإن كان لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك .. أو بمال تتبلغين به إلى أبيك ..
فإن عندي حاجتك فلا تضطني مني .. أي لا تخجلي ..
فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال ..
قالت زينب : والله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل .. ولكني خفتها فأنكرت أن أكون أريد ذلك ..
فلما أتمت جهازها .. قدّم إليها أخو زوجها كنانة بن الربيع بعيراً ..
فركبته و أخذ قوسه و كنانته ..
ثم خرج بها نهاراً يقود بها و هي في هودج لها ..
فرآها الناس .. و تحدث بذلك رجال من قريش .. كيف تخرج إليه ابنته وقد فعل بنا ما فعل في بدر ..
فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى ..
وكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود .. فروعها بالرمح و هي في الهودج ..
فقيل : إنها كانت حاملاً ففزعت .. وطرحت ولدها ..
وأقبل الكفار يتسابقون إليها .. وعهم السلاح ..
وهي ليس معها إلا أخو زوجها كنانة ..
فلما رأى ذلك ..
وبرك على الأرض .. ثم نثر كنانته وصف رماحه بين يديه .. ثم قال :
و الله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما .. وكان رامياً .. فتكركر الناس عنه وتراجعوا ..
وأخذوا ينظرون إليه من بعيد .. لا هو يقدر على الذهاب .. ولا هم يجترئون على الاقتراب منه ..
حتى بلغ أبا سفيان أن زينب خرجت إلى أبيها ..
فأقبل في جلة جمع من قريش .. فلما رأى كنانة قد تجهز بنبله .. ورأى القوم قد استوفزوا لقتاله ..
صاح به وقال :
يا أيها الرجل .. كف عنا نبلك حتى نكلمك ..
فكف نبله .. فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه .. فقال :
إنك لم تصب .. خرجت بالمرأة على رؤوس الناس علانية ..
وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا في بدر .. و ما دخل علينا من محمد .. قتل أشرافنا .. ورمل نساءنا ..
فإذا رآك الناس .ز وتسامعت القبائل .. أنك خرجت بابنته علانية .. على رؤوس الناس من بين أظهرنا ..
أن ذلك عن ذل أصابنا .. وأن ذلك ضعف منا ووهن ..
ولعمري مالنا بحبسها من أبيها من حاجة .. ومالنا من ثأر عليها ..
ولكن ارجع بالمرأة .. حتى إذا هدأت الأصوات .. وتحدث الناس أن قد رددناها ..
فسُلّها سراً .. وألحقها بأبيها ..
فلما سمع كنانة ذلك .. اقتنع به .. وعاد بها ..
فأقامت ليالي في مكة ..
حتى إذا هدأت الأصوات .. خرج بها ليلة من الليالي .. فمشى بها ..
حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه ..
فقدما بها ليلاً على رسول الله r ..

وحي ..
ما كان الرفق في شيء إلا زانه .. وما نزع من شيء إلا شانه ..

3. بين الحي .. والميت ..
كان ثقيلاً على الناس .. على زملائه .. جيرانه .. إخوانه .. حتى على أولاده ..
نعم .. كان ثقيل الدم ..
طالما سمعهم مراراً يقولون : يا أخي ما عندك مشاعر !!
لم يكن يتفاعل معهم أبداً ..
أتاه ولده يوماً فرحاً مستبشراً .. يلوّح بدفتر الواجب وقد وقع المدرس فيه كلمة " ممتاز " .. لم يلتفت الأب إليه .. وإنما قال : طيب .. عادي .. والله لو أنك جايب شهادة الدكتوراه !!
كان المنتظر غير ذلك ..
طالب عنده في الفصل .. كان خفيف الدم .. لاحظ ثقل الدرس ( والمدرس !!) فلطف الجوَّ بنكتة أطلقها .. فلم تتحرك تعابير وجه المدرس وإنما قال : تستخف دمك ؟!
كنت أتمنى أن يكون تصرفه غير ذلك ..
دخل إلى البقالة .. فقال له العامل البسيط : الحمد لله .. جاءتني رسالة من أهلي .. لم يتفاعل ..
هلا سأل نفسه لماذا أخبره أصلاً .. ليشاركه فرحته ..
زار أحد زملائه .. فوضع له القهوة والشاي .. ثم دخل البيت وجاء بطفله الأول حديث لاولاده .. قد لفه في مهاده .. ولو استطاع أن يلفه بجفون عينيه لفعل .. ثم وقف به بين يديه وقال : ما رأيك في هذا البطل ؟
فنظر إليه ببرود .. وقال .. ما شاء الله .. الله يخلي لك إياه .. ثم رفع فنجال الشاي ليشرب ..
كان المنتظر أن يتفاعل أكثر .. يأخذ الغلام بين يديه .. يقبله .. يمدح جماله .. وصحته ..
لكن صاحبنا كان ( غبياً ) ..
عندما تتعامل مع الناس .. قس الأمور بأهميتها عندهم .. لا عندك أنت ..
فكلمة "ممتاز" بالنسبة لولدك أغلى عنده من شهادة الدكتوراه عند الدكتور ..
وهذا المولود عند صاحبك أغلى عنده من الدنيا .. كلما رآه ودَّ أن يشق قلبه ويسكنه فيه .. أفلا يستحق منك حبك لصاحبك أن تشاركه ولو بعض شعوره ..
أحياناً يكون بعض الناس متحمساً لشيء معين ..
لذلك تجد الذين لا يتفاعلون مع الناس يشتكي أحدهم دائماً ..
لماذا أولادي لا يحبون ( السوالف ) معي .. فنقول : لأنهم يحكون لك النكتة فلا تتفاعل .. ويروون قصصهم في مدارسهم .. وكأنهم يكلمون جداراً ..
حتى ذكر لك شخص قصة .. أنت تعرفها .. فلا مانع من التفاعل معه ..
قال عبد الله ابن المبارك : والله إن الرجل ليحدثني بالحديث وأنا أعرفه من قبل أن تلده أمه فأسمعه منه .. وكأني أول مرة أسمعه ..
ما أجمل هذه المهارة ..
قبيل معركة الخندق ..
عمل المسلمون في حفر الخندق حتى أحكموه ..
وكان من بينهم رجل اسمه جعيل .. فغيره النبي e إلى عمرو ..
فكان الصحابة يشتغلون .. ويعملون ..
ويرددون قائلين :
سماه من بعد جعيل عمراً ***
وكان للبائس يوماً ظهراً
فكانوا إذا قالوا : عمرواً .. قال معهم رسول الله r : عمرواً ..
وإذا قالوا : ظهراً .. قال لهم : ظهراً ..
فيتحمسون أكثر .. ويشعرون أنه معهم ..
والله لولا الله ما اهتدينا ..
ولما أقبل الليل عليهم اشتد البرد ..
واستمروا يحفرون ..
فخرج عليهم رسول الله e ..
فرآهم يحفرون بأيديهم راضين مستبشرين ..
فلما رأوا رسول الله e قالوا :
نحن الذين بايعوا محمداً *** على الجهاد ما بقينا أبدا
فقال مجيباً لهم :
اللهم إن العيش عيش الآخرة ، فاغفر للأنصار والمهاجرة ..
ويستمر تفاعله معهم .. طوال الأيام ..
فسمعهم وقد علاهم الغبار .. وهم يرددون :
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا
فكان يرفع صوته متفاعلاً معهم قائلاً : أبينا .. أبينا .
وكان e إذا مازحه أحد تفاعل معه .. وضحك وتبسم ..
دخل عليه عمر وهو r غضبان على نسائه .. لما أكثرن عليه مطالبته بالنفقة .. فقال عمر : يَا رَسُولَ اللَّهِ .. لَوْ رَأَيْتَنا وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ .. نَغْلِبُ النِّسَاءَ ..
فكنا إذا سألت أحدَنا امرأتُه نفقةً قام إليها فوجأ عنقها ..
فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ .. فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ..
فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ r .. ثم زاد عمر الكلام .. فازداد تبسم النبي r ..
وتقرأ في أحاديث أنه تبسم حتى بدت نواجذه ..
وكان e يتعامل مع أنواع من الناس لا يقدرون التعامل الراقي .. ولا يتفاعلون معه .. بل ينغلقون ويتعجلون ..
ومع ذلك كان يصبر عليهم ..
كان r .. يوماً نازلاً بموضع يقال له "الجعرانة " بين مكة والمدينة ..
ومعه بلال .. فجاءه r أعرابي يبدو أنه كان قد طلب من النبي e حاجة فوعده بها ولم تتيسر بعد .. وكان الأعرابي مستعجلاً .. فقال :
يا محمد .. ألا تنجز لي ما وعدتني ؟
فقال له e متلطفاً : أبشر ..
وهل هناك كلمة أرق منها ..!!
فقال الأعرابي بكل صلافة : قد أكثرت علي من أبشر !
فغضب النبي e من عبارته .. لكنه كتم غيظه .. والتفت إلى أبي موسى وبلال وكانا جالسين بجانبه .. فقال :
رد البشرى فاقبلا أنتما ..
فاستبشرا ..
ثم دعا e بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومجَّ فيه ..
ثم قال : اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا .. أي ببركة هذا الماء ..
فأخذا القدح ففعلا ..
وكانت أم سلمة t قريبة منهم .. جالسة وراء ستار .. فأرادت أن لا تفوتها البركة .. فنادت من وراء الستر : أفضلا لأمكما .. أي أبقيا لها منه ..
فأفضلا لها منه طائفة .. ([5]) ..
إذن كان لطيف المعشر .. أنيس المجلس .. متحملاً .. لا يعمل قضية وخلافاً من كل شيء ..
جلس e يوماً مع عائشة ..
فأخذت تحدثه بأحاديث نساء .. وهو يتفاعل معها ..
وهي تفصل الكلام وتطيل .. وهو على كثرة مشاغله يستمع ويتفاعل ويعلق ..
حتى قضت حديثها ..
فحدثته أنه جلست إحدى عشرة امرأة – في أيام الجاهلية - فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً ..
فجعلن يتذاكرن أزواجهن بما فيهم ولا يكذبن !!
قالت الأولى :
زوجي لحم جمل غث على رأس جبل ..
لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل ..
( تشبه زوجها بالجبل الوعر الذي وضعوا فوقه لحم جمل كبير غير جيد .. فلا يحرص أحد للوصول إليه لصعوبة الوصول إليه .. وهو لا يستحق التعب لأجله .. أي : لسوء خلقة .. وأنه يتكبر .. مع أنه ليس عنده ما يتكبر بسببه فهو بخيل فقير ) ..
قالت الثانية :
زوجي لا أبث خبره ..
إني أخاف أن لا أذره ..
إن أذكره أذكر عجره وبجره ..
( أي : زوجها كثير العيوب .. وتخشى إذا ذكرت ما فيه أن يبلغه ذلك فيطلقها .. وهي متعلقة به بسبب أولادها ..
لكنها لم تمدحه فإن له عُجَر وبُجَر !! والعجر : أن تنعقد العروق في الجسد حتى تصير منتفخة .. فتؤلم ..
والبُجَر انتفاخ عروق في البطن .. !!)
قالت الثالثة :
زوجي العَشَنَّق ..
إن أنطق أطلق ..
وإن أسكت أُعلَّق ..
وهو على حد السِّنان الـمُذَلَّق ..
( أي : زوجها طويل قبيح .. سيء الخلق .. ولا يتسامح معها بل على مثل حد السيف !! فهي مهددة بالطلاق كل لحظة .. لا يحتمل كلامها .. ومتى اشتكت إليه شيئاً طلقها .. ولا يعاملها معاملة الأزواج .. فهي عنده كالمعلقة ) ..
قالت الرابعة :
زوجي كـ لَـيْـلِ تِهامة ..
لا حَرٌ ولا قَرٌ ..
ولا مخافة ولا سآمة ..
( ليل تهامة لا رياح فيه فيطيب لأهله .. فوصفت زوجها بجميل العشرة .. واعتدال الأخلاق .. فلا أذى عنده ) ..
قالت الخامسة :
زوجي إن دخل فَـهِد ..
وإن خرج أَسِد ..
ولا يسأل عما عَـهِد ..
( أي : إذا دخل بيته صار كالفهد وهو الحيوان المعروف وهو كريم نشيط .. وغذا خرج من البيت وخالط الناس فهو أسد لشجاعته .. وهو أيضاً سمحٌ لا يدقق في السؤال عن ما يأخذه أهله أو يصرفونه ..)
قالت السادسة :
زوجي إن أكل لفَّ ..
وإن شرب اشتفَّ ..
وإن اضطجع التفَّ ..
ولا يُولِج الكفَّ .. ليعلم البثَّ ..
(أي : إن زوجها يكثر الأكل حتى يلفه لفاً فلا يبقي لهم شيئاً .. والشراف يشفّه شفاً .. يشربه كله .. وإذا نام التفَّ باللحاف ولم يدع لزوجته شيئاً .. وإذا حزنت لم يقرب كفه إليها أو يلاطفها ليعلم سبب حزنها .. ) ..
قالت السابعة :
زوجي غياياء أو عياياء ( أي غبي !! )
طباقاء ( أحمق !)
كل داء له داء ( جميع العيوب فيه !)
إن حدثته سبك .. ( لا يقبل حديثاً ولا مؤانسة . بل يسب ويلعن دوماً ) ..
وإن مازحته : شجًك ( ضرب رأسك فجرحه !) ..
أو فلًك ( ضرب الجلد فجرحه ) ..
أو جمع كلاًّ لكِ .. ( يضرب كل المواضع الرأس والجسد ! ) ..
قالت الثامنة :
زوجي .. المس مس أرنب .. ( أي ناعم رقيق ) ..
والريح ريح زرنب .. ( وهو نبات طيب الرائحة ) ..
وأنا اغلبه والناس يغلب .. ( أي سهل معها ينصاع لما تريد .. لكنه بطل يغلب الناس وشخصيته أمامهم قوية ) ..
قالت التاسعة :
زوجي رفيع النجاد .. ( بيته واسع مفتوح للضيوف ) ..
عظيم الرماد .. ( كثير إشعال النار استقبالاً للضيوف وطبخاً لهم ) ..
قريب البيت من الناد .. ( المجلس الذي يجلس فيه مع أصحابه وهو النادي قريب من بيته لحرصه على أهله ) ..
لا يشبع ليله يضاف .. ( لا يأكل كثيراً عند الناس ) ..
ولا ينام ليلة يُخَاف .. ( إذا كان هناك خطر بالليل من عدو أو غيره .. يظل مستيقظاً يحرس ويراقب ) ..
قالت العاشرة :
زوجي مالك ..
وما مالك ؟! ..
مالك خير من ذلك ..
له إبل كثيرات المبارك ..
قليلات المسارح ..
وإذا سمعن المزهر .. أيقنَّ أنهن هوالك ..
( زوجها اسمه مالك .. مهما وصفته لن تحيط بأوصافه الجميلة .. إبله دائماً قريبة منه وقل ما تسرح أي تذهب للرعي ..لتكون جاهة للحلب منها ونحرها للضيوف .. وإذا سمعت افبل صوت المزهر السكين تُحَدّ وتجهّز .. علمت أنه سيهلك بعضهن ذبحاً للضيوف ) ..
قالت الحادية عشرة :
زوجي أبو زرع ؟! ( اسمه أبو زرع ) ..
فما أبو زرع ..
أناس من حلي أذني .. ( ألبسها الحلي والذهب ) ..
وملأ من شحم عضدي .. ( سمنت عنده ) ..
وبجحني فبجحت إلى نفسي .. ( مدحني حتى أعجبت بنفسي ) ..
وجدني في أهل غنيمة بشِقٍّ .. ( كان اهلها فقراء لا يملكون إلا غنيمات ) ..
فجعلني في أهل صهيل وأطيط ( نقلها إلى بيت فيه خيل وإبل ) ..
ودائس ومنق ( أي دواب كثيرة ) ..
فعنده أقول فلا أقبح .. ( تتكلم بما شاءت ولا ينتقد كلامها ) ..
وأرقد فأتصبح .. ( تشبع نوماً إلى الصباح .. لكثرة الخدم ) ..
وأشرب فأتقنح .. ( جميع الأشربة عندها .. تروى منها ) ..
أم أبي زرع ؟! فما أم أبي زرع !!
عكومها رداح .. ( سمينة جميلة ) ..
وبيتها فساح .. ( بيتها واسع ) ..
ابن أبي زرع ؟! فما بن أبي زرع !!
مضجعه كمسل شطبة .. ( ينام نوماً رفيقاً بأدب ) ..
ويشبعه ذراع الجفرة .. ( لا يأكل كثيراً ) ..
بنت أبي زرع ؟! فما بنت أبي زرع !!
طوع أبيها وطوع أمها ..
وملء كسائها .. ( متسترة ) ..
وغيظ جارتها .. ( تغار جاراتها من جمالها ولذة عيشها ) ..
جارية أبي زرع ؟! فما جارية أبي زرع !! ( الخادمة !! )
لا تبث حديثنا تبثيثاً .. ( لا تنشر أسرار البيت ) ..
ولا تنفث ميرتنا تنفيثاً .. ( لا تبدد طعام البيت وتعبث به ) ..
ولا تملأ بيتنا تعشيشاً .. ( لا تهمل البيت فيمتلأ بالأوساخ ) ..
ثم قالت :
خرج أبو زرع والأوطاب تمخض .. ( خرج من بيته يوماً في وقت ربيع ) ..
فلقى امرأة معها ولدان لها كالفهدين .. ( رأى امرأة جالسة حولها طفلان جميلان قويا البنية ) ..
يلعبان من تحت خصرها برمانتين .. ( يلعبان بثدييها ) ..
فطلقني ونكحها .. ( أعجبته .. فطلق أم زرع وتزوجها !! ) ..
فنكحت بعده رجلا سرياً .. ( تزوجت ام زرع رجلاً كريماً ) ..
ركب شرياً .. ( ركب خيلاً سابقاً ) ..
وأخذ خطياً ..
وأراح علي نعماً ثرياً .. ( أكرمها وأهداها لأنه ثري ) ..
وأعطاني من كل رائحة زوجاً .. ( أكثر لها من الأطياب ويعطيها اثنين من كل شيء لتستعمل وتهدي إن شاءت ) ..
وقال : كلي أم زرع ..
وميري أهلك .. ( أهدي لأهلك وأعطيهم ) ..
ثم قالت :
فلو جمعت كل شيء أعطانيه ..
ما بلغ أصغر آنية أبي زرع .. ( لا يزال قلبها معلقاً بأبي زرع ..!! ما الحب إلا للحبيب الأول )
كان e يستمع بكل غنصات إلى عائشة وهي تحدثه .. ولم يظهر لها ضجراً ولا مللاً .. مع تعبه وكثرة مشاغله .. وتراكم همومه ..
حتى إذا انتهت عائشة من حديثها :
قال e : كنت لك كأبي زرع لأم زرع ..
إذن .. اتفقنا .. على أهمية إظهار اللطف والاهتمام بالناس ..
فإذا جاءك ولدك متزيناً بثوب جميل .. ما رأيك يا أبي ؟ .. تفاعل ..
ابنتك .. زوجتك ..
زوجك .. ولدك .. زميلتك ..
كل من تخالطهم كن حياً متفاعلاً ..
أحياناً تكون ناسياً الموضوع .. قال لك – مثلاً - : أبشرك الوالد شُفي من مرضه .. فلا تقل : أصلاً .. متى مرض ؟!!
أو : أخي خرج من السجن .. لا تقل : والله ما دريت أصلاً أنه دخل السجن ..
وأخيراً .. يا جماعة ..
التشجيع والتفاعل ينفع حتى مع الحيوانات ..
قال أبو بكر الرقي :
كنت بالبادية ..
فوافيت قبيلة من قبائل العرب .. فأضافني رجل منهم وأدخلني خباءه ..
فرأيت في الخباء عبدا أسود مقيداً بقيد .. ورأيت جِمالا قد ماتت بين يدي البيت ..
وقد بقى منها جمل وهو ناحل ذابل كأنه ينزع روحه ..
فقال لي الغلام : أنت ضيف .. ولك حق .. فتشفع فيَّ إلى مولاي .. فإنه مكرم لضيفه .. فلا يرد شفاعتك في هذا القدر .. فعساه يحل القيد عني ..
فسكت عنه .. ولم أدر ما جرمه ..
فلما أحضروا الطعام .. امتنعت .. وقلت :
لا آكل .. ما لم أشفع في هذا العبد ..
فقال السيد : إن هذا العبد قد أفقرني .. وأهلَكَ جميعَ مالي ..
فقلت : ماذا فعل ؟!
فقال : إن له صوتاًً طيباً .. وإني كنت أعيش من ظهور هذه الجمال .. فحمَّلها أحمالاً ثقالاً ..
وكان ينشد الأشعار ويحدو بها .. حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة من طيب نغمته ..
فلما حطت أحمالها .. ماتت كلها .. إلا هذا الجمل الواحد ..
ولكن أنت ضيفي .. فلكرامتك قد وهبته لك .. وأطلق الغلام من قيده ..
فاشتقت إلى سماع هذا الصوت ..
فلما أصبحنا أمره أن يحدو على جمل يستقى الماء من بئر هناك .. لينشط الجمل للعمل ..
فانطلق الغلام بصوت حسن .. فلما رفع صوته ..
سمعه الجمل فهام وهاج ونسي نفسه .. حتى قطع حباله ..
ووقعت أنا على وجهي من حسن الصوت .. فما أظن أني سمعت قط صوتاً أطيب منه .. ([6])
طور نفسك بالتدريب ..
كن حياً لا ميتاً .. تفاعل بكلامك .. بتعبيرات وجهك .. حتى يأنس الآخرون بك ..

4. اجعل لسانك عذباً ..
لا تخلو حياتنا من مواقف نحتاج فيها إلى تقديم توجيهات ونصائح للآخرين ..
الولد .. الزوج .. الصديق .. الجار .. الأبوين ..
تختلف نهايات النصائح .. باختلاف بداياتها ..
أعني : إن كانت البداية بأسلوب مناسب .. ومدخل لطيف ..
انتهت كذلك ..
وإن كانت بأسلوب جاف .. ومدخل عنيف .. انتهت كذلك ..
عندما ننصح الناس .. فنحن في الواقع نتعامل مع قلوبهم .. لا أجسادهم ..
لذلك تجد بعض الأبناء يتقبل من أمه ولا يتقبل من أبيه .. أو العكس ..
والطلاب يتقبلون من مدرس .. دون الآخر ..
وأول البراعة في النصيحة ..
أن لا تكثر منها وتدقق على كل صغير وكبير .. حتى لا يشعر الآخرون أنك مراقب لحركاتهم وسكناتهم .. فتثقل عليهم ..
ليس الغبي بسيد في قومه *** لكن سيد قومه المتغابي
وإن استطعت أن تقدم انصيحة على شكل اقتراح .. فافعل ..

لو قللت الملح في الطعام .. لكان أحسن ..
لو تغير ملابسك بثياب أجمل ..
لو ما تتأخر عن مدرستك مرة أخرى .. أفضل ..
ما رأيك لو فعلت كذا .. أقترح عليك كذا وكذا ..
أحسن من قولك ..
يا قليل الأدب .. كم مرة قلت لك .. أنت ما تفهم .. إلى متى أعلمك ؟!!
اجعله يحتفظ بماء وجهه .. ويشعر بقيمته حتى وهو مخطئ ..
لأن المقصود علاج أخطائه لا الانتقام منه أوإهانته ..
يعني يا جماعة .. بالعبارة الصريحة :
لا أحد يحب أن يتلقى الأوامر ..
أراد e يوماً أن يوجه عبد الله بن عمر للتعبد بصلاة الليل ..
فما دعاه وقال : يا عبد الله قم الليل ..
وإنما قدم النصيحة على شكل اقتراح .. وقال : نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل ..
وفي رواية قال : يا عبد الله لا تكن مثل فلان .. كان يقوم الليل ..
بل إن استطعت أن تلفت نظره إلى الأخطاء من حيث لا يشعر فهو أولى ..
عطس رجل عند عبد الله بن المبارك .. فلم يقل الحمد لله .. فقال عبد الله : ماذا يقول العاطس إذا عطس ؟ قال : الحمد لله .. فقال : عبد الله : يرحمك الله ..
وكان رسول الله r كذلك ..
كان إذا انصرف من صلاة العصر .. دخل على نسائه واحدة واحدة ..
فيدنو من إحداهن .. ويتحدث معها ..
فدخل على زينب بمن جحش .. فوجد عندها عسلاً .. وكان r يحب العسل والحلواء ..
فاحتبس عندها أكثر ما كان يحتبس عند غيرها ..
فغارت عائشة وحفصة .. وتواصتا من دخل عليها تقول له :
أجد منك ريح مغافير .. وهو شراب حلو يشبه العسل .. ولكن له رائحة سيئة ..
وكان r يشتد عليه أن يوجد منه الريح من بدنه أو فمه .. لأنه يناجي جبريل .. ويناجي الناس ..
فلما دخل على حفصة .. سألته ماذا أكل ؟
فقال : شربت عسلاً عند زينب ..
فقالت : إني أجد منك ريح مغافير ..
فقال : لا بل شربت عسلاً .. ولن أعود له ..
ثم قام ودخل على عائشة .. فقالت له عائشة مثل ذلك ..
ومضت الأيام .. وكشف الله له القضية كلها ..
وبعد أيام .. أسر إلى حفصة t حديثاً .. فأظهرته ..
فدخل عليها يوماً .. وعندها الشفاء بنت عبد الله .. وكانت صحابية تتعلم الطب .. وتعالج الناس ..
فقال e للشفاء : ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة ..
ورقية النملة كلام كانت نساء العرب تقوله .. يعلم كل من سمعه أنه كلام لا يضر ولا ينفع ..
ورقية النملة التي كانت تعرف بينهن أن يقال :
العروس تحتفل .. وتختضب وتكتحل .. وكل شيء تفتعل .. غير أن لا تعصي الرجل ..
فأراد r بهذا المقال تأنيب حفصة والتأديب لها تعريضاً .. بأن تردد جملة : غير أن لا تعصي الرجل ..
أحد السلف استلف منه رجل كتاباً .. فرده إليه بعد أيام وعليه آثار طعام .. كأنه حمل عليه خبزاً أو عنباً .. فسكت صاحب الكتاب ..
وبعد أيام جاءه صاحبه يستعير منه كتاباً آخر .. فأعطاه الكتاب في طبق ..!!
فقال الرجل : إنما أريد الكتاب .. فما بال الطبق ؟!
فقال : الكتاب لتقرأ فيه .. والطبق لتحمل عليه طعامك !!
فأخذ الكتاب .. ومضى .. فقد وصلت الرسالة ..
وأذكر أن أن أحدهم كان يعود إلى بيته ليلاً .. وينزع ثوبه .. يعلقه على الشماعة .. وينام ..
فتأتي زوجته .. وتفتح محفظة النقود .. ثم تأخذ الصرف الموجود .. من فئة الريال .. والخمسة ..
فإذا استيقظ صباحاً وذهب إلأى عمله .. واحتاج أن يحاسب في بقالة ونحوها .. لم يجد صرفاً ..
فراقبها .. حتى فهم القضية ..
فرجع إلى بيته يوماً .. وقد جعل في جيبه ضفدعاً ..
ونزع ثوبه كالعادة .. واضطجع كهيئة النائم .. وأخذ يشخر .. وهو يراقب الثوب ..
فأقبلت زوجته لتأخذ ما يتيسر ..كالعادة !!
أقبلت إلى الثوب تمشي رويداً .. أدخلت يدها بهدوووء ..
فلمست الضفدع .. فتحرك فجأة .. فصرخت : آآآآه.. يدي ..
ففتح الزوج عينيه .. وقال : وأنا .. آآآه .. جيبي ..
ليتنا نستعمل هذا الأسلوب .. مع جميع الناس ..
أولادنا إذا وقعوا في أخطاء .. ومع طلابنا ..
نايف أحد الأصدقاء .. كان له أم صالحة .. لا ترضى ن يبقى في البيت صور أبداً .. لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ..
كان عندها طقلة صغيرة .. عندها ألعاب متنوعة .. إلا الدُّمى .. العرائس ..
أهدت إليها خالتها دُمية .. عروسة .. وقالت لها : العبي بها في غرفتك .. واحذري أن تراها أمك ..
وبعد يومين .. علمت الأم ..
فأرادت أن تقدم النصيحة بأسلوب مناسب ..
جلسوا على الطعام .. فقالت أم نايف : يا أولاد ..!! من يومين .. وأنا أشعر أن البيت ليس فيه ملائكة !! لا أدري لماذا خرجت .. لا حول ولا قوة إلا بالله ..
والبنت الصغيرة تسمع وهي ساكته ..
وبعد الغداء رجعت الصغيرة إلى غرفتها .. فإذا بين يديها ألعاب كثيرة .. والعروسة من بينها .. فالتقطتها .. وجاءت بها إلى الأم وقال : ماما .. هذه التيطردت الملائكة .. افعلي بها ماشئت !!
يعني دع المنصوح يحتفظ بماء وجهه .. ويمكن أن تأكل العسل من غير أن تحطم الخلية ..
لا تنصحه كأنه قد كفر بفعله ..
بل وأحسن الظن به .. واعتبر أنه وقع في الخطأ من غير قصد .. أو من غير أن يعلم ..
كانت الخمر في أول الإسلام لم تحرم بعد ..
وفي يوم أقبل عامر بن ربيعة .. الصحابي الجليل ..
من سفر .. فأهدى لرسول الله r راوية خمر .. جرة كاملة مملوءة خمراً ..
نظر النبي e إلى الخمر مستغرباً .. والتفت إلى عامر بن ربيعة .. وقال : أما علمت أنها قد حرمت ..؟
قال : حرمت ؟! لا .. ما علمت يا رسول الله ..
قال : فإنها قد حرمت ..
فحملها عامر .. فأسرَّ إليه بعضهم بأن يبيعها ..
فسمعه النبي e فقال : لا .. إن الله إذا حرم شيئاً .. حرم ثمنه ..
فأخذها t فاهراقها على التراب .. ([7])
وانتبه أن تمدح نفسك وأنت تنصح .. فترفع نفسك وتسحب المنصوح إلى القاع .. لا أحد يرضى بذلك ..
بعض الآباء – مثلاً- .. إذا نصح ولده بدأ يذكر أمجاده ..أنا كنت وكنت .. ولعل الولد يعلم تاريخ والده ..!!

باختصار ..
الكلمة الطيبة .. صدقة ..

5. اختصر .. ولا تجادل ..
يقولون : إن الناصح كالجلاد ..
وبقدر مهارة الجلاد في الجلد .. يبقى الألم ..
أقول : مهارة الجلد .. لا قوة الجلد !!
فالجلاد العنيف الذي يضرب بقوة .. يتألم المضروب وقت وقوع السياط .. ثم ما يلبث حتى ينساها ..
أما الجلاد الأستاذ في صنعته ..فقد لا يضرب بقوة .. لكنه يعلم أن يوقع السوط ..
كذلك الناصح .. ليست العبرة بكثرة الكلام .. ولا طول النصيحة ..
وإنما بأسلوب الناصح ..
فاختصر قدر المستطاع .. إذا أردت أن تنصحه فلا تلق عليه محاضرة ..!!
خاصة إذا كان الأمر متفقاً عليه .. كمن تنصحه عن الغضب .. أو شرب الخمر .. أو ترك الصلاة .. أو عقوق الوالدين .. الخ ..
تأملت النصائح النبوية الشخصية المباشرة .. فوجدتها لا تزيد الواحدة منها عن سطر واحد .. أو سطرين ..
اسمع : يا علي .. لا تتبع النظرة النظرة .. فإن لك الأولى وليست لك الثانية ..
انتهى .. نصيحة باختصار ..
يا عبد الله بن عمر .. كن في الدنيا كأنك غريب .. أو عابر سبيل ..
انتهى ..
يا معاذ .. والله إني أحبك .. فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول : اللهم أعني على ذكرك .. وشكرك .. وحسن عبادتك ..
يا عمر .. إنك رجل قوي .. فلا تزاحمن عند الحجر ..
وكذلك كان العقلاء بعده ..
لقي أبو هريرة t الفرزدق الشاعر فقال :
يا ابن أخي إني أرى قدميك صغيرتين .. ولن تعدم لهما موضعا في الجنة ..
يعني فاعمل لها .. ودع عنك قذف لمحصنات في شعرك ..
وعمر t .. كان على فراش الموت .. فجعلوا الناس يثنون عليه ..
وجاء شاب فقال : أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله e .. وقدم في الإسلام ما قد علمت .. ثم وَلِيت فعدلت .. ثم شهادة ..
فقال عمر : وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي ..
فلما أدبر الشاب .. فإذا إزاره يمس الأرض .. مسبل ..
فأراد عمر t أن يقدم النصيحة للشاب ..
فقال : ردوا علي الغلام ..
فلما وقف الشاب بين يديه .. قال : يا بن أخي .. ارفع ثوبك .. فإنه أنقى لثوبك .. وأتقى لربك ([8]) ..
انتهى .. باختصار .. الرسالة وصلت ..
واترك الجدال قدر المستطاع ..
خاصة إذا شعرت أن الذي أمامك يكابر .. فالمقصود إيصال النصيحة إليه ..
وقد ذم الله الجدال : ( ما ضربوه لك إلا جدلاً ) ..
وقال e : ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه .. إلا أوتوا الجدل ..
وقال : أنا زعيم لبيت في ربض الجنة لمن ترك الجدال وإن كان محقاً ..
أحياناً يقتنع الشخص بالفكرة .. لكن أكثر النفوس فيها أنفة وكبر ..
( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً ) ..
فالغاية عندك أنت أصلاً أن يعرف الخطأ ليتجنبه في المرة القادمة .. وليس الغاية أن تنتصر أنت عليه .. فلستما في حلبة مصارعة ..
دخل النبي e على علي وفاطمة t .. ليلاً ..
فقال لهما : ألا تصليان .. أي ألا تقوما الليل ..
فقال علي : أنفسنا بيد الله .. متى شاء أن يبعثنا .. بعثنا ..
فولاهما النبي e ظهره .. ومضى وهو يضرب بيده على فخذه ويقول : وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً .. ([9]) ..
وأحياناً قد يذكر المنصوح .. كلاماً يعتذر به .. وهو ليس عذراً مقنعاً لكنه يقوله ..ليحفظ ماء وجهه ..
فكن سمحاً ..
ولا تغلق عليه الأبواب بل أبقها مفتوحة أمامه وأنت تنصح ..
وحتى لو تكلم بكلام خاطئ .. فيمكن أن تعالج خطأه من حيث لا يشعر ..
كأن تقول : صحيح .. وأنا معك أن الإنسان يفقد أعصابه غصباً عنه ..
وأثن عليه .. ثم قل : ولكن .. ثم انسف كلامه إن كان خاطئاً ..

وجهة نظر ..
نبه على الخطأ .. ولا تلق محاضرة ..

6. لا تبال بكلام الخلق ..
أعجبتني عبارة رددها ابني عبد الرحمن يوماً .. وأظنه في ذلك السن لم يكن يفقه معناها..
كان يقول : طنِّش تعِش تَـنْـتَـعِش ..!!
تأملت في هذه العبارة وأنا ألاحظ حولي انتقادات الناس .. وآراءهم .. وأحاديثهم ..
فوجدت أن الناس في كلامهم وذمهم لنا يتنوعون ..
فيهم الناصح الصادق الذي لا يتقن فن النصيحة .. وبالتالي يحزنك بأسلوب نصحه أكثر مما يفرحك ..
وفيهم الحاسد .. الذي يقصد حزنك وهمك ..
وفيهم قليل الخبرة .. الذي يهذي بما لا يدري .. ولو سكت لكان خيراً له ..
وفيهم من طبيعته الانتقاد أصلاً .. فهو ينظر للحياة بنظارة سوداء ..
وقديماً قيل : لو اتحدت الأذواق لبارت السلع ..
ذكروا أن جحا ركب على حمار .. وولده يمشي بجانبه ..
فمروا بناس .. فقال الناس : انظروا لهذا الأب الغليظ يركب مرتاحاً .. ويدع ولده يمشي في الشمس ..
سمعهم جحا .. فأوقف الحمار .. ونزل .. وأركب ولده ..
ثم مشيا .. وجحا يشعر بنوع من الزهو ..
فمرا بقوم آخرين .. فقال أحدهم : انظروا إلى هذا الابن العاق .. يركب ويدع أباه يمشي في الشمس ..
سمعهم جحا ..
فأوق الحمار .. ثم ركب مع ولده .. ليتقو كلام الناس وانتقاداتهم ..
فمرا بقوم .. فقالوا : انظروا إلى هذين الغليظين .. لا يرحمون الحيوان ..
فنزل جحا .. وقال : يا ولدي .. انزل ..
فنزل الولد وجعل يمشي بجانب أبيه .. والحمار ليس فوقه أحد ..
فمرا بقوم .. فقالوا : انظروا إلى هذين السفيهين .. يمشيان والحمار فارغ .. وهل خلق الحمار إلا ليُركب ..
فصرخ جحا وجرّ ولده معه .. ودخلا تحت الحمار .. وحملاه ..!!
ولو رأيت جحا وقتها لقلت له : يا حبيب القلب .. افعل ما تشاء .. ولا تبال بكلام الخلق .. فرضا الناس غاية لا تدرك ..
ومن الذي ينجو من الناس سالماً
ولو غاب عنهم بين خافيتي نسر ..
بعض الناس .. لا يفكر في رأيه قبل أن يطرحه ..
يأتيك بعدما تتزوج .. ويقول .. ليش تخطب فلانة ؟
وكأني بك .. تتمنى أن تصرخ في وجهه وتقول : يا أخي تزوجت .. خلاص .. انتهى الموضوع .. ما أحد طلب منك اقتراحات ..
أو يأتيك وقد بعت سيارتك .. فيقول .. ليتك أخبرتني .. فلان كان سيعطيك أكثر ..
يا أخي .. بس !! الرجال باع سيارته .. خلاص وانتهى .. لا تشغله بالالتفات وراءه !!
وعموماً ..
ليس يخلو المرء من ضد ولو **
طلب العزلة في رأس جبل ..!!
فلا تعذب نفسك ..

تجربة ..
قال أحد السلف : من جعل دينه عرضة للخصومات .. أكثر التنقل !!

7. ابتسم .. ثم ابتسم .. ثم ابتسـ .. ثم أبتـ ..
أعرفه منذ سنين .. فهو أحد زملائي في عملي .. على كل حال ..
لكن هل تصدق أنني إلى الآن لا أدري هل نبتت له أسنان أم لا !!
دائم التجهم .. والعبوس .. وكأنه إذا ابتسم نقص عمره .. أو قلَّ ماله !!
قال جرير بن عبد الله البجلي : ما رآني رسول الله e إلا تبسم في وجهي ..
الابتسامة أنواع .. ومراتب ..
فمنها البشاشة الدائمة .. أن يكون وجهك صبوحاً مبتهجاً دائماً ..
فلو كنت مدرساً ودخلت الفصل على طلابك .. فالقهم بوجه بشوش ..
ركبت طائرة .. ومشيت في الممر والناس ينظرون إليك .. كن بشوشاً ..
دخلت بقالة .. أو محطة وقود .. مددت له الحساب .. ابتسم ..
في المجلس .. ودخل شخص وسلم بصوت عال .. ومر بنظره على الجالسين .. ابتسم ..
دخلت على مجموعة .. وصافحتهم .. ابتسم ..
وعموماً : الابتسامة لها من التأثير الكبير في امتصاص الغضب والشك والتردد .. ما لا يشاركها غيرها ..
البطل هو الذي يستطيع التغلب على عواطفه .. والتبسم ..
كان أنس بن مالك t يمشي مع النبي r يوماً.. والنبي e عليه بُرد نجراني غليظ الحاشية ..
فلحقهما أعرابي ..
أقبل هذا الأعرابي يجري وراء النبي e يريد أن يلحق به .. حتى إذا اقترب منه ..
جبذه بردائه جبذة شديدة .. فتحرك الرداء بعنف على رقبة النبي r ..
قال أنس : حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله r .. قد أثرت بها حاشية البُرد من شدة جبذته ..
فماذا يريد هذا الرجل ؟! لعل بيته يحترق وأقبل يريد معونة .. أو أحاطت بهم غارة من المشركين ..
اسمع ماذا يريد .. قال : يا محمد .. ( لاحظ لم يقل : يا رسول الله ) ..
قال : يا محمد .. مُر لي من مال الله الذي عندك .. فالتفت رسول الله r .. ثم ضحك .. ثم أمر له بعطاء ..
نعم .. كان r بطلاً لا تستفزه مثل هذه التصرفات .. ولا يعاقب أو تثور أعصابه على التافهات ..
كان واسع البطان .. قوياً يضبط أعصابه .. دائم الابتسامة حتى في أحلك الظروف .. يفكر في عواقب الأمور قبل أن يفعلها ..
وماذا يفيد لو أنه صرخ بالرجل أو طرده ‍‍!
هل سيشفى جرح عنقه ! أو يصلح أدب الرجل ! كلا ..
إذن ليس مثل الصبر والتحمل ..
نعم بعض الأمور نثور لها ونغضب .. وعلاجها شيء آخر تماماً ..
وصدق e لما قال : ليس الشديد بالصرعة .. إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ..
كان النبي الكريم e .. يجذب الناس بالتبسم والبشاشة ..
خرجو إلى غزوة خيبر .. وفي أثناء القتال ..
وقع من حصن اليهود جراب فيه شحم .. قربة كاملة مملوءة سمناً ..
حمله عبد الله بن مغفل t على عاتقه فرحاً ومضى به إلى رحله وأصحابه ..
فلقيه الرجل المسئول عن جمع الغنائم وترتيبها .. فجذب الجراب إليه .. وقال :
هاتِ هذا نقسمه بين المسلمين ..
فتعلق به عبد الله : لا والله .. لا أعطيكه .. أنا أصبته ..
قال : بلى .. وجعلا يتجاذبا الجراب ..
فمر بهما رسول الله r .. فرآهما .. وهما يتجاذبان الجراب ..
فتبسم r ضاحكاً .. ثم قال لصاحب المغانم :
لا أبالك .. خل بينه وبينه ..
فتركه .. فانطلق به عبد الله إلى رحله وأصحابه .. فأكلوه ..
وأخيراً .. تبسمك في وجه أخيك صدقة ..
قال لي :
فلان سحرني بأخلاقه .. حتى تعلقت به نفسي .. قلت : لم ؟! قال : دائماً بشوش .. وما رآني إلا تبسم !!

8. الخطوط الحمر ..
كان من طلابي في الجامعة..
كان واسع الثقافة .. حريصاً على تكوين علاقات مع الناس .. لكنه كان ثقيل الدم عليهم ..
جاءني يوماً .. وقال :

يا دكتور .. زملائي يغضبون مني دائماً .. لا يتحملون مزحي ..
قلت في نفسي : أنا لا أحتملك ساكتاً .. فكيف أحتملك متكلماً ..؟! خاصة إذا كنت تستخف دمك وتمزح ..!
سألته : لماذا لا يحتملون مزحك ؟! أعطني مثالاً ..

قال : عطس أحدهم فقلت : الله يلعنك .. ( ثم سكتُّ ) .. فلما غضب .. أكملت قائلاً : يا إبليس .. ويرحمك يا فلان ..!!
مسكين كان يظن نفسه بذلك .. خفيف الدم!!
الناس مهما قبلوا مزاحك ومداعباتك .. إلا أنه تبقى هناك خطوط حمراء لا يحبون أن تتعداها ..
خاصة إذا كان ذلك أمام الآخرين ..
بعض الناس لا يراعي ذلك ..
فتجد أنه يعتدي على حاجاتهم ..
فمثلاً من باب ( الميانة ) يأخذ هاتفك الجوال ويتصل به كما يريد .. أو ربما أرسل رسائل إلى أشخاص أنت لا ترغب أن يظهر رقم هاتفك عندهم ..
أو يأخذ سيارتك بغير إذنك .. أو يحرجك بطلبها حتى تأذن على مضض ..
أو تجد مجموعة طلاب في يسكنون في شقة واحدة .. يستيقظ أحدهم ليذهب إلى جامعته .. فيجد أن معطفه لبسه فلان .. وحذاءه في رجل فلان ..
ومن تعدي الخطوط الحمراء أنك .. تجد بعض الناس يحرج صاحبه بمزحة ثقيلة أو سؤال محرج في مجلس عام ..
والشخص مهما بلغ من المحبة لك .. إلا أنه يبقى بشراً يرضى ويغضب .. ويفرح ويسخط ..
لما أقبل رسول الله r إلى المدينة راجعاً من تبوك ..
قدم عليه في ذلك الشهر عروة بن مسعود الثقفي .. وكان سيداً جليل القدر .. رفيع المكانة عند قومه ثقيف ..
فأدرك النبي e قبل أن يصل إلى المدينة .. فأسلم ..
وسأله أن يرجع إلى قومه فيدعوهم إلى الإسلام ..
فخاف عليه .. وقال له : إنهم قاتلوك ..
وعرف r أن قبيلة ثقيف فيهم نخوة الامتناع .. والصرامة في التعامل .. حتى لو كان مع رئيسهم ..
فقال عروة : يا رسول الله .. أنا أحب إليهم من أبكارهم .. وأبصارهم ..
وكان محبباً مطاعاً فيهم ..
فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه .. لعظم منزلته فيهم ..
فلما وصل إلى ديار قومه .. رقى على مرتفع وصاح بهم حتى اجتمعوا .. وهو سيدهم ..
فدعاهم إلى الإسلام .. وأظهر لهم أنه أسلم .. وجعل يردد : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ..
فلما سمعوا منه ذلك .. صاحوا .. وثاروا أن يتركوا آلهتهم ..
ورموه بالنبل من كل جهة ..
حتى وقع صريعاً t ..
فأقبل إليه أبناء عمه .. وهو ينازع الموت ..
وقال : يا عروة : ما ترى في دمك ؟
فقال : كرامة أكرمني الله بها .. وشهادة ساقها الله إلي ..
فليس فيَّ إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله r .. فلا تقتتلوا لأجلي .. ولا تأخذوا بثأري من أحد ..
فقيل إن النبي e .. لما بلغه خبر مقتله ..
قال فيه : إن مثله في قومه .. كمثل صاحب ياسين في قومه .. t ..
فانتبه ! الناس لهم أحاسيس مهما بلغت في القرب منهم .. وإن كانوا في منزلة الأخ والولد ..
لذا نبه النبي e على ذلك .. فنهى عن ترويع المؤمن ..
كان e يوماً يسير مع أصحابه ..
وكان كل واحد منهم معه متاعه .. سلاحه .. فراشه .. طعامه ..
نزلوا منزلاً .. فنام رجل منهم ..
فأقبل صاحبه إلى حبل معه فأخذه .. مازحاً ..
فاستيقظ الرجل .. فوجد متاعه ناقصاً .. ففزع .. وأخذ يبحث عن حبله ..
فقال e : لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً ([10]) ..
وفي يوم آخر ..
كانوا يسيرون مع النبي e في مسير ..
فنعس رجل وهو على راحلته ..
فغافله صاحبه وانتزع سهماً من كنانته ..
فشعر الرجل بمن يعبث بسلاحه .. فانتبه فزعاً مذعوراً ..
فقال e : لا يحل لرجل أن يروع مسلماً .. ([11])
ومثله الذي يمزح فيراك أوقفت سيارتك عند بقالة – مثلاً - وهي تشتغل فيأتي ويقودها .. ويوهمك أنها سرقت .. مازحاً..
قد يجاملك صاحبك ويضحك أحياناً على مزحة مروعة .. لكنه متألم ..
ولربما صبر الحليم على الأذى
وفؤاده من حره يتأوه
ولربما شكل الحليم لسانه
حذر الكلام وإنه لمفوه

وجهة نظر ..
كل ما زاد عن حده .. انقلب ضده .. وكم مزحة انتهت شجاراً !!

9. حفظ السر ..
اشتهر قديماً : كل سرٍ جاوز الإثنين .. شاع ..
ومن اللطائف أن أحدهم سئل : من الإثنين ؟ فأشار إلى شفتيه .. وقال : هذان !!
لا أذكر أني همست في أذن أحد من الناس بسرّ .. واستأمنته إياه .. ثم فاجأني قائلاً : يا محمد .. اسمح لي لا أستطيع أن أكتمه ..
بل كل شخص يضرب بيده صدره .. ويقول : والله لو وضعوا الشمس في يميني .. والقمر في شمالي .. أو السيف على رقبتي .. على أن أخبر بسرك .. ما أخبرت !!
ثم إذا اطمأننت ووثقت .. وكشفت له أسرارك .. تصبّر شهرين أو ثلاثة .. ثم حدث به .. فلا يزال يُتناقل حتى يصلك ..
فوجدت أن سرك لا ينبغي أن يجاوز شفتيك .. فلا تكلف الناس ما لا يطيقون ..
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
فصدر الذي يستودع السر أضيق
جربت كثيراً من الناس .. فوجدتهم كذلك ..
والمشكلة أنك تأتيهم على سبيل الاستشارة .. فيشيرون عليك .. ثم يفضحون سرك ..
فيسقطون من عينك .. ويصبحون من أبغض الناس إليك ..
ومن أعجب ما في التاريخ ..
أنه قبل معركة بدر ..
لما سمع النبي e .. بقافلة قريش مقبلة وأراد قتالها ..
خرج r إليها مع أصحابه .. فلما شعر بهم أبو سفيان .. استأجر رجلاً اسمه ضمضم بن عمرو الغفاري .. وقال اذهب وأخبر قريشاً بالخبر ..
فمضى ضمضم .. مسرعاً إلى مكة .. كان وصوله مكة يحتاج أن يسير أياماً ..
وأهل مكة لا يدرون عن شيء من ذلك ..
وفي ليلة من الليالي رأت عاتكة بنت عبد المطلب .. رؤيا أفزعتها .. فلما أصبحت بعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب .. فقالت له :
يا أخي .. والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني .. وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة .. فاكتم عليَّ ما أحدثك .. ولا تحدث به أحداً ..
قال لها : نعم .. وما رأيت ؟
قالت : رأيت راكباً أقبل على بعير .. حتى وقف بوادي "الأبطح" .. ثم صرخ بأعلى صوته : ألا انفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث ..!
فأرى الناس قد اجتمعوا إليه .. ثم مضى فدخل المسجد والناس يتبعونه ..
فبينما هم حوله .. إذ صعد به بعيره فوق الكعبة .. ثم صرخ بمثلها : انفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث ..
ثم صعد به بعيره على رأس جبل أبي قبيس .. فصرخ بمثلها :
انفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث ..
ثم أخذ صخرة فقذفها من أعلى الجبل .. فأقبلت تهوي من فوق الجبل .. حتى إذا كانت بأسفل الجبل تكسرت ..
فما بقي بيت من بيوت مكة إلا دخلته كسرة من الصخرة .. فاضطرب العباس وقال : والله إن هذه لرؤيا !
ثم خشي أن تنتشر فيصيبه أذى .. فقال لها محذراً : وأنت فاكتميها لا تذكريها لأحد ..
ثم خرج العباس منشغل البال بأمر هذه الرؤيا .. فلقي الوليد بن عتبة وسط الطريق .. وكان له صديقاً ..
فحدثه بالرؤيا .. وقال له : اكتمها .. فلا تخبر بها أحداً ..
فمضى الوليد ..
فلقي ابنه عتبة فحدثه بها ..
ثم لم يمض سويعات ..
حتى حدث بها عتبة .. ثم تناقلها الناس .. وفشا الحديث بها في أهل مكة .. حتى تحدثت بها قريش في مجالسها ..
وفي الضحى ذهب العباس ليطوف بالكعبة ..
فإذا أبو جهل جالس في رَهْط من قريش .. في ظل الكعبة .. يتحدثون برؤيا عاتكة !!
فلما رأى أبو جهل العباسَ قال :
يا أبا الفضل .. إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا ..
فلما أقبل إليه العباس وجلس معهم ..
قال له أبو جهل : يا بني عبد المطلب .. متى حدثت فيكم هذه النبية ؟
قال : وما ذاك ؟
قال : تلك الرؤيا التي رأت عاتكة ..
قال العباس : وما رأت ؟
قال : يا بني عبد المطلب .. أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ؟
قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال : انفروا في ثلاث .. فسننتظر بكم ثلاثة أيام ..
فإن يك حقاً ما تقول .. فسيكون ..
وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شئ نكتب عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيت العرب ..
فاضطرب العباس .. وما رد عليه شيئاً .. وجحد الرؤيا .. وأنكر أن تكون رأت شيئاً ..
ثم تفرقوا ..
فلما أقبل العباس إلى بيته ..
لم تبق امرأة من بني عبد المطلب .. إلا جاءت إليه غاضبة .. تقول : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم .. ثم قد تناول النساء وأنت تسمع .. أما فيكم حمية ..
فاحتمى العباس .. وثار .. وقال : والله .. لئن عاد أبو جهل إلى مثل كلامه .. لأفعلن وأفعلن ..
فلما كان اليوم الثالث .. من رؤيا عاتكة ..
ذهب العباس إلى المسجد .. وهو مغضب ..
فلما دخل المسجد رأى أبا جهل .. فمشي نحوه يتعرضه ليعود لبعض ما قال فيقع به ..
فإذا بأبي جهل يخرج من باب المسجد يشتد مسرعاً ..
فعجب العباس من سرعته ..!! فقد كان مستعداً لخصومة وعراك .. فقال العباس في نفسه : ماله لعنه الله ؟! أكلّ هذاخوفٌ مني أن أشاتمه ؟!
وإذا أبو جهل قد سمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري الذي أرسله أبو سفيان ليستعين بأهل مكة ..
وإذا ضمضم يصرخ في الوادي واقفاً على بعيره ..
قد جدع أنف بعيره .. والدم يسيل على وجه البعير ..
وقد شق ضمضم قميصه وهو يقول : يا معشر قريش اللطيمة .. اللطيمة ..
أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها ..
ثم صاح بأعلى صوته : الغوث .. الغوث ..
عندها تجهزت قريش وخرجت .. وكان من أمرها في معركة بدر ما كان ..
فتأمل كيف انتشر السر في لمحة عين .. مع قوة الحرص وشدة الاستئمان ..!!
ومن نشر السر أيضاً ..
أن عمر t لما أسلم .. أراد أن ينشر الخبر ..
فأقبل إلى رجل منهم .. هو أعظمهم نشراً للإشاعة ..
فقال : يا فلان .. إني محدثك بسرٍ .. فاكتم عني ..!
قال : ما سرك ؟
قال : أشعرت أني قد أسلمت .. فانتبه .. لا تخبر أحداً ..
ثم تولى عنه عمر ..
فما كاد يغيب عنه .. حتى جعل الرجل يطوف بالناس ويردد : أعلمتَ أن عمر أسلم ..!! أعلمتَ أن عمر أسلم ..!!
عجباً !! وكالة أنباء متنقلة ..
وفي يوم من الأيام بعث النبي e أنساً t في حاجة ..
فمرَّ بأمه .. فسألته .. إلى ماذا أرسلك النبي e ؟
فقال : والله .. ما كنت لأفشي سرّ رسول الله r ..
هكذا كان أنس وهو صغير .. في شدة حفظه للسر ..
وأنى لك اليوم أن تجد مثل أنس ..
قالت عائشة t ..
أقبلت فاطمة تمشي .. كأن مشيتها مشية النبي r ..
فقال النبي r : مرحباً بابنتي .. ثم أجلسها عن يمينه - أو عن شماله - ..
ثم أسرَّ إليها حديثاً .. فبكت ..
فقلت لها : لم تبكين ..
ثم أسرَّ إليها حديثاً .. فضحكت فقلت :
ما رأيت كاليوم .. فرحاً أقرب من حزن ..
فسألت فاطمة عما قال لها النبي e ؟
فقالت : ما كنت لأفشي سر رسول الله r ..
حتى قبض النبي r ..
فسألتها ؟
فقالت : أسر إليَّ : إن جبريل كان يعارضني ([12]) القرآن كل سنة مرة وإنه عارضني العام مرتين .. ولا أراه إلا حضر أجلي .. وإنك أول أهل بيتي لحاقاً بي .. فبكيت ..
فقال : أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة .. أو نساء المؤمنين .. فضحكت لذلك ..

قالوا ..
من عرف سرك أسرك

( [1] )
( [2] ) رواه البخاري
( [3] ) رواه البخاري
( [4] ) رواه أحمد وأبو يعلى والبزار
( [5] )
( [6] ) إحياء علوم الدين 2/275
( [7] ) رواه الطبراني
( [8] ) البخاري
( [9] )
( [10] ) رواه أبو داود
( [11] ) رواه الطبراني وغيره
( [12] ) يعارضه القرآن : يراجع القرآن معه .









عرض البوم صور ابو الوليد البتار   رد مع اقتباس
قديم 25 / 12 / 2008, 32 : 01 AM   المشاركة رقم: 14
المعلومات
الكاتب:
ابو الوليد البتار
اللقب:
موقوف


البيانات
التسجيل: 24 / 12 / 2007
العضوية: 11
العمر: 41
المشاركات: 0 [+]
بمعدل : 0 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 0
نقاط التقييم: 40
ابو الوليد البتار is on a distinguished road

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو الوليد البتار غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو الوليد البتار المنتدى : ملتقى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
افتراضي

.
1. قضاء الحاجات ..
لما بدأتُ في دراسة الماجستير .. اطلعت على عدد أوسع من كتب الفرق والطوائف ..
من بين هذه المذاهب .. المذهب البراجماتي .. bragmatizem
وترجمته بالعربية : المذهب النفعي ..
لما تبحرت في دراسة هذا المذهب أدركت لماذا كنا نسمع في أوروبا وأمريكا .. أنه في كثير من الأحيان يهجر الابن أباه .. وإذا قابله في مطعم فكل واحد منهما يحاسب عن نفسه ..
فعلاً .. مادام أني لن أستفيد منك فلماذا أخدمك ؟!
لماذا أنفق مالي ؟! واصرف وقتي ؟! وأبذل جهدي ؟! دون مردود مادي يعود علي ..
الإسلام قلب هذا الميزان ..
فقال الله ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) .
وقال e : ( لئن امشي مع اخي في حاجة حتى أثبتها له .. أحب إليَّ من أن أعتكف في مسجدي هذا شهراً ) ..
ومن كان في حاجة أخيه .. كان الله في حاجته ..
وكان e يمشي في الطريق فتوقفه الجارية وتقول : لي إليك حاجة .. فيقف معها حتى يسمع حاجة .. وقد يمضي معها إلى بيت سيدها ليقضيها لها ..
بل كان r يخالط الناس ويصبر على أذاهم ..
كان يعاملهم بنفس رحيمة .. وعين دامعة .. ولسان داع .. وقلب عطوف ..
كان يشعر أنه هو وهم .. جسد واحد .. يشعر بفقر الفقير .. وحزن الحزين .. ومرض المريض .. وحاجة المحتاج ..
انظر إليه r .. وقد جلس في مسجده يحدث أصحابه ..
فإذا به يرى سواداً مقبلاً عليه من بعيد ..
نظر إليهم .. فإذا هم قوم فقراء أقبلوا عليه من مضر .. من قبل نجد ..
ومن شدة فقرهم قد اجتابوا النمار ..
يعني يملك أحدهم قطعة قماش فلا يجد ثمن الإبرة والخيط .. فيخرق القماش من وسطه ثم يخرج رأسه ويسدل باقيه على جسده ..
أقبلوا قد اجتابوا النمار .. وتقلدوا السيوف .. وليس عليهم أزر ولا شيء غيرُها .. لا عمامة ولا سراويل ولا رداء ..
فلما رأى رسول الله r الذي بهم من الجهد والعري والجوع .. تغير وجهه ..
ثم قام .. فدخل بيته .. فلم يجد شيئاً يتصدق به عليهم ..
فخرج .. ودخل بيته الآخر .. وخرج .. يبحث .. يلتمس شيئاً لهم .. فلم يجد ..
ثم راح إلى المسجد .. فصلى الظهر .. ثم صعد منبره ..
فحمد الله وأثنى عليه .. ثم قال :
أما بعد .. فإن الله عز وجل .. أنزل في كتابه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) ..
ثم قرأ ..
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ..
وجعل يتلوا الآيات والمواعظ .. ثم صاح بهم .. وقال :
تصدقوا قبل أن لا تصدقوا .. تصدقوا قبل أن يحال بينكم وبين الصدقة ..
تصدق امرؤ من ديناره .. من درهمه .. من بره .. من شعيره .. ولا يحقرن أحدكم شيئاً من الصدقة .. وجعل يعدد أنواع الصدقات حتى قال :
ولو بشق تمرة ..
فقام رجل من الأنصار بصرة في كفه .. فناولها رسول الله r وهو على منبره ..
فقبضها رسول الله r يعرف السرور في وجهه ..
وقال : من سن سنة حسنة .. فعمل بها كان له أجرها .. ومثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيء ..
ومن سن سنة سيئة .. فعمل بها .. كان عليه وزرها .. ومثل وزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيء ..
فقام الناس .. فتفرقوا إلى بيوتهم .. وجاءوا بصدقات .. فمن ذي دينار .. ومن ذي درهم ..
ومن ذي تمر .. ومن ذي ثياب ..
حتى اجتمع بين يديه r كومان .. كوم من طعام .. وكوم من ثياب ..
فلما رأى r ذلك تهلل وجهه حتى كأنه فلقة من قمر ..
ثم قسمه بين الفقراء .. رواه مسلم ..
ولما سئلت عائشة عن حاله e في بيته .. قالت :
كان يكون في حاجة أهله .. أو في مهنة أهله ..
أفلا تجعل من طرق دخولك إلى قلوب الناس .. قضاء حاجاتهم ..
احتاج شخص إلى مستشفى .. فأوصلته إليه ..
استعان بك في مشكلة فأعنته عليها ..
يراك تقضي حاجته .. وتقف معه في كربته .. وهو يعلم أنك لا ترجو من ذلك جزاء ولا شكوراً ..
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإنسان إحسان
رؤية ..
من عاش لغيره فسيعيش متعباً .. لكنه سيحيا كبيراً .. ويموت كبيراً ..

2. لا تتكلف ما لا تطيق !!
كان صاحبي من خيار الناس .. خلقاً .. وديناً .. وعقلاً ..
كان إمام مسجد بجانب بيته ..
لكني كنت أسمع ذمه على ألسنة أناس كثيرين ..
كنت أتعجب من ذلك .. ولا أجد له جواباً ..
حتى جاءني يوماً جاره .. قال : يا شيخ .. صاحبك .. لا يصلي بنا .. ولا معنا !!
قلت : لم ؟!!
قال : لا أدري .. لكنه هو الإمام .. ومع ذلك يغيب كثييييراً عن المسجد ..
فجعلت ألتمس له الأعذار .. فقلت : لعله مشغول بأمر ضروري .. لعله غير موجود بالبيت ..
قال : يا شييييخ .. سيارته واقفة عند الباب .. وأنا متأكد أنه في بيته ..
جعلت أتقصى السبب لنصح صاحبي ..
حتى وجدت السبب ..
الرجل بحكم إمامته للمسجد ..
يأتي إليه الناس ويلتمسون منه الإعانة في حاجاتهم ..
هذا عليه دين يريد أن يبحث له عمن يسدده ..
وهذا متخرج من الثانوية ويريد شفاعة لدخول الجامعة ..
وهذا مريض يريد إعانته على دخول المستشفى الفلاني ..
وهذا عنده بنات كبار ويريد لهن أزواج ..
وهذا عليه أيجار لبيته لم يسدده ..
وهذا أعطاه ورقة استفتاء في طلاق ليذهب بها للمفتي العام ..
وهذا ..
وهو رجل عادي ليس له قدرات كبيرة ولا علاقات الواسعة .. ولا وجاهة متميّزة ..
وكان المسكين يغلبه الحياء والخجل من كل أحد .. فلا يقدر أن يعتذر من أحد أبداً ..
بل يأخذ معروض هذا ويعده بسداد دينه ..
ويكتب رقم هاتف الثاني .. ويعده أن يقبل في الجامعة ..
ويقول للثالث : تعال بعد يومين وتجد ورقة دخول المستشفى جاهزة ..
وهكذا دواليك ..
فيأتونه على الموعد .. ويعتذر .. ويعطيهم مواعيد أخرى ..
حتى صار يتهرب منهم .. ولا يرد على هاتفه .. بل وأحياناً لا يخرج من بيته ..!!
وصار من يلقاه منهم .. إن وجده .. يسبه ويصرخ به .. ويردد : طيب لماذا تعدني .. لماذا تجعلني أبني الآمال عليك ..
والثاني يقول : لم أكلم إلا أنت .. وتركت غيرك لما وعدتني ..
لما عرفت حاله .. أيقنت أنه حفر لنفسه حفرة .. ثم تردى فيها ..
سمعته مرة يعتذر من أحدهم .. ويقول :
آسف .. لم أستطع أن أفعل شيئاً في موضوعك ..
وذاك يقول بكل قوة : طيب أنت ضيعت الوقت عليَّ .. ليتك أخبرتني من قبل ..
تذكرت عندها قول الحكيم : الاعتذار في البداية خير من الاعتذار في النهاية ..
ما أجمل أن يعرف المرء قدراته .. ويتحرك في حدود الدائرة المرسومة حوله ..
ولقد جربت ذلك بنفسي ..
أذكر أني ألقيت محاضرة في أحد المجمعات العسكرية بالرياض ..
وبعدها جاءني أحدهم وقال : يا شيخ أريدك في موضوع ضروري جداً ..
قلت : تفضل .. ما هو ؟
قال : لا .. ما يصلح أن أذكره الآن .. لا بدّ أن أقابلك في وقت واسع ..
جعل يُعَظّم حجم الموضوع وأنا أستمع له بلطف .. لكني قد علمتني الحياة أن أكثر الناس يعطون الأمور أكبر من حجمها .. وصاحب الحاجة مجنون بها حتى تقضى ..
قال لي : أظن لك محاضرة غداً في مدينة كذا .. وهي مدينة على بعد 200كم من الرياض ..
قلت : صحيح ..
قال : سآتي إليك هناك .. وأقابلك بعد المحاضرة ..
تعجبت من حرصه ..
وفعلاً .. خرجت بعد المحاضرة فخرج الرجل وراءي مسعاً حافي القدمين .. يحمل ورقة صغيرة في يده ..
وقفت معه جانباً .. قلت : تفضل .. شكر الله حرصك .. ما حاجتك ؟
قال : يا شيخ .. عندي أخ يحمل الشهادة الابتدائية .. وأريدك أن تدبر له وظيفة ..
قلت : بس ؟!!
قال : بس ؟!!
كان الرجل متحمساً .. ومنظره يثير الشفقة .. ويبدو أن أخاه يمر بظروف صعبة فعلاً ..
أيقنت أني لو وعدته سأخلف .. فنحن في زمن لا يكاد حامل البكالوريوس أن يجد وظيفة .. فضلاً عن حامل الابتدائية .. وأنا أعرف حدود قدراتي ..
قلت : يا أخي .. والله أتمنى أن أساعدك .. وأخوك أخي .. وأنا أتألم له كما تتألم ..
لكني لا أستطيع مساعدتك أبداً .. أتمنى أن تتكرم عليَّ وتعفيني ..
قال : يا شيخ .. حاول ..
قلت : لاااا أقدر ..
فناولني الورقة التي في يده .. وقال : طيب .. يا شيخ خذ هذه الورقة فيها أرقام هواتفنا .. إذا وجدت له وظيفة فاتصل بنا ..
أدركت أنه يريد أن يربطني بحبل أمل .. وسيظل ينتظر الاتصال ..
فقلت : بل دع الورقة معك .. وخذ رقمي أنت .. وإن وجدت له وظيفة فاتصل بي .. لعلي أن أكتب لك شفاعة للمسئول فيها ..
سكت الرجل قليلاً .. انتظرت أن يودعني ..
لكني تفاجأت أنه قال لي : بيض الله وجهك .. والله يا شيخ .. سبق أن كلمت الأمير فلان في موضوع أخي منذ سنة .. فأخذ الورقة .. ولم يتصل بي إلى الآن ..
ومرة كلمت اللواء فلان .. فأخذ الورقة أيضاً .. ولم يتصل ولم يهتم .. هؤلاء أناس ما يهتمون بالضعفاء .. الله ينتقم منهم .. الله .. وبدأ يدعو عليهم ..
فقلت في نفسي .. الحمد لله .. لو أخذت الورقة لصرت ثالثهم ..
نعم .. الاعتذار في البداية خير من إخلاف الوعد ..
ما أجمل أن نكون صرحاء مع الآخرين .. عارفين لحدود قدراتنا ..
أحياناً عند خروجك من البيت .. تصرخ بك زوجتك ..
أحضر معك حليباً .. وسكراً .. وحفائظ .. وعشاء ..
فانتبه .. لا تردد : طيب .. طيب .. وإنما اصرخ بها أنت أيضاً وقل :
مااااااا أقدر .. !! فهي خير من الاعتذار عند العودة .. ضاق وقتي .. أقفلت المحلات .. نسيت ..
وكذلك مع زملائك .. وإخوانك ..
أرجو أن تكون الفكرة وصلت ..

تجربة ..
الاعتذار في البداية .. خير من الاعتذار في النهاية ..

3. من ركل القطة ؟!
قبل أن تجيب على السؤال .. اسمع القصة كاملة ..
كان يعمل سكرتيراً لمدير سيء الأخلاق .. لا يطبق مهارة واحدة من مهارات التعامل مع الناس ..
كان هذا المدير يراكم الأعمال على نفسه .. ويحملها ما لا تطيق ..
صاح بسكرتيره يوماً .. فدخل ووقف بين يديه ..
قال : سَمْ .. تفضل ؟
صرخ به : اتصلت بهاتف مكتبك .. ولم ترد ..
قال : كنت في المكتب المجاور .. آسف ..
قال بضجر : كل مرة آسف .. آسف .. خذ هذه الأوراق .. ناولها لرئيس قسم الصيانة .. وعد بسرعة ..
مضى متضجراً .. وألقاها على مكتب رئيس قسم الصيانة .. وقال : لا تؤخرها علينا ..
قال : طيب ضعها بأسلوب مناسب ..
قال : مناسب .. غير مناسب .. المهم خلصها بسرعة ..
تشاتما .. حتى ارتفعت أصواتهما ..
ومضى السكرتير إلى مكتبه ..
بعد ساعتين أقبل أحد الموظفين الصغار في الصيانة .. إلى رئيسه وقال : سأذهب لأخذ أولادي من المدرسة وأعود ..
صرخ الرئيس : وأنت كل يوم تخرج ..
قال : هذا حالي من عشر سنوات .. أول مرة تعترض عليَّ ..
قال : أنت ما يصلح معك إلا العين الحمراء .. ارجع لمكتبك ..
مضى المسكين إلى مكتبه .. وتولى أحد المدرسين إيصالهم .. لما طال وقوفهم في الشمس ..
عاد هذا الموظف إلى بيته غاضباً .. فأقبل إليه ولده الصغير معه لعبة .. وقال :
بابا .. هذه أعطانيها المدرس لأنني ..
صاح به الأب : اذهب لأمك .. ودفعه بيده ..
مضى الطفل باكياً .. فأقبلت إليه قطته الجميلة تتمسح برجليه كالعادة .. فركلها برجله فضربت بالجدار ..
السؤال : من ركل القطة ؟
أظنك .. تبتسم .. وتقول : المدير ..
صحيح المدير ..
لماذا لا نتعلم فنَّ توزيع الأدوار ..
والأشياء التي لا نقدر عليها نقول بكل شجاعة .. هذه ليست في أيدينا .. لا نقدر ..
خاصة أن تصرفاتك قد يتعدى ضررها إلى أقوام لم يكونوا طرفاً في المشكلة أصلاً ..
وانتبه أن يستثيرك الآخرون .. ويحرجونك فتضطر لوعود .. قد لا تستطيع تنفيذها ..
انتقل معي إن شئت إلى المدينة .. وانظر إلى رسول الله e وقد جلس في مجلسه المبارك .. بعدما انتشر الدين .. ووُحِّد رب العالمين ..
جعل رؤساء القبائل يأتون إليه مذعنين مؤمنين .. ومنهم من كانوا يأتون صاغرين حاقدين ..
وفي يوم أقبل رئيس من رؤساء العرب .. له في قومه ملك ومنعه ..
أقبل عامر بن الطفيل .. وكان قومه يقولون له لما رأوا انتشار الإسلام : يا عامر إن الناس قد أسلموا فأسلم .. وكان متكبراً كتغطرساً ..
فكان يقول لهم : والله لقد كنت أقسمت ألا أموت حتى تملِّكني العرب عليهم وتتبعَ عقبي .. فأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش !!
ثم لما رأى تمكن الإسلام .. وانصياع الناس لرسول الله e .. ركب ناقته مع بعض أصحابه ومضى إلى رسول الله e ..
دخل المسجد على رسول الله e وهو بين أصحابه الكرام ..
فلما وقف بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام قال : يا محمد خالني .. أي قف معي على انفراد ..
وكان e حذراً من أمثال هؤلاء .. فقال : لا والله حتى تؤمن بالله وحده ..
فقال : يا محمد خالني ..
فأبى النبي e .. فلا زال يكرر .. يا محمد قم معي أكلمْك .. يا محمد قم معي أكلمْك ..
حتى قام معه رسول الله e .. فاجتر عامر إليه أحد أصحابه اسمه إربد .. وقال : إني سأشغل عنك وجهه فإذا فعلت ذلك فاضربه بالسيف .. فجعل إربد يده على سيفه واستعد ..
فانفرد الاثنان إلى الجدار .. ووقف معهما رسول الله e يكلم عامراً .. وقبض أربد بيده على السيف .. فكلما أراد أن يسله يبست يده .. فلم يستطع سل السيف ..
وجعل عامر يشاغل رسول الله e .. وينظر إلى إربد .. وإربد جامد لا يتحرك ..
فالتفت e فرأى أربد وما يصنع ..
فقال : يا عامر بن الطفيل .. أسلم ..
فقال عامر : يا محمد ما تجعل لي إن أسلمت ؟
فقال e لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم ..
قال عامر : أتجعل لي الملك من بعدك إن أسلمت ؟
لم يشأ النبي e أن يعد عامراً بوعد قد لا يتحقق ..
فكان صريحاً جريئاً معه .. وقال : ليس ذلك لك ولا لقومك ..
فخفف عامر الطلب قليلاً .. وقال : أسلم على أن لي الوبر ولك المدر .. أي أكون ملكاً على البادية وأنت على الحاضرة ..
فإذا به e .. أيضاً لا يريد أن يلزم نفسه بوعود .. لا يدري تتحقق أم لا .. فقال : لا ..
عندها غضب عامر وتغير وجهه .. وصاح بأعلى صوته :
والله يا محمد .. لأملأنها عليك خيلاً جرداً .. ورجالاً مرداً .. ولأربطن بكل نخلة فرساً ..
ولأغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء ..
ثم خرج يزبد ويرعد ..
فجعل e ينظر إليه وهو مولٍّ ..
ثم رفع e بصره إلى السماء وقال : اللهم اكفني عامراً .. واهْدِ قومه ..
خرج عامر مع أصحابه حتى إذا فارق المدينة .. تعب من المسير .. فصادف امرأة من قومه يقال لها سلولية وكانت في خيمة لها .. وكانت امرأة فاجرة .. يذمها الناس ويتهمون من دخل بيتها ..
فلم يجد مأوى آخر .. فنزل عن فرسه مضطراً ونام في بيتها ..
فاخذته غدة وانتفاخ في حلقه كما يظهر في أعناق الإبل فيقتلُها .. ففزع واضطرب ..
وجعل يتلمس الورم ويقول : غدة كغدة البعير .. وموت في بيت سلولية ..
أي : لا موت يشرّف .. ولا مكان يشرّف ..
كان يتمنى أن يموت في ساحة قتال .. بسيوف الأبطال .. فإذا به يموت بمرض حيوانات .. في بيت فاجرة !!
تباً .. للذل والمهانة ..
فأخذ يصيح بهم : قربوا فرسي ..
فقربوه .. فوثب على فرسه .. وأخذ رمحه .. وصار يجول به الفرس ..
وهو يصيح من شدة الألم .. ويتحسس عنقه بيده ويقول : غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية ..
فلم تزل تلك حاله يدور به فرسه .. حتى سقط عن فرسه ميتاً ..
تركه أصحابه .. ورجعوا إلى قومهم ..
فلما دخلوا ديارهم .. أقبل الناس إلى إربد يسألونه : ما وراءك يا أربد ؟
فقال : لا شيء .. والله لقد دعانا محمد إلى عبادة شيء .. لوددت لو أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله ..
فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له ليبيعه .. فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما ..

وأنزل الله عز وجل في حال عامر وأربد : " اللّهُيَعْلَمُمَاتَحْمِلُكُلُّأُنثَىوَمَاتَغِيضُالأَرْحَامُ وَمَاتَزْدَادُوَكُلُّشَيْءٍعِندَهُبِمِقْدَارٍ *
عَالِمُالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِالْكَبِيرُالْمُتَعَالِ *
سَوَاءمِّنكُممَّنْأَسَرَّ الْقَوْلَوَمَنجَهَرَبِهِوَمَنْهُوَمُسْتَخْفٍبِاللَّيْلِوَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ *
لَهُمُعَقِّبَاتٌمِّنبَيْنِيَدَيْهِوَمِنْخَلْفِهِيَحْفَظُونَهُ مِنْأَمْرِاللّهِإِنَّاللّهَلاَيُغَيِّرُمَابِقَوْمٍحَتَّىيُغَيِّرُواْمَابِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَاأَرَادَاللّهُبِقَوْمٍسُوءًافَلاَمَرَدَّلَهُوَمَالَهُممِّندُونِهِمِن وَالٍ *
هُوَالَّذِييُرِيكُمُالْبَرْقَخَوْفًاوَطَمَعًا وَيُنْشِىءُالسَّحَابَالثِّقَالَ *
وَيُسَبِّحُالرَّعْدُبِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُمِنْخِيفَتِهِوَيُرْسِلُالصَّوَاعِقَفَيُصِيبُبِهَا مَنيَشَاءوَهُمْيُجَادِلُونَفِياللّهِوَهُوَشَدِيدُالْمِحَالِ *
لَهُدَعْوَةُالْحَقِّوَالَّذِينَيَدْعُونَمِندُونِهِلاَيَسْتَجِيبُونَلَهُمبِشَيْءٍإِلاَّ كَبَاسِطِكَفَّيْهِإِلَىالْمَاءلِيَبْلُغَفَاهُوَمَاهُوَبِبَالِغِهِوَمَادُعَاءالْكَافِرِينَ إِلاَّفِيضَلاَلٍ" ..
نعم .. لا تلتزم إلا بما تثق أنه يمكنك الوفاء به .. بعون الله ..
قام e مرة خطيباً في الناس .. فتكلم عن الآخرة وأحوالها .. ثم صاح قائلاً : يا فاطمة بنت محمد .. سليني من مالي ما شئت .. فإني لا أغني عنك من الله شيئاً ..
وأخيراً ..
مع التأكيد على أهمية عدم الالتزام بالشيء إلا وأنت قادر عليه .. إلا أنه ينبغي عند الاعتذار أن نستعمل أسلوباً ذكياً ..
فمثلاً : جاء إليك لتبحث لأخيه عن وظيفة .. لأن أباك مسئول كبير .. أو أخاك .. أو أنت ..
فاعتذر بأسلوب يحفظ ماء وجهه ويجعله يشعر أنك تشاركه الهم .. قل – مثلاً - :
يا فلان .. أنا أشعر بمعاناتك .. وأخوك أعتبره أخي .. ولئن كان إخواني خمسة فهو السادس .. لكن المشكلة أنني لا أستطيع أن أفعل شيئاً الآن .. فاعذرني .. وأسأل الله أن يوفق أخاك ..
مع بتسامة لطيفة .. وتعبيرات وجه مناسبة ..
فكأنك بهذا الرد الجميل قضيت له ما يريد .. أليس كذلك ..؟
وجهة نظر ..
كن صريحاً مع نفسك .. جريئاً مع الناس .. واعرف قدراتك والتزم بحدودها ..
4. الـتـواضـع..
كنت في مجلس فيه عدد من الوجهاء ..
فتحدث أحد من رآه استغنى ! وقال في أثناء حديثه :
.. ومررت بأحد العمال .. فمدّ يده ليصافحني .. فترددت ثم مددت يدي وصافحته ..
ثم قال : مع أني لا أعطي يدي لأي أحد ..
ما شاء الله يقول : لا أعطي يدي لأي أحد ..
أما رسول الله r .. فكانت الأمة المملوكة الضعيفة .. تلقاه في وسط الطريق .. فتشتكي إليه من ظلم أهلها .. أو كثرة شغلها .. فيجعل يده في يدها .. فينطلق معها إلى أهلها ليشفع لها ..
وكان يقول : لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ..
كم سمعنا الناس يرددون : يا أخي .. فلان متكبر .. فلان "شايف نفسه " ..
وتسأله : لماذا لم تستعن بجارك في كذا ؟ فيقول : فلان متكبر علينا .. ما يعطينا وجه !!
كم هم مبغوضون أولئك الذين يتكبرون على الناس .. ويعاملونهم باستعلاء ..
كم هو منبوذ .. ذاك الذي يطغى أن رآه استغنى ..
ذاك الذي يصعر خده للناس ويمشي في الأرض مرحاً ..
ذاك الذي يتكبر على العمال .. والخدام .. والفقراء ..
يتكبر عن محادثتهم .. ومصافحتهم .. ومجالستهم ..
لما دخل e مكة فاتحاً .. جعل يمر بطرقات مكة التي طالما أوذي فيها .. واستُهزئ به ..
كم سمع في طرقاتها .. يا مجنون .. ساحر .. كاهن .. كذاب ..
وهو اليوم يدخلها قائداً عزيزاً .. ممكناً .. قد أذل الله أهلها بين يديه ..
فكيف كان شعوره وهو داخل ؟
قال عبد الله بن أبي بكر :
لما وصل رسول الله e إلى ذي طوى .. وقف على راحلته معتجراً بقطعة برد حمراء ..
وأن رسول الله e ليضع رأسه تواضعاً لله .. حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح .. حتى إن عثنونه ( طرف لحيته ) ليكاد يمس واسطة الرحل ..
وقال أنس : دخل رسول الله e مكة يوم الفتح وذقنه على راحلته متخشعاً ..
وقال ابن مسعود : أقبل رجل إلى رسول الله e فكلمه في شيء .. فأخذته الرعدة ..
فقال e : هون عليك .. فإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد .. ( اللحم الـمجفف ) ..
وكان e يقول : أجلس كما يجلس العبد .. وآكل كما يأكل العبد ..
نعم ..
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر
على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تكُ كالدخان يعلو بنفسه
على طبقات الجوّ وهو رفيع
باختصار ..
من تواضع لله رفعه .. وما زاد الله عبداً بالتواضع إلا عزاً ..

5. العبادة الخفية ..
قبل عشر سنوات .. في أيام ربيع .. وفي ليلة باردة كنت في البر مع أصدقاء ..
تعطلت إحدى السيارات .. فاضطررنا إلى المبيت في العراء ..
أذكر أنا أشعلنا ناراً تحلقنا حولها .. وما أجمل أحاديث الشتاء في دفء النار ..
طال مجلسنا فلاحظت أحد الإخوة انسلَّ من بيننا ..
كان رجلاً صالحاً .. كانت له عبادات خفية ..
كنت أراه يتوجه إلى صلاة الجمعة مبكراً .. بل أحياناً وباب الجامع لم يفتح بعد ..!!
قام وأخذ إناءً من ماء ..
ظننت أنه ذهب ليقضي حاجته ..
أبطأ علينا .. فقمت أترقبه .. فرأيته بعيداً عنا .. قد لف جسده برداء من شدة البرد وهو ساجد على التراب .. في ظلمة .. يتملق ربه ويتحبب إليه ..
أيقنت أن لهذه العبادة الخفية .. عِزاً في الدنيا قبل الآخرة ..
مضت السنوات ..
وأعرفه اليوم .. قد وضع الله له القبول في الأرض ..
له مشاركات في الدعوة .. وهداية الناس ..
إذا مشى في السوق أو المسجد .. رأيت الصغار قبل الكبار يتسابقون إليه .. مصافحين .. ومحبين ..
كم يتمنى الكثيرون من تجار .. وأمراء .. ومشهورين .. أن ينالوا في قلوب الناس من المحبة مثل ما نال ..
ولكن هيهاااات ..
أأبيت سهران الدجى .. وتبيته *** نوماً ! وتبغي بعد ذاك لحاقي ؟
نعم .. ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وُداً ) .. أي يجعل لهم محبة في قلوب الخلق ..
إذا أحبك الله جعل لك القبول في الأرض ..
قال e : إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل .. فقال :
إني قد أحببت فلاناً فأحبه ..
قال : فيحبه جبريل ..
ثم يُنادى في أهل السماء : إن الله يحب فلاناً فأحبوه ..
فيحبه أهل السماء ..
قال : ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض ..
فذلك قول الله " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وُدّاً " ..
وإذا أبغض الله عبداً .. نادى جبريل : إني أبغضت فلاناً فأبغضه .. فيبغضه جبريل .. ثم يُنادى في أهل السماء : إن الله يبغض فلاناً فأبغضه ..
فيبغضه أهل السماء ..
ثم تنزل له البغضاء في الأرض .. ([1]) ..
قال الزبير بن العوام t : من استطاع منكم أن يكون له خبيئة من عمل صالح فليفعل ..
والعبادة الخفية أنواع ..
منها .. الحفاظ على صلاة الليل .. ولو ركعة واحدة وتراً كل ليلة .. تصليها بعد العشاء مباشرة .. أو قبل أن تنام .. أو قبل الفجر .. لتكتب عند الله من قوام الليل ..
قال e : إن الله وتر يحب الوتر .. فأوتروا يا أهل القرآن ..
ومنها .. السعي في الإصلاح بين الناس .. بين الزملاء المتخاصمين .. بين الجيران .. بين الزوجين ..
قال e : الا أخبركم بأفضل من درجة الصلاةوالصياموالصدقة ؟
قالوا : بلى ..
قال : إصلاح ذات البين .. وفساد ذات البين هي الحالقة([2])
ومنها الإكثار من ذكر الله ..
فإن من أحب شيئاً أكثر من ذكره ..
وفي الحديث .. قال e : ألا أنبئكم بخير أعمالكم .. وأزكاها عند مليككم .. وأرفعها في درجاتكم .. وخير لكم من إعطاء الذهب والورق .. وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ..؟
قالوا : بلى .. وما ذاك يا رسول الله ؟
قال : ذكر الله عز وجل ([3]) ..
ومنها .. صدقة السر .. فصدقة السرّ تطفئ غضب الرب ..
كان أبو بكر t إذا صلى الفجر خرج إلى الصحراء .. فاحتبس فيها شيئاً يسيراً .. ثم عاد إلى المدينة ..
فعجب عمر t من خروجه .. فتبعه يوماً خفية بعدما صلى الفجر ..
فإذا أبو بكر يخرج من المدينة ويأتي على خيمة قديمة في الصحراء .. فاختبأ له عمر خلف صخرة ..
فلبث أبو بكر في الخيمة شيئاً يسيراً .. ثم خرج ..
فخرج عمر من وراء صخرته ودخل الخيمة .. فإذا فيها امرأة ضعيفة عمياء .. وعندها صبية صغار ..
فسألها عمر : من هذا الذي يأتيكم ..
فقالت : لا أعرفه .. هذا رجل من المسلمين .. يأتينا كل صباح .. منذ كذا وكذا ..
قال فماذا يفعل : قالت : يكنس بيتنا .. ويعجن عجيننا .. ويحلب داجننا .. ثم يخرج ..
فخرج عمر وهو يقول : لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر .. لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر ..
* * * * * * * *
ولم يكن عمر t بعيداً في تعبده وإخلاصه عن أبي بكر ..
فقد رآه طلحة بن عبيد الله ..
خرج في سواد الليل .. فدخل بيتاً ثم .. خرج منه ودخل بيتاً آخر .. فعجب طلحة .. ماذا يفعل عمر في هذه البيوت !!
فلما أصبح طلحة ذهب إلى البيت الأول..فإذا عجوز عمياء مقعدة..
فقال لها : ما بال هذا الرجل يأتيك ؟
قالت : إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا .. يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى ..
فخرج طلحة وهو يقول: ثكلتك أمك يا طلحة..أعثراتُ عمرَ تتبع؟
* * * * * * * *
وخرج مرة t إلى ضواحي المدينة .. فإذا برجل عابر سبيل نازل وسط الطريق .. وقد نصب خيمة قديمة .. وقعد عند بابها .. مضطربَ الحال .. فسأله عمر : من الرجل ؟
قال : من أهل البادية .. جئت إلى أمير المؤمنين أصيب من فضله ..
فسمع عمر أنين امرأة داخل الخيمة .. فسأله عنه ؟
فقال : انطلق رحمك الله لحاجتك ..
قال عمر : هذا من حاجتي ..
فقال : امرأتي في الطلق - يعني تلد - وليس عندي مال ولا طعام ولا أحد ..
فرجع عمر إلى بيته سريعاً .. فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي : هل لك في خير ساقه الله إليك ؟
قالت : وما ذاك .. فأخبرها بخبر الرجل .. فحملت امرأته معها متاعاً .. وحمل هو جراباً فيه طعام .. وقدراً وحطباً .. ومضى إلى الرجل ..
ودخلت امرأة عمر على المرأة في خيمتها ..
وقعد هو عند الرجل .. فأشعل النار وأخذ ينفخ الحطب .. ويصنع الطعام .. والدخان يتخلل لحيته .. والرجل قاعد ينظر إليه ..
فبينما هو على ذلك .. إذ صاحت امرأته من داخل الخيمة .. يا أمير المؤمنين .. بشر صاحبك بغلام ..
فلما سمع الرجل .. أمير المؤمنين .. فزع وقال : أنت عمر بن الخطاب .. قال : نعم .. فاضطرب الرجل .. وجعل يتنحى عن عمر.. فقال له عمر : مكانك ..
ثم حمل عمر القدر .. وقربه إلى الخيمة وصاح بامرأته .. أشبعيها ..
فأكلت المرأة من الطعام .. ثم أخرجت باقي الطعام خارج الخيمة ..
فقام عمر فأخذه فوضعه بين يدي الرجل .. وقال له : كل .. فإنك قد سهرت من الليل ..
ثم نادى عمر امرأته فخرجت إليه ..
فقال للرجل : إذا كان من الغد .. فأتنا نأمر لك بما يصلحك ..
* * * * * * * *
وكان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل .. فيتصدق بها..ويقول : إن صدقة السر تطفىء غضب الرب ..
فلما مات وجدوا في ظهره آثار سواد .. فقالوا : هذا ظهر حمال .. وما علمناه اشتغل حمالاً ..
فانقطع الطعام عن مائة بيت في المدينة .. من بيوت الأرامل والأيتام .. كان يأتيهم طعامهم بالليل .. لا يدرون من يحضره إليهم .. فعلموا أنه الذي ينفق عليهم ..
وصام أحد السلف عشرين سنة .. يصوم يوماً ويفطر يوماً .. وأهله لا يدرون عنه .. كان له دكان يخرج إليه إذا طلعت الشمس ويأخذ معه فطوره وغداءه .. فإذا كان يوم صومه تصدق بالطعام .. وإذا كان يوم فطره أكله ..
فإذا غربت الشمس .. رجع إلى أهله وتعشى معهم ..
نعم .. كانوا يستشعرون العبودية لله في جميع أحوالهم ..
هم المتقون .. والله يقول : } إِنَّلِلْمُتَّقِينَمَفَازًا * حَدَائِقَوَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَأَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَّايَسْمَعُونَفِيهَالَغْوًاوَلَاكِذَّابًا * جَزَاءمِّنرَّبِّكَعَطَاء حِسَابًا { ..
فاطلب محبة الخالق .. وهو يتكفل بزرع محبتك في قلوب خلقه ..

إضاءة ..
ليس الغاية أن تكون ظواهر الآخرين تحبك .. إنما الغاية أن تحبك بواطنهم أيضاً ..

6. أخرجهم من الحفرة ..
ألم يقع مرة أن أحرجك شخص في مجلس عام بكلمة جارحة ..
أو ربما سخر منك .. بأي شيء وإن كان صغيراً .. بلباسك أو كلامك .. أو أسلوبك ..
فدافع عنك شخص ما .. فشعرت بامتنان عظيم له .. لأنه كأنما أمسك بطرف ثوبك عندما دفعك غيرك إلى هاوية ..
مارس هذه المهارة مع الآخرين .. وسترى لها تأثيراً ساحراً ..
لو دخلت على شخص وأقبل ولده يحمل طبقاً في طعام .. لكنه استعجل قليلاً .. فكاد أن يقع الطبق على الأرض .. فانطلق الأب عليه ثائراً .. لماذا العجلة ؟ كم مرة أعلمك ؟ ..
فاحمرَّ وجه الولد واصفرَّ ..
فقلت أنت : لا .. بل فلان بطل .. رجُل .. ما شاء الله عليه يحمل كل هذا لوحده .. ولعله استعجل لأن فيه أغراض أخرى أيضاً ..
أي امتنان سيشعر به الغلام لك ..
هذا مع الصغار .. فما بالك مع الكبار ..
لو أثنيت على زميل في اجتماع .. بعدما صبوا عليه وابلاً من اللوم ..
أو أثنيت على أحد إخوانك .. بعدما انكب الإراد الأسرة عليه معاتبين ..
شاب أحرجه شخص بسؤال أمام الناس : بَشَّرْ يا فلان .. كم نسبتك في الجامعة ؟!
بالله عليك .. هل هذا سؤال يسأله عاقل أمام الناس ؟!!
فانقلب وجه الشاب متلوناً .. فأنقذته قائلاً بلطف : ليش يا أبا فلان .. ستزوجه ؟!! أو عندك وظيفة له ؟ أو ..
فضحكوا ونُسي السؤال ..
أو لو عاتبه على دنوِّ معدله الدراسي .. فقلت : يا أخي لا تلمه .. تخصصه صعب .. لكن سيشد حيله إن شاء الله ..
كسب محبة الناس فرص يقتنصها الأذكياء ..
إذا هبت رياحك فاغتنمها *** فإن لكل خافقة سكون
كان عبد الله بن مسعود t .. يمشي مع النبي r ..
فمرا بشجرة فأمره النبي أن يصعدها ويحتزَّ له عوداً يتسوك به ..
فرقى ابن مسعود وكان خفيفاً .. نحيل الجسم .. فأخذ يعالج العود لقطعه ..
فأتت الريح فحركت ثوبه وكشفت ساقيه .. فإذا هما ساقان دقيقتان صغيرتان ..
فضحك القوم من دقة ساقيه ..
فقال النبي r : ممّ تضحكون ؟! .. من دقة ساقيه ؟!
والذي نفسي بيده إنهما أثقل في الميزان من أحد .. ([4])

وجهة نظر ..
كسب محبة الناس فرص يقتنصها الأذكياء ..
7. الاهتمام بالمظهر ..
كان أبو حنيفة جالساً يوماً بين طلابه في المسجد يدرس ..
وكان به ألم في ركبته .. وقد مد رجله .. واتكأ على جدار ..
في هذه الأثناء .. أقبل رجل عليه لباس حسن .. وعمامة حسنة .. ومظهر مهيب .. كان وقوراً في مشيته .. جليلاً في خطوته ..
أفسح له لطلاب حتى جلس بجانب أبي حنيفة ..
فلما رأى ابو حنيفة مظهره .. ورزانته .. ورتابة هيئته ,, استحى من طريقة جلسته وثنى رجله .. وتحمل ألم ركبته لأجله ..
استمر أبو حنيفة في درسه والرجل يسمع ..
فلما انتهى من الدرس ..
بدأ الطلاب يسألون .. فرفع ذلك الرجل يده ليسأل ..
التفت إليه الشيخ .. وقال : ما سؤالك ؟
فقال : يا شيخ .. متى وقت صلاة المغرب ؟
قال : إذا غربت الشمس .. !!
قال : وإذا جاء الليل والشمس لم تغرب .. فماذا نفعل ؟!
فقال أبو حنيفة : آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه .. ومد رجله كما كانت ..
وسكت عن هذا السؤال المتناقض !!.. إذ كيف يأتي الليل والشمس لم تغرب ؟!!
يقولون إن النظرة الأولى إليك تكوِّن في ذهن المقابل أكثر من 70% من تصوره عنك ..
ويبدو أنه عند التأمل ستجد أن النظرة الأولى تكون أكثر من 95% عنك .. حتى تتكلم .. أو تعرِّف بنفسك ..
ولو مشيت في ممر في مستشفى أو شركة وبجانبك شخص عليه ثياب حسنة .. وعليه وقار في مشيته .. لرأيت أنك – ربما لا شعورياً – إذا وصلت إلى باب في الممر التفتَّ إليه وقلت له : تفضل .. طال عمرك !!
ولو ركبت سيارة أحد أصدقائك فرأيتها فوضى .. هنا فردة حذاء مرمي .. وهنا روق شاورما .. وهما منديل .. وأشرطة كاسيت متناثرة ..
لكونت فكرة عن الشخص مباشرة أنه فوضوي .. غير مبال بالترتيب ..
وكذلك في لباس الناس .. ومظهرهم العام ..
والذي أعنيه هنا هو الاهتمام بالمظهر لا الإسراف في اللباس أو السيارة .. أو الأثاث .. أوغيرها ..
كان رسول الله e يعتني بهذه النواحي كثيراً ..
فكان له حلة حسنة يلبسها في العيدين والجمعة ..
وكانت له حلة يلبسها في استقبال الوفود ..
كان يعتني بمظهره ورائحته ..
وكان يحب الطيب ..
قال أنس t: كان رسول الله r .. أزهر اللون كأن عرقه اللؤلؤ .. إذا مشا تكفأ ..
وما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله r ..
ولا شممت مسكاً ولا عنبراً أطيب من رائحة النبي r .. وكانت يدُه مطيبةً كأنما أخرجت من جؤنة عطار ..
وكان r .. يعرف بريح الطيب إذا أقبل ..
وقال أنس t ( كان رسول الله r لا يرد الطيب ) ..
قال أنس : ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف رسول الله e ..
وكان r أحسن الناس وجهاً .. كان وجهه مستنيراً كالشمس ..
وكان إذا سُرّ استنـار وجهه .. حتى كأن وجهه قطعة قمر ..
قال جابر بن سمرة رأيت رسول الله r في ليلة مضيئة مقمرة ..
فجعلت أنظر إلى رسول الله r وإلى القمر .. وعليه حلة حمراء .. فإذا هو عندي أحسن من القمر ..
وكان يأمر المسلمين بذلك يأمر المسلمين بمراعاة المظهر ..
عن أبي الأحوص عن أبيه t .. قال : أتيت النبي r وعليّ ثوب دون ( أي ردئ ) ..
فقال r : ألك مال ؟ قلت : نعم ..
قال : من أي المال ؟ قلت : من الإبل والبقر والغنم والخيل والرقيق ..
فقال r : فإذا آتاك الله مالاً .. فلُيرَ أثرُ نعمة الله عليك وكرامتِه ..
وقال r : ( من أنعم الله عليه نعمة .. فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ) .
وعن جابر بن عبدالله tقال :
أتانا رسول الله r .. زائراً في منزلنا فرأى رجلاً شعثاً قد تفرق شعره ..
فقال : أما كان يجد هذا ما يُسكن به شعره ؟
ورأى رجلاً آخر وعليه ثياب وسخة فقال : أما كان هذا يجد ماء يغسل به ثوبه ؟ ..
وقال : ( من كان له شعر فليكرمه ) ..
وكان يحرّص على حسن السمت .. وجمال الشكل .. واللباس .. وطيب الرائحة ..
وكان يردد في الناس قائلاً : ( إن الله جميل يحب الجمال ) ([5]) ..

تجربة ..
النظرة الأولى إليك تطبع في ذهن المقابل 70% من تصوره عنك ..

8. الصدق..
أذكر أني كنت أراقب على الطلاب يوماً في قاعة الامتحان .. وكان الامتحان يوم خميس .. ومع أن يوم الخميس هو إجازة أصلاً إلا أننا اضطررنا أن نجعل فيه امتحاناً لزحمة المواد ..
بعد مضي ربع ساعة من بداية الامتحان .. أقبل أحد الطلاب متأخراً .. كان المسكين يبدو عليه الاضطراب الشديد ..
قلت له : عفواً .. أتيت متأخراً ولن أسمح لك بدخول الامتحان ..
فبدأ يرجوني أن أسمح له ..
قلت : ما الذي أخرك ؟!
قال : والله يا دكتور .. راحت علي نومة !!
أعجبني صدقه .. وقلت تفضل .. فدخل وامتحن ..
بعده بدقائق أقبل طالب آخر .. قلت : ما أخرك ؟
قال : يا دكتور والله الطريق زححححمة .. تعرف الناس في الصباح طالعين لدواماتهم .. هذا رايح جامعته .. وهذا لشركته .. وهذا ..
وجعل يعدد عليَّ ليقنعني أن الطريق زحمة ..
ونسي المسكين أن اليوم إجازة للموظفين .. وربما ليس في الطرق إلا طلابنا !!
قلت له : يعني الشوارع زحمة .. والسيارات تملأ الطرق ؟
قال : إي والله يا دكتور كأنك ترى ..
قلت : يا شاطر !! إذا أردت أن تكذب فاضبط الكذبة .. يا أخي اليوم خمييييس .. يعني ما فيه دوامات .. من أين جاءت الزحمة ؟!!
قال : آه يا دكتور .. نسيت .. " بنشر علي الكفر " .. أي تعطلت إحدى إطارات السيارة فوقف لإصلاحها ..!!
كان المسكين مضطرباً متورطاً .. فضحكت ودخل ليمتحن ..
نعم .. ما أقبح أن يكتشف الناس أنك تكذب عليهم ..
الكذب ينفر الناس عنك .. ويفقدك المصداقية عندهم ..
ويجعلهم لا يثقون فيك ..
فلو وقعت لأحدهم مشكلة .. فلن يشكوها إليك ..
ولو تكلمت بشيء لن يسمعوه بتقبل ..
قال e : يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانةوالكذب([6])
وسئل e .. فقيل له : يا رسول الله .. أيكون المؤمن جباناً ؟
فقال : نعم ..
فقيل : أيكون المؤمن بخيلاً ؟
فقال : نعم ..
فقيل : أيكون المؤمنكذاباً ؟
فقال : لا .. ([7])
وقال عبد الله بن عامر t :
دعتني أمي يوماً .. ورسول الله e قاعد في بيتنا .. فقالت :
ها .. تعالأعطيك ..
فقال لها رسول الله e : وما أردت أن تعطيه ؟
قالت : أعطيه تمراً ..
فقال لها : أما إنك لو لم تعطيه شيئاً .. كتبت عليك كذبة ([8])
وكان e إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة .. لم يزل معرضاً عنه ..
في كثير من الأحيان يندفع بعض الناس إلى الكذب .. لأجل إظهار أنفسهم بصورة أكبر من الحقيقة ..
فتجده يكذب في بطولات يؤلفها .. ومواقف يخترعها ..
أو يزيد في القصص .. ليملّحها ..
أو يدعي أشياء عنده .. وهو كاذب .. فيتشبع بما لم يعط ..
أو تجد الكذاب يعد ويخلف ..
أو يتورط بأمور .. فيختلق أعذاراً متنوعة .. وسرعان ما يكتشف الناس كذبه فيها ..
وقف أحد العلماء أمام السلطان .. فشهد على شيء ..
فقال السلطان : كذبت ..
فصاح العالم : أعوذ بالله .. والله لو نادى منادٍ من السماء : إن الله أحلَّ الكذب .. لما كذبت .. فكيف وهو حرام !!

حقيقة ..
الكذب لون واحد كله أسود ..

9. الشجاعة ..
قال لي بعدما خرجنا من الوليمة : تصدق كنت أعرف اسم الصحابي الذي تكلمتم عنه ..
قلت : عجباً !! ليش ما ذكرته .. وقد رأيتنا متحيرين ؟!
خفض رأسه وقال : خجلت أتكلم ..
قلت في نفسي : تباً للجُبن ..
وآخر كان يدرس في السنة الأخيرة من الثانوية ..
التقيت به يوماً فقال لي : قبل يومين دخلت الفصل .. فرأيت الطلاب واجمين .. والمدرس جالس على كرسيه .. بدون شرح ..
جلست وسألت الذي بجانبي : ما الخبر ؟!
قال : زميلنا عساف مات البارحة ..
كان في الفصل عدد من أصدقاء عساف .. تاركون للصلاة .. والغون في عدد من المحرمات ..
كان تأثير الخبر عليهم واضحاً .. حدثتني نفسي أن ألقي عليهم كلمة وعظية أحثهم فيها على الصلاة .. وبر الولدين .. وإصلاح النفس ..
قلت له : ممتااااز .. هل فعلت ؟
قال : بصراحة .. لا .. خجلت ..
سكت .. وكظمت غيظي وأنا أقول في نفسي : تباً للـجُبْن ؟!!
امرأة تسألها : لماذا لم تصارحي زوجك بالموضوع ؟
فتقول : أستحي !! خفت يزعل !! خفت يهجرني .. خفت ..
شاب تسأله : لـمَ لم تخبر أباك بالمشكلة قبل أن تتفاقم ؟!
فيقول : أخاف .. ما أتجرأ ..
أو ربما رفع أحدهم ضغطك بقوله : أستحي أبتسم .. أخجل أثني عليه ..
أخاف يقولون يجامل .. يستخف دمه ..
أسمع هذه التصرفات كثيراً .. فأتمنى أن أصرخ فيهم : يا جبناااااء .. إلى متى ؟!
الجبان لا يبني مجداً .. هو صفر على الشمال دائماً ..
إن حضر مجلساً تلحّف بـجُـبْنه ولم يشارك برأي .. أو ينطق بكلمة ..
وإن ذكروا نكتة ضحكوا وعلّقوا .. ولم يستطع أن يزيد على أن خفض رأسه وتبسم ..
وإن حضر مجلساً .. لم ينتبه أحد لوجوده ..
والأعظم من ذلك إن كان أباً .. أو زوجاً .. أو مديراً ..
أو حتى زوجة أو أماً ..
الناس يكرهون الجبان .. وليس له قدر ..
فعود نفسك على الشجاعة في الإلقاء ..
الشجاعة في النصح ..
الشجاعة في تطبيق مهارات التعامل مع الناس ..

وجهة نظر ..
عوّد نفسك ودربها .. وإنما النصر : صبر ساعة ..


( [1] ) رواه البخاري ومسلم ، والترمذي واللفظ له .
( [2] ) رواه أحمد وغيره .
( [3] ) رواه أحمد والترمذي وغيرهما ، صحيح .
( [4] ) رواه أحمد وأبو يعلى وغيرهما
( [5] ) رواه مسلم
( [6] ) رواه أحمد وأبو يعلى وغيرهما
( [7] ) مالك في المؤطأ
( [8] ) رواه أبو داود









عرض البوم صور ابو الوليد البتار   رد مع اقتباس
قديم 25 / 12 / 2008, 35 : 01 AM   المشاركة رقم: 15
المعلومات
الكاتب:
ابو الوليد البتار
اللقب:
موقوف


البيانات
التسجيل: 24 / 12 / 2007
العضوية: 11
العمر: 41
المشاركات: 0 [+]
بمعدل : 0 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 0
نقاط التقييم: 40
ابو الوليد البتار is on a distinguished road

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو الوليد البتار غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو الوليد البتار المنتدى : ملتقى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
افتراضي

1. الثبات على المبادئ ..
كلما كانت شخصية الشخص أقوى .. وثباته على مبادئه أشد .. كان أهم في الحياة ..
أحيناً يكون من مبادئك عدم أخذ الرشوة .. مهما ملَّحوا أسماءها .. بخشيش .. هدية .. عمولة ..
زوجة يكون من مبادئها .. عدم الكذب على زوجها .. مهما زينوه لها .. تمشية حال .. كذب أبيض ..
من المبادئ .. عدم تكوين علاقات محرمة مع الجنس الآخر .. عدم شرب الخمر ..
شخص لا يدخن .. جلس مع أصحابه .. ليثبت على مبادئه ..
الشخص الثابت على مبادئه وإن انتقدته أصحابه أحياناً .. واتهموه بعدم المرونة .. إلا أن مشاعرهم الداخلية تؤمن أنها أمام بطل ..
فتجد أن أكثرهم يلجأ إليه ويشعر بأهميته أكثر ن غيره ..
وليش هذا خاصاً بأحد الجنسين دون الآخر .. بل الرجال والنساء في ذلك سواء ..
فاثبت على مبادئك ولا تقدم تنازلات .. عندها سيرضخ الناس لها ..
لما ظهر الإسلام في الناس جعلت لقبائل تفد إلى رسول الله e ..
فجاء وفد قبيلة ثقيف وكانوا بضعة عشر رجلاً ..
فلما قدموا أنزلهم رسول الله e المسجد ليسمعوا القرآن ..
فسألوه : عن الربا والزنا والخمر ؟
فحرم عليهم ذلك كله ..
وكان لهم صنم ورثوا عبادته وتعظيمه عن آبائهم .. اسمه " الربة " .. ويصفونه بـ " الطاغية " .. وينسجون حوله القصص والحكايات للدلالة على قوته ..
فسألوه عن " الربة " ما هو صانع بها ؟
قال : اهدموها ..
ففزعوا .. وقالوا : هيهات .. لو تعلم الربة أنك تريد أن تهدمها .. قتلت أهلها !!
وكان عمر حاضراً .. فعجب من خوفهم من هدم صنم ..
فقال : ويحكم يا معشر ثقيف !! ما أجهلكم !! إنما الربة حجر ..
فغضبوا .. وقالوا : إنا لم نأتك يا ابن الخطاب ..
فسكت عمر ..
فقالوا : نشترط أن تدع لنا الطاغية ثلاث سنين .. ثم تهدمه بعدها إن شئت ..
فرأى النبي e أنهم يساومونه على أمر في العقيدة !! هو أصل من أصول الإسلام .. فما دام أنهم سيسلمون .. فما الداعي للتعلق بالصنم .. !!
فقال e : لا ..
قالوا : فدعه سنتين .. ثم اهدمه ..
قال : لا ..
قالوا : فدعه سنة واحدة ..
قال : لا ..
قالوا : فدعه شهراً واحداً !!
قال : لا ..
فلما رأوا أنه لم يستجب لهم في ذلك .. فالمسألة شرك وإيمان .. لا مجال فيها للمفاوضة !!
قالوا : يا رسول الله .. فتولَّ أنت هدمها .. أما نحن فإنا لن نهدمها أبداً ..
فقال e : سأبعث إليكم من يكفيكم هدمها ..
فقالوا : والصلاة .. لا نريد أن نصلي .. فإننا نأنف أن تعلو إست الرجل رأسه !!
فقال e : أما كسر أصنامكم بأيديكم فسنعفيكم من ذلك ..
وأما الصلاة .. فلا خير في دين لا صلاة فيه ..!!
فقالوا : سنؤتيكها .. وإن كانت دناءة ..
فكاتبوه على ذلك ..
وذهبوا إلى قومهم .. ودعوهم إلى الإسلام .. فأسلموا على مضض ..
ثم قدم عليهم رجال من أصحاب رسول الله e لهدم الصنم ..
فيهم خالد بن الوليد .. والمغيرة بن شعبة الثقفي ..
فتوجه الصحابة إلى الصنم ..
ففزعت ثقيف .. وخرج الرجال والنساء والصبيان ..
وجعلوا يرقبون الصنم .. وقد وقع في قلوبهم أنه لن ينهدم .. وأن الصنم سيمنع نفسه ..
فقام المغيرة بن شعبة .. فأخذ الفأس .. والتفت إلى الصحابة الذين معه وقال :
والله لأضحكنكم من ثقيف !!
ثم اقبل إلى الصنم .. فضرب الصنم بالفأس .. ثم سقط وجعل يرفس برجله ..
فصاحت ثقيف .. وارتجوا .. وفرحوا .. وقالوا : أبعد الله المغيرة .. قتلته الربة ..
ثم التفتوا إلى بقية الصحابة وقالوا :
من شاء منكم فليقترب ..
عندها قام المغيرة ضاحكاً .. وقال :
ويحكم يا معشر ثقيف .. إنما هي لكاع ( أي مزحة ) .. وهذا صنم .. حجارة ومدر .. فاقبلوا عافية الله واعبدوه ..
ثم أقبل يهدم الصنم .. والناس معه .. فما زالوا يهدمونها حجراً حجراً .. حتى سووها بالارض ..

وحْـيْ ..
"من طلب رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ، ومن طلب رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس "

2. إغراءات..
قرأت أن شاباً مسلماً في بريطانيا .. اطلع على قرأ إعلان لإحدى الشركات حول حاجتها إلى موظفين يعملون في الحراسات ..
أقبل إلى اللجنة المختصة بمقابلة المتقدمين .. فإذا جمع كبير من الشباب .. ما بين مسلمين وغير مسلمين ..
كلما خرج شخص من المقابلة سأله الواقفون .. عن ماذا سألوك ؟ وبماذا أجبت ؟
كان من أهم أسئلتهم : كم كأساً تشرب من الخمر يومياً ؟!
جاء دور صاحبنا .. فدخل .. وتتابعت عليه الأسئلة .. حتى سألوه : كم تشرب من الخمر ؟
فقال : أنا لا أشرب الخمر ..
قالوا : لماذا !! هل أنت مريض ؟!
قال : لا .. لكني مسلم .. والخمر حرام ..
قالوا : يعني لا تشربها حتى في عطلة آخر الأسبوع ؟!!
قال : لا ..
فنظر بعضهم إلى بعض متعجبين ..
فلما ظهرت النتائج .. فإذا اسمه في أوائل المقبولين ..
بدأ عمله معهم .. ومضى عليه أشهر ..
وفي يوم لقي أحد المسئولين في تلك المقابلة وسأله : لماذا كنتم تكررون سؤالي عن الخمر ؟!
فقال : لأن الوظيفة المطلوبة هي في الحراسات .. وكلما توظف فيها شاب .. فوجئنا به يشرب الخمر ويسكر .. فيضيع مكانه .. ويهجم على الشركة من يسرقها .. فلما وجدناك لا تشرب الخمر عرفنا أننا وقعنا على مبتغانا .. فوظفناك هنا !!
ما أجمل الثبات على المبادئ وإن كثرت الإغراءات ..
المشكلة أننا نعيش في مجتمعات قلَّ أن تجد فيها من يتمسك مبادئه .. يعيش من أجلها ويموت من أجلها .. ويثبت على الالتزام بها .. وإن كثرت الإغراءات ..
إذا مشيت على الصحيح .. والتزمت بالصراط المستقيم .. فأصحاب المبادئ الأخرى لن يتركوك ..
فعدم قبولك للرشوة يغضب زملاءك المرتشين ..
وامتنعاك عن الزنا .. يغضب الفاعلين !!
ذُكر أن عمر بن الخطاب t كان يعِسّ ليلة من الليالي ..
يراقب وينظر ..
فمر بأحد البيوت في ظلمة الليل .. فسمع فيه رجال سكارى .. فكره أن يطرق عليهم الباب ليلاً .. وخشي أن يكون ظنه خاطئاً .. وأراد أن يتثبت من الأمر ..
فتناول كسرة فحم من على الأرض .. ووضع بها علامة على الباب .. ومضى ..
سمع صاحب الدار صوتاً عن الباب .. فخرج .. فرأى العلامة .. ورأى ظهر عمر مولياً .. ففهم القصة ..
فكان الأصل أن يمسح العلامة وينتهي الأمر .. لكنن الرجل لم يفعل ذلك ..!!
وإنما أخذ كسرة الفحم وأقبل إلى بيوت جيرانه .. وجعل يرسم على أبوابها علامات !!
وكأنه يريد أن ينزل الناس إلى مستواه .. ويكونون مثله .. ولا يريد أن يرتفع إلى مستواهم ..!!
وفي المثل : ودت الزانية لو أن النساء كلهن زنين ..
من التجارب في حياتنا .. أن تجد زوجة كثيرة الكذب على زوجها .. تربت على ذلك .. وتعودت عليه .. فإذا رأت من تنكر عليها .. وتنصحها بالصدق .. حاولت أن تجرها إلى مستنقعها .. فكررت عليها : الرجال ما يصلح معهم إلا كذا .. ما تمشي أمورك معه إلا بالكذب ..
فلا تزال بها حتى تتنازل عن مبادئه وتتغير .. أو ربما تثبت .. ولعلها ..
وقل مثل ذلك في مسئول حسن الخلق مع موظفيه .. ويرى أن هذا مما يفيد العمل .. ويزرث الراحة في قلوبهم .. ويزيد الإنتاج ..
فيلقاه مسئول سيء الخلق .. مبغوض من قِبَل موظفيه .. فيحسده – ربما – أو يريد أن يقنعه بأسلوب آخر في التعامل .. فيقول له : لا تفعل كذا .. وافعل كذا .. ولا تبتسم .. ولا ..
أو صاحب بقالة لا يبيع السجائر .. فيحول أن يقنعه ..
فكن بطلاً واثبت على مبادئك .. وقل بأعلى صوتك : لاااااا .. مهما أغروك ..
وقديماً حاول الكفار مع رسول الله e أن يتنازل عن مبادئه .. فقال الله له : ( ودوا لو تُدْهن فيدهنون ) ..
يعني أنهم لا مبادئ عندهم أصلاً ليحافظوا عليها .. وبالتالي لا مانع عندهم من التنازل عن مبادئهم .. فانتبه أن يغروك بترك مبادئك ..

قال تعالى :
" فلا تطع المكذبين * ودوا لو تدهن فيدهنون "

3. العفو عن الآخرين ..
لا تخلو الحياة من عثرات تصيبنا من الناس ..
فهذه مزحة ثقيلة .. وتلك كلمة نابية .. وتعدٍّ على حاجات شخصية ..
خصومة بين اثنين في مجلس .. أو اختلاف في وجهات نظر .. أو آراء ..
وبعضنا يكبر الموضوع في نفسه .. وليس عنده استعداد للعفو أو النسيان ..
أو ربما لم يملك استعداداً لقبول أعذار الآخرين والعفو عنهم ..
بعض الناس يعذب نفسه بعدم عفوه .. يملأ صدره بأحقاد تشغله تعذبه ..
ولله در الحسد ما أعدله .. بدأ بصاحبه فقتله ..
فلا تعذب نفسك .. هناك أشياء لا يمكن أن تعاقب عليها ..
اِنسَ الماضي .. وعش حياتك ..
لما دخل رسول الله e مكة فاتحاً .. واطمأن الناس ..
خرج حتى جاء الكعبة فطاف بها سبعاً على راحلته ..
فلما قضى طوافه .. دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة .. ففتحت له فدخلها ..
فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم ..
ورأى إبراهيم عليه السلام مصوراً في يده الأزلام يستقسم بها ..
فقال e : قاتلهم الله .. جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام !! ما شأن ابراهيم والأزلام ؟!
ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين ..
ثم أمر e بتلك الصور كلها فطمست ..
ثم وجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده .. ثم طرحها ..
ثم وقف على باب الكعبة ..
وقد اجتمع له الناس في المسجد مسلمين والكفار ينظرون إليه ..
ثم صلى ركعتين ثم انصرف إلى زمزم .. فاطلع فيها .. ودعا بماء فشرب منها وتوضأ ..
والناس يبتدرون وضوءه ..
والمشركون يتعجبون من ذلك .. ويقولون : ما رأينا ملكاً قط ولا سمعنا به مثل هذا ..
ثم أقبل إلى مقام إبراهيم فأخره عن الكعبة .. وكان ملصقا بها ..
ثم قام e على باب الكعبة فقال :
لا إله إلا الله .. وحده لا شريك له .. صدق وعده .. ونصر عبده .. وهزم الاحزاب وحده ..
ألا كل مأثرة .. أو دم .. أو مال يُدَّعى .. فهو موضوع تحت قدمي هاتين .. إلا سدانة البيت .. وسقاية الحاج .. ثم جعل يقرر بعض الأحكام الشرعية فقال :
أَلَا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا .. ففيه الدية مغلظة مائة من الابل .. أربعون منها في بطونها أولادها ..
ثم نظر إلى رؤوس قريش وساداتها .. فصاح بهم :
يا معشر قريش .. إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية .. وتعظّمها بالآباء ..
الناس من آدم .. وآدم من تراب ..
ثم تلا " يَاأَيُّهَاالنَّاسُإِنَّاخَلَقْنَاكُممِّنذَكَرٍوَأُنثَىوَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًاوَقَبَائِلَلِتَعَارَفُواإِنَّأَكْرَمَكُمْعِندَاللَّهِأَتْقَاكُمْإِنَّاللَّهَ عَلِيمٌخَبِيرٌ "
ثم جعل يتأمل في وجوه الكفار ..
وهو في عزه وملكه عند الكعبة .. وهم في ذلهم وضعفهم ..
في مكان طالما كذبوه فيه .. وأهانوه .. وألقوا الأوساخ على رأسه وهو ساجد ..
وكفار قريش بين يديه .. مهزومين .. أذلاء .. صاغرين ..
ثم قال : يا معشر قريش .. ما ترون أني فاعل فيكم ؟
فانتنفضوا .. وقالوا : تفعل بنا خيراً .. أنت أخ كريم .. وابن أخ كريم ..
عجباً !! هل نسوا ما كانوا يفعلونه بهذا الأخ الكريم .. أين سبكم : مجنون .. ساحر .. كاهن ؟!
ما دام أخاً كريماً .. وأبوه أخ كريم !! فلماذا حاربتموه ؟!
أين تعذيبكم للمسلمين الضعفاء ..
هذا بلال واقف .. وآثار التعذيب لا تزال في ظهره ..
وتلك نخلة قريبة قتلت عندها أمية .. وزوجها ياسر .. وهذا ابنهما عمار مع المسلمين يشهد ..
أين حبسكم له مع المسلمين الضعفاء .. ثلاث سنين في شعب بني عامر .. حتى أكلوا ورق الشجر من شدة الجوع ..؟!! ما رحمتم بكاء الصغير .. ولا أنين الشيخ الكبير .. ولا حاملاً ولا مرضعاً !!
أين حربكم له في بدر .. وأحد .. وتحزبكم عليه في الخندق ؟
أين منعكم له من دخول مكة معتمراً .. لما جاءكم قبل سنين .. وتركتموه محبوساً في الحديبية .. ممنوعاًمن دخول مكة ؟
أين صدكم لعمه أبي طالب عن الإسلام وهو على فراش الموت ؟
أين ..؟ أين ..؟ شريط طويييييل من الذكريات المؤلمة يمر أمام ناظريه e ..
ليس هو فقط .. بل أمام ناظري أبي بكر وعمر .. وعثمان وعلي .. وبلال وعمر .. فكل واحد من هؤلاء .. له مع قريش قصة حزينة ..
كان يستطيع أن ينزل بهم أقسى أنواع العقوبة .. فهم أعداء محاربون .. معتدون .. خونة ..
نعم خونة .. خانوا صلح الحديبية .. واعتدوا ..
كانوا مجرمين .. متحيرين .. لا يدرون ماذا سيُفعل بهم ..
فإذا به e يدوس على الأحقاد .. ويحلق بهمته عاااالياً ..
ويقول كلمة يهتف بها التاريخ : اذهبوا .. فأنتم الطلقاء ..
فينطلقون .. مستبشرين .. تكاد أرجلهم تطير من الفرح ..
أحقاً عفا عنا ؟!!
ثم تلفت e ينظر حول الكعبة .. فإذا ثلثمائة وستون صنماً .. تعبد من دون الله .. عند بيته المعظّم ..!!
فجعل e يضربها بيده الكريمة .. فتهوي .. وهو يقول :
جاء الحق .. وزهق الباطل .. جاء الحق .. وما يبدئ الباطل وما يعيد ..
عدد من كفار قريش العتاة البغاة .. الذين لهم تاريخ أسود مع المسلمين .. فروا من مكة قبل دخول النبي e وأصحابه إليها ..
منهم صفوان بن أمية ..
فإنه فر منها هارباً .. وقد تحير أين يذهب ..
فمضى إلى جدة ليركب منها إلى اليمن ..
فلما رأى الناس عفو رسول الله e .. ونسيانه للماضي الأليم ..
جاء عمير بن وهب إلى رسول الله e فقال :
يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومه .. وقد خرج هارباً منك .. ليقذف نفسه في البحر .. فأّمِّنه .. صلى الله عليك ..
قال r بكل بساطة : هو آمن ..
قال عمير : يا رسول الله .. فأعطني آية يعرف بها أمانك .. فأعطاه رسول الله r عمامته التي دخل فيها مكة .. حتى إذا رآها صفوان .. عرفها فوثق في صدق عمير ..
خرج بها عمير حتى أدركه .. وهو يريد أن يركب في البحر ..
فقال : يا صفوان .. فداك أبي وأمي .. الله .. الله في نفسك أن تهلكها .. فهذا أمان من رسول الله r قد جئتك به ..
فقال صفوان : ويحك .. أغرب عني فلا تكلمني .. فإنك كذاب .. وكان خائفاً من مغبة ما كان فعله بالمسلمين ..
قال : أي صفوان .. فداك أبي وأمي .. رسول الله .. أفضل الناس .. وأبر الناس .. وأحلم الناس ..وخير الناس .. وهو ابن عمك .. عزُّه عزك .. وشرفُه شرفك .. وملكُه ملكك ..
قال : إني أخافه على نفسي ..
قال : هو أحلم من ذاك وأكرم ..
فرجع صفوان معه ..
حتى وصلا إلى مكة .. فمضى به عمير حتى وقف به على رسول الله r ..
فقال صفوان : إن هذا يزعم أنك قد أمنتني ..
قال e : صدق ..
قال صفوان : أما دخولي في الإسلام .. فاجعلني بالخيار فيه شهرين ..
فقال r : أنت بالخيار فيه أربعة أشهر ..
ثم أسلم صفوان بعد ذلك ..
ما أجمل العفو عن الناس .. ونسيان الماضي الأليم .. هذا خلق بلا شك لا يستطيعه إلا العظماء .. الذين يترفعون بأخلاقهم عن سفالة الانتقام .. والحقد .. وشفاء الغيظ .. فالحياة قصيرة - على كل حال - .. نعم هي أقصر من أن ندنسها بحقد وضغينة ..
حتى في الحاجات الخاصة .. كان e هيناً ليناً ..
قال المقداد بن الأسود t : قدمت المدينة أنا وصاحبان لي ..
فتعرضنا للناس فلم يضفنا أحد ..
فأتينا إلى النبي r .. فذكرنا له .. فأضافنا في منزل وعنده أربع أعنز ..
فقال : احلبهن يا مقداد .. وجزئهن أربعة أجزاء .. وأعط كل إنسان جزءاً فكنت أفعل ذلك ..
فكان المقداد كل مساء .. يحلب فيشرب هو وصاحباه .. ويبقى جزء النبي عليه الصلاة والسلام .. فإن كان موجوداً شربه .. وإن كان غائباً حفظوه له حتى يرجع ..
وفي ليلة من الليالي .. تأخر النبي r في المجيء إليهم ..
واضطجع المقداد على فراشه .. فقال في نفسه :
إن النبي r .. قد أتى أهل بيت من الأنصار .. فأطعموه ..
فلو قمت فشربت هذه الشربة ..
فلم تزل به نفسه حتى قام فشربها .. ولم يبق للنبي r شيئاً ..
قال المقداد : فلما دخل في بطني وتقار .. أخذني ما قدم وما حدث ..
فقلت : يجيء الآن النبي r جائعاً ..ظمآناً .. فلا يرى في القدح شيئاً .. فيدعو علي ..
فسجيت ثوباً على وجهي .. يعني من الهم ..
فلما مضى بعض الليل ..
وجاء النبي r .. فسلم تسليمة تسمع اليقظان .. ولا توقظ النائم ..
والمقداد على فراشه .. ينظر إليه .. فأقبل r إلى إنائه ..
فكشف عنه فلم ير شيئاً .. فرفع بصره إلى السماء ..
ففزع المقداد .. وقال : الآن يدعو عليَّ ..
فتسمع ماذا يقول .. فإذا به r .. يقول :
اللهم اسق من سقاني .. وأطعم من أطعمني ..
فلما سمع المقداد ذلك .. أَغتنم دعوة النبي عليه الصلاة والسلام ..
قام فأخذ الشفرة السكين .. فدنا إلى الأعنز .. ليذبح إحداها .. ليطعم النبي r ..
فجعل يجسهن ينظر أيتهن أسمن ليذبحها ..
فوقعت يده على ضرع إحداهن فإذا هي حافل .. مليئة باللبن ..
ونظر إلى الأخرى فإذا هي حافل ..
فنظرت فإذا هي كلهن حفل .. فحلب في إناء كبير .. فملأه حتى علت رغوته ..
ثم أتى به النبي r .. فقال : اشرب ..
فلما رأى رسول الله r كثرة اللبن .. قال :
أما شربتم شرابكم الليلة يا مقداد ؟
فقال : اشرب يا رسول الله .. فقال : ما الخبر يا مقداد ؟
قال : اشرب ثم الخبر .. فشرب النبي e ثم ناول القدح للمقداد .. فقال المقداد : اشرب يا رسول الله ..فشرب ثم ناوله القدح .. قال : اشرب يا رسول الله ..
قال المقداد .. فلما عرفت أن رسول الله r قد روي .. وأصابتني دعوته ..
ضحكت حتى ألقيت إلى الأرض ..
فقال رسول الله : إحدى سوآتك يا مقداد ! .
فقلت : يا رسول الله .. إنك قد أبطأت علينا الليلة .. وكنت جائعاً فقلت في نفسي لعل رسول الله r قد تعشى عند بعض الأنصار .. وقص عليه القصة كلها .. وكيف أن الأعنز حلبت في ليلة واحدة مرتين .. على غير العادة ..
كان من أمري كذا .. فصنعت كذا وكذا ..
فقال : ما كانت هذه إلا رحمة الله .. ألا كنت آذنتي توقظ صاحبيك هذين فيصيبان منها ..
فقلت : والذي بعثك بالحق ما أبالي إذا أصبتَها .. وأصبتُها معك من أصابها من الناس ..
وجهة نظر ..
الحياة أخذ وعطاء .. فاجعل عطاءك أكثر من أخذك ..
4. الكرم..
قال لهم : من سيدكم ؟
قالوا : سيدنا فلان .. على أننا نبخِّله ..
فقال : وأي داء أدوأُ من البخل ؟!! بل سيدكم الأبيض الجعد فلان ..
هكذا جرى النقاش بين إحدى القبائل وبين رسول الله e لما أسلموا فسألهم عن سيدهم ليقره عليهم بعد إسلامهم أو يغيره ..
نعم وأي داء أدوأ من البخل ..
ما أقبح البخل وما أعرض الناس عنه .. وما أثقله عليهم ..
لا يكاد يقيم في بيته وليمة يتحبب بها إليهم .. ولا يكاد يهدي هدية .. ولا يكاد يعتني بجمال مظهره .. ولا يهتم بزكاء برائحته .. توفيراً للمال .. ورضاً بالدون ..
أما الكريم فهو مفضال على أصحابه .. قريب من أحبابه .. إن اشتاقوا للاجتماع والأنس ففي بيته .. وإن نقص على أحدهم شيء تفضل عليه به .. فيأسر نفوسهم بكرمه .. ويستعبد قلوبهم بإحسانه ..
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإنسان إحسان
وينبغي عند إكرام غيرك أن تكون نيتك حسنة .. للتآلف مع إخوانك المسلمين .. وكسب مودتهم .. والتقرب إلى الله بالإحسان إليهم .. لا لأجل شهرة أو رئاسة أو كسب مديحهم وثنائهم ..
قال e : أول من تسعر بهم النار ثلاثة .. وذكر منهم رجلاً كان ينفق ليقال جواد أي كريم .. فلم يعمل ابتغاء وجه الخالق وإنما ابتغى وجه المخلوق .. رياءً وسمعة ..
وإليك الحديث كاملاً :
قال سفيان :
دخلت المدينة .. فإذا أنا برجل قد اجتمع الناس عليه ..
فقلت : من هذا ؟
قالوا : أبو هريرة ..
فدنوت منه حتى قعدت بين يديه .. وهو يحدث الناس ..
فلما سكت وخلا .. قلت : أنشدك الله .. بحق وحق .. لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله e .. وعلمته ..
فقال أبو هريرة : أفعل .. لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله e .. عقلته وعلمته ..
ثم نشغ أبو هريرة نشغة ( شهق ) .. فمكث قليلاً .. ثم أفاق ..
فقال : لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله e .. وأنا وهو في هذا البيت .. ليس فيه أحد غيري وغيره ..
ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى .. فمكث بذلك .. ثم أفاق .. ومسح وجهه .. فقال :
أفعل .. لأحدثنك بحديث حدثنيه رسول الله e .. وأنا وهو في هذا البيت .. ليس فيه أحد غيري وغيره ..
ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى .. ثم مال خارّاً على وجهه .. وأسندته طويلاً .. ثم أفاق .. فقال :
حدثني رسول الله e :
إن الله عز وجل إذا كان يوم القيامة .. نزل إلى العباد ليقضي بينهم .. وكل أمة جاثية ..
فأول من يدعو به : رجل جمع القرآن .. ورجل يقتل في سبيل الله .. ورجل كثير المال ..
فيقول الله للقارىء : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟
قال : بلى يا رب ..
قال : فماذا عملت فيما علمت ؟
قال : كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار ..
فيقول الله له : كذبت ..
وتقول الملائكة له : كذبت ..
فيقول الله عز وجل : أردت أن يقال : فلان قارىء .. فقد قيل ..
ويؤتى بصاحب المال فيقول : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟
قال : بلى ..
قال : فماذا عملت فيما آتيتك ؟
قال : كنت أصل الرحم .. وأتصدق ..
فيقول الله : كذبت ..
وتقول الملائكة : كذبت ..
ويقول الله : بل أردت أن يقال : فلان جواد .. فقد قيل ذلك ..
ويؤتى بالرجل الذي قتل في سبيل الله .. فيقال له : فيم قتلت ؟
فيقول : أمرت بالجهاد في سبيلك .. فقاتلت حتى قتلت ..
فيقول الله : كذبت ..
وتقول الملائكة له : كذبت ..
ويقول الله : بل أردت أن يقال : فلان جريء .. فقد قيل ذلك ..
ثم ضرب رسول الله e على ركبتي فقال :
يا أبا هريرة .. أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة ([1]) ..
فإذا أحسنت النية في كرمك فأبشر بالخير ..
وأولى من تحسن إليهم ليحبوك ويكرموك .. أهل بيتك .. الأم .. الأب .. الزوجة .. الأولاد .. ثم الأقرب قالأقرب .. ابدأ بنفسك ثم بمن تعول .. وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول ..
ولا بد من التفريق بين الكرم والإسراف ..
دلف رجل في شارع قديم فمر ببيت متهالك .. فإذا فتاة صغيرة قد جلست على عتبة الباب بثياب رثة .. وهيئة فقيرة .. فسألها : من أنت ؟
قالت : أنا ابنة حاتم الطائي ..
فقال : عجباً !! ابنة حاتم الطائي الكريم الجواد .. على هذا الحال ؟!!
فقالت : كرم أبي صيرنا إلى ما ترى !!
كان رسول الله e أكرم الناس .. ولم يكن جشعاً ينظر في مصلحة نفسه ولا يلتفت إلى غيره ..
كلا ..
قال ابو هريرة t :
والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد على الأرض من الجوع .. وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع ..
ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه .. فمر أبو بكر .. فسألته عن آية من كتاب الله .. ما سألته إلا ليستتبعني .. فلم يفعل ..
ثم مرَّ عمر .. فسألته عن آية من كتاب الله .. ما سألته إلا ليستتبعني .. فمر فلم يفعل ..
ثم مرَّ بي أبو القاسم r .. فتبسم حين رآني .. وعرف ما في وجهي وما في نفسي ..
ثم قال : أبا هر .. قلت : لبيك يا رسول الله .. قال : اِلْحَقْ ..
ومضى .. فاتبعته .. فدخل .. فاستأذن .. فأذن لي .. فدخلت ..
فوجد لبناً في قدح .. فقال : من أين هذا اللبن ؟
قالوا : أهداه لك فلان .. أو فلانة ..
قال : أبا هر .. قلت : لبيك يا رسول الله ..
قال : اِلْحَقْ أهل الصفة .. فادعهم لي ..
قال : وأهل الصفة أضياف الإسلام .. لا يأوون إلى أهل ولا إلى مال .. إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً .. وإذا أتته هدية أرسل إليهم .. وأصاب منها وأشركهم فيها .. فساءني ذلك ..
وقلت : وما هذا اللبن في أهل الصفة !! كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها .. فإذا جاءوا .. أمرني .. فكنت أنا أعطيهم .. وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ..
ولم يكن من طاعة الله .. وطاعة رسوله بدٌ .. فأتيتهم .. فدعوتهم ..
فأقبلوا .. فأذن لهم .. وأخذوا مجالسهم من البيت .. فقال : يا أبا هر ..
قلت : لبيك يا رسول الله .. قال : خذ .. فأعطهم ..
فأخذت القدح .. فجعلت أعطيه الرجلَ فيشرب حتى يروى .. ثم يرد عليَّ القدح .. فأعطيه الآخر .. فيشرب حتى يروى .. ثم يرد علي القدح .. فأعطيه الآخر فيشرب حتى يروى .. ثم يرد علي القدح ..
حتى انتهيت إلى النبي r .. وقد روي القوم كلهم .. فأخذ القدح فوضعه على يده .. فنظر إليَّ فتبسم فقال : أبا هر .. قلت : لبيك يا رسول الله .. قال :
بقيت أنا وأنت ؟ قلت : صدقت يا رسول الله .. قال : اقعد فاشرب .. فقعدت فشربت .. فقال : اشرب .. فشربت ..
فما زال يقول : اشرب .. حتى قلت : لا .. والذي بعثك بالحق .. ما أجد له مسلكاً .. قال : فأرني .. فأعطيته القدح .. فحمد الله وسمَّى .. وشرب الفضلة .. ([2])
وللكرم أسرار ..
أحياناً لا تتكرم على الشخص مباشرة .. وإنما تتكرم على من يحبهم .. فيحبك ..
زارني أحد الأصدقاء يوماً .. وكان يحمل كيساً فيه عدد من الحلويات والألعاب .. أظنها لم تكلفه بضعة ريالات .. وضعها بجانب الباب لما دخل .. وقال : هذه للأولاد ..
فرح بها الصغار .. وفرحت بها أنا لأنه أشعرني أنه يحب إدخال السرور على أولادي ..
كان أحد السلف عالماً .. لكنه كان فقيراً ..
فكان طلابه يهدون إليه بين فترة وأخرى .. أنواعاً من الهدايا .. تمر .. دقيق ..
وكان الطالب إذا أهدى إليه .. لم يزل الشيخ مكرماً مقبلاً عليه .. ما دامت هديته باقية ..
فإذا انتهت .. رجع إلى طبعه الأول ..
ففكر أحد طلابه بهدية يحملها إلى الشيخ .. تكون معقولة الثمن .. وتطول مدة بقائها ..
فأهدى إليه كيس ملح ..
ولو استشرتني في هديتين ستهدي إحداهما إلى صديق ..
أولهما زجاجة عطر رائع .. ثمين ..
أو ساعة حائطية تكتب عليها إهداءً باسمه ..
لاخترت الساعة .. لأنها يطول بقاؤها .. ويراها دائماً ..
وأذكر أن أحد طلابي أهديته ساعة حائطية فيها إهداء باسمه ..
وتخرج من الكلية .. ومرت السنين ..
ثم زرت إحدى المدن فتفاجأت به يحضر المحاضرة ويدعوني إلى بيته ..
فلما دخلت مجلس الضيوف فإذا به يشير إلى الساعة معلقة على الحائط .. ويقول : هذه أغلى هدية عندي ..
وقد مر على تخرجه سبع سنين ..
بقي أن تعلم أن هذه الساعة لم تكلف إلا شيئاً يسيراً .. لكن قيمتها المعنوية أعلى وأكبر ..

وجهة نظر ..
كسب قلوب الناس فرص قد لا تتكرر

5. كف الأذى ..
كان الناس يبغضونه ..
ما يكاد أحد يسلم من أذاه ..
إن سلمت من يده فلن تسلم من لسانه .. وإن فاته أن يجلدك بسوط لسانه في حضرتك فلن يفوته أن يجلدك في غيبتك ..
فعلاً .. كان رجلاً مكروهاً .. أثقل على الناس من صم الجبال الراسيات ..
وإذا تأملت في أحوال الناس فسوف تصل إلى يقين بأنه لا يؤذي غالباً إلا من كان عنده نعمة تفوق من يقابله ..
فالقوي يتجرأ على إيذاء الضعيف .. يدفعه بيده .. أو يركله برجله .. يضرب ويحقّر .. فيصير أسداً عليه لكنه في الحروب نعامة !!
والغني يتعدى على الفقير .. فيهينه في المجالس .. يقاطعه في كلامه ..
أما صاحب المنصب والجاه .. فله حظ كبير من ذلك ..
وقل مثل ذلك فيمن جعل الله نسبه رفيعاً ..
وهؤلاء في الحقيقة .. إضافة إلى بغض الناس لهم .. وتمنيهم زوال عزهم .. وفرحهم بمصائبهم ..
هم أيضاً مفلسون ..
وانظر إلى رسول الله e .. وقد جلس مع أصحابه يوماً فقال لهم :
أتدرون ما المفلس ؟
قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ..
فقال : إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة .. وصيام .. وزكاة .. ويأتي قد شتم هذا .. وقذف هذا .. وأكل مال هذا .. وسفك دم هذا .. وضرب هذا ..
فيعطى هذا من حسناته .. وهذا من حسناته .. فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه .. أخذ من خطاياهم فطرحت عليه .. ثم طرح في النار ([3]) ..
لذا كان يتجنب e أذى الناس بشتى أشكاله ..
قالت عائشة t : ماضرب رسول الله e شيئاً قط بيده .. ولا امرأة .. ولا خادماً .. إلا أن يجاهد في سبيل الله .. وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه .. إلا أن ينتهك شيء من محارم الله .. فينتقم لله عز وجل ([4]) ..
وعموماً .. من استعمل هذه النعم لأذى الناس أبغضوه .. وقد يبتليه الله في دنياه قبل أخراه .. فيشفي صدورهم ..
أذكر أن أحد الأصدقاء من طلبة العلم وحفظة القرآن .. كان رجلاً صالحاً .. يأتيه بعض الناس أحياناً يقرأ عليهم شيئاً من القرآن كرقية شرعية .. وقد شفى الله تعالى على يده من شاء ..
دخل عليه يوماً من الأيام رجل تبدو عليه علامات الثراء .. جلس بين يدي الشيخ وقال : يا شيخ .. أنا عندي آلام في يدي اليسرى تكاد تقتلني .. لا أنام في ليل .. ولا أرتاح في نهار ..
ذهبت إلى عدد كبير من الأطباء .. أجروا لي الفحوصات .. عملوا تمارين .. ما فيه فائدة أبداً ..
الألم يزيد ويشتد حتى انقلبت حياتي عذاباً ..
يا شيخ .. أنا تاجر وعندي عدد من المؤسسات والشركات .. فأخشى أن أكون أصبت بعين حاسدة .. أو وضع لي أحد الأشرار سحراً ..
قال الشيخ : قرأت عليه سورة الفاتحة .. وآية الكرسي .. وسورة الإخلاص والمعوذتين ..
لم يظهر عليه تأثر .. خرج من عندي شاكراً ..
رجع إليَّ بعد أيام يشكو الألم نفسه .. قرأت عليه .. ذهب ورجع .. وقرأت عليه .. لم يظهر عليه أي تحسن ..
قلت له لما اشتد عليه اللم : قد يكون ما أصابك هو عقوبة على شيء فعلته .. من ظلم أحد الضعفاء .. أو أكل حقوقهم .. أو ظلمت أحداً في ماله فمنعته حقه .. أو غير ذلك .. فإن كان هناك شيء من ذلك فسارع إلى التوبة مما جنيت .. وأعد الحقوق إلى أهلها .. واستغفر الله مما مضى ..
التاجر لم يرق له كلامي .. وقال - بكبر - : أبداً .. ما ظلمت أحداً .. ولم أعتدِ على شيء من حقوق الناس .. وأشكرك على نصيحتك .. وخرج ..
مرت أيام وغاب الرجل عني .. خشيت أن يكون وجد علي في نفسه .. ولكن لا عليَّ فهي نصيحة أسديتها إليه .. تفاجأت به يوماً في مكان ما .. لقيني فأقبل إليَّ مسلماً مسروراً ..
سألته : هاه .. ما الأخبار ؟
قال : الحمد لله .. الآن يدي بخير .. بغير طب ولا علاج !!
قلت : كيف ؟
قال : لما خرجت من عندك .. جعلت أفكر في نصيحتك .. وأستعيد شريط ذكرياتي في ذهني .. وأفكر !! ترى هل ظلمت أحداً ؟! هل أكلت حق أحد ؟! فتذكرت أني قبل سنوات لما كنت أبني قصري .. كان بجانبه أرض رغبت في ضمها إليه ليكون أجمل .. كانت الأرض ملكاً لامرأة أرملة توفي زوجها وخلّف أيتاماً ..
أردتها أن تبيع الأرض فأبت .. وقالت : وماذا أفعل بقيمة الأرض .. بل تبقى لهؤلاء الأيتام حتى يكبروا .. أخشى أن أبيعها ويتشتت المال ..
أرسلت إليها مراراً لشرائها .. وهي تأبى علي ذلك ..
قلت : فماذا فعلت ؟
قال : انتزعت الأرض منها بطرقي الخاصة ..
قلت : طرقك الخاصة !!
قال : نعم .. علاقاتي الواسعة .. ومعارفي .. استخرجت ترخيصاً ببناء الأرض وضممتها إلى أرضي ..
قلت : وأم الأيتام ؟!!
قال : سمعت بما حصل لأرضها فكانت تأتي وتصرخ بالعمال الذين يعملون لتمنعهم من البناء .. وهم يضحكون منها يظنونها مجنونة .. وفي الواقع أنني أنا المجنون ليس هي ..
كانت تبكي وترفع يديها إلى السماء .. هذا ما رأيته بعيني .. ولعل دعاءها في ظلمة الليل كان أعظم ..
قلت : هاه .. أكمل ..
قال : رحت أسأل وأبحث عنها .. حتى عثرت عليها .. فبكيت واعتذرت .. ولا زلت بها حتى قبلت مني تعويضاً عن تلك الأرض .. ودعت لي وسامحتني ..
فوالله ما إن خفضت يديها .. حتى دبت العافية في بدني ..
ثم أطرق التاجر برأسه قليلاً .. ثم رفعه وقال : ونفعني دعاؤها – بإذن الله – نفعاً عجز عنه طب الأطباء ..

قالوا ..
نامت عيونك والمظلوم منتبه*يدعو عليك وعين الله لم تنم

6. لا للعداوات ..
تجد أن الناس عند التعامل معهم لهم طبائع ..
منهم الغضوب ومنهم البارد .. ومنهم الذكي ومنهم الغبي .. والمتعلم والجاهل ..
ومنهم حسن الظن وسيء الظن .. و :
من عامل الناس لاقى منهم نصباً ..
فإن سَوْسَهم بـغيٌ وطغيان
فالظالم يغفل عن ظلمه ويرى أنه أعدل الناس ..
والغبي يرى أنه أذكى الناس ..
والأخرق السفيه .. يرى أنه حكيم زمانه ..
أذكر لما كنت شاباً – وأظنني لا أزال كذلك – أعني لما كنت في أوائل الدراسة الثانوية .. أقبل علينا ضيف ثقيل .. لا أدري هل أكمل دراسته الابتدائية أم لا ؟ لكن الذي أجزم به أنه يقرأ ويكتب ..
وكنت مشغولاً وقت دخوله بمسألة شرعية لم أجد لها جواباً ..
وضعت له ما يوضع للضيف من قِرى .. ثم تناولت الهاتف وجعلت أكرر الاتصال بالشيخ ابن باز رحمه الله لسؤاله عنها ..
لم أجد الشيخ ..
رآني صاحبي منشغلاً إلى هذا الحد .. فسألني : بمن تتصل ..
قلت : بالشيخ ابن باز .. عندي استفتاء مهم ..
فبادرني قائلاً بكل ثقة : سبحان الله .. ابن باز .. وأنا موجود ؟!! ( لولا الحياء لجعلت بقية الكتاب علامات تعجب !! )
تجد من الناس كثيرين كذلك .. فتحمل ثقلهم .. وعاملهم بلطف .. واكسبهم ..
حاول بقدر استطاعتك أن لا تكسب عداوات ..
فلم تبعث عليهم وكيلاً .. أنقذ ما يمكن إنقاذه .. ولا تعذب نفسك ..
خاطرة ..
الحياة اقصر من أن تشغلها باكتساب عداوات

7. اللسان .. ملك !!
تأملت فيما يحدث التباغض والشقاق بين الناس .. ويجعل بعضهم أثقل من الجبل على الآخرين .. فلا يحبون رؤيته ولا مجالسته .. ولا السفر معه .. ولا حضور وليمة هو مدعو إليها ..
وجدت أن أكثر يوصل الشخص إلى هذا المستوى البغيض هو اللسان ..
فكم من خصومات وقعت بين إخوان .. وأزواج .. و .. بسبب مسبة أو غيبة أو شتم ..!!
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده .. فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
ذُكر أن ملكاً معظماً رأى في منامه أن أسنانه تساقطت ..
فاستدعى أحد المعبرين .. وقص عليه الرؤيا وسأله عن تعبيرها ؟!
فتغير المعبر لما سمعها .. وجعل يردد : أعوذ بالله .. أعوذ بالله .. تمضي عليك السنين .. ويموت أولادك وأهلك جميعاً .. وتبقى في ملكك وحدك ..
فصاح الملك .. وغضب .. وسب ولعن .. وأمر بالمعبر أن يسحب ويجلد ..
ثم دعا بمعبر آخر .. وقص عليه الرؤيا .. وسأله عن تعبيرها ..
فاستهل ذاك المعبر .. وتبسم .. وأظهر البشاشة .. وقال : أبشر .. خير .. خير .. أيها الملك ..
هذا معناه أنك سيطول عمرك جداً .. حتى تكون آخر أهلك موتاً .. وتبقى طول عمرك ملكاً ..
فاستبشر الملك وأمر له بالأعطيات .. وبقي راضياً عليه .. ساخطاً على الآخر !!
مع أنك لو تأملت لوجدت أن التعبيرين متماثلان متطابقان .. لكن الأول عبر بأسلوب والآخر عبر بأسلوب آخر .. نأ

نعم .. اللسان سيد الأعضاء ..
وفي الحديث .. قال e :
إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفراللسان .. فتقول :
اتق الله فينا .. فإنما نحن بك .. فإن استقمت استقمنا .. وإن اعوججت اعوججنا .. ([5]) ..
نعم .. والله إنه لسيد ..
سيد في خطبة الجمعة .. وسيد في الإصلاح بين الناس .. وسيد في التسويق .. وسيد في المحاماة ..
ولا يعني هذا أنه إذا فقده الإنسان .. انتهت حياته .. كلا بل صاحب الهمة يبقى بطلاً ..
لم يكن أبو عبد الله يختلف كثيراًُ عن بقية أصدقائي .. لكنه – والله يشهد – من أحرصهم على الخير ..
له عدة نشاطات دعوية من أبرزها ما يقوم به أثناء عمله .. فهو يعمل مترجما في معهد الصم البكم .
اتصل بي يوما وقال : ما رأيك أن أحضر إلى مسجدك اثنين من منسوبي معهد الصم لإلقاء كلمة على المصلين ..
تعجبت !! وقلت : صم يلقون كلمة على ناطقين ؟
قال : نعم .. وليكن مجيئنا يوم الأحد ..
انتظرت يوم الأحد بفارغ الصبر ..
وجاء الموعد ..
وقفت عند باب المسجد أنتظر ..
فإذا بأبي عبد الله يقبل بسيارته ..
وقف قريباً من الباب .. نزل ومعه رجلان ..
أحدهما كان يمشي بجانبه ..
والثاني قد أمسكه أبو عبد الله يقوده بيده ..
نظرت إلى الأول فإذا هو أصم أبكم .. لا يسمع ولا يتكلم .. لكنه يرى ..
والثاني أصم .. أبكم .. أعمى .. لا يسمع ولا يتكلم ولا يرى ..
مددت يدي وصافحت أبا عبد الله ..
كان الذي عن يمينه – وعلمت بعدها أن اسمه أحمد - ينظر إليّ مبتسماً .. فمددت يدي إليه مصافحاً ..
فقال لي أبو عبد الله - وأشار إلى الأعمى - :
سلم أيضاً على فايز .. قلت : السلام عليكم .. فايز ..
فقال أبو عبد الله : أمسك يده .. هو لا يسمعك ولا يراك ..
جعلت يدي في يده .. فشدني وهز يدي ..
دخل الجميع المسجد .. وبعد الصلاة جلس أبو عبد الله على الكرسي وعن يكينه أحمد .. وعن يساره فايز ..
كان الناس ينظرون مندهشين .. لم يتعودوا أن يجلس على كرسي المحاضرات أصم ..
التفت أبو عبد الله إلى أحمد وأشار إليه ..
فبدأ أحمد يشير بيديه .. والناس ينظرون .. لم يفهموا شيئاً ..
فأشرت إلى أبي عبد الله .. فاقترب إلى مكبر الصوت وقال :
أحمد يحكي لكم قصة هدايته .. ويقول لكم .. ولدت أصم .. ونشأت في جدة .. وكان أهلي يهملونني .. لا يلتفتون إليّ .. كنت أرى الناس يذهبون إلى المسجد .. ولا أدري لماذا ! أرى أبي أحياناً يفرش سجادته ويركع ويسجد .. ولا أدري ماذا يفعل ..
وإذا سألت أهلي عن شيء .. احتقروني ولم يجيبوني ..
ثم سكت أبو عبد الله والتفت إلى أحمد وأشار له ..
فواصل أحمد حديثه .. وأخذ يشير بيديه .. ثم تغير وجهه .. وكأنه تأثر ..
خفض أبو عبد الله رأسه ..
ثم بكى أحمد .. وأجهش بالبكاء ..
تأثر كثير من الناس .. لا يدرون لماذا يبكي ..
واصل حديثه وإشاراته بتأثر .. ثم توقف ..
فقال أبو عبد الله : أحمد يحكي لكم الآن فترة التحول في حياته .. وكيف أنه عرف الله والصلاة بسبب شخص في الشارع عطف عليه وعلمه .. وكيف أنه لما بدأ يصلي شعر بقدر قربه من الله .. وتخيل الأجر العظيم لبلائه .. وكيف أنه ذاق حلاوة الإيمان ..
ومضى أبو عبد الله يحكي لنا بقية قصة أحمد ..
كان أكثر الناس مشدوداً متأثراً ..
لكني كنت منشغلاً .. أنظر إلى أحمد تارة .. وإلى فايز تارة أخرى .. وأقول في نفسي .. هاهو أحمد يرى ويعرف لغة الإشارة .. وأبو عبد الله يتفاهم معه بالإشارة .. ترى كيف سيتفاهم مع فايز .. وهو لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ..!!
انتهى أحمد من كلمته .. ومضى يمسح بقايا دموعه ..
التفت أبو عبد الله إلى فايز ..
قلت في نفسي : هه ؟؟ ماذا سيفعل ؟!!
ضرب أبو عبد الله بأصابعه على ركبة فايز ..
فانطلق فايز كالسهم .. وألقى كلمة مؤثرة ..
تدري كيف ألقاها ؟
بالكلام ؟ كلا .. فهو أبكم .. لا يتكلم ..
بالإشارة ؟ كلا .. فهو أعمى .. لم يتعلم لغة الإشارة ..
ألقى الكلمة بـ ( اللمس ) .. نعم باللمس .. يجعل أبو عبد الله ( المترجم ) يده بين يدي فايز .. فيلمسه فايز لمسات معينة .. يفهم منها المترجم مراده .. ثم يمضي يحكي لنا ما فهمه من فايز .. وقد يستغرق ذلك ربع ساعة ..
وفايز ساكن هادئ لا يدري هل انتهى المترجم أم لا .. لأنه لا يسمع ولا يرى ..
فإذا انتهى المترجم من كلامه .. ضرب ركبة فايز .. فيمد فايز يديه ..
فيضع المترجم يده بين يديه .. ثم يلمسه فايز للمسات أخر ..
ظل الناس يتنقلون بأعينهم بين فايز والمترجم .. بين عجب تارة .. وإعجاب أخرى ..
وجعل فايز يحث الناس على التوبة .. كان أحياناً يمسك أذنيه .. وأحياناً لسانه .. وأحياناً يضع كفيه على عينيه ..
فإذا هو يأمر الناس بحفظ الأسماع والأبصار عن الحرام ..
كنت أنظر إلى الناس .. فأرى بعضهم يتمتم : سبحان الله .. وبعضهم يهمس إلى الذي بجانبه .. وبعضهم يتابع بشغف .. وبعضهم يبكي ..
أما أنا فقد ذهبت بعيييييداً ..
أخذت أقارن بين قدراته وقدراتهم .. ثم أقارن بين خدمته للدين وخدمتهم ..
الهم الذي يحمله رجل أعمى أصم أبكم .. لعله يعدل الهم الذي يحمله هؤلاء جميعاً ..
والناس ألف منهم كواحد ** وواحد كالألف إن أمر عنا
رجل محدود القدرات .. لكنه يحترق في سبيل خدمة هذا الدين .. يشعر أنه جندي من جنود الإسلام .. مسئول عن كل عاص ومقصر ..
كان يحرك يديه بحرقة .. وكأنه يقول يا تارك الصلاة إلى متى ..؟ يا مطلق البصر في الحرام إلى متى ..؟ يا واقعاً في الفواحش ؟ يا آكلاً للحرام ؟ بل يا واقعاً في الشرك ؟
كلكم إلى متى .. أما يكفي حرب الأعداء لديننا .. فتحاربونه أنتم أيضاً !!
كان المسكين يتلون وجهه ويعتصر ليستطيع إخراج ما في صدره ..
تأثر الناس كثيراً .. لم ألتفت إليهم .. لكني سمعت بكاء وتسبيحات ..
انتهى فايز من كلمته .. وقام .. يمسك ابو عبد الله بيده .. تزاحم الناس عليه يسلمون ..
كنت أراه يسلم على الناس .. وأحس أنه يشعر أن الناس عنده سواسيه ..
يسلم على الجميع .. لا يفرق بين ملك ومملوك .. ورئيس ومرؤوس ..وأمير ومأمور ..
يسلم عليه الأغنياء والفقراء .. والشرفاء والوضعاء .. والجميع عنده سواء ..
كنت أقول في نفسي ليت بعض النفعيين مثلك يا فايز ..
أخذ أبو عبد الله بيد فايز .. ومضى به خارجاً من المسجد ..
أخذت أمشي بجانبهما .. وهما متوجهان للسيارة ..
والمترجم وفايز يتمازحان في سعادة غامرة ..
آآآه ما أحقر الدنيا ..
كم من أحد لم يصب بربع مصابك يا فايز ولم يستطع أن ينتصر على الضيق والحزن ..
أين أصحاب الأمراض المزمنة .. فشل كلوي .. شلل .. جلطات .. سكري .. إعاقات ..
لماذا لا يستمتعون بحياتهم..ويتكيفون مع واقعهم ..
ما أجمل أن يبتلي الله عبده ثم ينظر إلى قلبه فيراه شاكراً راضياً محتسباً ..
مرت الأيام .. ولا تزال صورة فايز مرسومة أمام ناظري ..
حقيقة ..
الإنسان لا لحمه يؤكل .. ولا جلده يلبس .. فماذا فيه غير حلاوة اللسان !!

8. اضبط لسانك ..
إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه ..
هكذا حذر النبي e الناس من إطلاق الكلام على عواهنه .. دون النظر في العواقب ..
عدم ضبط اللسان قد يؤدي إلى المهالك ..
احفظ لسانك أيها الإنسان
لا يلدغنك إنـه ثـعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه
كانت تهاب لقاءه الشجعان
كم من امرأة طلقها زوجها بسبب اللسان .. يختلف معها .. فتردد قائلة له : طلقني .. أتحداك تطلقني .. إن كنت رجلاً طلقني .. فيأمرها بالسكوت .. يصرخ بها .. ينهرها .. يشتد الأمر بينهما .. فينهدم البناء .. ويطلقها ..
لذا أمر e الشخص إذا غضب أن يسكت .. نعم يسكت ..
لأنه إن لم يضبط لسانه .. أرداه في المهالك ..
يموت الفتى من زلة بلسانه
وليس يموت المرء من زلة الرجل
أذكر أني دخلت قبل فترة في مشكلة بين عائلتين للإصلاح بينهما ..
وقصة الخلاف : أن رجلاً عاقلاً كبيراً في السن أظنه قد تجاوز الستين من عمره .. خرج في نزهة صيد مع مجموعة من أصدقائه .. وسنهم جميعاً متقارب ..
دارت بينهم الأحاديث وذكريات الصبا .. ثم تكلموا عن أراض لأجدادهم بالقرية .. فثار خلاف بين اثنين منهم حول أحد الأراضي يملكها أحدهما وادعى الآخر أنها لجده ..
اشتد بينهما النقاش حتى قال مالك الأرض لصاحبه : والله لإن رأيتك قريباً من أرضي لأفرغن هذا في رأسك ..
ثم تناول بندقية الصيد التي بجانبه ووجهها أعلى من رأس صاحبه بمترين أو ثلاثة ثم أطلق منها رصاصة ..
ثار الرجلان وكادا أن يقتتلا .. لكن أصحابهما هدؤوهما وتفرقوا إلى بيوتهم ..
لم يستطع الرجل الذي أطلق عليه الرصاص أن ينام من شدة الغيظ .. فما كاد أن يصبح حتى كان قد أجمع أن يشفي غيظه من صاحبه .. فحمل سلاحاً من نوع " كلاشينكوف " ومضى يبحث عن صاحبه .. حتى رآه في سيارته عند مدرسة بنات ..
كان صاحبه متقاعداً من وظيفته ويعمل سائقا لسيارة خاصة لنقل المدرسات .. وقد أوقف سيارته عند باب المدرسة وجلس داخلها ينتظر خروجهن .. وبجانبه مجموعة من السيارات تشبه سيارته كلها مخصصة لنقل المدرسات أو الطالبات ..
اختبأ الرجل خلق شجرة بعيدة لئلا ينتبه إليه .. وكان ضعيف البصر .. ووجه سلاحه إلى السائق .. وحاول جاهداً أن يسدد الطلقة إلى رأسه .. ثم ضغط على الزناد .. ودوى صوت الرصاص وانطلقت ثلاث رصاصات واستقرت في رأس السائق .. ثار الناس واضطربوا .. وفزعت الطالبات .. وارتفع الصراخ ..
واجتمع الشرطة .. وأحاطوا بالمنطقة .. والرجل قد هشمت الطلقات جمجمته .. ومات ..
أما القاتل فقد توجه بكل هدووووء إلى مخفر الشرطة وأخبرهم بالقصة .. وقال : أنا قتلت فلاناً .. والآن قد شفيت صدري فاقتلوني أو أحرقوني أو اسجنوني .. افعلوا ماشئتم ..
أدخلوه إلى غرفة التوقيف .. وخرج الضابط لمعاينة مكان الحادث .. فلما اطلع على بطاقة المقتول فإذا المفاجأة الكبرى !! إذا بالقتيل ليس هو صاحبه الذي أراد أن يشفي صدره منه وإنما هو شخص آخر ليس له دخل بالقضية ..
فأقبل الضابط يمشي بسرعة ، والرجل المسن المقصود بالقتل يمشي بجانبه .. حتى أدخله مخفر الشرطة وأوقفه أمام الزنزانة .. وقال : يا فلان ! أتدعي أنك قتلت هذا ؟! الرصاص أصاب شخصاً آخر !!
فصرخ المسكين وأصابه حالة هستيرية .. ثم أغمي عليه ومكث في غيبوبة أياماً .. ثم شفي وأدخل السجن وحكم عليه القاضي الشرعي بإقامة حد القتل عليه ..
وصدق أبو بكر لما قال : ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان ..
لا أنس خبر ذلك الخليفة الذي جلس يوماً مع نديمه .. يضاحكه ويمازحه .. فلعب الشيطان برؤوسهما فشربا خمراً .. فلما غابت العقول .. وسيطرت أم الخبائث .. وصار الواحد منهما أضل من الحمار ..
التفت الخليفة إلى حاجبه وأشار له إلى النديم وقال : اقتلوه ..
وكان الخليفة إذا أمر أمراً لم يراجَع فيه ..
فانطلق الحاجب إلى النديم وتله برجليه .. وهو يصرخ .. ويستغيث بالخليفة .. والخليفة يضحك ويردد : اقتلوه .. اقتلوه ..
فقتلوه .. وألقوه في بئر مهجورة ..
فلما أصبح الخليفة .. اشتاق إلى من يؤانسه .. فقال : ادعوا لي نديمي فلان ..
قالوا : قتلناه !! قال : قتلتموه ؟!! من قتله ؟! ولماذا ؟ ومن أمركم ؟! وجعل يدافع عبراته ..
فقالوا : أنت أمرتنا البارحة .. وأخبروه بالقصة ..
فسكت .. وخفض رأسه متندماً ثم قال : رب كلمة قالت لصاحبها دعني ..
أعود وأقول : كم من شخص نفر الناس عن شخصه .. وبغضهم في نفسه .. وجر إلى نفسه الويلات بسبب عدم ضبطه للسانه ..
قال ابن الجوزي :
ومن العجب أن من الناس من يقوى على التحرز من أكل الحرام .. ومن الزنا .. والسرقة .. لكنه لا يقوى على أن يتحرز من حركة لسانه .. فيتكلم في أعراض الناس .. ولا يقدر على منع نفسه من ذلك ..

عجيبة ..
الحيوان لسانه طويل ولا ينطق .. والإنسان لسانه قصير ولا يصمت !!

9. المفتاح ..
المدح .. هو مفتاح القلوب ..
نعم .. من أجمل مهارات الكلام أن تكون مبدعاً في تعويد نفسك على اكتشاف صواب الآخرين .. ومدحهم والثناء عليهم به .. قبل الانتباه إلى خطئهم ..
ويتأكد ذلك عندما تريد أن تنبه شخصاً إلى خطأ ما ..
كثير من الناس يرد النصيحة لا لأجل تكبره عنها .. أو عدم اقتناعه بخطئه .. وإنما لأن الناصح لم يسلك الطريق الصحيح لتقديم النصيحة ..
هب أنك ذهبت إلى مستشفى حكومي لعلاج ..
فلما أقبلت إلى موظف الاستقبال فإذا وراء الزجاج شاب مراهق يقلب جريدة بين يديه .. وبيده سيجاره .. غير مبال بما حوله ..
وإذا شيخ كبير أعمى يقف متعباً في يده اليمنى طفل صغير .. وفي الأخرى ورقة مراجعة ينتظر أن يحوله الموظف إلى الطبيب ..
وإذا بجانبه عجوز كبيرة بيدها طفلة تبكي وقد تمكنت الحمى من جسدها .. وتنتظر أيضاً الموظف أن يفرغ من قراءة أخبار ناديه المفضل ليحولها لطبيب الأطفال ..
لما رأيت هذا المنظر ثارت أعصابك – ولا نلومك على ذلك – فصرخت بالموظف : هيه !! أنت جالس في مستشفى أو في ... ما تخاف الله ؟!! المرضى يئنون من الألم وأنت تقرأ جريدة !! لا وتدخن أيضاً !! والله عجب .. مثلك ما يربيه إلا شكوى لمدير المستشفى .. أو المفروض أن تفصل من عملك ..
وبدأت تهيل هذه العبارات كالبرق عليه ..
هب أنه .. لم يرد عليك .. ولم يقابل صراخك بصراخ ..
هب فعلاً أنه ألقى جريدته .. وأنهى تحويل المرضى إلى الأطباء ..
هل تعتبر نفسك نجحت في حل المشكلة .. كلا .. أنت هنا عالجت الموقف لكنك لم تعالج المشكلة .. لأنه وإن استجاب إليك الآن إلا أنه سيعود إلى تصرفه المشين غداً وبعد غدٍ ..
إذن كيف أتصرف ؟!!
تعال إليه واكظم غيظك .. تعامل مع الموقف بعقل لا بعاطفة .. لا تدع المناظر المؤذية تؤثر في تصرفاتك .. ابتسم – وإن كنت مغضباً ، وإن كانت الابتسامة صفراء لا مشكلة ، ابتسم – وقل : السلام عليكم ..
سيقول وهو ينظر إلى لاعبه المفضل : عليكم السلام .. انتظر لحظة ..
قل أي كلمة تجعله يلتفت إليك .. كأن تقول : كيف الحال ؟ .. مساك الله بالخير ..
سيرفع رأسه - حتماً – إليك ويقول : الحمد لله بخير ..
في هذه المرحلة تكون قد قطعت نصف المشوار ..
تلطف إليه بأي عبارة تمدحه بها .. قل له مثلاً : تصدق ! المفروض مثلك ما يعمل في استقبال مستشفى ..
سيتغير ويقول : لماذا ؟
قل : لأن هذا الوجه المنير إذا رآه المريض زال مرضه فلا يحتاج إلى طبيب ..
سيبتسم متعجباً من جرأتك – يا بطل - .. وتنبلج أساريره ..
وقد صار الآن مهيئاً لقبول لنصيحة .. ويقول : ماذا عندك ؟
عندها قل : يا أخي ****** ترى هذا الشيخ الكبير .. وهذه العجوز المسكينة .. ليتك تنهي لهما إجراءات الدخول على الطبيب ..
سيتناول أوراقهما .. ويحولهما للطبيب .. ثم يتناول ورقتك .. فإذا انتهى منك وسلمك الورقة ..
فقل له : سبحان الله .. هذه أول مرة أراك ومع ذلك فقد دخلت إلى قلبي .. لا أدري كيف !! والله إنك أحب إليَّ من آلاف الناس .. ( وفعلاً أنت صادق فهو مسلم أحب إليك حتماً من ملايين غير المسلمين ) ..
سيفرح ويشكر لك لطفك ..
فقل : وعندي كلمات أود أن تسمعها لكني أخاف أن تغضبك ..
سيقول : لا .. لا .. تفضل ..
عندها قدم له النصيحة .. أنت قد منّ الله عليك بهذه الوظيفة .. وفي واجهة المستشفى .. وأنت قدوة لغيرك .. فليتك تتلطف قليلاً مع المراجعين .. وتهتم بهم .. لعل دعوة صالحة ترفع لك في ظلمة الليل من فم عجوز عابدة .. أو شيخ زاهد ..
أجزم أنه سيخفض رأسه وأنت تتكلم .. ويردد : أشكرك .. جزاك الله خيراً ..
وكذلك استعمل هذه الأساليب مع كل شخص تعالج سلوكه ..
مثل شخص يتهاون بالصلاة .. أو أب يهمل بناته فيتكشفن .. ويتساهلن بالحجاب ..
أو شاب عاق لوالديه ..
لأجل أن يقبلوا منك لا بد أن تمارس المهارات المناسبة .. نعم .. استخدم العبارات اللطيفة في إصلاح خطأ الآخر .. كن مؤدباً .. محترماً لرأيه ..
قل له : أنا ما أنصحك إلا لأني أعلم .. أنك تقبل النصح ..
وفي التنزيل العزيز يقول الله : ( إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ) ..
وقد كان المربي الحكيم e يستعمل طرقاً ومهارات تجعل من يعدل سلوكهم لا يملكون إلا أن يقبلوا منه ..
أراد يوماً أن يعلم معاذ بن جبل ذكراً يقوله بعد الصلاة ..
فأقبل إلى معاذ وقال : يا معاذ .. والله إني أحبك .. فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ..
بالله عليك .. ما علاقة المقطع الأول من الكلام "والله إني أحبك " بالمقطع الثاني " لا تدعن أن تقول اللهم أعني على ذكرك "..
قد يكون الأنسب لقوله إني أحبك أن يقول بعدها وأريد أن أزوجك ابنتي – مثلاً – أو أعطيك مالاً .. أو أدعوك إلى طعام ..
ولكن أن يتبع خبر المحبة تعليمه ذكراً من أذكار الصلاة ..!! فهذا يحتاج إلى تأمل ..
أتدري ما موقع قوله : " والله إني أحبك " ؟ إنه التهيئة لقبول النصيحة .. فإذا ارتاحت نفس معاذ واستبشر ، أعطاه النصيحة ..
وفي موقف آخر .. قبض e يد عبد الله بن مسعود بيده اليمنى ، ثم وضع يده اليسرى فوقها ، كنوع من العطف والتهيئة ، ثم قال : يا عبد الله .. إذا جلست في التشهد فقل : التحيات لله والصلولات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ..
ومضت السنين ومات رسول الله e .. فكان عبد الله يفخر بذلك ويقول : علمني رسول الله e التشهد وكفي بين كفيه ..
وفي يوم آخر لاحظ e أن عمر t إذا طاف بالكعبة وحاذى الحجر الأسود .. زاحم الناس وقبله .. وكان صلباً قوي البدن .. وربما زاحم الضعفاء ..
فأراد e أن يعدل سلوكه .. فقال – على سبيل التهيئة لقبول النصيحة - : يا عمر إنك رجل قوي ..
فرح عمر بهذا الثناء .. فقال e : فلا تزاحمن عند الحجر ..
ومرة أراد أن ينصح ابن عمر بقيام الليل .. فقال :
نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل .. وفي رواية قال : يا عبد الله لا تكن مثل فلان .. كان يقوم الليل ..
لا تكن مثل فلان .. كان يقوم الليل .. فترك قيام الليل ..
نعم .. كان e يستعمل هذا الأسلوب الرائع مع جميع الناس .. ومع الوجهاء خاصة ..
في بداية بعثة النبي e .. كان الناس ما بين مقبل ومدبر ..
وكان رجل في المدينة اسمه سويد بن الصامت وكان رجلاً شريفاً في قومه .. عاقلاً شاعراً .. يحفظ كلام الحكماء .. حتى قيل إنه كان يحفظ كل ما روي عن لقمان الحكيم ..
حتى بلغ من إعجاب الناس به أنهم كانوا يسمونه : الكامل .. لجلده وشعره .. وشرفه ونسبه .. وهو الذي يقول :
ألا رب من تدعو صديقاً ولو ترى
مقالته بالغيب ساءك ما يفري
مقالته كالشهد ما كان شاهداً
وبالغيب مأثور على ثغرة النحر
يسرك باديه وتحت أديمه
نميمة غش تبتري عقب الظهر
تبين لك العينان ما هو كاتم
من الغل والبغضاء بالنظر الشزر
قدم سويد بن الصامت يوماً إلى مكة حاجاً .. أو معتمراً ..
فتحدث الناس بدخوله مكة .. وأقبلوا لرؤيته .. فسمع النبي e به فأقبل عليه .. فدعاه إلى الله .. وإلى الإسلام .. وجعل يحدثه بالتوحيد والرسالة وأنه نبي يوحى إليه قرآن .. وأن هذا القرآن هو كلام الله تعالى .. فيه عبر وأحكام ..
فقال له سويد : فلعل الذي معك مثل الذي معي ؟
فقال له رسول الله r : ما الذي معك ؟
قال : معي مجلة لقمان - يعني حكمة لقمان - ..
فلم يعنفه e أو يحقره .. - مع أنه يضاهي كلام الله بكلام البشر - .. وإنما تلطف معه .. وقال r : اعرضها علي ..
فشرع سويد يقرأ ما يحفظ من كلام لقمان وحِكَمِه .. ورسول الله e يستمع إليه بكل هدوووء ..
فلما انتهى سويد .. قال e له : إن هذا لكلام حسن ..
ثم قال - مشوقاً لسويد - : والذي معي أفضل من هذا .. قرآن أنزله الله تعالى علي .. هو هدى ونور ..
ثم تلا عليه رسول الله r القرآن .. ودعاه إلى الإسلام .. وسويد يستمع منصتاً .. فلما فرغ e من كلامه .. ظهر على سويد التأثر .. وقال : إن هذا لقول حسن ..
ثم انصرف سويد عن النبي e .. ولا يزال متأثراً بما سمع ..
فقدم المدينة على قومه .. فلم يلبث أن وقع قتال بين قبيلتي الأوس والخزرج .. وكان من قبيلة الأوس فقتلته الخزرج ..
وذلك قبل أن يهاجر النبي e إلى المدينة .. ولا يدرى هل أسلم أم لا ؟ وإن كان رجل من قومه ليقولون : إنا لنراه قد قتل وهو مسلم ..

باختصار ..
أسرف في المديح .. واقتصد في النقد ..
10. الرصيد العاطفي
تصورات الناس عنا نحن الذين نصنعها ..
فلو لقيك شخص في السوق فعبس في وجهك ..
ثم لقيك في بقالة .. فعبس في وجهك أيضاً ..
ثم صادفته في عرس .. فلقيك عابساً .. لرسمت عنه صورة قاتمة في مخيلتك .. فإذا رأيت صورته أو سمعت اسمه في مكان تبادر إلى ذهنك ذاك الوجه العابس ..
ولو لقيك شخص بابتسامة في موقف .. ثم ابتسم في لقاء آخر .. وثالث .. لانطبع في ذهنك عنه صورة مشرقة ..
هذا فيمن لا يكون بينك وبينه علاقة دائمة وإنما هي لقاءات عابرة ..
أما الأشخاص الذي نلقاهم دائماً كزوجة وأولاد .. وزملاء في مكتب .. وجيران في حارة .. فإن تعاملنا معهم لن يكون بأسلوب واحد دائماً .. نعم هم سيروننا ضاحكين لطيفين .. لكنهم حتماً سيروننا تارة غاضبين .. وتارة عابسين .. أو مخاصمين .. أو شاتمين .. لأننا بشر ..
وبالتالي فإن محبتهم لنا تتحدد على حسب طغيان حسناتنا عندهم أو سيئاتنا .. أو قل بعبارة أخرى : تتحدد محبتهم لنا بحسب مقدار الرصيد العاطفي الذي في حسابنا عندهم ..
كيف ؟!
عندما يقع لك موقف جميل مع إنسان فإنك تضيف إلى سجل ذكرياته ذكرى جميلة عنك .. أو بعبارة أخرى تفتح لك في قلبه حساباً تودع فيه محبة لك واحتراماً .. ثم تتولى بعد ذلك زيادة رصيدك العاطفي أو السحب منه ..
فكل ابتسامة تقابله بها .. تزيد من رصيدك العاطفي عنده ..
وكل هدية .. تزيد رصيدك العاطفي ..
وكل مجاملة .. تزيد رصيدك العاطفي ..
وكل إهانة تقع منك له .. أو مسبة .. أو شتم .. فإنك تسحب من رصيدك العاطفي ..
وبالتالي إذا كان رصيدك العاطفي عنده كثيراً .. ووقعت يوماً ما في موقف أغاظه فسحبت من رصيدك العاطفي مقداراً معيناً .. فإن هذا لن يؤثر كثيراً لأن رصيدك العاطفي عنده كثير ..
وإذا ****** أتى بذنب واحد
جاءت محاسنه بألف شفيع
أما إن لم يكن عنده لك رصيد عاطفي وجعلت تسحب من الرصيد وليس فيه شيء أصلاً .. فإن حسابك عنده سيكون بالناقص !! وبالتالي قد يقع في قلبه لك كره .. أو استثقال .. لأنك تسحب من رصيدك العاطفي ولا تودع ..
ألم تسمع يوماً عن زوجة طلقها زوجها .. فإذا سئلت عن سبب الطلاق قالت : السبب تافه .. طلب مني الذهاب معه لزيارة أخته فرفضت .. فغضب وجعل يسبني ويشتمني ثم طلقني !!
ولو تأملت بذكاء في سبب الطلاق .. لما وجدت السبب هو هذا الموقف التافه .. وإنما هذا الموقف هو القشة التي قصمت ظهر البعير ..
فقد ذُكر أن رجلاً كان له جمل جلد قوي .. فأراد سفراً .. فجعل يحمل متاعه عليه .. ويربطه على ظهره .. والجمل متماسك .. حتى كوم على ظهره ما يحمله أربعة جمال .. فبدأ البعير يهتز من ثقل الحمل والناس يصيحون بالرجل : يكفي ما حملت عليه .. فأخذ حزمة من تبن وقال : هذه خفيفة وهي آخر المتاع .. فلما طرحها على ظهره سقط البعير على الأرض .. فقيل : قشة قصمت ظهر بعير !!
ولو تفكرت لرأيت أن القشة مظلومة فليست هي التي قصمت ظهر البعير وإنما انقصم ظهر البعير بسبب تراكمات كبار صبر البعير على أولها .. وصبر .. وصبر .. حتى لم يطق صبراً .. فانقصم ظهره بشيء صغير ..
وهكذا المرأة التي طلقها زوجها .. أجزم أن السبب ليس هو تركها زيارة أخته فحسب .. وإنما تراكمات قبله .. من عصيان لطلباته .. عدم تحقيق لرغباته .. عدم تحببها إليه .. تكبرها عليه .. عدم احترام رأيه .. فهي تسحب دوماً من رصيدها العاطفي عنده دون أن تودع فيه شيئاً .. وتجرح ولا تداوي ..
وهو يحتمل ويحتمل .. حتى جاء هذا الموقف فقصم ظهر البعير ..
ولو أنها اعتنت بكثرة الإيداع في رصيدها العاطفي .. من حسن لقاء له .. وتغنج ودلال .. وتحبب إليه .. وممازحة وخفة ظل .. وعناية بطعامه ولباسه .. واحترام لرأيه .. لصار رصيدها العاطفي كبيراً .. وملكت مليارات في قلبه .. وبالتالي لن يضر لو وقع موقف سحبت به من رصيدها العاطفي ..
وقل مثل ذلك في الطالب المشاكس الذي يقع منه موقف صغير فيغضب المدرس غضباً شديداً .. وقد يضربه ويطرده من الفصل .. و .. ثم يقول الطالب أنا ما فعلت شيئاً هي مجرد نكتة أطلقتها من غير استئذان .. ولا ينتبه إلى أن هذه النكتة هي القشة التي قصمت ظهر البعير ..
قل مثله في زملاء تخاصموا .. أو جيران تنازعوا ..
إذن .. نحن نحتاج دائماً إلى نودع في قلب كل واحد نلقاه رصيداً عاطفياً ..
الزوج يتحين الفرص ليودع في قلب زوجته .. ويسجل نقاطاً أكثر وأكثر ..
والزوجة تحتاج أيضاً ..
والولد يحتاج أن يودع في قلب والده ..
والمدرس مع طلابه .. والأخ مع أخيه ..
بل حتى المدير مع من هم تحت إدارته .. يحتاج إلى ذلك ..

باختصار ..
وإذا ****** أتى بذنب واحد
جاءت محاسنه بألف شفيع

( [1] ) رواه الترمذي والحاكم ، وهو صحيح
( [2] ) رواه البخاري
( [3] ) رواه مسلم
( [4] ) رواه مسلم
( [5] ) رواه أحمد والترمذي









عرض البوم صور ابو الوليد البتار   رد مع اقتباس
قديم 25 / 12 / 2008, 38 : 01 AM   المشاركة رقم: 16
المعلومات
الكاتب:
ابو الوليد البتار
اللقب:
موقوف


البيانات
التسجيل: 24 / 12 / 2007
العضوية: 11
العمر: 41
المشاركات: 0 [+]
بمعدل : 0 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 0
نقاط التقييم: 40
ابو الوليد البتار is on a distinguished road

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو الوليد البتار غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو الوليد البتار المنتدى : ملتقى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
افتراضي


1. الساحر ..
الكلام ببلاش .. يا أخي سَمِّعنا كلمة حلوة ..
هكذا بدأت المسكينة تعاتب زوجها ..
صحيح هو ما قصر معها في طعام ولا لباس .. ولكنه لم يكن يسحرها بمعسول الكلام .. !!
يجمع العقلاء أن أهم صفات البائع الماهر أن يكون ساحراً في كلامه .. فيردد : من عيوني .. تفضل .. خل الحساب علينا .. تعبك راحة ..
وتزيد قيمة البائع كلما زادت عباراته جمالاً .. فإن أضاف إلى حسن العبارة جودة في وصف السلعة .. وقدرة على إقناع الزبون بالشراء .. صار قد اكتسب نوراً على نور ..
ويجمع المجربون أن من أهم صفات السكرتير أن يكون لسانه عذباً .. وعباراته حلوة .. فيطرب الأسماع بقوله : سَمْ .. أبشر .. نحن ( خدّامينك ) ..
وربما شغفت زوجة بزوجها حباً .. وهو كثير البخل قليل الجمال .. لكنه يسحرها بعباراته ..
أذكر أن شاباً مراهقاً كان مغرماً بمغازلة الفتيات .. وكان له قدرة عجيبة على الإيقاع بهن .. وكم من مسكينة صارت متيمة بحبه .. عالقة بشراكه .. ومن العجب أنه لم يكن يملك سيارة فارهة يغريهن بركوبها .. ولم تكن جيبه مليئة بالمال ليغدق عليهن الهدايا ..
ولا تظنن أنه أوتي وسامة أو جمالاً .. كلا .. فإني أسأل الله لك أن لا تبتلى بالنظر إلى وجهه !!
لكنه كان يغلق فمه على لسان .. لو تكلم مع حجر لفلقه .. ولو سمعه نهر لدفّقه ..
فكان يصطاد الفتيات بلسانه اصطياداً .. بل يسحرهن سحراً ..
وحديثها السحر الحلال لو أنه
لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت
ود المحدث أنها لم توجز
أقبل يوماً إلى رسول الله e ثلاثةُ رجال سادة في قومهم ..
قيس بن عاصم .. والزبرقان بن بدر .. وعمرو بن الأهتم ..
وكلهم من قبيلة تميم ..
فبدؤوا يتفاخرون ..
فقال الزبرقان : يا رسول الله .. أنا سيد تميم .. والمطاع فيهم .. والمجاب فيهم .. أمنعهم من الظلم .. فآخذ لهم بحقوقهم ..
ثم أشار إلى السيد الآخر عمرو بن الأهتم .. وقال : وهذا يعلم ذاك ..
فأثنى عمرو عليه وقال : والله يا رسول الله .. إنه لشديد العارضة .. مانع لجانبه .. مطاع في ناديه ..
ثم سكت عمرو ..
فغضب الزبرقان .. وودَّ لو لأن عمرواً زاد في الثناء .. وظن أنه حسده على سيادته ..
فقال الزبرقان : والله يا رسول الله .. لقد علم ما قال .. وما منعه أن يتكلم به إلا الحسد ..
فغضب عمرو .. وقال : أنا أحسدك ؟!! فوالله إنك لئيم الخال .. حديث المال .. أحمق الموالد .. مضيع في العشيرة .. والله يا رسول الله لقد صدقت فيما قلت أولاً .. وما كذبت فيما قلت آخراً .. لكني رجل رضيت فقلت أحسنَ ما علمت .. وغضبت فقلتُ أقبحَ ما وجدت .. ووالله لقد صدقت في الأمرين جميعاً ..
فعجب e من سرعة حجته .. وقوة بيانه .. ومهارات لسانه ..
فقال : إن من البيان لسحراً .. إن من البيان لسحراً ([1]) ..
فكن مبدعاً في مهارات لسانك .. فلو قال لك : ناولني القلم .. قل : من عيوني .. تفضل ..
ولو قال .. لكن يا فلان عندي طلب : اطلب عيوني .. سَمْ ..
أريد منك خدمة : تفضل .. خدمنا أناساً ما يساوون أثر رجليك ..
مارس هذا الأسلوب الذي يدغدغ المشاعر .. مع أمك .. نعم أسمعها كلمات رقيقة لينة ..
مع أبيك .. زوجتك .. أولادك .. زملائك ..
فهذا الأسلوب لا يخسرك شيئاً .. وتسحر به الآخرين .. وتزيل ما في نفوسهم ..
وانظر إلى حال الأنصار y بعد معركة حنين ..
الأنصار الذين قاتلوا مع النبي t في بدر ثم قتلوا في أحد .. وحوصروا في الخندق .. ولا زالوا معه يقاتلون ويُقتَلون .. حتى فتحوا معه مكة .. ثم مضوا إلى معركة حنين ..
ففي الصحيحين ..
أن القتال اشتد أول المعركة .. وانكشف الناس عن رسول الله .. فإذا الهزيمة تلوح أمام المسلمين ..
فالتفت e إلى أصحابه .. فإذا هم يفرون من بين يديه ..
فصاح بالأنصار ..
يا معشر الأنصار .. فقالوا : لبيك يا رسول الله ..
وعادوا إليه .. وصفوا بين يديه ..
ولا زالوا يدفعون العدو بسيوفهم .. ويفدون رسول الله e بنحورهم .. حتى فر الكفار وانتصر المسلمون ..
وبعدما انتهت المعركة.. وجمعت الغنائم بين يدي النبي e .. أخذوا ينظرون إليها ..
وأحدهم يتذكر أولاده الجوعى .. وأهلَه الفقرا .. ويرجو أن يناله من هذه الغنائم شيء يوسع به عليهم ..
فبينما هم على ذلك ..
فإذا برسول الله e .. يدعو الأقرع بن حابس - ما أسلم إلا قبل أيام في فتح مكة .. فيعطيه مائة من الإبل .. ثم يدعو أبا سفيان ويعطيه مائة من الإبل ..
ولا يزال يقسم النعم .. بين أقوام .. ما بذلوا بذل الأنصار .. ولا جاهدوا جهادهم .. ولا ضحوا تضحيتهم ..
فلما رأى الأنصار ذلك ..
قال بعضهم لبعض : يغفر الله لرسول الله .. يعطي قريشاً ويتركنا .. وسيوفنا تقطر من دمائهم ..
فلما رأى سيدهم سعد بن عبادة t ذلك .. دخل على رسول الله e .. فقال :
يا رسول الله .. إن أصحابك من الأنصار وجدوا عليك في أنفسهم .. قال : وما ذاك ؟!!
قال : لما صنعت في هذا الفئ الذي أصبت .. قسمت في قومك .. وأعطيت عطاياً عظاماً .. في قبائل العرب ..
ولم يكن في الأنصار منه شئ ..
فقال e : فأين أنت من ذلك يا سعد ؟
قال : يا رسول الله .. ما أنا إلا امرؤ من قومي ..
فقال : فاجمع لي قومك.. فلما اجتمعوا .. أتاهم رسول الله ..
فحمد الله وأثنى عليه .. ثم قال : يا معشر الأنصار .. ما قالة بلغتني عنكم ؟
قالوا : أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريش ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم ..
فقال e : يا معشر الأنصار .. ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي ..
قالوا : بلى ولله ورسوله .. المنة الفضل ..
قال : ألم تكونوا عالة فأغناكم الله .. وأعداءً فألف بين قلوبكم ..
قالوا : بلى ولله ورسوله .. المنة الفضل ..
ثم سكت رسول الله e .. وسكتوا .. وانتظرَ .. وانتظروا ..
فقال : ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ..
قالوا : وبماذا نجيبك يا رسول الله .. ولله ولرسوله المنة والفضل ..
قال : أما والله لو شئتم لقلتم .. فلصَدَقتم ولصُدِّقتم ..
لو شئتم لقلتم : أتيتنا مكذباً فصدقناك .. ومخذولاً فنصرناك .. وطريداً فآويناك .. وعائلاً فواسيناك ..
ثم قال : يا معشر الأنصار .. أوجدتم على رسول الله في أنفسكم .. في لعاعة من الدنيا .. تألفت بها قوماً ليسلموا .. ووكلتم الى إسلامكم ..
إن قريشاً حديثوا عهد بجاهلية ومصيبة .. وإني أردت أن أجبرهم .. وأتألفهم ..
ألا ترضون يا معشر الأنصار .. أن يذهب الناس بالشاة والبعير .. وترجعون برسول الله e إلى بيوتكم ..
لو سلك الناس وادياً أو شعباً .. وسلكت الأنصار وادياً أو شعباً .. لسلكت وادي الأنصار .. أو شعب الأنصار ..
فوالذي نفس محمد بيده .. إنه لولا الهجرة .. لكنت امرءاً من الأنصار .. اللهم ارحم الأنصار .. وأبناء الأنصار .. وأبناء أبناء الأنصار ..
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم .. وقالوا : رضينا برسول الله قَسْماً وحظاً.. ثم انصرف رسول الله وتفرقوا ..
بل إنك بالعبارات الجميلة تستطيع أن تخدر الناس أحياناً ..
ذكر أنه كان في صعيد مصر رجل غني متسلط يسمونه " الباشا " كان يملك فدادين من المزارع .. كان متغطرساً يمارس أصناف الإذلال على المزارعين الصغار ..
دارت الزمان دورته فأصاب أرضه ما أتلفها .. فأصبح فقيراً بعد غنى .. كسيراً
جاع أولاده وهو ليس عنده مصدر يتكسب منه .. ولا يعرف صنعة غير الزراعة .. لكن أرضه تالفة ..
فخرج يبحث عن عمل .. أي عمل ..
أقبل على مزرعة لأحد الفلاحين الضعفاء الذين ذاقوا من إذلاله قديماً .. دخل عليه .. وقال بكل مذلة : هل أجد عنك عملاً .. أقطف الثمر .. أو أنقي الحبوب .. أو أقلم الأشجار .. أو ..
فثار المزارع في وجهه وقال : أنت تعمل عندي !! أنت المتكبر المتغطرس .. الحمد لله أن استجاب دعاءنا عليك وأذلك .. ثم طرده من بستانه ..
مضى يجر قدمي خيبته .. حتى دخل بستاناً آخر .. فإذا بفلاح له معه ذكريات أليمة .. فطرده كما طرده الأول ..
مضى الباشا ( !! ) المسكين لا يلوي على شيء .. ولا يريد أن يرجع إلى أولاده خالياً ..
مر على مزرعة لفلاح ثالث .. فدخل ليجرب حظه معه ..
رآه الفلاح فانبهر .. وقد ذاق أيضاً من إذلاله من قبل .. قال الباشا : أنا أبحث عن عمل .. أولادي جوعى ..
فأراد الفلاح أن يذله .. وأن ينتقم منه بأسلوب ذكي ..
فقال له : أهلاً أيها الباشا !! نورت بستاني !! من مثلي اليوم الباشا الكبير يدخل أرضي !! أنت الباشا الكبير .. أنت الباشا الوجيه !! أنت ..
وجعل يخدّره بهذه العبارات .. حتى صار الباشا منوماً تنويماً مغناطيسياً !!
ثم قال الفلاح : مرحباً وأهلاً .. عندي عمل .. لكني لا أدري هل يناسبك أم لا ؟
قال الباشا : وما هو ؟
قال : اليوم سوف أحرث الأرض .. وعندي محراث يجره ثوران .. ثور أبيض وثور أسود .. والثور الأسود اليوم مريض ولا يستطيع أن يعمل .. والثور الأبيض لا يطيق جر الحراثة وحده .. فأريدك أن تقوم اليوم بوظيفة الثور الأسود .. فأنت قوي أيها الباشا .. أنت قائد .. أنت رئيس .. تسير في الأمام دائماً ..
توجه الباشا بكل كبرياء إلى الحراثة .. ووقف بجانب الثور الأبيض .. أقبل المزارع إليه وبدأ بالثور الأبيض وربطه بالحبال ليجر المحراث .. ثم توجه إلى الباشا وهو يردد قائلاً : يا أحسن باشا في العالم .. يا قوي .. يا بطل .. والباشا يتلفت في زهو .. ثم ربط الحبال في كتفي الباشا .. وركب هو على الحراثة معه السوط !! وصاح : امش .. وضرب ظهر الثور فتحرك .. وتحرك الباشا يجر المحراث .. والفلاح يردد : جميل يا باشا .. ممتاز يا ملك .. ويضرب ظهر الثور .. ويصيح أقوى يا باشا .. أحسن يا باشا ..
والباشا المسكين لم يتعود على ذلك .. لكنه كان يجر بكل قوته .. من الصباح حتى غابت الشمس .. وكأنه غائب العقل ..
فلما انتهى فك الفلاح عنه الحبال .. وهو يقول : والله شغلك جميل يا باشا .. هذا أحسن يوم مر علي يا باشا ..
ثم بضع جنيهات .. ومضى الباشا إلى بيته ..
دخل على أولاده .. وقد تقرحت كتفاه .. وسالت الدماء من أسفل قدميه .. والعرق يغرق ثيابه .. و .. لكنه لا يزال منتشياً مخدراً ..
سأله أولاده : هاه .. هل وجدت عملاً ..
فقال - بكل فخر - : نعم .. أنا الباشا .. كيف لا أجد عملاً ..
فقالوا : فماذا اشتغلت ؟!
فقال : اشتغلت .. هاه !! اشتغلت !!
وبدأ يصحو من تخديره .. ويدرك ما أصابه ..
قال : اشتغلت ثوراً !!!

قرار ..
اختر أطيب الكلام كما تختار أطيب الثمر ..

2. فليسعد النطق إن لم تسعد الحال !!
من أحرج المواقف أن يقصدك صاحب حاجة .. ثم يرجع خائباً غير مقضية حاجته ..
نعم قضاء حاجات الناس طاعة عظيمة .. ولو لم يكن فيها إلا قوله e : لئن أمشي مع أخي في حاجة حتى أثبتها له ، أحب إلي من أن أعتكف في مسجدي هذا شهراً " ([2]) لكفى في فضلها ..
لكن بعض الحاجات يصعب قضاؤها .. فليس كل من طلب منك أن تسلفه مالاً قدرت على إعطائه ..
ولا كل من طلب منك مرافقته في سفر قدرت على تلبية طلبه ..
ولا كل من طلب حاجة معك كقلم أو ساعة أو غيرها .. استطعت إعطاءها له ..
والمشكلة أن أكثر الناس إذا لم تلبِّ حاجاتهم وجدوا عليك في أنفسهم .. وقد يذمونك في المجالس .. ويتهمونك تارة بالبخل .. وتارة بالأنانية .. وتارة ..
إذن ما العمل ؟!
كن ماهراً في الخروج من الموقف .. فإذا طلب منك أحد شيئاً ولم تستطع قضاءه فعلى الأقل رده بعبارات جميلة .. كما قال :
لا خيل عندك تهديها ولا مال *** فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
فلو علم شخص بأنك ستسافر إلى مدينة معينة .. فحاءك وقال : أريدك أن تشتري لي حاجة من المدينة التي أنت مسافر إليها .. وأنت لا رغبة لك في قضاء حاجته لأي سبب .. فكيف تجيب ؟
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال .. قل له : والله يا فلان أخدمك بعيوني .. وأنت أحب إليّ من أناس كثير .. لكني أخشى أن يضيق وقتي .. وعندي بعض الظروف تمنعني من إحضارها .. و ..
ولو دعاك إلى وليمة وأردت أن تعتذر وخشيت أن يجد في نفسه عليك .. فقدم مقدمات .. قل – مثلاً – أنا ما أعتبرك إلا كواحد من إخواني .. وأنت من أغلى الناس إلى قلبي .. لكني مشغول الليلة ..
وأنت لم تكذب فقد يكون شغلك هذا جلسة مع أولادك .. أو قراءة في كتاب .. أو نوم !! فهي كلها أشغال ..
وقد كان محمد e يملك الناس بأخلاق يأسر بها قلوبهم ..
انظر إليه عليه السلام .. وقد جلس مع أصحابه الكرام ..
فحدثهم عن البيتِ الحرام .. وفضلِ العمرة والإحرام ..
فطارت أفئدتهم شوقاً إلى ذاك المقام ..
فأمرهم بالتجهز للرحيل إليه .. وحثهم على التسابق عليه ..
فما لبثوا أن تجهزوا .. وحملوا سلاحهم وتحرزوا ..
فخرج e مع ألف وأربعمائة من أصحابه .. مهلين بالعمرة ملبين .. يتسابقون إلى البلد الأمين ..
فلما اقتربوا من جبال مكة ..
بركت القصواء - ناقة النبي عليه السلام - .. فحاول أن يبعثها لتسير .. فأبت عليه ..
فقال الناس : خلأت القصواء .. ( أي عصت ) فقال e :
ما خلأت القصواء .. وما ذاك لها بخلق .. ولكن حبسها حابس الفيل ( يعني فيل أبرهة لما أقبل به مع جيش من اليمن يريد هدم الكعبة فحبسهم الله عن ذلك ) ..
ثم قال J : والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله .. إلا أعطيتهم إياها ..
ثم زجرها فوثبت .. فتوجه إلى مكة .. حتى نزل بالحديبية قريباً من مكة .. فتسامع به كفار قريش .. فخرج إليه كبارهم ليردوه عن مكة .. فأبى إلا أن يدخلها معتمراً ..
فما زالت البعوث بينه وبين قريش..حتى أقبل عليه سهيل بن عمرو ..
فصالح النبي e على أن يعودوا إلى المدينة..ويعتمروا في العام القادم..
ثم كتبوا بينهم صلحاً عاماً .. وفيه :
اشترط سهيل : أنه لا يخرج من مكة مسلم مستضعف يريد المدينة .. إلا رُدَّ إلى مكة .. أما من خرج من المدينة وجاء إلى مكة مرتداً إلى الكفر .. فيُقبل في مكة ..
فقال المسلمون : سبحان الله !! من جاءنا مسلماً نرده إلى الكافرين !! كيف نرده إلى المشركين وقد جاء مسلماً .. فبينما هم كذلك إذ أقبل عليهم .. شاب يسير على الرمضاء .. يرفل في قيوده .. وهو يصيح : يا رسول الله .. فنظروا إليه .. فإذا هو أبو جندل ولد سهيل بن عمرو .. وكان قد أسلم فعذبه أبوه وحبسه .. فلما سمع بالمسلمين .. تفلت من الحبس وأقبل يجر قيوده .. تسيل جراحه دماً .. وتفيض عيونه دمعاً ..
ثم رمى بجسده المتهالك بين يدي النبي e ..والمسلمون ينظرون إليه ..
فلما رآه سهيل .. غضب !! كيف تفلت هذا الفتى من حبسه .. ثم صاح بأعلى صوته : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي ..
فقال e : إنا لم نقض الكتاب بعد ..
قال : فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً ..
فقال e : فأجزه لي .. قال : ما أنا بمجيزه لك .. قال : بلى فافعل .. قال : ما أنا بفاعل .. فسكت النبي e .. وقام سهيل سريعاً إلى ولده يجره بقيوده .. وأبو جندل يصيح ويستغيث بالمسلمين .. يقول :
أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً .. ألا ترون ما قد لقيت من العذاب .. ولا زال يستغيث بهم حتى غاب عنهم ..
والمسلمون تذوب أفئدتهم حزناً عليه .. فتى في ريعان الشباب .. يُشدد عليه العذاب ..
وينقل من العيش الرغيد .. إلى البلاء الشديد ..
وهو ابن سيد من السادات..طالما تنعم بالملذات..وتلذذ بالشهوات ..
ثم يجر أمام المسلمين بقيوده .. ليعاد إلى سجنه وحديده ..
وهم لا يملكون له شيئاً .. مضى أبو جندل إلى مكة وحيداً .. يسأل ربع الثبات على الدين .. والعصمة واليقين .. أما المسلمون فقد رجعوا مع رسول الله e إلى المدينة .. وهم في حنق شديد على الكافرين .. وحزن على المسلمين المستضعفين .. ثم اشتد العذاب على الضعفاء في مكة .. حتى لم يطيقوا له احتمالاً ..
فبدأ أبو جندل .. وصاحبه أبو بصير .. والمستضعفون في مكة .. يحاولون التفلت من قيودهم ..
حتى استطاع أبو بصير t أن يهرب من حبسه .. فمضى من ساعته إلى المدينة .. يحمله الشوق .. ويحدوه الأمل .. في صحبة النبي e وأصحابه .. مضى يطوي قفار الصحراء .. تحترق قدماه على الرمضاء ..
حتى وصل المدينة .. فتوجه إلى مسجدها .. فبينما النبي e في المسجد مع أصحابه .. إذ دخل عليهم أبو بصير .. عليه أثرُ العذاب .. ووعثاءُ السفر .. وهو أشعث أغبر ..
فما كاد يلتقط أنفاسه .. حتى أقبل رجلان من كفار قريش فدخلا المسجد .. فلما رآهما أبو بصير .. فزع واضطرب .. وعادت إليه صورة العذاب .. فإذا هما يصيحان .. يا محمد .. رده إلينا .. العهدُ الذي جعلت لنا .. فتذكر النبي e عهده لقريش أن يرد إليهم من يأتيه من مكة .. فأشار إلى أبي بصير .. أن يخرج من المدينة .. فخرج معهما أبو بصير .. فلما جاوزا المدينة .. نزلا لطعام .. وجلس أحدهما عند أبي بصير ..
وغاب الآخر ليقضي حاجته ..
فأخرج القاعد عند أبي بصير سيفه .. ثم أخذ يهزه .. ويقول مستهزءاً بأبي بصير : لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوماً إلى الليل ..
فقال له أبو بصير : والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً .. فقال : أجل والله إنه لجيد لقد جربت به .. ثم جربت .. فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه .. فناوله إياه .. فما كاد السيف يستقر في يده .. حتى رفعه ثم هوى به على رقبة الرجل فأطار رأسه .. فلما رجع الآخر من حاجته ..
رأى جسد صاحبه ممزقاً .. مجندلاً ممزقاً .. ففزع .. وفرَّ حتى أتى المدينة .. فدخل المسجد يعدو ..
فلما رآه e مقبلاً .. فزعاً .. قال : لقد رأى هذا ذعراً ..
فلما وقف بين يديه e صاح من شدة الفزع .. قال : قُتِل والله صاحبي .. وإني لمقتول ..
فلم يلبث أن دخل عليهم أبو بصير .. تلتمع عيناه شرراً .. والسيف في يده يقطر دماً .. فقال :
يا نبي الله .. قد أوفى الله ذمتك .. قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم .. فضمني إليكم .. قال : لا ..
فصاح أبو بصير بأعلى صوته .. قال : أو .. يا رسول الله .. أعطني رجالاً أفتح لك مكة ..
فأعجب النبي e بشجاعته .. لكنه لا يستطيع أن ينفذ له طلبه فبينه وبين أهل مكة عهد ..
لكنه e أراد أن يرده بلطف .. فليسعد النطق إن لم يسعد الحال ..
التفت e إلى أصحابه وقال مادحاً لأبي بصير : ويل أمه !! مسعِّر حرب لو كان معه رجال ..
فكانت هذه الكلمات بمثابة التخفيف والاعتذار من أبي بصير ..
وظل أبو بصير واقفاً عند باب المسجد ينتظر إذن النبي e له بالمكوث في المدينة ..
لكنه e تذكر عهده مع قريش فأمر أبا بصير بالخروج من المدينة .. فسمع أبو بصير وأطاع ..
نعم .. وما حمل في نفسه على الدين .. ولا انقلب عدواً للمسلمين ..
فهو يرجو ما عند الحليم الكريم .. من الثواب العظيم .. الذي من أجله ترك أهله .. وفارق ولده .. وأتعب نفسه .. وعذب جسده ..
خرج أبو بصير من المدينة .. فاحتار أين يذهب .. ففي مكة عذاب وقيود .. وفي المدينة مواثيق وعهود ..
فمضى إلى سيف البحر قريباً من جدة .. فنزل هناك .. في صحراء قاحلة .. لا أنيس فيها ولا جليس ..
فتسامع به المسلمون المستضعفون بمكة .. فعلموا أنه باب فرج انفتح لهم .. فالمسلمون في المدينة لا يقبلونهم .. والكفار في مكة يعذبونهم ..
فتفلت أبو جندل من قيوده .. فلحق بأبي بصير .. ثم جعل المسلمون يتوافدون إليه في مكانه .. حتى كثر عددهم .. واشتدت قوتهم ..
فجعلت لا تمر بهم قافلة تجارة لقريش .. إلا اعترضوا لها ..
فلما كثر ذلك على قريش .. أرسلوا إلى النبي e ناشدونه بالله أن يضمهم إليه .. فأرسل النبي e إليهم أن يأتوا المدينة ؟ فلما وصل إليهم الكتاب .. استبشروا وفرحوا ..
لكن أبا بصير كان قد ألم به مرض الموت .. وهو يردد قائلاً : ربي العلي الأكبر من ينصر الله فسوف ينصر ..
فلما دخلوا عليه وأخبروه أن النبي e أذن لهم بسكنى المدينة .. وأن غربتهم انتهت .. وحاجتهم قضيت .. ونفوسهم أمنت ..
فاستبشر أبو بصير .. ثم قال وهو يصارع الموت : أروني كتاب رسول الله e .. فناولوه إياه ..
فأخذه فقبله .. ثم جعله على صدره .. وقال : أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً رسول الله .. أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً رسول الله .. ثم شهق ومات ..
فرحم الله أبا بصير .. وصلى على نبي الرحمة وسلم تسليماً كثيراً ..
ومن الإسعاد بالنطق والسحر بالكلام .. أن تراعي من معك إذا جاملك .. وتتلطف معه ..
ذكر أن امرأة فقيرة اضطجعت بجانب زوجها على فراش عتيق .. في كوخ قديم .. جدرانه مرقعة .. وسقفه من جذوع النخل ..
فجالت ببصرها تنظر إلى جدران بيتها .. ثم ركّزت بصرها إلى السقف .. وسرحت بفكرها بعيداً .. ثم قالت :
تدري ماذا أتمنى ؟
قال : هاه !! ماذا تتمنين ؟
قالت : أتمنى أن نملك بيتاً كبيراً تسعد فيه مع أولادك .. وتدعو إليه أصدقاءك .. ونملك سيارة فارهة .. ترتاح إذا سقتها .. ويزيد راتبك ضعفين حتى تسدد ديونك .. و .. ومضت المسكينة تسرد له بحماس أسباب السعادة التي تتمناها له ..
والرجل غارق في أحلام خيبته .. يائس من صلاح حاله .. لا يملك أية مهارة من مهارات الكلام ..
فلما تعبت قالت له : وأنت ماذا تتمنى ؟!
فنظر إلى السقف طويلاً ثم قال : أتمنى أن ينطلق جذع من هذا السقف ويقع على رأسك فيقسمه نصفين ..

حديث ..
سألوه e : ما أكثر ما يدخل الناس النار ؟ فقال : هذا وهذا .. يعني الفرج واللسان

3. الدعاء ..
لا أعني هنا الكلام عن فضل الدعاء .. وآدابه وشروط إجابته ..
فهذا ليس له علاقة مباشرة بما نناقشه هنا وهو مهارات التعامل مع الناس ..
وإنما أعني : كيف تجعل الدعاء مهارة في كسب الناس ؟
ومن ذلك أن تدعو الله أيضاً أن يهديك إلى أحسن الأخلاق .. كما كان ****** e يدعو قائلاً :
(اللهم لك الحمد .. لا إله إلا أنت .. سبحانك وبحمدك .. ظلمت نفسي .. واعترفت بذنبي ..
فاغفر لي ذنوبي .. لا يغفر الذنوب إلا أنت ..
اهدني لأحسن الأخلاق .. لا يهدي لأحسنها إلا أنت ..
واصرف عني سيئها .. إنه لا يصرف سيئها إلا أنت ..
لبيك وسعديك والخير بيديك .. ) .. ([3])
نعود إلى أصل كلامنا .. كيف تجعل الدعاء مهارة في كسب قلوب الناس ..؟
الناس عموماً يحبون الدعاء لهم .. حتى عند السلام عليهم ولقائهم يفرحون إن دعوت لهم ..
فمع قولك : كيف الحال وما الأخبار ؟ أضف إليها : الله يحرسك .. الله يجعلك مباركاً .. الله يثبت قلبك ..
ولا تكن عبارات دعائك مستهلكة أو اعتيادية مثل : الله يوفقك .. الله يحفظك .. نعم هي دعاء حسن لكن السامع اعتاد عليه حتى لم يعد يرن في أذنه عند سماعه ..
وإن قابلت أحداً معه أولاده .. فادع لهم وهو يسمع .. الله يقر بهم عينك .. الله يجمع شملكم .. الله يرزقك برهم .. ونحو ذلك ..
أنا أحكي هذا عن تجربة .. لقد جربته كثيراً كثيراً .. فرأيته يسلب قلوب الناس سلباً ..
دعيت في ليلة من ليالي شهر رمضان قبل سنتين إلى لقاء مباشر في إحدى القنوات الفضائية ..
كان اللقاء حول أحوال العبادة في رمضان .. وكان انعقاد اللقاء في مكة المكرمة في غرفة بأحد الفنادق مطلة على الحرم .. كنا نتحدث عن رمضان .. والمشاهدون يرون من خلال النافذة التي خلفنا المعتمرين والطائفين خلفنا على الهواء مباشرة ..
كان المنظر مهيباً .. والكلام مؤثراً .. حتى إن مقدم البرنامج رق قلبه وبكى أثناء الحلقة ..
كان الجو إيمانياً .. ما أفسده علينا إلا أحد المصورين !! كان يمسك كاميرا التصوير بيد .. واليد الثانية فيها سيجارة .. وكأنه يريد أن لا تضيع عليه لحظة من ليل رمضان إلا وقد أشبع رئتيه سيجاراً !!
أزعجني هذا كثيراً .. وخنقني وصاحبي الدخان .. لكن لم يكن بد من الصبر .. فاللقاء مباشر .. وما حيلة المضطر إلا ركوبها !!
مضت ساعة كاملة .. وانتهى اللقاء بسلام ..
أقبل إليّ المصور - والسيجارة في يده - شاكراً مثنياً .. فشددت على يده وقلت .. وأنت أيضاً أشكرك على مشاركتك في تصوير البرامج الدينية .. ولي إليك كلمة لعلك تقبلها .. قال : تفضل .. تفضل ..
قلت : الدخان والسجا .. فقاطعني : لا تنصحني .. والله ما فيه فائدة يا شيخ ..
قلت : طيب اسمع مني .. أنت تعلم أن السجاير حرام وأن الله يقول .. فقاطعني مرة أخرى : يا شيخ لا تضع وقتك .. أنا مضى لي أكثر من أربعين سنة وأنا أدخن .. الدخان يجري في عروقي .. ما فيه فااائدة .. كان غيرك أشطر !!
قلت : يعني ما فيه فائدة ؟!!
فأحرج مني وقال : ادع لي .. ادع لي ..
فأمسكت يده وقلت : تعال معي ..
قلت تعال ننظر إلى الكعبة ..
فوقفنا عند النافذة المطلة على الحرم .. فإذا كل شبر فيه مليء بالناس .. ما بين راكع وساجد .. ومعتمر وباك .. كان المنظر فعلاً مؤثراً ..
قلت : هل ترى هؤلاء ؟
قال : نعم ..
قلت : جاؤوا من كل مكان .. بيض وسود .. عرب وأعاجم .. أغنياء وفقراء ..كلهم يدعون الله أن يتقبل منهم ويغفر لهم ..
قال : صحيح .. صحيح ..
قلت أفلا تتمنى أن يعطيك الله ما يعطيهم ؟ قال : بلى ..
قلت : ارفع يديك .. وسأدعو لك .ز أمن على دعائي ..
رفعت يدي وقلت : اللهم اغفر له .. قال : آمين .. قلت : اللهم ارفع درجته واجمعه مع أحبابه في الجنة .. اللهم ..
ولا زلت أدعو حتى رق قلبه وبكى .. وأخذ يردد : آمين .. آمين ..
فلما أردت أن أختم الدعاء .. قلت : اللهم إن ترك التدخين فاستجب هذا الدعاء وإن لم يتركه فاحرمه منه ..
فانفجر الرجل باكياً .. وغطى وجهه بيديه وخرج من الغرفة ..
مضت عدة شهور .. فدعيت إلى مقر تلك القناة للقاء مباشر ..
فلما دخلت المبنى فإذا برجل بدين يقبل عليَّ ثم .. يسلم علي بحرارة .. ويقبل رأسي .. وينحني على يدي ليقبلها .. وهو متأثر جداً ..
فقلت له : شكر الله لطفك .. وأدبك .. وأقدر لك محبتك .. لكن اسمح لي فأنا لم أعرفك ..
فقال : هل تذكر المصور الذي نصحته قبل سنتين ليترك التدخين ؟!
قلت : نعم ..
قال : أنا هو .. والله يا شيخ إني لم سيجارة في فمي منذ تلك اللحظة ..
ما أجمل الذكريات إذا كانت سارة ..
في موسم الحج قبل ثلاث سنوات .. ذهبت لإلقاء كلمة في إحدى حملات الحج الكبرى في صلاة العصر ..
بعد الكلمة ازدحم الناس يسألون ويسلمون .. حاولت التخلص السريع لارتباطي بمحاضرة بعدهم فوراً في حملة أخرى ..
لاحظت من بينهم شاب يقدم رجلاً ويؤخر أخرى .. مستحٍ أن يزاحم الناس ..
التفت إليه .. ومددت يدي نحوه فصافحني .. ثم سألته في وسط الزحام .. : عندك سؤال ؟
قال : نعم ..
فجررته إليَّ والناس مزدحمون .. حتى اقترب ..
قلت : ما سؤالك ؟
فقال وهو مستعجل : ذهبت لرمي الجمرات .. معي جدتي وأختي .. وكان زحاماً شديداً .. و ..
انتهى من سؤاله .. فأجبته عليه ..
شممت منه خلال ذلك رائحة دخان .. فتبسمت وسألته : تدخن ؟
قال : نعم ..
قلت : أسأل الله أن يغفر لك .. ويتقبل حجك .. إن تركت التدخين من هذه اللحظة ..
سكت الشاب .. كان واضحاً من وجهه أنه تأثر بالكلام ..
مضت ثمانية أشهر ..
فذهبت لإلقاء محاضرة في إحدى المدن ..
أقبلت إلى المسجد .. فإذا شاب وقور ينتظرني عند بابه .. تفاجأت به لما رآني .. يقبل عليّ متحمساً ويسلم بحرارة ..
لم أعرفه .. لكني بادلته السلام والترحيب ..
قال : هل عرفتني ..
قلت : أشكر لك لطفك .. ومحبتك .. لكني لم أعرفك ..
قال : هل تذكر الشاب المدخن الذي قابلته في الحج .. ونصحته بترك التدخين ؟
قلت : نعم .. نعم ..
قال : أنا هو .. أبشرك ولله الحمد أني ما وضعت السيجارة في فمي منذ تلك اللحظة .. تركت التدخين .. فصلحت كثير من أمور حياتي ..
هززت يده مشجعاً .. ومضيت .. وقد أيقنت أن الدعاء للناس في وجوههم .. وهم يسمعون .. ربما يكون أكثر تأثيراً من النصح المباشر ..
ومثله لو رأيت شاباً باراً بأبيه .. فقلت له : جزاك الله .. الله يوفقك .. الله يجعل أولادك بارين بك ..
بلا شك أن هذا الدعاء سيكون دافعاً له أكثر ..
كان النبي الكريم .. عليه أفضل الصلاة والتسليم .. مبدعاً في استعمال الدعاء لدعوة الناس وكسبهم والتأثير فيهم لتقريبهم للدين ..
كان الطفيل بن عمرو سيداً مطاعاً في قبيلته دوس ..
قدم مكة يوماً في حاجة .. فلما دخلها .. رآه أشراف قريش .. فأقبلوا عليه .. وقالوا : من أنت ؟ قال : أنا الطفيل بن عمرو .. سيد دوس ..
فقالوا : إن ههنا رجل في مكة يزعم أنه نبي .. فاحذر أن تجلس معه أو تسمع كلامه .. فإنه ساحر .. إن استمعت إليه ذهب بعقلك ..
قال الطفيل : فو الله ما زالوا بي يخوفونني منه .. حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئاً .. ولا أكلمه .. بل حشوت في أذنيَّ كرسفا - وهو القطن – خوفاً من أن يبلغني شيء من قوله .. وأنا مارّ به ..
قال الطفيل : فغدوت إلى المسجد .. فإذا رسول الله r قائم يصلي عند الكعبة ..
فقمت منه قريباً .. فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله ..
فسمعت كلاماً حسناً .. فقلت في نفسي : واثكل أمي ! والله إني لرجل لبيب .. ما يخفى عليَّ الحسنُ من القبيح .. فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول .. فإن كان الذي به حسناً قبلته .. وإن كان قبيحاً تركته .. فمكثت حتى قضى صلاته .. فلما قام منصرفاً إلى بيته تبعته ..
حتى إذا دخل بيته دخلت عليه .. فقلت : يا محمد .. إن قومك قالوا لي كذا وكذا ..
ووالله ما برحوا يخوفونني منك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك .. وقد سمعت منك قولاً حسناً .. فاعرض عليَّ أمرك ..
فابتهج النبي عليه الصلاة والسلام .. وفرح ..وعرض الإسلام على الطفيل .. وتلا عليه القرآن .. فتفكر الطفيل في حاله .. فإذا كل يوم يعيشه يزيده من الله بعداً ..
وإذا هو يعبد حجراً .. لا يسمع دعاءه إذا دعاه .. ولا يجيب نداءه إذا ناداه .. وهذا الحق قد تبين له ..
ثم بدأ الطفيل يتفكر في عاقبة إسلامه ..
كيف يغير دينه ودين آبائه !!.. ماذا سيقول الناس عنه ؟!
حياته التي عاشها .. أمواله التي جمعها .. أهله .. ولده .. جيرانه .. خلانه .. كل هذا سيضطرب ..
سكت الطفيل .. يفكر .. يوازن بين دنياه وآخرته ..
وفجأة إذا به يضرب بدنياه عرض الحائط ..
نعم سوف يستقيم على الدين .. وليرض من يرضى .. وليسخط من يسخط .. وماذا يكون أهل الأرض .. إذا رضي أهل السماء ..
ماله ورزقه بيد من في السماء .. صحته وسقمه بيد من في السماء .. منصبه وجاهه بيد من في السماء .. بل حياته وموته بيد من في السماء ..
فإذا رضي أهل السماء .. فلا عليه ما فاته من الدنيا ..
إذا أحبه الله .. فلبيغضه بعدها من شاء .. وليتنكر له من شاء .. وليستهزئ به من شاء ..
فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر
وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين
وكل الذي فوق التراب تراب
نعم .. أسلم الطفيل في مكانه .. وشهد شهادة الحق ..
ثم ارتفعت همته .. فقال : يا نبي الله .. إني امرؤ مطاع في قومي .. وإني راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام ..
ثم خرج الطفيل من مكة .. مسرعاً إلى قومه .. حاملاً همَّ هذا الدين ..
يصعد به جبل .. وينزل به واد ..
حتى وصل ديار قومه .. فلما دخلها .. أقبل إليه أبوه .. وكان شيخاً كبيراً ..
فقال الطفيل : إليك عني يا أبت .. فلست منك ولست مني ..
قال : ولم يا بني ؟ قال : أسلمت وتابعت دين محمد r ..
قال : أي بني ديني دينك ..
قال : فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك .. ثم ائتني حتى أعلمك مما علمت ..
فذهب أبوه واغتسل وطهر ثيابه .. ثم جاء فعرض عليه الإسلام فأسلم ..
ثم مشى الطفيل إلى بيته .. فأتته زوجته مرحبة ..
فقال : إليك عني .. فلست منك ولست مني ..
قالت : ولم ؟ بأبي أنت وأمي ..
قال : فرَّق بيني وبينك الإسلام .. وتابعت دين محمد r ..
قالت : فديني دينك ..
قال : فقلت فاذهبي فتطهري .. ثم ارجعي إليَّ .. فواّته ظهرها ذاهبة ..
ثم خافت من صنمهم أن يعاقبها في أولادها إن تركت عبادته ..
فرجعت إليه وقالت : بأبي أنت وأمي .. أما تخشى على الصبية من ذي الشرى .. ؟
وذو الشرى صنم عندهم يعبدونه .. وكانوا يرون أن من ترك عبادته أصابه أو أصاب ولده بأذى ..
فقال الطفيل : اذهبي .. أنا ضامن لك أن لا يضرهم ذو الشرى ..
فذهبت فاغتسلت .. ثم عرض عليها الإسلام فأسلمت ..
ثم جعل الطفيل يطوف في قومه .. يدعوهم إلى الإسلام بيتاً بيتاً .. ويقبل عليهم في نواديهم .. ويقف عليهم في طرقاتهم ..
لكنهم أَبَوْا إلا عبادة الأصنام .. فغضب الطفيل .. وذهب إلى مكة ..
فأقبل على رسول الله r فقال : يا رسول الله .. إن دوساً قد عصت وأبت .. يا رسول الله .. فادع الله عليهم ..
فتغير وجه النبي عليه الصلاة والسلام .. ورفع يديه إلى السماء ..
فقال الطفيل في نفسه .. هلكت دوْس ..
فإذا بالرحيم الشفيق r .. يقول : " اللهم اهد دوساً .. اللهم اهد دوساً ..
ثم التفت إلى الطفيل وقال : ارجع إلى قومك .. فادعُهم .. وارفق بهم ..
فرجع إليهم .. فلم يزل بهم .. حتى أسلموا ..
نعم .. ما أحسن قرع أبواب السماء ..
ليس الطفيل وقومه فقط .. وإنما غيرهم كثير ..
كان المسلمون في بداية الدعوة النبوية قلة .. لم يتعدوا ثمانية وثلاثين رجلا ..
فألـحَّ أبو بكر يوماً على رسول الله e في الظهور أمام الناس بالدعوة ولاجهر بالإسلام ..
فقال e : يا أبا بكر .. إنا قليل ..
كان أبو بكر t متحمساً .. فلم يزل يلحّ على رسول الله e حتى اجتمعوا فخرجوا .. يتقدمهم رسول الله e ..
توجهوا إلى المسجد ..
تفرقوا في نواحي المسجد .. كل رجل في عشيرته ..
وقام أبو بكر في الناس خطيباً .. يدعو إلى الإسلام .. ويذم آلهتهم ..
وثار المشركون على المسلمين .. فضربوهم في نواحي المسجد ضرباً شديداً ..
كان المشركون كثير .. فتفرق المسلمون ..
أقبل جمع منهم إلى أبي بكر .. وضربوه ضرباً شديداً ..
فوقع على الأرض في شدة الرمضاء ..
فدنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة .. فجعل يضربه بنعلين مخصوفين .. ويفركهما على وجهه ..
ثم قام على بطن أبي بكر .. حتى سالت الدماء من وجه أبي بكر .. وتمزق لحم وجهه .. حتى ما يعرف فمه من أنفه ..
وجاء بنو تيم قبيلة أبي بكر .. يتعادون ..
وأبعدوا الناس عن أبي بكر .. وحملوه في ثوب حتى أدخلوه منزله ..
وهم لا يشكون أنه ميت ..
ثم رجع قومه بنو تيم .. فدخلوا المسجد .. وجعلوا يصرخون في المشركين .. يقولون :
والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة ..
ثم رجعوا الى أبي بكر .. وهو مغمى عليه .. لايدرون .. حي أو ميت !!
ظل أبو قحافة والد أبي بكر .. مع قومه .. واقفين عند أبي بكر .. يكلمونه .. فلا يجيبهم ..
وأمه تبكي عند رأسه ..
فلما كان آخر النهار .. فتح عينيه .. فكان أول كلمة قالها :
ما فعل رسول الله e .. ؟!
رضي الله عن أبي بكر .. كان يهيم برسول الله e حباً .. يخاف عليه أكثر مما يخاف على نفسه ..
كان كل من حوله .. أبوه أمه .. قومه .. مشركين ..
فغضبوا .. وجعلوا يسبون رسول الله e ..
ثم قاموا .. وقالوا لأم أبي بكر : أطعميه شيئاً أو اسقيه ..
فجعلت أمه تلح عليه ..
وهو يردد قائلاً : ما فعل رسول الله e ..؟
فقالت : والله مالي علم بصاحبك ..
فقال : اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب .. فسليها عنه ..
وكانت أم جميل مسلمة تكتم إسلامها ..
خرجت أمه حتى جاءت أم جميل .. فقالت : إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله ..
فقالت : ما أعرف أبا بكر .. ولا محمد بن عبد الله .. لكن أتحبين أن أمضي معك إلى ابنك ؟
قالت : نعم ..
فمضت معها .. حتى دخلت على أبي بكر .. فوجدته صريعاً دنفاً .. ممزق الوجه .. مرهق الجسد ..
فلما رأته أم جميل صاحت .. وقالت :
والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر .. وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم ..
قال : فما فعل رسول الله e ..
وكانت أم أبي بكر بجانبها .. فخافت أم جميل أن يفضح أمر إسلامها .. فيؤذونها ..
فقالت : يا أبا بكر .. هذه أمك تسمع ..
قال : فلا شيء عليك فيها ..
قالت : أبشر .. فرسول الله e .. سالم صالح ..
قال : فأين هو ؟
قالت : في دار أبي الأرقم ..
فقالت أمه : قد علمت خبر صاحبك .. فقم فأكل طعاماً .. أو اشرب ..
قال : فإن لله عليَّ أن لا أذوق طعاماً أو شراباً .. حتى أرى رسول الله e بعيني ..
فانتظرتا .. حتى إذا هدأ الناس .. خرجتا به يتكيء عليهما . فذهبتا به إلى بيت أبي الأرقم ..
حتى أدخلتاه على رسول الله e ..
فلما دخل فإذا وجه جريح .. ودماء تسيل .. وثياب ممزقة ..
فرآه رسول الله e .. فأكب عليه النبي e يقبله ..
وأكب عليه المسلمون يقبلونه ..
ورقَّ له رسول الله e رقة شديدة .. حتى ظهر التأثر على وجهه الشريف e ..
فأراد أبو بكر أن يخفف عليه .. فقال : بأبي وأمي يا رسول الله .. ليس من بأس .. إلا ما نال الفاسق من وجهي ..
ثم قال أبو بكر .. البطل الذي يحمل هم الدعوة .. ويحسن استثمار المواقف ..
كان جريحاً .. جائعاً عطشاناً .. ومع ذلك .. قال : يا رسول الله .. هذه أمي برة بوالديها .. وأنت مبارك .. فادعها الى الله عز وجل .. وادع الله لها .. عسى الله أن يستنقذها بك من النار ..
فدعا لها رسول الله e .. ثم دعاها الى الله عز وجل .. فأسلمت فوراً في مكانها ..
كان الدعاء أصلاً من الأصول التي يتعاملون بها ..
أسلم أبو هريرة t ..
وبقيت أمه كافرة ..
كان يدعوها إلى الإسلام فتأبى ..
فدعاها يوماً .. وألـحَّ فأسمعته في رسول الله e ما يكره ..
فضاق صدر أبي هريرة بذلك .. وذهب إلى رسول الله e وهو يبكي .. فقال :
يا رسول الله .. إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي .. وإني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره .. فادع الله يا رسول الله أن يهدي أم أبي هريرة إلى الإسلام ..
فدعا لها رسول الله e ..
فرجع أبو هريرة إلى أمه ..
فلما كان على الباب .. فإذا هو مغلق .. فحركه ليدخل ..
فإذا بأمه تفتح له الباب .. وتقول : أشهد أن لا إله إلا الله .. وأن محمداً رسول الله ..
فرجع أبو هريرة إلى رسول الله e وهو يبكي من الفرح ..
وجعل يقول : أبشر يا رسول الله .. قد استجاب الله دعوتك .. وهدى الله أم أبي هريرة إلى الإسلام ..
ثم قال أبو هريرة : يا رسول الله .. أدع الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين .. ويحببهم إلينا ..
فقال e : اللهم حبب عبيدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين .. وحببهم إليهما ..
قال أبو هريرة : فما على الأرض مؤمن ولا مؤمنة .. إلا وهو يحبني وأحبه .. ([4])

إضاءة ..
( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم )

4. الترقيع !!
أحياناً عند ممارستنا لبعض المهارات مع الآخرين نكتشف بأننا أخطأنا تقدير المهارة المناسبة للشخص .. أو قد نكون وضعناها في غير موضعها ..
مثل من رأى شاباً وسيماً .. فأراد أن يمارس معه مهارة " كن لماحاً " فقال له : ما شاء الله ما هذه الثياب الجميلة والرونق البهي والوجه المسفر .. ثم بدل أن يقول : ما أسعد زوجتك بك.. قال : يا ليتك بنتاً حتى أتزوجك !!!
مزحة ثقييييلة جداً .. أليس كذلك ؟!
قال أحد الزملاء :
في الجامعة كان لدي طالب بليد لكن الله تعالى عوضه عن بلادته بشيء من الوسامة .. وكان يجلس في آخر القاعة دائماً .. ويسرح بفكره بعييييداً ..
كنت أطلب منه دائماً أن يجلس في الأمام ليتابع .. وهو يتغافل عن ذلك .. كنت أتجنب إحراجه أو إحراج غيره من الطلاب فهم كبار في المرحلة الجامعية ..
دخلت يوماً فإذا هو منشغل آخر القاعة كعادته .. فلما جلست على الكرسي قلت له : يا عبد المحسن .. تعال في الأمام .. فقال : يا دكتور مكاني مناسب وسأنتبه معك ..
فقلت : " يا أخي اقترب قليلاً خلنا نشوف خدودك الحلوة " .. التفت بعض الطلاب إليه معلقين .. فانقلب وجهه أحمر ..
شعرت أني وقعت في حفرة .. فقلت - مرقعاً - : " الله يا هي بتنبسط البنت اللي بتتزوجك .. أما هؤلاء فسيتعبون ليجدوا من توافق على الزواج بهم !!"..
ثم بدأت في شرح الدرس فوراً دون أن أترك فرصة لأحد ليفكر في الموقف أصلاً .. تبسم الطالب وانبلجت أساريره وجلس في المقدمة ..
وإن كانت هذه الأخطاء قد تقع في بداية التدرب على ممارسة المهارات لكنها سرعان ما تزول ..
وأحياناً يكون تصرفك المحرج للآخرين أو المحزن لهم ليس خاطئاً .. لكن الموقف يفرضه علينا ..
مثل أن يختلف اثنان من زملائك .. فترى أن الحق مع أحدهما فتقف معه ..وقد تعاتب الآخر ..
أو قد يقع ذلك بين اثنين من أولادك أو طلابك أو جيرانك .. أو غيرهم ..
فما الحل ؟ هل نسمح لهذه المواقف أن تفقدنا الناس واحداً تلو الآخر .. ونحن نتعب في استقطابهم والتحبب إليهم ..
كلا ..
إذن ما التصرف الصحيح ؟
الجواب : أنك إذا أحسست أن أحداً ضاق صدره من كلمة منك .. أو تضايق من تصرف معين فسارع فوراً إلى مداواة الجرح قبل أن يلتهب .. باستعمال أي مهارة أخرى مناسبة ..
كيف ؟!
خذ مثالاً ..
كانت مكة قبل أن يفتحها المسلمون تحت قبضة كفار قريش ..
وكانوا قد ضيقوا على المسلمين المستضعفين فيها .. وسيطروا على أبناء المسلمين الذين هاجروا ولم يستطيعوا أخذ أبنائهم معهم ..
فعلاً كانت حال المسلمين عصيبة ..
أقبل النبي e إلى مكة معتمراً فردته قريش .. وكان ما كان من قصة الحديبية .. وكتب e بينه وبين قريش صلحاً .. واتفق نعهم أن يرجع إلى المدينة من غير عمرة على أن يأتي في العام القادم ويعتمر ..
ومضى e إلى المدينة ..
وبعد سنة أقبل e مع الصحابة محرمين ملبين .. ودخلوا مكة .. واعتمروا ..
لبث e فيها أربعة أيام .. فلما توجه خارجاً منها إلى المدينة تبعته طفلة صغيرة هي ابنة حمزة t .. وكان قد قتل في معركة أحد .. وبقيت ابنته يتيمة في مكة ..
أخذت الصغيرة تنادي رسول الله r ..
تقول : يا عم يا عم ..
وكان علي يسير بجانب النبي e مع زوجته فاطمة بنت رسول الله e ..
فتناولها علي t فأخذ بيدها وناولها لفاطمة وقال : دونك ابنة عمك ..
فحملتها فاطمة ..
فلما رآها زيد t .. تذكر أن رسول الله e قد آخى بينه وبين حمزة لما هاجر إلى المدينة .. فأقبل زيد إليها ليأخذها وهو يقول : بنت أخي .. أنا أحق بها ..
فأقبل جعفر وقال : ابنة عمي وخالتها تحتي .. يعني أسماء بنت عميس زوجته .. وأنا أحق بها ..
فقال علي : أنا أخذتها وهي ابنة عمي ..
فلما رأى e اختلافهم .. قضى بها لخالتها ودفعها إلى جعفر ليكفلها .. وقال : " الخالة بمنزلة الأم " ..
ثم خشي e أن يجد علي أو زيد في نفسيهما .. لما نزعها منهما ..
فقال مواسياً لعلي : " أنت مني و أنا منك " ..
وقال لزيد : " أنت أخونا و مولانا " ..
ثم التفت إلى جعفر وقال : " أشبهت خلقي وخلقي " ..
فانظر كيف كان e حكيماً ماهراً في غسل قلوب الآخرين وكسب محبتهم ..
طيب ما رأيك أن نعود إلى قصة صاحبنا الذي قال : يا ليتك بنتاً حتى أتزوجك !! كيف يرقع ما خرّق ؟!!
بين يديه عدة أبواب للهرب ..
منها أن يدخل في موضوع آخر مباشرة –لئلا يترك للسامع فرصة ليفكر في الجملة الجارحة التي سمعها منه – فيقول مثلاً : الله يرزقك حورية أجمل منك .. قل : آمين ..
أو يطرح موضوعاً بعيداً تماماً .. كأن يسأله عن أخيه المسافر .. أو سيارته الجديدة .. أو نحوها .. لئلا يترك له أو لغيره من السامعين حوله أي فرصة للوقوع في الحرج ..

تجربة ..
ليس العيب أن تخطئ إنما الخطأ أن تصر عليه

5. انظر بعينين ..
نحن نبدع في أحيان كثيرة في رؤية أخطاء الناس وملاحظتها .. وربما في تنبيههم عليها ..
ولكننا قلما نبدع في رؤية الخير الذي عندهم .. والانتباه إلى الصواب الذي يمارسونه .. لنمدحهم به ..
قل ذلك في المدرس مع طلابه .. فكل المدرسين يذمون الطالب البليد المهمل في واجباته .. الكسول المتأخر في الحضور دائماً .. لكن قليلاً منهم من يمدح الطالب المجد .. الذي يحضر مبكراً وخطه حسن وكلامه جيد ..
كثيراً ما ننبه أولادنا إلى أخطائهم .. لكنهم يحسنون ولا ننتبه إلا قليلاً ..
مما يجعلنا أحياناً نفوت فرصاً كثيرة كنا من خلالها نستطيع أن ننفذ إلى قلوب الناس ..
فمن أبدع مهارات الكلام .. أن تمتدح الخير الذي عند الناس ..
كان قوم أبي موسى الأشعري t لهم اهتمام بتلاوة القرآن وحفظه .. وربما فاقوا كثيراً من الصحابة في كثرة تلاوته وتحسين الصوت به ..
فرافقوا النبي e يوماً في سفر ..
فلما أصبح الناس .. واجتمعوا قال عليه الصلاة والسلام :
إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل .. وأعرف منازلهم .. من أصواتهم بالقرآن بالليل .. وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار ..([5]) ..
فكأنك بألشعريين وهم يستمعون هذا لاثناء أمام الناس يتوقدون حرصاً بعدها على الخير ..
وفي ذات صباح .. لقي النبي e أبا موسى .. فقال له :
لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك .. لقد أوتيت من مزامير آل داود ..
فقال أبو موسى : لو علمت أنك تستمع لقراءتي .. لحبرتها لك تحبيراً ([6]) ..
وكان عمرو بن تغلب t رجلاً من عامة الصحابة .. لم يتميز بعلم كما تميز أبو بكر .. ولا بشجاعة كما تميز عمر .. ولا بقوة حفظ كأبي هريرة .. لكن قلبه كان مملوءاً إيماناً .. وكان e يلحظ ذلك فيه ..
فبينما النبي e جالساً يوماً ..
إذ جيء إليه بمال فجعل يقسمه بين بعض أصحابه ..
فأعطى رجالاً .. وترك رجالاً ..
فكأن الذين تركهم وجدوا في أنفسهم .. وعتبوا .. لماذا لم يعطنا ..
فلما علم e بذلك .. قام أمام الناس .. فحمد الله تعالى ثم أثنى عليه .. ثم قال :
أما بعد .. فوالله إني لأعطي الرجل .. وأدع الرجل .. والذي أدع أحبُّ إليَّ من الذي أُعطي ..
ولكني أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع ..
وأَكِلُ أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير .. منهم : عمرو بن تغلب ..
فلما سمع عمرو بن تغلب هذا الثناء على الملأ .. طار فرحاً ..
وكان يحدث بهذا الحديث بعدها .. ويقول : فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله e حمر النعم ([7]) ..
وفي يوم آخر ..
أقبل أبو هريرة t .. فسأل النبي e .. قائلاً : من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ..
فقال e - مشجعاً – : لقد كنت أظن أن لا أحد يسأل عن هذا قبلك .. لما رأيت من حرصك على العلم ..
أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة .. من قال : لا إله إلا الله خالصاً من قلبه ..
وسلمان الفارسي .. كان من خيار الصحابة ..
لم يكن من العرب .. بل كان ابناً لأحد كبار فارس .. وكان أبوه يحبه ويقربه .. لدرجة أنه كان يحبسه في البيت خوفاً عليه ..
أدخل الله الإيمان في قلب سلمان t ..
خرج من بيت أبيه ..
سافر إلى الشام باحثاً عن الحق .. احتال بعض الناس عليه وباعوه إلى يهودي على أنه عبد مملوك ..
وحصلت له قصة طوييييلة .. حتى وصل إلى رسول الله e ..
فكان النبي e يقدر له ذلك ..
فبينما كان e جالساً بين أصحابه يوماً .. إذا أنزلت عليه سورة الجمعة ..
فجعل e يقرؤها على أصحابه .. وهم يستمعون ..
وهو يقرأ : " هُوَالَّذِيبَعَثَفِيالْأُمِّيِّينَرَسُولًامِّنْهُمْيَتْلُو عَلَيْهِمْآيَاتِهِوَيُزَكِّيهِمْوَيُعَلِّمُهُمُالْكِتَابَوَالْحِكْمَةَوَإِنكَانُوا مِنقَبْلُلَفِيضَلَالٍمُّبِينٍ "
فلما قرأ : "وَآخَرِينَمِنْهُمْلَمَّايَلْحَقُوابِهِمْ وَهُوَالْعَزِيزُالْحَكِيمُ " ..
قال رجل من الصحابة : من هؤلاء يا رسول الله ؟
فسكت النبي e ..
فأعاد الرجل السؤال .. من هؤلاء يا رسول الله ؟
فلم يرد عليه ..
فأعاد .. من هؤلاء يا رسول الله ؟
فلتفت النبي e إلى سلمان ..
ثم وضع يده عليه وقال : لو كان الإيمان عند الثريا .. لناله رجال من هؤلاء ([8]) ..

وجهة نظر ..
تفاءل وأحسن الظن بالناس ..وشجعهم ..لينطلقوا أكثر

6. فن الاستماع ..
مهارات جذب الناس وكسب قلوبهم .. بعضها يكون بفعل الشيء .. وبعضها يكون بتركه ..
فالابتسامة تجذب .. كما أن ترك العبوس يجذبهم ..
والأحاديث الجميلة والنكات واللطائف تجذب الناس .. كما أن الاستماع إليهم والتفاعل مع أحاديثهم .. يجذبهم ..
فما رأيك أن أتكلم معك هنا عن : الهدووووء الجذاب !!
نعم .. بعض الناس لا يتكلم كثيراً .. ولا تكاد تسمع صوته في المجالس والمتجمعات ..
بل لو راقبته في جلسة أو نزهة .. لرأيته لا يتحرك منه إلا رأسه وعيناه .. نعم قد يتحرك فمه أحياناً بالتبسم .. لا بالكلام !!
ومع ذلك يحبه الناس .. ويأنسون بمجالسته ..
تدري لماذا ؟!
لأنه يمارس الهدووووء الجذااااب ..
فن الاستماع له مهارات متعددة .. بل حدثني أحد المهتمين أنه حضر أكثر من خمس عشرة دورة تدريبية في مهارات الاستماع ..!!
قارن بين اثنين :
رجل إذا تكلمت بين يديه بقصة وقعت لك .. قاطعك في أولها وقال : وأنا أيضاً وقع لي شيء مشابه ..
فتقول : له اصبر حتى أكمل ..
فيسكت قليلاً .. فإذا انسجمت في قصتك .. قاطعك قائلاً : صحيح .. صحيح .. نفس القصة التي وقعت لي وهو أنني ذات مرة ذهبت ..
فتقول له : أخي انتظر .. فيسكت .. ثم ما يصبر فيقاطعك قائلاً : عجل .. عجل ..
هذا الأول ..
الثاني ..
كان وأنت تتحدث معه أو معهم .. يتلفت يميناً ويساراً .. وقد يخرج جهاز هاتفه من جيبه .. ويكتب رسالة أو يقرأ شيئاً من الرسائل .. أو من يدري لعله يلعب بالألعاب الالكترونية الموجودة فيه !!
أما الثالث .. فيملك مهارات الاستماع .. تجد أنك تتحدث وقد ركز عينيه برفق ينظر إليك .. وتشعر بمتابعته .. فهو تارة يهز رأسه موافقاً .. وتارة يتبسم .. وتارة يضمّ شفتيه متعجباً .. وربما ردد : عجيب .. سبحان الله ..
أي هؤلاء ستكون راغباً دائماً في مجالسته .. وتفرح بزيارته .. وتنبلج أساريرك في الحديث معه ..؟ لا أشك أنه الأخير ..
إذن جذب قلوب الناس .. لا يكون فقط بإسماعهم ما يحبون .. بل وبالاستماع منهم لما يحبون !!
أذكر أن أحد الدعاة البارزين ممن أوتي منطقاً ولساناً .. كان يتنقل متحدثاً دائماً .. ما بين منبر جمعة .. وكرسي فتوى .. ومحاضرة في جامعة .. فهو دائماً يتكلم .. ويتكلم .. ويتكلم ..
وكان الناس يرونه على المنابر والقنوات الفضائية ويحبونه ويرغبون في استماع حديثه .. إلا زوجته .. فهو معها في البيت دائماً .. ولا يكاد يستمع منها حديثاً أو قصة .. بل على عادته يتكلم .. ويتكلم ..
كانت كثيرة التذمر منه دون أن ينتبه إلى سبب ذلك ..
كان كل الناس يكرمونه ويمدحونه إلا هي .. فقرر أن يصطحبها معه يوماً إلى إحدى محاضراته لترى ما لم تر ..
قال لها يوماً : ترافقيني ؟
قالت : إلى أين ؟
قال : محاضرة لأحد الدعاة .. نستفيد منها ..
ركبت معه في سيارته .. مشيا .. وقفا عند المسجد .. كانت الجماهير غفيرة .. كلهم جاؤوا يستمعون إلى هذا المحاضر الفذ ..
دخلت هي إلى قسم النساء .. ودخل هو وسط جمهرة الناس واعتلى الكرسي وبدأ محاضرته ..
كان الناس ينصتون معجبين .. حتى زوجته يبدو أنها كانت معجبة ..!
انتهت المحاضرة .. خرج إلى سيارته وسط نشوة النجاح .. وأقبلت زوجته وركبت السيارة بجانبه ..
لم يدع لها فرصة .. بدأ يتكلم فوراً عن زحمة الناس .. وجمال المسجد .. و .. ثم سألها : ما رأيك في المحاضرة ؟
فقالت : كانت جميلة ومؤثرة .. ولكن من المحاضر ؟
قال : عجباً لم تعرفي صوته .. قالت : مع زحمة الناس .. وضعف سماعات الصوت لم أنتبه كثيراً ..
فقال – منتشياً - : أنا .. أنا المحاضر ..
فقالت : آآآ .. وأنا أقول في نفسي طوال جلوسي : ما أكثر كلامه ..
إذن .. الاستماع إلى الناس فن ومهارة ..
بعض الناس ينسى أن الله جعل لك فماً واحداً وأذنين .. ليستمع أكثر مما تكلم ..
وأظنه لو استطاع لقلب المعادلة .. من شدة محبته للحديث ..
فعود نفسك على الإنصات .. حتى لو كان لك على الكلام ملاحظة ..
في أوائل بعثة النبي e .. كان عدد المسلمين قليلاً .. وكان الكفار يكذبونه ونفرون الناس عنه .. ويشيعون أنه e كاهن وكذاب .. وربما أشاعوا أنه مجنون أو ساحر ..
في يوم من الأيام قدم إلى مكة رجل اسمه ضماد .. وهو حكيم له علم بالطب والعلاج .. يعالج المجنون والمسحور ..
فلما خالط الناس سمع سفهاء الكفار يقولون عن رسول الله e : جاء المجنون .. ورأينا المجنون ..
فقال ضماد : أين هذا الرجل ؟ لعل الله أن يشفيه على يدي ؟
فدله الناس على رسول الله e ..
فلما لقيه .. قال ضماد : يا محمد .. إني أرقى من هذه الرياح .. وإن الله يشفي على يدي من شاء .. فهلم أعالجك .. وجعل يتكلم عن علاجه وقدراته ..
والنبي e ينصت إليه .. وذاك يتكلم .. والنبي e ينصت .. أتدري ينصت إلى ماذا ؟ ينصت إلى كلام رجل كافر جاء ليعالجه من مرض الجنون !!
آآآه ما أحكمه e ..
حتى إذا انتهى ضماد من كلامه ..
قال e بكل هدوووء : إن الحمد لله .. نحمده ونستعينه .. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ..
فانتفض ضماد وقال : أعد علي كلماتك هؤلاء ..
فأعادها e عليه ..
فقال ضماد : والله لقد سمعت قول الكهنة ، وقول السحرة ، وقول الشعراء ، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات .. فلقد بلغن ناعوس البحر ..
فهلم يدك أبايعك على الإسلام ..
فبسط النبي e يده .. وأخذ ضماد يخلع ثوب الكفر ويردد : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ..
فعلم e أن له عند قومه شرفاً .. فقال له : وعلى قومك ؟ أي تدعوهم إلى الإسلام ؟
فقال ضماد : وعلى قومي .. ثم ذهب إلى قومه هادياً داعياً ..
إذن لتكون مستمعاً ماهراً ..:
أنصت .. هز رأسك متابعاً ..
تفاعل بتعابير وجهك كتقطيب الجبين حيناً .. ورفع الحاجبين حيناً آخر ..
والتبسم .. وتحريك الشفتين بتعجب ..
وانظر إلى أثر ذلك فيمن يتكلم معك .. سواء كان صغيراً أو كبيراً ..
ستجد أنه يركز نظره عليك .. ويقبل بقلبه إليك ..

نتيجة ..
براعتنا في الاستماع إلى الآخرين .. تجعلهم بارعين في محبتنا والاستئناس بنا ..

( [1] ) رواه الحاكم في المستدرك ، وأصله في الصحيحين
( [2] )
( [3] ) أخرجه أبو عوانة
( [4] ) رواه مسلم
( [5] ) متفق عليه
( [6] ) رواه مسلم
( [7] ) رواه البخاري
( [8] ) رواه مسلم









عرض البوم صور ابو الوليد البتار   رد مع اقتباس
قديم 25 / 12 / 2008, 41 : 01 AM   المشاركة رقم: 17
المعلومات
الكاتب:
ابو الوليد البتار
اللقب:
موقوف


البيانات
التسجيل: 24 / 12 / 2007
العضوية: 11
العمر: 41
المشاركات: 0 [+]
بمعدل : 0 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 0
نقاط التقييم: 40
ابو الوليد البتار is on a distinguished road

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو الوليد البتار غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو الوليد البتار المنتدى : ملتقى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
افتراضي


1. فن الحوار ..
ألا تذكر يوماً من الدهر أنك جلست في مكان فاحتد الحوار بينك وبين شخص ما .. فبقي في نفسك عليه بغض أو غضب أياماً ..
أو لعلك تذكر جدالاً حصل بين اثنين – وقد يكون في قضية تافهة – وأنت تنظر إليهما وقد ارتفعت الأصوات واحمرت العيون .. ثم تفرقا .. واسثقل كل منهما صاحبه بعدها ..
إذن نحن نتعب في جذب بعض الناس إلينا بممارسة مهارات متنوعة .. ثم نفرقهم عنا بموقف لا نحسن التصرف فيه ..
ومن ذلك عدم إتقان فن الحوار ..
المحاور كالذي يصعد جبلاً وعراً .. ينبغي أن يعتني بموضع يده وموضع رجله .. فتجد صاعد الجبل ينظر إلى الصخرة التي يريد أن يتعلق بها .. ويفحصها بنظره ويتأمل في قوة ثباتها قبل أن يضع عليها قبضته .. وكذلك في الصخرة التي يثبت عليها قدمه .. ثم إذا أراد أن يرفع قدمه عن صخرة نظر إلى الصخرة قبل أن يغادرها خشية أن لا يحسن رفع رجله من عليها فتهوي به ..
لن أطيل عليك الكلام .. فخيره ما قل ودل ..
الدخول في حوار أو جدال أمر غير محمود .. ولعلك توافقني أن أكثر من 90% من الحوارات والمجادلات غير مفيدة ..
فحاول تجنب الجدال قدر المستطاع .. ولا تغضب إذا اعترض عليك أحد أو جادلك .. خذ الأمر بأريحية قدر المستطاع ولا تعذب نفسك بالتفكير في نية المعترض .. وماذا يقصد .. ولماذا أحرجني أمامهم .. لا تقتل نفسك بالهم .. وتعامل مع الموقف بهدووووء .. فالرياح لا تهز إلا الصخور الصغيرة .. فكن جبلاً ..
لما قدم النبي r إلى مكة فاتحاً .. بعدما نقضت قريش العهد ..
كان r .. قد دعا الله أن يعمي عنه قريش .. ليبغتهم .. قبل أن يستعدوا للقتال ..
فلما أقبل النبي عليه الصلاة والسلام .. إلى مكة نزل قريباً منها ..
ولم تعلم قريش بشيء ..
ولكنهم كانوا يتوجسون ويترقبون ..
فخرج في تلك الليلة التي نزل فيها النبي عليه الصلاة والسلام .. أبو سفيان في نفر معه يتجسسون الأخبار .. وينظرون هل يجدون خبراً .. أو يسمعون به ..
وجعل النبي عليه الصلاة والسلام .. يترقب الصبح ليغير على قريش ..
فلما رأى العباس t .. ذلك ..
قال : واصباح قريش ! والله لئن دخل رسول الله r مكة عنوة أي بالقوة .. قبل أن يأتوه فيستأمنوه .. إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر ..
فقام العباس .. فاستأذن النبي عليه الصلاة والسلام ..
فأذن له .. فركب على بغلة رسول الله r البيضاء ..
ومضى يمشي بها ..
وأبو سفيان في أصحابه .. يقترب وينظر إلى نيران المسلمين .. ويقول :
ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً .. ما أعظم هذا .. من ترى هؤلاء ..؟
فقال صاحبه : هذه والله خزاعة حمشتها الحرب ..
قال : خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها ..
فبينما العباس يسير على البغلة ..
إذا بأبي سفيان وأصحابه .. قد قبضت عليهم خيل المؤمنين ..
فأقبل أبو سفيان فزعاً .. فركب خلف العباس ..
وجعل أصحابه يتبعونه فزعين .. والمؤمنون خلفهم ..
فجعل العباس يسرع بأبي سفيان .. إلى رسول الله r ..
وكلما مر بنار من نيران المسلمين .. قالوا : من هذا ؟
فإذا رأوا بغلة رسول الله r .. ورأوا العباس عليها ..
قالوا : عم رسول الله r .. على بغلة رسول الله r ..
والعباس يسرع بها .. يخاف أن يفطنوا لأبي سفيان .. فيقتله أحد قبل أن يؤمنه النبي عليه الصلاة والسلام ..
حتى مر بنار عمر بن الخطاب t فقال : من هذا ؟
وقام إليهم .. فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة ..
صاح بالناس قال : أبو سفيان عدو الله ! .. الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ..
فمنعه العباس ..
ثم ذهب عمر يشتد .. نحو رسول الله r .. والعباس يسرع بالدابة .. حتى سبقه .. فلما وصل إلى موضع النبي r .. اقتحم العباس عن البغلة سريعاً ..
فدخل على رسول الله r ..
فدخل عليه عمر ..
وجعل يقول : يا رسول الله .. هذا أبو سفيان .. قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد .. فدعني فلأضرب عنقه ؟ ..
فقال العباس : يا رسول الله .. إني قد أجرته ..
ثم جلس إلى رسول الله r .. فأخذ برأسه .. وجعل يناجيه في أذنه ..
وعمر يردد يا رسول الله .. اضرب عنقه ..
فلما أكثر عمر في شأنه ..
التفت إليه العباس وقال :
مهلاً يا عمر ! فوالله أن لو كان من رجال بني عدي بن كعب .. ما قلت هذا .. أي لو كان من قرابتك .. ما قلت هذا .. ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف ..
فشعر عمر أنه سيدخل في جدال لا يتناسب مع الحال الذي هم فيه .. ثم ما الفائدة المرجوة من النقاش في مسألة لو كان من بني كعب رغب في إسلامه أما من غيرهم فلا يهمه !!
قال عمر بكل هدووووء : مهلاً يا عباس .. مهلاً ..
فوالله لإسلامك يوم أسلمت .. كان أحب إلي من إسلام أبي الخطاب لو أسلم !
لأني قد عرفت أن إسلامك .. كان أحب إلى رسول الله r من إسلام الخطاب ..
فلما سمع العباس t ذلك سكت ..
انتهى الحوار .. مع أنه كان في إمكان عمر أن يطيله ويزيده .. فيقول : ماذا تقصد ؟!! هل تتهم نيتي ؟! هل تعلم ما في قلبي ؟! لماذا تثير النعرة القبلية ؟!
كلا لم يقل ذلك .. فهم جميعاً كانوا أرفع من أن ينزغ الشيطان بينهم ..
سكت عمر والعباس .. وأبو سفيان واقف ينتظر أن يأمر النبي e فيه بشيء ..
فقال r : اذهب به يا عباس إلى رحلك فإذا أصبحت فأتني به ..
فذهب به العباس .. إلى خيمته ..
فبات عنده .. فلما أصبح أبو سفيان صبيحة تلك الليلة ..
ورأى الناس يجنحون للصلاة .. وينتشرون في استعمال الطهارة .. خاف .. وقال للعباس : ما بالهم ؟
قال : إنهم قد سمعوا النداء فهم ينتشرون للصلاة ..
فلما حضرت الصلاة .. ورآهم يركعون بركوعه .. ويسجدون بسجوده ..
أقبل عليه العباس بعدما صلى .. ليمضي به إلى رسول الله r ..
فقال : يا عباس ما يأمرهم بشيء إلا فعلوه ؟
قال : نعم .. والله لو أمرهم بترك الطعام والشراب لأطاعوه ..
فقال أبو سفيان : يا عباس .. ما رأيت كالليلة .. ولا ملك كسرى وقيصر !
فلما انقضت الصلاة .. غدا به إلى رسول الله r ..
فلما رآه r قال :
" ويحك يا أبا سفيان .. ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله ؟
فقال : بأبي أنت وأمي ! ما أحلمك وأكرمك وأوصلك !
والله لقد ظننت أن لو كان لي مع الله إلهٌ غيره لأغنى عني شيئاً!
فقال r : ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟
فقال أبو سفيان : بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك !
أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئاً !
فقال له العباس : ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله .. وأن محمد رسول الله قبل أن تضرب عنقك ؟
فسكت قليلاً ثم قال : أشهد ..
فسر النبي عليه الصلاة والسلام .. سروراً عظيماً ..
فقال العباس : يا رسول الله .. إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً ..
فقال r : " نعم .. من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " ..
فقال أبو سفيان :
فأنشد أبو سفيان t بين يدي رسول الله r .. أبياتاً .. يعتذر إليه مما كان مضى منه ..
لعمرك إني يوم أحمل راية
لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله
فهذا أواني حين أهدي و أهتدي
هداني هاد غير نفسي و نالني
مع الله من طردت كل مطرد
أصد و أنأى جاهداً عن محمد
وأدعى و إن لم أنتسب من محمد
فقيل إنه حين قال : ونالني .. مع الله من طردت كل مطرد .. ضرب رسول الله r بيده في صدره وقال : " أنت طردتني كل مطرد " ..

فكرة ..
ليس الذكاء أن تنتصر عند الجدال .. وإنما الذكاء أن لا تدخل في الجدال أصلاً ..

2. اقطع الطريق على المعترضين ..
من أكثر ما يوغر صدور بعض الناس على بعض ما يجنيه اللسان من مفاسد ..
ومن ذلك استعجال بعض الناس بالاعتراض على الحديث ومقاطعة المتكلم دون تروٍّ ونظر .. فيثور عند ذلك جدال عقيم يوغر الصدور ويفسد النفوس ..
لن تستطيع إصلاح جميع الناس وتأديبهم بالآداب الشرعية .. أو تدريبهم على مهارات متميزة ..
ودعنا نتجاوز مرحلة التنظير التي تحلو لبعض الناس أن يدندن عليها دائماً بقوله : المفروض الناس يفعلون كذا .. والمفروض يتعودون على كذا .. دعك من هذا .. وأدِّ الصلاة على الميت الحاضر – كما يقال - ..
أعني أننا ينبغي عند تعاملنا مع الأخطاء أن لا ننشغل ببحث ما يجب على الآخرين أن يفعلوه بل ماذا يجب علينا نحن أن نفعله ..
عندما تريد أن تتكلم بشيء غريب قد يستعجل الآخرون الاعتراض عليه .. ينبغي عليك أن تغلق عليهم أبواب الاعتراض بمقدمات تجيبهم فيها عن أسئلتهم قبل أن يطرحوها .. بل وتزيل بها استغرابهم قبل أن يتكلموا به ..
وبعض الناس يحسن فعلاً أن يغلق الأبواب على المعترض قبل أن يشعره باعتراضه ..
أذكر أن شيخاً كبير السن جلس في مجلس فتكلم عن حادثة خصومة رآها بين اثنين في محطة وقود .. وكيف أن شجارهما زاد واشتد حتى حملا إلى مخفر الشرطة ..
فقفز أحد الجالسين – من الثرثارين – مشاركاً في القصة فقال : نعم صحيح .. وحصل بينهما كذا .. وفلان هو المخطئ .. وبدأ يذكر تفاصيل لم تحدث ..
فالتفت إليه الشيخ وكأني به يكاد ينفجر .. لكنه تماسك وقال بكل هدووووء :
أنت هل حضرت الحادثة ؟ قال : لا
قال : فهل حدثك أحد ممن حضروها ؟ قال : لا
قال : فهل اطلعت على محاضر التحقيق ؟ قال : لا
عندها صاح الشيخ وقال : طيب يا ... كيف تكذبني وأنت لا تدري عن شيء !!
فأعجبتني مقدماته قبل اعتراضه ..
ولو أنه اعترض دون أن يذكر مقدمات يغلق بها الأبواب على صاحبه .. لكان لصاحبه مجال واسع للخروج من الموقف ولو بالكذب ..
فنحن أحياناً نحتاج عندما نريد أن نقرر أشياء أن نقدم بمقدمات نقنع بها المخالفين قبل أن يعترضوا ..
لما خرجت قريش لقتال النبي e وأصحابه في بدر .. كان بعض العقلاء فيها لا يريدون الخروج .. لكن قومهم أكرهوهم عليه ..
فعلم النبي e بهم .. وتأكد أنهم وإن حضروا المعركة فلن يقع منهم قتال للمسلمين ..
فلما اقترب e من ميدان المعركة .. أراد أن ينبه أصحابه لذلك .. وأن ينهاهم عن قتلهم .. لكنه يعلم أنه سيقع في قلوب بعض الناس سؤال : كيف لا نقتلهم وهم خرجوا لحربنا !! لماذا استثنى هؤلاء بالذات ؟!
فقدم مقدمة أزال بها الاعتراضات ثم ذكر التوجيه .. قام e في أصحابه وقال : إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً لا حاجة لهم بقتالنا ..
انتهى هذه مقدمة ..
ثم قال : فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله ..
ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله ..
ومن لقي العباس بن عبد المطلب .. عم رسول الله r فلا يقتله ..
فإنه إنما خرج مستكرها ..
فمضى الصحابة على ذلك .. وبدؤوا يتحدثون في مجالسهم بذلك ..
فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة : أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا ونترك العباس ..
والله لئن لقيته لألحمنه بالسيف ..
فبلغت الكلمة رسول الله r .. فالتفت إلى عمر فقال : " يا أبا حفص " ..
قال عمر : والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله r بأبي حفص ..
قال r يا أبا حفص : ( أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف ! ) ..
فاستبشع ذلك .. وانتفض .. كيف يرد أمر رسول الله r .. أليس مسلماً .. فصاح قال :
يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف .. فوالله لقد نافق ..
فندم أبو حذيفة y .. على ما تكلم به .. وقال :
ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ .. و لا أزال منها خائفاً إلا أن تكفرها عني الشهادة ..
فقتل يوم اليمامة شهيداً y ..

نصيحة ..
كن ذكياً وتغدَّ بهم قبل أن يتعشوا بك !

3. انتظر .. لا تعترض ..!!
أذكر أن محاضراً كان يتكلم عن فن الحوار ..
فعرض شيئاً من قصة يوسف عليه السلام ..
فلما وصل إلى قوله تعالى ( ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه ) ..
جعل يتأمل في الحاضرين ثم سألهم :
ودخل معه السجن فتيان ؟! أيهما دخل قبل الآخر .. يوسف أم الفتيان ؟
فصاح أحدهم : يوسف ..
فصاح آخر : لا .. لا .. الفتيان ..
فانطلق ثالث : لا .. لا .. بل يوسف .. يوسف ..
فاستذكى رابع وقال : دخلوا مع بعض !!
وتكلم خامس .. وارتفع اللغط .. حتى ضاع الموضوع الأساسي ..
ويبدو أن المحاضر قصد ذلك ..
فجعل يتأمل وجوههم .. والوقت يمضي ..
ثم ابتسم ابتسامة عريضة .. وأشار لهم بخفض الأصوات وقال :
وما المشكلة !! دخل قبلهم أو دخلوا قبله !! هل تستحق المسألة كل هذا الخلاف ؟!
فعلاً .. لو تأملت واقعنا لوجدت أننا في أحيان كثيرة نكون ثقلاء على الآخرين بكثرة اعتراضنا على ما يقولون فيكون أحدهم متحمساً في قصة يحكيها .. ثم يفاجأ بمن يعترض ويفسد عليه متعة الحديث بالاعتراض على أشياء لا تؤثر في القصة شيئاً ..
نعم .. لا تكن ثقيلاً تعترض على كل شيء ..
أذكر أن أخي الأصغر سعود لما كان طفلاً في السابعة .. دخل المسجد لصلاة العشاء .. ويبدو أنه كان مستعجلاً وتأخر الإمام في المجيء لإقامة الصلاة .. فلما ضاق بذلك ذرعاً توجه نحو المؤذن وكان شيخاً كبيراً ضعيف السمع ووقف خلفه .. ثم قال محاولاً تغيير صوته : أقم الصلاة .. وكان قد قبض على طرف أنفه بيده ..
ثم ولى هارباً ..
أما المؤذن فما كاد يسمع ذلك حتى تحرك ناهضاً ليقيم الصلاة .. فنبهه بعض المأمومين .. فجلس ..
كان موقفاً طريفاً .. لكني لم أورده لطرافته ..
وإنما لأني جلست بعدها في مجلس فذكر أحد الجالسين القصة وقال في أثنائها : وكان سعود مستعجلاً لأنه سيذهب إلى البحر مع أبيه _ مع العلم بأن الرياض في صحراء ولا تقع على ساحل بحر - .. فتحيرت هل أفسد عليه قصته وأعترض .. أم أن المعلومة غير مؤثرة في القصة فلا داعٍ للاعتراض واكتساب العداوات .. فآثرت الثاني وسكت ..
وأحياناً قد تعترض على شيء أنت غير فاهمه أصلاً ..
لعل له عذراً وأنت تلوم ..
كان زياد لطيفاً حريصاً على نصح الناس ..
وقف يوماً عند إشارة مرور فإذا به يسمع صوتاً عالياً لأغاني غربية .. تحير من أين هذا الصوت .. وأخذ يتلفت يبحث عن مصدره .. فإذا هو من السيارة المجاورة له ..
وإذا صاحبها قد زاد صوت المذياع إلى أعلى درجاته .. حتى أسمع البعيد والقريب ..
جعل صاحبي يضرب على منبه سيارته ويحاول أن ينبه ذاك الرجل إلى خفض صوت مذياعه .. لكن الرجل لا يلتفت ولا يرد .. يبدوا أنه لشدة انسجامه مع ما يسمع صار لا يدري عما حوله ..
حاول زياد أن يتبين وجه السائق الذي أسدل غترته على جانبي وجهه .. وبعد جهد رآه فإذا لحيته تملأ وجهه !!
ازداد العجب .. شخص بهذه الهيئة بدل أن يستمع إلى القرآن يستمع الأغاني !! لا وبصوت عالٍ أيضاً !!
أضاءت الإشارة خضراء .. ومشى الجميع ..
أصرّ زياد على مناصحة الرجل فجعل يمشي وراءه .. وقف الرجل عند دكان .. ونزل ليشتري منه حاجة ..
أوقف زياد سيارته وراءه وصار يتأمله وهو يمشي فإذا الثوب قصير .. واللحية تملأ عارضيه ..
تسابقت إلى قلبه الوساوس .. أظنه نزل ليخرج الآن بعلبة سجائر !!
خرج الرجل فإذا في يده مجلة إسلامية !!
لم يصبر زياد .. وأخذ ينادي بلطف : يا أخي .. لو سمحت .. هيه ..
لم يرد عليه الرجل ولم يلتفت ..
رفع صوته : هيه .. هيه .. لو سمحت .. يا أخي .. اسمع ..
وصل الرجل سيارته وركبها .. ولم يلتفت ..
نزل زياد وقد غضب وأقبل إليه .. وقال : يا أخي .. الله يهديك .. ما تسمع ..
نظر الرجل إليه وابتسم وشغل سيارته .. فاشتغل المذياع مباشرة بصوت مزعج جداً ..
فثار زياد .. وقال : يا أخي حرام عليك .. أزعجت الناس .. تريد تسمع الأغاني اسمعها لوحدك .. بدل ما تسمع قرآن تسمع أغانٍ ؟!
فجعل الرجل يزيد ابتسامته .. والأغاني بأعلى صوت ..
ثار زياد أكثر .. وجعل وجهه يحمرّ .. وصار يرفع صوته ليسمعه ..
فلما رأى الرجل أن الأمر وصل إلى هذا الحد .. جعل يشير بيديه إلى أذنيه وينفضهما ..
ثم أخرج دفتراً صغيراً من جيبه ومكتوب على أول ورقة منه :
أنا رجل أصم لا أسمع .. فضلاً اكتب ما تريد !!

لمحة ..
قال الله تعالى : "وكان الإنسان عجولاً " فانتبه لا تغلب عجلتك تؤدتك ..

4. قبل نجواكم .. صدقة ..
الطلبات الكبيرة تحتاج إلى تهيئة المطلوب منه قبل طلبها .. لئلا يسارع إلى الرفض ..
وهذا عام في الطلبات الشفهية والمكتوبة ..
فلو أردت أن تكتب إلى غني تطلب منه حاجة .. لناسب أن تكتب قبل حاجتك شيئاً من الثناء على جوده وكرمه ومحبته للخير .. ثم بعد ذلك تكتب حاجتك ..
ومثله لو أردت حاجة من أبيك أو أخيك أو – من يدري ربما – زوجتك .. يناسب أن تقدم قبلها بمقدمة ..
فلو دعوت نفراً من أصدقائك إلى مأدبة غداء .. وأردت أن تخبر زوجتك لتعد الطعام وتهيئ البيت .. لناسب أن تقول قبل ذلك .. بصراحة طعامك لذيذ .. جميع أصدقائي يفرحون إذا دعوتهم لأجل أن يأكلوا من عمل يدك .. تصدقين !! لقد أكلت في أرقى المطاعم .. وما ذقت لذة كلذة طعامك أبداً .. وبصراحة رأيت البارحة صديقاً لي جاء من سفر .. ومن باب المجاملة قلت له تغد معي غداً .. فتفاجأت به أن وافق ..!! فدعوت معه بعض الأصدقاء .. فليتك تعملين لنا طعاماً ..
هذا الأسلوب أحسن من صراخك إذا دخلت بيتك : يا فلانة .. فلانة ..
فتجيبك : لبيك .. أنا قادمة .. وهي تظن أنك ستدعوها إلى نزهة ..
فتقول : بسرعة .. بسرعة .. المطبخ .. المطبخ .. عندي رجال سيأتون .. لا تتأخري بالغداء .. وانتبهي أثناء إعداده .. و ..
ومثله لو أردت أن تطلب إجازة من مديرك ..
أو تخبر أمك أو أباك بخبر ..
وقد قرأت في سيرة النبي الأكرم e .. ما يدل على ذلك ..
كان النبي r قد رضع في صغره قريباً من ديار هوازن .. وكان يرجو أن يسلموا ..
فبلغه .. أن هوازن قد جمعت جموعها .. فخرج إليهم .. وقاتلهم ..
فنصر الله نبيه r عليهم .. فساق الغنائم ..
فأقبل بعضهم إلى رسول الله r .. وهو نازل بالجعرانة ..
وقد قتل من قتل من رجالهم .. وجعل رسول الله r النساء والأطفال في مكان ..
فقام منهم خطيبهم زهير بن صرد فقال :
يا رسول الله إنما في الحظائر من السبايا خالاتك .. وحواضنك .. اللاتي كن يكفلنك ..
ولو أنا ملحنا لابن أبي شمر .. أو النعمان بن المنذر ..
ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك .. رجونا عائدتهم وعطفهم ..
وأنت رسول الله خير المكفولين .. ثم أنشأ يقول :
امنن علينا رسول الله في كرم
فإنك المرء نرجوه و ننتظر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها
إذ فوك تملؤه من محضها الدرر
لا تجعلنا كمن شالت نعامته
و استبق منا فإنا معشر زهر
إنا لنشكر آلاء و إن كفرت
وعندنا بعد هذا اليوم مدخر
وقد أدب الله المؤمنين .. فقال :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً" ([1]) ..
وكانت العرب .. إذا أرادت أن تستنجد بأحد .. أو تطلب عونه .. أول ما تلجأ إلى الكلام والأشعار .. فتحدث في النفوس مالا تفعله السيوف ..
لما أقبل رسول الله r .. يريد العمرة .. خافت قريش ..
وكاد النبي r أن يقاتلهم .. لولا أنهم .. ألحوا عليه حتى كتب بينه وبينهم .. هدنة لمدة عشر سنوات .. وقف للقتال ..
وكان في صلح الحديبية .. لما كتب .. أنه من شاء من القبائل أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل ومن شاء أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل ..
فتواثبت خزاعة وقالوا : نحن ندخل في عقد محمد وعهده ..
وتواثبت بنو بكر وقالوا : نحن ندخل في عقد قريش وعهدهم ..
وكان بين هذين الحيين دماء وقتال ..
واشتدت ضغينة قريش على خزاعة .. لكنهم خافوا أن يصيبوهم بشيء فينتصر لهم النبي r ..
فلما مضى من هدنة الحديبية .. نحو السبعة أو الثمانية عشر شهراً ..
وثب بنو بكر على خزاعة .. ليلاً بماء يقال له الوتير .. وهو قريب من مكة .. وطلبوا الإعانة من قريش ..
فقالت قريش : ما يعلم بنا محمد وهذا الليل وما يرانا من أحد ..
فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح .. وقاتلوهم معهم ..
ففزعت خزاعة ..
وقتل من قتل من رجالهم ونسائهم وذراريهم ..
فلما رأى رجل منهم وهو عمرو بن سالم .. ما حل بقومه .. ركب بعيره .. وهرب من يد قريش ..
حتى قدم على رسول الله r في المدينة ..
فدخلها فزعاً .. مصاباً مكروباً ..
ثم أقبل إلى المسجد .. عليه أثر الطريق ووعثاء السفر ..
ووقف بين يدي رسول الله r .. فقال :
يا رب إني ناشد محمداً
حلف أبيه وأبينا الأتلدا
قد كنتم وِلْداً وكنا والداً
ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر رسول الله نصراً أبدا
وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا
إن سيما خسفاً وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا
ونقّضوا ميثاقك المؤكدا
وجعلوا لي في كداء رصداً
وزعموا أن لست أدعوأحدا
فهم أذل وأقل عدداً
هم بيتونا بالوتير هجدا
وقتلونا ركعاً وسجدا
فلما سمع النبي r هذا الكلام .. والشعر .. والنداء .. انتفض .. وغضب ..
وقال : " نصرت يا عمرو بن سالم " ..
ثم قام .. مسرعاً .. وأمر الناس بالتجهز للخروج للقتال ..
ففزع الناس يتجهزون .. وهم لا يعلمون أين سيكون القتال ..
وقد خشي r أن يخبر بوجهته .. فيصل الخبر إلى قريش .. وسأل الله أن يعمي على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم ..
ورسول الله r.. قد اشتد غضبه على قريش لخيانتهم .. فكان يتجهز ويقول : كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم يشد في العقد ويزيد في المدة " .
ثم أقبل نفر من خزاعة آخرين إلى رسول الله r ..
فيهم بديل بن ورقاء .. حتى قدموا على رسول الله r ..
فأخبروه بما أصيب منهم .. ومظاهرة قريش بني بكر عليهم ..
فوعدهم النبي r بالنصر .. وقال لهم : " ارجعوا فتفرقوا في البلدان " .. وخشي أن تعلم قريش بخبرهم معه .. فتقاتلهم .. قبل وصوله إليهم ..
فانصرفوا راجعين إلى ديارهم ..
فلقوا أبا سفيان بعسفان .. قد بعثته قريش إلى رسول الله r ..
يشد العقد ويزيد في المدة .. وقد رهبوا أن يكون بلغه ما فعلوا ..
فلما لقي أبو سفيان بديلاً .. خشي أن يكون أقبل من عند رسول الله r .. فقال : من أين أقبلت يا بديل ؟
فقال بديل : سرت في خزاعة في هذا الساحل في بطن هذا الوادي ..
فسكت أبو سفيان ..
فلما جاوزه بديل ..أقبل أبو سفيان إلى مبرك ناقة بديل .. فأخذ من بعرها ففته بيده .. فرأى فيه نوى التمر .. فعلم أن الناقة كانت بالمدينة .. فهم الذين يطعمون دوابهم نوى التمر .. فقال أبو سفيان : أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً ..
ثم مضى أبو سفيان ..
حتى وصل المدينة .. فتوجه إلى بيت ابنته أم حبيبة زوج رسول الله r ..
فلما دخل أقبل ليجلس على فراش رسول الله r .. فطوته من تحته ..
فقال : يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش .. أو رغبت به عني ؟
فقالت : بل هو فراش رسول الله r وأنت مشرك نجس .. فلم أحب أن تجلس على فراشه ..
فعجب منها .. وقال : يا بنية والله لقد أصابك بعدي شر !
ثم مضى أبو سفيان إلى رسول الله r .. فقال : يا محمد اشدد العقد وزدنا في المدة ..
فقال r : ولذلك قدمت ؟ هل كان من حدث قبلكم ؟!
قال : معاذ الله ! نحن على عهدنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير ولا نبدل ..
فسكت عنه النبي r .. فكرر عليه أبو سفيان .. ورسول الله r لا يجيبه ..
فخرج من عند رسول الله r ..
وأتى أبا بكر فقال : اشفع لي عند محمد .. أن يجدد العقد .. ويزيد في المدة .. أو امنعني وقومي ..
فقال أبو بكر : جواري في جوار رسول الله r .. ولا أمنع أحداً منه .. وأما أنا فوالله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم ..
فخرج أبو سفيان .. فأتى عمر بن الخطاب فكلمه .. فقال عمر بن الخطاب : أنا أشفع لكم عند رسول الله r ؟
بل ما كان من حلفنا جديداً فأخلقه الله ..
وما كان منه مثبتاً فقطعه الله ..
وما كان منه مقطوعاً فلا وصله الله !
فلما سمع أبو سفيان ذلك .. تغير .. فكأنما لُطِم ..
فخرج أبو سفيان وهو يقول : جزيت من ذي رحم شراً ..
فلما يئس مما عندهم دخل على علي .. فقال له :
يا علي أنت أقربهم بي نسباً .. فاشفع لي إلى رسول الله r ..
فقال له علي : يا أبا سفيان .. إنه ليس أحد من أصحاب رسول الله r يفتات على رسول الله r بجوار .. أي لا يستطيع أحد منعه عن أحد إن أراده .. فهو لا ينطق عن الهوى ..
وأنت سيد قريش .. وأكبرها .. وأمنعها .. فأجر بين عشيرتك .. وامنع نفسك .. يعني : صح بالناس إني قد منعت نفسي ..ثم الحق بأرضك ..
قال أبو سفيان : أو ترى ذلك يغني عني شيئاً ..
قال : لا .. ولكن هو رأي أراه ..
فخرج أبو سفيان إلى الناس في المدينة ثم صاح ..
ألا إني قد أجرت بين الناس .. ولا والله ما أظن أن يخفرني أحد ..
فقام أبو سفيان في المسجد فقال : أيها الناس إني قد أجرت بين الناس ..
ثم ركب بعيره فانطلق إلى مكة ..
فلما أن قدم على قريش قالوا : ما وراءك ؟
هل جئت بكتاب من محمد أو عهد ؟
قال : لا والله لقد أبى علي ..
وقد تتبعت أصحابه فما رأيت قوماً لملك عليهم أطوع منهم له ..
ولقد جئت محمداً فكلمته .. فوالله ما رد علي شيئاً ..
ثم جئت ابن أبي قحافة فوالله ما وجدت فيه خيراً ..
ثم جئت عمر فوجدته أعدى عدو..
ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم ..
وقد أشار علي بأمر صنعته .. فوالله ما أدري هل يغني عنا شيئاً أم لا ؟
قالوا : بماذا أمرك ؟
قال : أمرني أن أجير بين الناس ففعلت ..
قالوا : هل أجاز ذلك محمد ؟
قال : لا ..
قالوا : ويحك ما زادك الرجل على أن لعب بك .. فما يغني عنا ما قلت ..
فقال : لا والله ما وجدت غير ذلك ..
فاغتم أبو سفيان .. ودخل على امرأته فحدثها الحديث فقالت :
قبحك الله من وافد قوم ! فما جئت بخير ..
ثم أقبل رسول الله r .. إلى مكة فاتحاً ..

.. بالإشارة يفهمُ ..
اللقمة الكبيرة تحتاج لمضغ جيد قبل ابتلاعها

5. ليس مهماً أن تنجح دائماً ..
كان فهد يمشي مع صاحبه - العنيد المكابر - في صحراء فرأيا سواداً رابضاً على التراب .. تخفيه الريح تارة وتظهره تارة ..
التفت فهد إلى صاحبه وسأله : تتوقع .. ما هذا ؟!
فقال صاحبه : هذه عنز !!
قال فهد : بل غراب ..
قال صاحبه : أقول لك : عنز .. يعني عنز ..
قال فهد : طيب نقترب ونتأكد ..
اقتربا .. وجعلا يركزان النظر أكثر وأكثر ..
كان واضحاً أن الذي أمامهما غراب !!
قال فهد : يا أخي .. والله غراب ..
هز صاحبه رأسه بكل حزام وقال : عنـززززز
سكت فهد .. واقتربا أكثر .. فشعر الغراب باقترابهما فطااار ..
فصاح فهد : الله أكبر .. غراب .. أرأيت غراب .. طار ..فقال صاحبه : عننننـز .. لو طار !!
لماذا أوردت هذه القصة ؟
أوردتها لأجل أن أبين : أن هذه المهارات التي تقدمت فيما مضى من صفحات .. تصلح مع الناس عموماً ..
لكن مع ذلك يبقى أن بعض الناس مهما مارست معه مهارات لا يتفاعل معك ..
فلو مارست معه مهارة اللمح .. فقلت : ما شاء الله ما أجمل ثيابك .. كأنك عريس .. وأنت تتوقع منه أن يتبسم ويشكرك على لطفك .. فإنه لا يفعل ذلك .. وإنما ينظر إليك شزراً .. ويقول : طيب .. طيب .. لا تجامل .. لا تستخف دمك .. ونحو ذلك من العبارات السامجة التي تدل على عدم خبرته في التعامل مع الناس ..
ومثله المرأة التي قد تمارس مع زوجها مهارات .. كمهارة التفاعل مثلاً .. فيحكي نكتة باردة .. فتتفاعل معه ضاحكة .. فيقول : طيب .. لا تغصبي نفسك على الضحك ؟!!
إذا واجهت هذه النوعيات من الناس فاعلم أنهم لا يمثلون المجتمع ..
ولقد جربت هذه المهارات بنفسي .. نعم والله جربتها بنفسي فرأيت آثارها في الناس .. كباراً وصغاراً .. بسطاء وأذكياء .. وأصحاب مناصب عليا .. وطلاب عندي في الكلية .. ومع أولادي .. فرأيت لها أعاجيب ..
بل جربتها مع مختلف الأجناس والجنسيات .. فرأيت آثارها ..
والله إني لك ناصح ..
باختصار ..
هل أنت جاد في التغيير ؟

6. كن بطلاً وابدأ الآن
أذكر أني ألقيت دورة في مهارات التعامل مع الناس .. كان عبد العزيز من بين الحضور .. كان تأثره واضحاً ..
لاحظته يكتب كل شاردة وواردة ..
مضت أيام الدورة الثلاثة .. وتفرقنا ..
بعدها بشهر ألقيت الدورة نفسها مرة أخرى .. فلما نظرت إلى الحضور .. فإذا عبد العزيز يجلس في الصف الأول !!
تملكني العجب !! لماذا يحضرها مرة أخرى وهو يعلم أني سأعيد الكلام نفسه !
لما أذن للصلاة .. أخذته ومشيت به جانباً .. وسألته : عبد العزيز .. لماذا تحضر مرة أخرى .. وأنت تعلم أني سأعيد الكلام نفسه .. !! والمذكرة التي بين يديك هي نفسها المذكرة السابقة !! والشهادة التي ستحصل عليها هي الشهادة نفسها !! يعني لن تستفيد شيئاً ..
فقال لي : تصدق !! والله إن أصحابي وزملائي يقولون لي : يا عبد العزيز أنت تغيرت في تعاملك معنا منذ شهر ..
ففكرت في ذلك فإذا أنا أطبق ما تعلمته من مهارات في الدورة السابقة .. فجئت لأحضر الدورة مرة أخرى لتأكيد ما تعلمته من مهارات ..
إذا كنت جاداً في التغيير فكن بطلاً وابدأ الآآآآن ..


( [1] ) سورة المجادلة ( 12 ) ..









عرض البوم صور ابو الوليد البتار   رد مع اقتباس
قديم 25 / 12 / 2008, 47 : 01 AM   المشاركة رقم: 18
المعلومات
الكاتب:
ابو الوليد البتار
اللقب:
موقوف


البيانات
التسجيل: 24 / 12 / 2007
العضوية: 11
العمر: 41
المشاركات: 0 [+]
بمعدل : 0 يوميا
اخر زياره : [+]
معدل التقييم: 0
نقاط التقييم: 40
ابو الوليد البتار is on a distinguished road

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو الوليد البتار غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو الوليد البتار المنتدى : ملتقى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
افتراضي

بهذا القدر قد تم نقل الكتاب بأكمله

والحمدالله رب العالمين









عرض البوم صور ابو الوليد البتار   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

جديد ملتقى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

Loading...

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education
الحقوق محفوظة لشبكة ملتقى أهل العلم الاسلامي
اختصار الروابط

For best browsing ever, use Firefox.
Supported By: ISeveNiT Co.™ Company For Web Services
بدعم من شركة .:: اي سفن ::. لخدمات الويب المتكاملة
جميع الحقوق محفوظة © 2015 - 2018