العلامة الداعية ... ابن باز رحمه الله
آل باز - أسرة عريقة في العلم والتجارة والزراعة معروفة بالفضل والأخلاق قال الشيخ سليمان بن حمدان - رحمه الله - في كتابه حول تراجم الحنابلة: أن أصلهم من المدينة النبوية، وأن أحد أجدادهم انتقل منها إلى الدرعية، ثم انتقلوا منها إلى حوطة بني تميم.
المولد والنشأة
ولد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في مدينة الرياض في الثاني عشر من شهر ذي الحجة 1330هـ، في بيت علم وفضل، وكان يعمل في الزراعة والتجارة.
نشأ يتيم الأب منذ طفولته وبعد أن بلغ الخامسة والعشرين من عمره توفيت أمه عام 1355هـ. وكان - رحمه الله - فقد بصره قبل وفاتها بعامين..
تعليمه
أول ما بدأ به - رحمه الله - هو تعلم القرآن الكريم تلاوة وحفظاً، وقد أتم حفظه قبل سن البلوغ.
ثم تلقى العلوم العربية والشرعية على أيدي عدد من العلماء وبالأخص الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله -، فقرأ عليه الحديث، والعقيدة، والفقه، والنحو، والفرائض، والتفسير، والتاريخ، والسيرة النبوية، كان ذلك في عشر سنين في الفترة (1347- 1357هـ).
ودرس على يد الشيخ / محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ المتوفى عام 1367 هـ
وكذا الشيخ / حمد بن فارس بن محمد بن فارس المتوفى سنة 1345 هـ
والشيخ / سعد بن حمد بن علي بن عتيق - رحمه الله - المتوفى سنة 1349 هـوأيضا الشيخ / صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسين آل الشيخ - رحمه الله - المتوفى سنة 1372 هـ. وغيرهم كثير..
وتابع الشيخ تحصيله العلمي حتى صار واحداً من كبار العلماء، بإجماع كبار علماء المسلمين في العالم، كان الشيخ عبدالعزيز فقيهاً حنبلياً في أول طلبه العلم، ولكنه كان واسع الأفق، يأخذ بالرأي الأرجح ذي الدليل الأقوى، كما يأخذ بأقوال الفقهاء، ما دامت أدلتهم من الكتاب والسنة هي الأقوى.
الشمولية العلمية في حياة الشيخ
كان الشيخ عالماً من علماء العصر الذي يحيا فيه، يطالع الصحف، وينقل إليه مساعدوه ملفاً كاملاً عن أخبار العالم الإسلامي، فما كان يفوته حدث مهم، وكان يطلع على ما تنشره وسائل الإعلام، ويبادر إلى رد ما يوجب الرد عليه ولا يخشى في الله لومة لائم مهما كان صاحب الرأي كبيراً.
ألف الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - كتابه (نقد القومية العربية) والمطلع عليه يعرف مدى اطلاع الشيخ على ما يجري حوله وما يضطرب من أفكار خارجة على الإسلام، وفيها من الضلال ما يستوجب الرد عليه وفضحه. وقد استفاد الشيخ في كتابه هذا، من كتب الشيخ محمد الغزالي، والشيخ أبي الحسن الندوي، ومن رسالة التعاليم للإمام الشهيد، - رحمهم الله - جميعاً، بل لم يكتف بكتب الفكر الإسلامي، فنقل بعض النقول عن الفكر الغربي، مما يدل على اطلاعه على ما يترجم من تلك الكتب.
وقد كان - رحمه الله - كثير المطالبة من العلماء والمسؤولين إعادة النظر في المناهج التي رآها متأثرة بالفكر القومي.. فتصدى لتلك المناهج وعمل على تغييرها بحيث تكون متفقة مع عقيدة الأمة وإسلامها.
ميادينه العلمية
كانت العقيدة على رأس اهتماماته، صال في ميدانها وجال، فدرس وخطب حاضر وكتب لأجل أن تكون عقيدة المسلمين هي عقيدة السلف الصالح المستمدة من الكتاب والسنة، فعلّمها ودعا إلى تعليمها، وفضلها على غيرها، إذ عليها تقوم سائر العلوم الشرعية الأخرى، وفي صحتها صحة لسائر علوم الدين، وفي فسادها فساد كل تلك العلوم.
وبعدها تأتي علوم التفسير، والحديث، والفقه الحنبلي دون تقيد إذا ما ظهر الدليل خلافه، فالاجتهاد مطلوب في تقصي الأدلة.
ومنهج الشيخ في بحوثه، يعتمد على ظاهر النص، والتزامه في كل ما يتصل به، ويرى أن النصوص قد تتفاوت في دلالاتها، وهذا يعطيه، كما يعطي غيره من العلماء حق الاجتهاد فيه.
ولهذا نرى الشيخ يحترم رأي مخالفيه، ويقرر أنه لا يجوز للمسائل الخلافية الصغيرة أن تكون عامل تفريق بين المسلمين.
كتبه
ألف الشيخ - رحمه الله تعالى -الكثير من المؤلفات والتحقيقات والمراجعات على مجموعة من أمهات الكتب في مختلف العلوم، ونذكر من كتبه المطبوعة:
1- الفوائد الجلية، في المباحث الفرضية.
2- نقد القومية على ضوء الإسلام والواقع.
3- الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب.
4- الجواب المفيد في حكم التصوير.
5- التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة وعلى ضوء الكتاب والسنة، وهذا الكتاب أحب كتبه إليه، لما فيه من شرح، وتوضيح لكثير من المسائل التي يخطئ بها كثير من المسلمين، فوضّحها لهم، وحذرهم منها، ونبههم إليها.
شمائله
كان الشيخ من العُبّاد، يحافظ على السنن، ويؤدي من النوافل ما شاء الله له أن يؤدي، صلاة، وقياماً، وصياماً، كان يقوم الليل إلى قرب الفجر، يصلي، ويستغفر، يدعو، ويبكي، فقد كان سخي الدمعة، ويقرأ أوراده، ويبقي لسانه رطباً بذكر الله، وكذلك عيناه المطفأتان.
كان عالماً يعمل بما علم، يخاف الله في سره وعلنه، فلا يترخص، بل يأخذها بالعزائم.
وكان الشيخ يكثر من الذكر والدعاء والبكاء لدى سماعه القرآن، أو سيرة أحد الصالحين، ورئي وهو يطيل البكاء حين روي حديث الخليفة الصديق (من كان يعبد محمداً فإن محمد قد مات) وحديث كعب بن مالك في تخلفه عن غزوة تبوك، وحديث أبي عبيدة والتمرات والحوت، وسواها من الحوادث في سيرة السلف الصالح.
كان الشيخ تقياً، ورعاً، مسارعاً إلى فعل الخيرات، مواظباً على الطاعات منذ الصغر، وكان المسجد مكانه المحبب إليه منذ أن بلغ الثالثة عشرة، وكان مخلصاً دينه لله وحده، لا يرجو حمداً ولا شكراً من أحد لعمل عمله، أو خدمة أداها، فلم يكن من الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، ولا بما فعلوا. وكان حليماً، جلداً على العمل، يتحمل من الأعباء ما تضوى له وتنوء به أجساد الشباب، همته العالية تتجاوز ضعف الشيخوخة والشيبة، ويتمتع بذوق رفيع ما أحوج العلماء والدعاة والمشايخ إليه حتى لا يكونوا منفرين، وبإحساس مرهف، وكان جواداً من الأجواد، يجود بماله، ووقت راحته، من أجل قضاء حوائج طلبة العلم الذين يفدون إليه من كل فج عميق، يجيب عن أسئلتهم، ويحل لهم إشكالاتهم العلمية، فيكتب شفاعة لهذا، ويعفو عن ذاك، ويقدم المال إلى المحتاج إليه، ومن عنايته بالفقراء، أنه كان يخصص لبعضهم رواتب ومساعدات من ماله الخاص حتى بلغ به الأمر أن خصص مبلغ ألف ريال يرسلها إلى امرأة فقيرة في مجاهل إفريقية، فإذا لم يجد المال، استلف راتباً أو أكثر من رواتبه من أجل ذلك، أو ردهم رداً جميلاً.
ومن تواضعه أنه كان يعنى بالعوام الذين يقبلون عليه، ولا يكادون يفارقونه حتى في طعامه الذي يشاركونه فيه، بل في سائر أحواله، وهو صابر عليهم، ولكل مشكلته، فهذا يستفتي، وذاك يستجدي، وكان يغضب من أصحابه إذا زجروهم، ويذكرهم بالحديث العظيم (أبغوني ضعفاءكم) حتى وهو على فراش الموت، كتب شفاعة لواحد منهم.
وكان مجلسه مجلس أنس وعلم وذكر، وهو ملتقى الخواص من طلبة العلم، يأتونه لحل ما يشكل عليهم من المعضلات العلمية، فيجيبهم، ويستفيدون من إجاباته، كما يفيدون من سكينته ووقاره، وكثرة صمته، وقلة كلامه ومراعاته لأدب الحديث، وأدب المجلس، فلا يرفع صوتاً، ولا يقهقه، ومن مكارم الأخلاق التي حباه الله إياها، كالعدل مع مخالفيه في الرأي، وثباته على المبدأ، واستقامته على الحق، وسعة أفقه، وبعد نظره، وثقته العظيمة بالله - تعالى -، وزهده بالثناء، وتقشفه، وحرصه على السنن، وبشاشة وجهه، وطلاقة محياه، وعفة يده ولسانه، فلم يسمعوه ينتقص أحداً، ولا يعيب طعاماً، ولا ينهر خادماً، ولا يمدح نفسه، ولا يحب أن يمدحه أحد بما فيه، فكيف بما ليس فيه؟
يحسن الظن بالناس، ويشتد في وفائه لمشايخه وأصدقائه وذوي رحمه، يتفقد أحوالهم، ويقوم بحقوقهم، ويعينهم على متاعب الحياة، لا يعرف الحسد والحقد، ويقابل الإساءة بالإحسان، وغيرته على الدين شديدة، يثور لانتهاك حرمات الله، ولوقوع الظلم على المسلمين، ويحب أهل العلم، ويسأل عن أحوالهم، ويكاتبهم، ويتناصح معهم.
وهو دقيق في مواعيده، وهذه الخصلة قلّ من يحافظ عليها من المشايخ والعلماء، وهذا ما مما يؤسف له جداً، وهو متفائل دائماً، حتى عندما كانت دموعه تخضل لحيته لسماع خبر مفجع نزل بالمسلمين في أقصى الأرض.
وكان يؤمن بالشورى، وينفذها مع العاملين معه، وليست مجرد ادعاء، كما هي عند كثير من العلماء والزعماء والقادة.
وينكر البدع، ويعدها عدواناً على حقائق الوحي، وتغييراً لدين الله، وفيها إبعاد للمسلمين عن حقيقة الإسلام العظيم.
وللشيخ ذاكرة قوية أعانته كثيراً في حياته العلمية والعملية.
ومن شمائل الشيخ
ومن شمائل الشيخ دفاعه عن الدعاة حيث كانوا، ولو كان على خلاف معهم في الرأي، حتى الصوفية، كان منصفاً معهم، وكان يقول عنهم: هم مسلمون فيهم خير وفيهم شر، ونحن نأخذ ما عندهم من خير ونشجعهم على فعله، وننكر ما عندهم من شر ونحذرهم منه.
وكان الشيخ جريئاً في انتقاد الظلم والانحراف، ومواقفه مشهودة في استنكاره إعدام الشهيد سيد قطب - رحمه الله تعالى -، وفي إنكاره على القذافي تطاوله على كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك موقفه الجريء من الظالم الهالك سياد بري الذي أحرق عشرة علماء لأنهم استنكروا تطاوله وتطاول زبانيته الشيوعيين في الصومال على شريعة الله.
مع المسلمين
كان الشيخ مهتماً بأمور المسلمين في سائر أنحاء الأرض، محباً لهم، متابعاً لأخبارهم، ويمدهم بالمال، وينصحهم، ويحاول حل مشكلاتهم، وكان يصطفي المتفوقين والأذكياء من المدرسين والخريجين، وينتدبهم لخدمة الدعوة في بلادهم وغير بلادهم، وخاصة في الهند، وباكستان، والبلدان الإفريقية ويمدهم بالكتب التي يراها ضرورية لهم، وبالمصاحف.
وعندما كان رئيساً للجامعة الإسلامية، كان يجمع الطلاب في مجموعات، ويطلب من كل مجموعة أن تتحدث عما يجري في بلادها، ثم يتساءل عن العمل لحل مشكلاتهم، والتخفيف عنهم.
وكان يستقدم كبار الدعاة في العالم الإسلامي، ليدرسوا في الجامعة الإسلامية، ويختار منهم أعضاء في رابطة العالم الإسلامي، وفي مجلس الأمناء.
وكان يتأمل ويبكي لما يجري في كوسفو، وفي الفلبين، وكشمير، فقد كان يواكب الأحداث، ويتعامل مع المستجدات بجرأة يفتقر إليها كثير من العلماء والعاملين في الحقل العالم.
ويشهد كل من عرفه، أنه لم يقصر تجاه أحبائه المسلمين الذين أحبوه، وكانوا يسألون عنه، لما عرفوا من علمه، وإخلاصه، وحبه الخير لهم، والجهاد من أجل نصرتهم.
رحم الله الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فقد كان فذاً بين الدعاة العلماء العاملين.
hgughlm hg]hudm >>> hfk fh. vpli hggi